كمال ميرزا (زولاق)
قاص وأكاديمي أردني
أوَّل سؤال قد يتبادر إلى الأذهان عند أخذ عنوان هذا الملف بعين الاعتبار: ما هي أفضل طريقة لأن تشتبك مع مثل هذا الموضوع من دون أن "تتشلبك" به؟!
تبدو مهمة صعبة، وربَّما مستحيلة (ولعلَّ هذه هي الطبيعة الأنطولوجيّة والإبستمولوجيّة للمعرفة والأشياء)، ولكنّها تبقى "محاولة" بأيّ حال!
"الثقافة" موضوع إشكالي ومركّب وشائك، ليس بالضرورة لأنّها كذلك في ذاتها، بل غالبًا بسبب رطانة الأكاديميين و"استعراضيّة" "المثقفين و"المتثاقفين" الذين يصرّون على الاشتباك مع هذا الموضوع -القديم الجديد- مرّة بعد مرّة بعد مرّة، وكأنّه مقرَّر إجباري، حتى غدا ضربًا من الروتين والرتابة و"الكلاشيه"!
هل هذا الملف هو "مساهمة" أخرى في هذا السّياق؟!
أمّا "الرأي العام" فهو موضوع "مائع"، سواء لارتباطه معرفيًّا بـِ"علم الاتِّصال" الذي تضيع فيه الحدود بين ما هو "علميّ" و"موضوعيّ" وما هو تفضيلات شخصيّة، أو ارتباطه بحقول الصحافة والإعلام وما يسمّى "الإعلام الاجتماعي" التي تحوّلت فيها "الأداة" هذه الأيام إلى "الرسالة" و"المُرسل" والمستقبل" في آن واحد، أو ارتباطه بأكثر مجالات النشاط الإنساني خداعًا وذرائعيّة وزورًا وبهتانًا وتلفيقًا منذ بدء الخليقة: السياسة!
لنا أن نتخيَّل حجم الورطة التي يمكن أن تنجم عن محاولة الجمع بين نطاعة "الثقافة" وميوعة "الرأي العام" في عنوان واحد: ورطة للكاتب، وورطة للقارئ، وورطة لوسيلة النَّشر نفسها!
عندما وُضع التصوُّر الأوليّ لهذا الملف، تمَّ التَّوافق على أن يتضمَّن المحاور التالية:
المحور الأول: التأصيل لمفهومي "الثقافة" و"الرأي العام"، والعلاقة بينهما، مع شيء من السرد التاريخي، والمراجعة النقديّة، خاصة لمفهوم "الرأي العام".
المحور الثاني: "الثقافة" و"الرأي العام" من منظور علم الاجتماع، وسؤال النَّسق (هل انتهى زمن الأنساق؟)، وسؤال "البنية" في مقابل "الفعل" في ضوء التغيُّرات الفعليّة في "الحقائق الاجتماعيّة" على أرض الواقع (زمن الواقع الافتراضي والفضاءات الافتراضيّة والمجتمعات الافتراضيّة)، والتطوُّرات التي طرأت على النظريات الاجتماعيّة والمنظورات السوسيولوجيّة المختلفة بموازاة ذلك كلّه.
المحور الثالث: مفهوم "المثقف العضوي" في زمن "السوشال ميديا"، وارتباط الأوَّل بمفهوم "قائد الرَّأي" وظاهرة "المؤثّرين"، وارتباط الثانية (أي السوشال ميديا) بمفهوم "الصناعات الثقافيّة" و"مرجعيّة السوق والمصنع".
المحور الرابع: سؤال "الثقافة" و"الرأي العام" في ضوء جدل "الحداثة"، وموقع هذين المفهومين ضمن الطروحات "الأحدث" والأكثر وجاهة ورصانة بهذا الخصوص، مثل سيولة "زيجمونت باومان"، و"المجال العام" و"الفعل التواصلي" لدى "هابرماس".. وغيرها من الطروحات مع أو ضدّ "الحداثة"، وإمكانيّة مقابلة ذلك مع طروحات المفتتنين بـِ"الحتميّة التكنولوجيّة" و"الذكاء الاصطناعي"، والمبشّرين بما يسمّى الثورتين "الرابعة" و"الخامسة".
المحور الخامس: سؤال المثقف سياسيًّا، وبتحديد أدقّ، عندما يتقلّد المثقف مقاليد "المنصب" و"السلطة"، وكيفيّة تعاطيه مع "الرأي العام" بحكم موقعه الجديد بعد أن كان أحد الصنّاع المُفتَرضين لهذا الرأي العام والمُنادين بالاستجابة إليه واحترامه.
المحور السادس: استطلاع صحفي ينفّذ بالتعاون مع أحد الصحفيين المحترفين أو أحد المنابر الصحفية والإعلامية المتخصصة، وذلك للوقوف على آراء ومواقف الجمهور أو العامّة انطلاقًا من سؤال تأسيسي: "مَن هو المثقف"؟
في ضوء المحاور أعلاه، نتساءل: إلى أيّ مدى جاء الملف بصورتِه النهائيّة التي يمسكها القارئ في هذه اللحظة بين يديه -أو على شاشة جهازه- ملبِّيًا لهذا التصوُّر الطَّمُوح؟
أستاذة الإعلام ونظريات الاتِّصال، الدكتورة حياة الحويك عطية، وتحت عنوان "الرؤوس المصنوعة جيدًا والرؤوس المملوءة جدًا"، وهو العنوان المُستلهم من "مونتاني"، تولَّت مهمَّة تقديم تأصيل نظري وتاريخي لمفهومي الثقافة والرأي العام، سواء من خلال التمييز بين المفهوم الأوروبي والمفهوم الأنجلوسكسوني- الأميركي للثقافة، أو التوظيف الأوروبي والتوظيف الأميركي للرأي العام، وصولًا إلى رفضها ما قام به منظّرو العولمة من تحويلهم نظريّة "الاستعمالات والإشباعات" إلى مبرِّر يسوِّغ التدفُّقَ ذا الاتِّجاه الواحد للإعلام والثقافة، ويسوّغ إدانة المُتلقّي، وذلك في مقابل المطالبات بالتدفُّق المتعدِّد واحترام الخصوصيّات الثقافيّة.. وموقعنا نحن العرب في جميع الأحوال كـَ"متلقّين سلبيين" وسط هذه السِّجالات!
أمّا أستاذ علم الاجتماع، الدكتور "سالم ساري"، فقد اشتبك مع مفهوم الثقافة كـ"نسق" كلّي معقّد متداخل الأجزاء والوظائف، وذلك في معرض تتبُّعه لحركة الثقافة وإشكاليّاتها المتغيّرة في العلم الاجتماعي وحركة الرأي العام الموازية لذلك، معرّجًا على حضور الثقافة في التيارات الرئيسة الثلاثة في علم الاجتماع (البنائيّة الوظيفيّة، الماركسيّة/ الصراعيّة، التفاعليّة الرمزيّة)، ومستعرضًا عددًا من الثنائيّات المتقابلة مثل الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، الثقافة الكليّة والثقافات الفرعيّة، ثقافة الصّفوة/ النّخبة والثقافة الشعبيّة/ الجماهيريّة، وصولًا إلى "مجتمع التفاهة"، و"استراتيجيّات التضليل الإعلامي الثقافي"، و"عولمة الثقافة"، وإشكالية "تعظيم الخصوصية الثقافية" في مقابل "تمجيد الاختلاف الثقافي".. وحاجتنا كعرب في غمرة ذلك كله إلى نوعين من الثقافة المدنيّة الحديثة: ثقافة ناضجة للديمقراطيّة، وثقافة عقلانيّة للاتِّصال/ التَّواصل الاجتماعي.
ومن ثنائيات الدكتور "سالم ساري" إلى ثلاثيّات الأستاذ "معاذ بني عامر": الإله/ الإنسان/ العالم، الثقة النفسيّة/ القوّة المعرفيّة/ الحاضنة السياسيّة، والتي تبتدئ جميعها بالفيلسوف وتنتهي بالفيلسوف، والذي يحلّ لدى "بني عامر" مكان المثقف النخبوي والعضوي على حد سواء، دون أن يبيِّن لنا بشكل واضح وصريح علاقة هذا الفيلسوف/ المثقف بـِ"الرأي العام"، إلّا إذا اعتبرنا أنَّ الرأي العام لديه يكافئ ذلك "الابتذال" الذي حذّر منه للخطاب الثقافي، وتحويله إلى "سياق شعبوي" يقوم على استعطاف الناس وطلب رضاهم، وتحقيق "هوس نفسي بالشُّهرة السَّريعة" لدى صاحب مثل هذا الخطاب.
بدوره، اتَّخذ أستاذ الأدب المقارن الدكتور "نارت قاخون" من "السلطة بما هي سلطة"، و"تسلّطها على الفضاء العام" الذي فقد "اعتباطيّته" و"شروخيّته" معًا.. اتَّخذ منها نقطة مرجعيّة أو نقطة انطلاق لفهم ذلك "التردُّد" بين "لا نهائيّة الدلالة" و"صفريّة الدلالة" الذي يعتري مفاهيم مثل "الثقافة" والمثقف و"الحداثة"، وذلك بالتَّزامن مع ظهور مفاهيم "القوانين الميكانيكيّة للكون"، وانفجار "الآلة" صناعةً وشيوعًا بداية من القرن الثّامن عشر في أوروبا، لتصبح "الحياة مصنعًا"، و"المجتمع مصنعًا"، و"الدولة مصنعًا"، و"المدرسة والجامعة مصنعًا".. وصولًا إلى "الرأي العام" الذي أصبح هو الآخر هدفًا لهذا التصنيع، وذلك كجزء من انتقال طمع "تحالفات السلطة" من "تلبية احتياجات" الناس و"الاستجابة لها" إلى "صناعة" هذه الحاجات، مستفيدة (أي السلطة) من إغراءات "التحكّم والسيطرة" اللتين تتيحهما العصور الصناعيّة والتقانيّة، ومن ثم الرقميّة.
وإذا كان الفَرَض البسيط والمباشر، وربَّما الساذج، الذي انطَلَق منه هذا الملفّ للرَّبط بين مفهومي "الثقافة" و"الرأي العام"، هو أنَّ المثقف كقائد "مُفتَرض" للرَّأي يُسهم في تشكيل رأي العامّة، فلا بدّ من أجل تحقيق شيء من التوازن والإنصاف سؤال هؤلاء "العامّة" أنفسهم عن تعريفهم وفهمهم الخاص لهذا المثقف الذي سيصنع رأيهم؟ ومَن هم الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه الصفة ويلبّون متطلباتها وتوقّعاتها من بين الأسماء ذائعة -أو غير ذائعة- الصيت التي يزخر بها الفضاء العام والفضاء التواصلي.. وهي المهمة التي تولّتها الأستاذة "تسنيم ربيع" من خلال الاستطلاع الصحفي الذي أجرته بهذا الخصوص.
طبعًا سيلاحظ القارئ غياب المحور المتعلّق بسؤال المثقّف في السلطة، وهذا الغياب سببه الأوّل تقاعس و"رخاوة" مدير الملف، أي كاتب هذه السطور، وسببه الثاني اعتذار ثلاثة كُتّاب على التوالي عن هذه المهمة: الكاتب الأوَّل اعتذر بذريعة أنّه لا يستطيع أن ينتقد "السلطة" في مجلَّة تَتْبَع للسُّلطة، والكاتب الثاني اعتذر بسبب تطاوُل الأمد وتكدُّر المزاج، والكاتب الثالث اعتذر بسبب عدم التفرُّغ.
ربَّما كان حريًّا بمثل هذا الملف تضمينه محورًا إضافيًّا يطرح مفهوم "الثقافة" جانبًا، ولا يمنح "الرأي العام" ذلك الاهتمام، ويجعل بؤرة الاشتباك تتمحور حول مفهوم "الدَّوْر".
فكلمة "دوْر"، من منظور معرفي وعلمي وأكاديمي، تشير إلى مجال الدراما والنقد الدرامي، وبشكل أساسي المسرح، والدَّوْر الذي تلعبه الشخصيّة "المؤلَّفة" على خشبة هذا المسرح؛ وتبنّي مثل هذا المنظور كان يمكن أن يفضي إلى دلالات ونتائج موحية قد لا تبقى بعدها حاجة ملحّة لطرح سؤال "الثقافة" و"الرأي العام"!
كما أنَّ "الدَّوْر" هو من المفاهيم الأساسية ضمن معجم مصطلحات علم الاجتماع، حيث يعبِّر "الدَّوْر" المُرتبط ارتباطًا وثيقًا بـِ"المكانة" عن طبيعة الموقع الذي يشغله "الفاعل الاجتماعي" ضمن البنية التراتبيّة للمجتمع باعتباره (أي المجتمع) "نسقًا" يتكوّن من "أفراد" و"جماعات" تربطهم "علاقات" ويمارسون "سلوكيّات" و"أنشطة".
وهنا قد تبزغ أسئلة مثل: هل بقي هناك شيء اسمه المجتمع؟ هل ما يزال النسق نسقًا؟ هل ما يزال الفاعل الاجتماعي فاعلًا؟ باعتبارها أكثر أولويّة وإلحاحًا من طرح سؤال سيغدو "فرعيًّا" وحتى "هامشيًّا" مثل سؤال "الثقافة" و"الرأي العام"!
بالعودة إلى الهاجس الأوَّل الذي بُنيت عليه مقاربتنا، هل نجح هذا الملف في الاشتباك مع مفهومي "الثقافة" و"الرأي العام" دون "التَّشلبُك" بهما؟
لن نترك الحكم للقارئ، الإجابة ببساطة "لا"، ولكن يبقى للقارئ حريّة استكمال القراءة للوقوف على حيثيّات ذلك.
كما سبقت الإشارة؛ هي "ورطة"، ولكن طموحنا هنا، أو طموحي الشخصي على الأقل، أن تكون هذه الورطة "ورطة خلّابة" على حدّ تعبير الشّاعر!