أشرف سعد نخلة
كاتب مصري
"موكب الدوسة" هو احتفال ديني غريب وخارق، كان يُمارسه المتصوّفة والمصريون في أيام المماليك، وهو طقس متمِّم لمظاهر الاحتفاء بمولد الرسول عليه السلام، واستمرَّت ممارسته حتى عصر الخديوي توفيق الذي أصدر أوامره لمشايخ الطُّرق الصوفيّة بإيقاف هذا الاحتفال بعدما كثُرت إصابات المتصوّفة بكسور في عظامهم.
كثُرت أعداد الطُّرق الصوفيّة في مصر خلال فترة الحكم العثماني، ووفد إلى مصر عدد من الطُّرق الصوفيّة كالطريقة (المولويّة) و(البكتاشيّة)، فضلًا عن الطُّرق الصوفيّة المصرية كالطريقة (الرفاعيّة) التي تفرَّعت عنها طائفة الدراويش السعديّة المعروفة بأعلامها الخضراء، ويقول "إدوارد وليم لين"(1): "زادت أعداد الدراويش بمصر زيادة عظيمة، ويحترم المصريون، وخاصة الطبقة السفلى، هؤلاء الذين يعكفون على الرياضة الدينيّة". ويحمل مَن ينحدر مباشرة من ذريّة أبي بكر رضي الله عنه أول الخلفاء الراشدين لقب (الشيخ البكري)، ويُعتبر ممثل الخليفة ويسيطر على جميع الدراويش في مصر.
وحرص المتصوّفة وأهل مصر إبان حُكم محمد علي باشا (1805– 1842م) للمحروسة على الاحتفال بالمناسبات الدينية المختلفة بإقامة الموالد، وبالأخصّ المولد النبويّ الشريف، وكان ثمّة احتفال شعبي مصري، وهو طقس متمِّم لمظاهر الاحتفاء بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم يُعرف بـِ"موكب الدوسة"(2).
"موكب الدوسة" هو احتفال ديني غريب وخارق، كان يُمارَس في مصر في العصور الإسلامية أيام المماليك، واستمرَّت ممارسته حتى عصر الخديوي توفيق الذي أصدر أوامره لمشايخ الطُّرق الصوفيّة بإيقاف هذا الاحتفال بعدما كثُرت إصابات المتصوّفة بكسور في عظامهم. والدوسة تعني (الخطو) أو الدَّهس بالأقدام، وقد ذكر "إدوارد لين" في كتابه "المصريون المحدثون"(3) أنَّ غالبيّة الدراويش لم يُصابوا بسوء، بل وثب كلٌّ منهم واقفًا بعد ما مرَّ الحصان عليه نظرًا لكرامات شيوخ الطريقة السعديّة التي منحت الدراويش (قوَّة خارقة) مكَّنتهم من تحمُّل مرور الحصان على أجسامهم دون أن يلحقهم أذى.
وفي كتابه "الحياة اليوميّة في مصر" يصف "بيير مونيه" موكب الدوسة في القرن التاسع عشر الميلادي قائلًا: في مراسم وطقوس احتفال الدوسة يخرج الشيخ (محمد المنزلاوي) من منزله مرتديًا (بنش) أبيض اللون وفوق رأسه (قاوون) أبيض يلتفّ حول عمامة (موسيلين) زيتوني قاتمة، وفي الجزء الأمامي منها شريط من الشاش الأبيض رُبط مائلًا، ويركب حصانًا متوسِّط الارتفاع والوزن، ويدخل الشيخ منطقة الأزبكيّة بالقاهرة يسبقه موكب هائل من الدراويش الذين ينتمون إلى طائفته، وفي الطريق إلى المسجد تنضمّ إليه طوائف عديدة من الدراويش من أحياء متفرِّقة من العاصمة بالإضافة إلى الأهالي، ويخرجون من كل حيّ وهم يحملون الأعلام الخضراء، ثم يتوقَّف الموكب مسافة قريبة من بيت (الشيخ البكري) ويبدأ الدراويش، ويبلغ عددهم ستين أو ضعف هذا العدد يُلقون أنفسهم على الأرض، الواحد تلو الآخر متلاصقين، ظهورهم إلى أعلى وأرجلهم ممدَّدة وأذرعهم منثنية تحت جباههم وكلمة يردِّدونها بلا انقطاع (الله).. (الله).. ثم يأخذ نحو اثني عشر درويشًا أو أكثر، وقد خلعوا نعالهم، يجرون فوق ظهور زملائهم المنبطحين على وجوههم، ثم يقترب الشيخ ويتردَّد الحصان بضع دقائق ويحجم أن يطأ أوَّل رجل مُنبطح أمامه، فيدفعونه ويستحثّونه من خلفه، فيمشي فوق ظهورهم جميعًا، ويقود الحصان رجلان ممَّن كانوا يجرون فوق المنبطحين، ويُطلق المتفرِّجون صيحة طويلة (الله.. الله.. الله). وكما تقول الروايات لم يُصَب أحد من المنبطحين بأذى، وكل منهم يهبُّ واقفًا بمجرَّد أن يمرَّ فوقه الحصان، وبعد ذلك يخرج الشيخ بجواده إلى حديقة الأزبكيّة، ثم يدخل منزل الشيخ البكري ولا يصحبه سوى عدد قليل من الدراويش، ثم يجلس في فناء الدار ولا يفتأ يتمتم بالتسبيح والدعاء، أمّا الدراويش الذين جاءوا معه ويبلغ عددهم عشرين درويشًا فيقفون على شكل نصف دائرة فوق حصير فُرِشَ لهم وحولهم خمسون أو ستون رجلًا، ويتقدَّم منه ستة من الدراويش وقد ابتعدوا عن نصف الدائرة مسافة ياردتين، ثم يبدأون في الذِّكر ويصيحون في صوت واحد (الله حيّ) ويردّ الدراويش الذين يقفون في نصف دائرة (يا حيّ.. يا حيّ)(4).
ويوجد على جانبي الميدان صفٌّ طويلٌ من الخيام أثناء إقامة الاحتفال، وأبعد خيمة هي خيمة شيخ الطُّرُق الذي يُصدر الأوامر الدينية، يليها خيمة الخديوي توفيق باشا، أمّا الثالثة فكانت خاصة بكبار الزوّار من الأوروبيين، وبقيّة الخيام خاصة بالدراويش. وكان الجند يصطفّون أمام الخيام لمنع ضغط الجمهور عليها.
من المؤرِّخين مَن هم شهود عيان للدوسة، كما لفت موكب الدوسة انتباه الرحّالة والمستشرقين لغرابة طقوسه وارتباطه بمظاهر الحفل الديني الشعبي، ويُعدُّ المستشرق الإنجليزي "إدوارد وليم لين" أهمّ مَن وصف موكب الدوسة، فقد عاين الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف عام 1883م ووصف طقوس المشهد الاحتفالي بكافه مظاهره الشعبية. وذكر "لين" أنَّ غالبيّة الدراويش لم يُصابوا بسوء بعد مرور الجواد على ظهورهم.
ووصف الطبيب الفرنسي "كلوت بك" في كتابه "لمحة من مصر" ما شاهده إبان موكب الدوسة، وتحدَّث عنه بالتفصيل واصفًا الاستعدادات العظيمة التي تسبق الاحتفال بالمولد النبوي، ورأى "كلوت بك" نحو مئتين من الدراويش منكبين على وجوههم فوق الأرض وكأنَّ أجسادهم صارت سجّادة بشريّة لا يلبث الشيخ المنزلاوي بالمرور عليها ممتطيًا جواده، يتبعه بعض مريديه والعامة مصطفّون على الجانبين يُكبِّرون ويُباركون.
كما أشار المؤرِّخ الإنجليزي "ألفريد تبلر" في كتابه "الحياة في البلاط الملكي المصري" في غير موضع إلى ارتفاع الأصوات المردِّدة بوقف ممارسة الدوسة لأنها تمثل انحرافًا فكريًّا ليس في الإسلام من شيء، وللاعتقاد في شيخ الطريقة التي تحجب الضرر عن الدراويش الممدَّين على الأرض(5).
وحاول إسماعيل باشا إيقاف احتفالية الدوسة، إلا أنه لم يتمكّن من ذلك لمعارضة مشايخ الطُّرق الصوفيّة وعلى رأسها شيخ الطريقة السعديّة. كما أثارت هذه الطقوس استهجان الخديوي توفيق (1879– 1892م) لِما يصاحبها من مظاهر أوْدَت بحياة كثير من الدراويش، فبعضهم تنخلع عظامهم، وبعضهم الآخر تتهشّم عظامهم، ولكنه لم يستطع إلغاءها بقرار مباشر خوفًا من غضب أتباع الطُّرق الصوفيّة، إلّا أنه ظلَّ عاقدَ العزم على إلغائها بشكل نهائي، خاصّة بعد موت الحصان الذي يستخدمه الشيخ المنزلاوي في الدوسة، ثم وفاة الشيخ المنزلاوي، وتلاه وفاة الشيخ البكري، فانتهز الخديوي توفيق تلك الفرصة وفي شباط/ فبراير عام 1880م أصدر أمرًا عاجلًا لمشايخ الطُّرُق الصوفيّة بإيقاف هذا الاحتفال بالاتِّفاق مع شيوخ الأزهر الشريف.
• الهوامش:
1- إدوارد وليم لين، المصريون المحدثون وشمائلهم، ترجمة عدلي طاهر نور، مكتبة الأسرة، سلسلة إنسانيات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 2013.
2- د.رضوى ذكي، من الاحتفالات الشعبية المصرية موكب الدوسة، مجلة العربي الكويتية، عدد 706، وزارة الإعلام الكويتية، الكويت، 2017.
3- إدوارد وليم لين، المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم، مرجع سابق.
4- بيير مونيه، الحياة اليومية في مصر، ترجمة عزيز مرقس، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1997.
5- د.رضوى ذكي، من الاحتفالات الشعبية المصرية موكب الدوسة، مرجع سابق.