د. سالم ساري
أكاديمي أردني
إنَّ التغيير الاجتماعي والتنمية الإنسانيّة تتحدَّدان اليوم بمحدِّدات ثقافيّة قيميّة معياريّة، تغذيهما ثقافة مجتمعيّة متكاملة، ويتغذّى منهما في الوقت ذاتِه نوعان حاسمان متكاملان من الثقافة المدنيّة الحديثة؛ النَّوع الأوَّل: ثقافة ناضجة للديمقراطيّة، والنَّوع الثاني: ثقافة عقلانيّة للاتِّصال/ التَّواصل الاجتماعي. وهذا بالضَّبط هو ما يحتاجه اليوم المجتمع العربي والإنسان العربي في حركتِه الثقافيّة المجتمعيّة، وحركة رأيِه العام.
"...مفهوم الثقافة "محيط" للغاية.. لدرجة أنه يمكن النَّظر إليه بسهولة على اعتبار أنه المستوى الأمثل للتحليل- أليس كل شيء "ثقافيًّا" في النهاية"؟!
جون توملينسون، (العولمة والثقافة،2008، ص30)
تُحرِّكُ الثقافة المجتمعيّة الكبرى، بعمق وتأثير، مطالبَ الترتيبات الاجتماعيّة، والتسويات السياسيّة، والتشكيلات الاقتصاديّة الكبرى. والثقافة نفسها هي إحدى المحرِّكات الكبرى للتَّهديد والصِّراع لأفراد المجتمع وجماعاته ونُظُمه وتنظيماته المختلفة. وهي نفسها إحدى الآليّات الكبرى لحلّ التوترات والصراعات، ومواجهة المخاطر والتهديدات، في الوقت ذاته!
مهمّة هذا المقال هي محاولة تحليليّة (سريعة) لتتبُّع حركة الثقافة وإشكاليّاتها المتغيِّرة في العلم الاجتماعي، ومتابعة حركة الرأي العام المطابقة لها، بما يرافقهما من سياسات واستراتيجيات ومدارات، في لحظات الاكتشاف، وإعادة الاكتشاف!
ولكن، ما هي الثقافة؟ ومن أين لها هذه القوة التأثيرية الحاسمة، عندنا وفي كل الدول والمجتمعات؟ ثم بالمقابل، ما هو الرأي العام؟ ما هي القوى التي تعمل على تكوينه وتشكيله وتحريكه عندنا، تفعيلًا أو تعطيلًا؟؟
يشير مفهوم "الثقافة" إلى نسق كلي معقَّد، متداخل الأجزاء والوظائف، يشتمل على مجموعة مترابطة من المعتقدات والأيديولوجيّات، المعارف والخبرات، الآداب والفنون، السُّنن والأعراف، النُّظم والتنظيمات، القوانين والأخلاقيات، العادات والتقاليد والشعبيات، التي تشكِّل مركّبات مجتمعيّة ذاتيّة قيميّة معياريّة. في مجتمع معيَّن، ومحدَّد الهويّة. والثقافة بهذا التعريف تختلف عن "الحضارة" التي تشتمل على مناهج العلوم ونتائجها النظم العلمية والتطبيقات العملية، الاكتشافات والاختراعات، الآلات والأدوات والتقنيات، التي تشكل جميعًا إنجازات متماسكة وإسهامات عالميّة موضوعية (سالم ساري، ثقافة التنمية..، 2014). وما هو ملائم، عمليًا، للتحليل، معاينة مفهوم الثقافة، باعتباره وحدة متكاملة من ثلاثة مجالات معرفيّة مترابطة متشابكة متساندة، بعيدًا عن الفصل والعزل:
• الثقافة كأفكار وإنتاجات وإبداعات إنسانية.
• الثقافة كأفعال وممارسات وموجِّهات قيميّة ونمط حياة مجتمعي.
• الثقافة كنظام/ تنظيم مؤسسي، ونمط حياة مجتمعي عام مميَّز.
والمقصود بالثقافة هنا "الثقافة المجتمعية" وهي: ثقافة المجتمع الكلي الكبير، أو ثقافة المجتمعات العربية التي حملتها متراكمة عبر مسيرتها الطويلة، وهي نفسها الثقافة التي ما زالت تحرِّكها اليوم، في شتى اتجاهاتها وتوجهاتها- ولو بإضافات عصريّة مستجدَّة.
ويشير مفهوم الرأي العام إلى حركة المجتمع، بمجمله، بأنواع من التعبير الجمعي، البارز أو الكامن، تأييدًا أو معارضةً، إقبالًا أو إحجامًا، نحو ظاهرة أو قضية/ موقف معيّن، تهمّ غالبيّته العظمى، في فترة زمنيّة معيّنة.
الثقافة المجتمعيّة الكليّة/ العامة هي التي تصنع الرأي العام الكلّي في مجتمعنا الأردني (العربي، التعدُّدي) المتجانس نسبيًّا، الذي يشترك أفراده في مجموعة من القواسم (التاريخيّة) المشتركة من اللغة والقيم والمعايير، ويتقاسمون جملة من المُثل والمبادئ، والأخلاقيات، ويعيشون جملة واحدة من الهموم والاهتمامات والتطلّعات.
لاحظ حركة الرأي العام الأردني الواحد، مثلًا نحو: قضية فلسطين، الوحدة الوطنية، التوقيع والتطبيع مع كيان الاحتلال، إجراءات الإقفال والمنْع والحظْر، تغيير وتطوير مناهج التعليم، ارتفاع الضرائب والفساد، التعلم عن بُعد..إلخ، ثم لاحظ التغايرات والاختلافات والتنويعات للآراء الموحَّدة، حول القضايا الكبرى نفسها، التي تشترك فيها المجموعات الطبقيّة والشرائحيّة والمهنيّة (ثقافة الأغنياء وثقافة الفقراء، ثقافة النساء وثقافة الرجال، ثقافة الكبار وثقافة الشباب، ثقافة النّخبة وثقافة الناس العاديين، ثقافة رجال المال والأعمال، وثقافة الصحفيين والمحامين...إلخ).
• الثقافة والأنثروبولوجيا
دلَّلَت الأنثروبولوجيا عمليًّا على أنَّ الثقافة هي عشقها الأول. جذرها الأشدّ رسوخًا، ومصدرها الأكثر ثراءً. ودلَّلت الثقافة أنَّها الأكثر وفاءً للمربط الأنثروبولوجي، والأكثر احتفاظًا برائحة المكان، والأشدّ حنينًا للعودة إليه!
والأنثروبولوجيا بضاعة غربيّة مبكرة بامتياز. وموضوعها ثقافي مستمرّ، بقوّة وتأثير. وإنْ كانت البيولوجيا سابقة على الأنثروبولوجيا في حقبة التأسيس، فإنَّ الأنثروبولوجيين قد تجاهلوا مزاعم البيولوجيين بإصرار، وتجاوزوها بنجاح. فمن واقع اكتشافاتهم الميدانية، استطاع الأنثروبولوجيون، بثقة متزايدة، تأكيد الحقيقة العلمية الاجتماعية الإنسانية الجديدة: أنَّ الأنثروبولوجيا، وليس البيولوجيا، بالقدر نفسه، هي التي تصنع الفرق الكبير في التفسير الثقافي لحقائق المجتمعات الإنسانية- نشأةً وتطورًا، عمقًا وتأثيرًا. وتذهب هذه الرؤية الثقافية الميدانية إلى أنَّ الاكتساب الثقافي المختلف المتطوِّر بالتراكم، وليس التكوين البيولوجي الموروث الثابت بالتكوين، هو الذي يقف وراء الاختلاف والتَّمايز الإنساني والمجتمعي. فليس هناك "جينات" ثقافيّة يمكن أن يرثها الإنسان والمجتمع. وإنَّما هناك "سمات" ثقافيّة مميّزة تطبع المجتمعات الإنسانية بطابعها المختلف (سالم ساري، ثقافة التنمية، 2014).
أسهمت الأنثروبولوجيا في تقديم مفاهيم ثقافيّة أصيلة حملتها من دراساتها وأبحاثها واكتشافاتها في المجتمعات غير الغربيّة التي أقامت بها طويلًا (آسيا وأفريقيا وأستراليا وأميركا اللاتينية) إلى مواطنها الغربية (البريطانية والأميركية والفرنسية). كما أسهمت في تأسيس نظريات ومناهج (ثقافيّة) ممتدّة إلى علوم الاجتماع والسياسة والتنمية.
لم تبرح الأنثروبولوجيا الثقافية العلوم الاجتماعية إلا بعد أن زرعت في هذه العلوم مفاهيم ونظرية ومنهجًا مطابقًا- لتسود العلم الاجتماعي، بمداخل متباينة:
نظريّة الوظيفيّة- البنائيّة، باعتبارها أعظم ما اكتشفه المحافظون مبكرًا لأنفسهم. بما تمنحه لهم من قوَّة وشرعيّة في المنطلقات والتوجُّهات، ومن دعم وتبرير للسياسات والممارسات. فهي النظرية المبكرة التي تؤسِّس للساسة والمربين وحرّاس الأخلاق المجتمعية الحقَّ في التحدُّث باسم المجتمع ونيابة عن أفراده، بترسيخها للمبادئ والمفاهيم والخطوط الأخلاقية العامة، والدِّفاع بشراسة عن القانون والنظام، وتأبيد الوضع القائم! ومن أهمّها: أولويّة المجتمع على أفراده، حفظ مقوّمات استقرار المجتمع واستمراره، الالتزام بالضوابط واحترام ترتيبات القانون والنظام، العمل للمصلحة العامة والخير العام، الإجماع المجتمعي والأخلاق! ثم الضغوط على الأفراد للتكيُّف مع معطيات المجتمع وترتيباته القانونية والأخلاقية، والانصياع لثوابت الثقافة المجتمعية التي يعوّل عليها باعتبارها الحاملة التقليدية الثابتة لهذه المبادئ والاتِّجاهات والتوجُّهات- مهما كانت متصلّبة متجمّدة، رافضة للتغيير!
منهج الملاحظة بالمعايشة، أكثر طرق البحث التصاقًا بموضوع الدراسة، وغزارة في حصيلة البيانات وكثافة المعلومات وثراء النتائج! تعاظمت الوظيفية البنائية وانتشرت وعمَّت لتكون، إلى اليوم، وكأنَّها النظريّة (الرسميّة) المقبولة، الأكثر ملاءمة في الوصف والتبرير، والأكثر اقتباسًا في البحث والتدريس، على أيدي المشتغلين في العلوم الاجتماعيّة.
• الثقافة والسوسيولوجيا
أظهرت السوسيولوجيا أنَّها الأكثر حاجة لحضور الشقيق الأنثروبولوجي الأكبر، والأكثر ميلًا للاعتذار منه، والأشد رغبة للتصالح معه. وأظهرت الانثروبولوجيا أنها لا تقلّ اشتياقًا للشقيق بعد خصام، والأشد ميلًا للتسامح معه بعد جفاء، والأكثر اعترافًا بأنَّ ما بينهما من قواسم الوصل والتقارب أكبر وأعمق من كراهيات الفرقة والتباعد.!!
فمنذ العقود الأولى من القرن العشرين، وعلماء الاجتماع الأميركيين، وبتأثير من مدرسة شيكاغو الآيكولوجية، بصورة واضحة، يُبدون حساسيّة متعاظمة تجاه البُعد الثقافي، في التفسير والتحليل والفهم السوسيولوجي.
بدا واضحًا في التعامل مع المشكلات الاجتماعية الكبرى الضاغطة، أنَّ الآخر الوافد إلى المكان نفسه، ليس إلّا "آخر ثقافي"، وأنَّ حضوره في المكان نفسه، ليس إلا حضورًا ثقافيًّا أيضًا- تهيمن فيه الثقافة بعمق على مشهد العلاقات والتفاعلات والمشكلات المتأزِّمة جميعًا.
وبرز للتعريف والتحليل والتفسير الثقافي الأميركي نوعان (عمليّان) من الثقافة:
الثقافة الكليّة: Over-all Cultureللإشارة إلى الثقافة الأميركية العامة (السويّة، الأصلية النقية، المستقرة، المنجزة).
الثقافات الفرعيّة Sub-Culture: للإشارة إلى الثقافات الوافدة لمجموعات هائلة من الإثنيات (المنحرفة، المفككة، القلقة).
فعلى الرّغم من أنَّ "روبرت ميرتون" من المؤسسين المحافظين للنظرية الوظيفية- البنائية، فقد اندفع (بنبرة ليبرالية واضحة) إلى تحليل أكثر عمقًا للبناء الثقافي الأميركي. وجادل أنَّ الثقافة الأميركية (الرأسمالية) المعاصرة هي المصدر العريض للجريمة والانحراف والمشكلات الاجتماعية. إنَّها ثقافة لا معياريّة. يقع في صلبها تناقض بنائي راسخ بين تركيزها الكلّي على أهداف ثقافيّة عريضة (ماديّة مفتوحة) وحجبها المتعمّد التركيز على الوسائل المؤسسية (المقيّدة بشدة). ودفعه تحليله المتطوِّر لاكتشاف أنَّ الثقافة الأميركية تتآمر على أفرادها لإيقاعهم "في الفخ الثقافي".
- أمَّا "ماركس"، فقد تعامل مع الثقافة باعتبارها جزءًا مكمّلًا من مكوّنات "البناء الفوقي"، تابعة متأثرة، وليست مستقلّة التشكيل والتأثير في أيّ مجتمع. ويرى أنَّ الثقافة لا تقوى على الحركة إلّا بقوة حركة الاقتصاد- القاعدة المادية الصلبة لأي نظام اقتصادي اجتماعي سياسي. وليست الأشكال الثقافية المختلفة إلّا مواد ديكوريّة تجمليّة هشّة، لتزيين الواقع الرأسمالي القائم، وتسويغ ممارسات أصحابه، وتكييف الناس لقبوله واستمراء العيش به! وكل الأشكال الثقافية موجَّهة كليّةً لتغييب الوعي الطبقي الكلي، وتغريب العمّال، وتشويه العلاقات الاجتماعية السياسية، في المجتمع الرأسمالي. فمجموعة المعتقدات والقيم والأفكار ووسائل الإعلام والدعاية والاتصال، والكتب والمطبوعات، وحتى الفنون والموسيقى..إلخ ليست إلا إنتاجات رأسماليّة ربحيّة مصنّعة، وليست موجَّهة لتنمية الإنسان والمجتمع، وإنَّما لاستغلال العمّال والفقراء ولتقديس عبادة الامتلاك والاستهلاك. ومن هذا؛ الإيمان بحتميّة مساوئ النظام الرأسمالي من طبقيّة وظلم وجشع واستغلال. يرى "ماركس" (ورفيقه إنجلز) بوضوح أنَّ "الهبوط في قيمة عالم الإنسان.. يزداد بعلاقة مباشرة مع ازدياد قيمة عالم الأشياء"!
- وأمّا معاصره ومواطنه الألماني "فيبر"، فقد أخذ الثقافة المجتمعيّة مأخذًا جديًّا، منذ البداية. يذهب "فيبر" في نظريّته الثقافية إلى أنَّ للثقافة المجتمعيّة القوّة الكليّة المستقلّة في الحركة. كما أنَّ لها القدرة الذاتية على التغيير والتأثير. وعلى الرّغم من أنَّ الثقافة قوّة ليّنة ناعمة، فإنَّ الاقتصاد القاعدي الصلب لا يتحرك إلا بحركتها، ولا يتوجّه إلا بتوجيهاتها، ولا يتنمّط إلا بنمطها المتطوِّر. إنها الثقافة، قبل أي شيء آخر وفوق أي شيء سواها، هي التي تجعل للحياة معنى، وهي التي تعطي للمجتمع لونه وطعمه ونمط فعله الاجتماعي السائد. فمع ظهور البروتستانتيّة وتطوُّرها، كمذهب ديني في بعض بلدان أوروبا الغربية وأميركا الشمالية مثلًا، ظهرت وتطوّرت الرأسمالية فيها كنظام اقتصادي اجتماعي، بصورة مطابقة.
- ومنذ عشرينات القرن العشرين، امتدَّت ثقافية "فيبر" إلى الجانب الأميركي، وتبلورت على أيدي "جورج هربرت ميد" بنظرية التفاعلية الرمزية. تعطي هذه النظرية السوسيولوجيّة أهمية خاصة للمركّبات الثقافية الأساسية: اللغة، الرموز والمعاني، والدلالات- وبهذه المركّبات، تنتظم الحياة الاجتماعية. وتذهب إلى أنّ الفرد يطوِّر، بتفاعله الاجتماعي، وعيًا، يصبح به قادرًا على التفكير والإدراك، ويستوعب توجيهات ثقافية مجتمعية، يستطيع بها صنع القرارات، وحل المشكلات. أمّا المجتمع فإنه يُخلق خلقًا في عقول أفراده وتصوُّراتهم، ويُعاد خلقه من جديد، برؤاهم وتعريفاتهم وتفسيراتهم لواقعهم الاجتماعي الثقافي، وإعادة تعريفه وتفسيره باستمرار، وبتوجيه ثقافي تفاعلي كبير، تقترح هذه النظرية لدارسي علم الاجتماع وباحثيه، حقيقتين:
تذهب الحقيقة الأولى: إلى أنَّ الوقائع والأحداث والظواهر المجتمعية (الخارجية) ليست هي الحقائق الصلبة لعلم الاجتماع. وإنَّما هي الصور والتصوُّرات، والقيم والاعتقادات (الداخليّة) في عقول الأفراد. فالمهم، حقيقةً، هو معرفة ما يملأ رؤوس الناس عن الناس- حقيقةً أو خيالًا!
وتذهب الحقيقة الثانية إلى أنَّه ما دامت حقائق علم الاجتماع ليست أشياء صلبة بارزة، وإنَّما لينة قائمة ماثلة في ذهن الفاعلين الاجتماعيين، فإن على الباحث الابتعاد عن البحث في السطح، وأن يتَّجه، بدلًا من ذلك (أو بالبحث بصورة موازية على الأقل) إلى الحفر عميقًا في حقائق العالم الاجتماعي الثقافي الإنساني التي تتحدَّد بالرموز والمعاني والدلالات. وأنَّ البحث المناسب في علم الاجتماع ليس هو البحث الكمّي الذي ينشغل في الأرقام والإحصاءات والقياسات. وإنّما هو البحث (الثقافي) النّوعي الذي يُعنى ببحث السلوك والأفعال والأقوال، الآراء والاتجاهات والعلاقات، المشحونة بالقيم والرموز والمعاني والدلالات(ساري وعثمان: نظريّات في علم الاجتماع، 2009).
كما برز في علم الاجتماع (مؤخَّرًا نسبيًّا) مفهومان متقابلان للثقافة:
"ثقافة النخبة"/ "الصفوة".. و"الثقافة الشعبيّة"/ "الجماهيريّة"
يُستخدم مفهوم "ثقافة النخبة" للإشارة إلى ثقافة الصفوة من الأغنياء والأرستقراطيين والمحظوظين، وثقافة التكنوقراط من كبار السياسيين والاقتصاديين والخبراء المهنيين والفنيين والإداريين..
ويشير مفهوم "الثقافة الشعبيّة" إلى ثقافة السواد الأعظم من الناس العاديين والفقراء والعمال والفلاحين والمستضعفين؛ من الاعتقادات والإنتاجات والفعاليات العريضة لعامة الناس في المجتمع من فقراء وعمال وفلاحين ومستضعفين. وكما أنَّ مفهوم الشعب لم يعترِه الوصم والتشويه في الثقافة العربية.
وكثيرًا ما يَستخدم بعض النقاد،، مفهومًا مرادفًا أو بديلًا للثقافة الشعبية هو مفهوم "الثقافة الجماهيرية" للإشارة إلى ثقافة مصنّعة، لإشاعة معارف عامة تمضي دون تمحيص، وميول واتِّجاهات رائجة تخدم أغراض شركات الإنتاج ومتطلّبات السوق أكثر ممّا تخدم الجماهير.
وقد طال الثقافة الشعبية في المجتمع الرأسمالي الطبقي كثير من التبخيس والتجاهل والتهميش. بينما طال الثقافة الجماهيرية كثير من التعبئة والتضليل والتشويه.
وكثيرًا ما يأتي التبخيس للثقافة الشعبية العربية من ثقافة النخبة العربية. مع أنَّ ثقافة النخبة الراهنة، كالنخبة نفسها، استعلائيّة، هجينة ومغشوشة في أيّ مجتمع عربي حديث، فالمثقف النخبوي عندنا ليس له من وصفه نصيب، إلا أسوأه!! فهو مصنّع رسميًّا، ومهيّأ فكريًّا، ليمارس ما تمَّ إعداده له في خدمة النظام القائم، من دوْر ووظيفة. وهذا النوع الثقافي بعيدٌ تمامًا، شكلًا ومضمونًا، عن ما سمّاه "غرامشي" بماركسيّة تأسيسيّة صلبة؛ "المثقف العضوي": المثقف النقدي الذي يأتي من رحم مجتمعه، مرتبطًا عضويًّا بطبقته، ملتزمًا -علمًا ومعرفة، نظرية وممارسة- بتحرير فكرها من رواسب الأيديولوجيّات البائسة.
وتنصبُّ أفكارمؤسسي مدرسة فرانكفورت النقدية، ذوي الأصول الماركسية، على تشريح البناءات والمكوّنات، ونقد الاتِّجاهات والتوجُّهات، للمجتمعات الرأسمالية الغربيّة الصناعية، وتمتدّ من نقد تأثيرات الثقافة والإعلام، إلى تشوُّهات الحياة الاجتماعية الاقتصادية السياسة، ونمط العلاقات والتفاعلات والتعاملات الرأسمالية.
ولكنَّ النقد المكثَّف للمدرسة كان نقدًا ثقافيًّا متماسكًا: منصبًّا على عمليّات وآليّات إنتاج المعرفة والسلطة والثقافة كسلعة تجارية ربحيّة مصنَّعة في المجتمع (الرأسمالي) الصناعي، موجَّهة للسيطرة والرقابة وتغييب الوعي، والخداع والتضليل. وتعمل لتشييء وتعليب وتكييف الإنسان المعاصر. وهي نفسها، بالضبط، عمليات وآليات إعادة إنتاج النظام الرأسمالي ثقافيًّا.
ويذهب النَّقد إلى أنَّ وسائل الإعلام هي التي تقوم بتشكيل الرأي العام في المجتمعات الرأسمالية، وفق أيديولوجيّة السوق التجاري الاستهلاكي، ولا تقوم هذه الوسائط الاتصالية بتصوير الواقع الحيّ القائم، بحيادية ونزاهة فعلية، أو نقل الحاجات والمشكلات والاهتمامات الحقيقية للجماهير، وإنَّما تقوم بخلق واقع مصنوع، بحرفيّة مهنيّة تقنيّة ماهرة، لخدمة الأغراض الخاصة لمالكيها، وتحقيق أعلى ربح ممكن في السوق الثقافي الاقتصادي.
ويمكن ملاحظة أنَّ التأثير الثقافي السياسي لأفكار مدرسة فرانكفورت النقدية قد بلغ الذروة في فترة أواخر الستينات بالذات، بتفاقم أزمات المجتمعات الغربيّة ومشكلاتها وتحدِّياتها، وازدياد الوعي الاجتماعي فيها، ممتدًّا من ألمانيا، عبر فرنسا، إلى أميركا. وتجلّى هذا التأثير في ما عُرف بـِ"ثورة الشباب الغربي"، الملهمة بالأفكار النقدية لـِ"ماركوز"، أحد أقطاب المدرسة المؤثرين، في كتابِه الثوري الشهير "الإنسان ذو البُعد الواحد"، فتحرَّكت ثورتهم غاضبة ناقمة على مجتمعاتهم الصناعية، وأقدمت، بتصميم وشراسة، على إحراق شوارع باريس 1968- أحد رموز البرجوازية الرأسماليّة الصارخة!!
وللمنظّرين التقدميّين، عَنَتْ "الحداثة" Modernity ثورة ثقافيّة معرفيّة هائلة وحركة تغييريّة شاملة، موجَّهة بجرأة وتصميم نحو "أنسنة الإنسان" المقهور، وردّ الاعتبار إليه: بأنَّ الإنسان هو المبدع الخلّاق، صانع مجتمعه، وليس مجرّد صنيعته. ولكنَّ الحداثة، عند نقّادها الراديكاليين، سرعان ما انحرفت عن مسارها الإنساني، ووُجِّهت في المجتمعات الرأسمالية، على أيدي السياسيين المحافظين، وجهاتٍ مُغايرة، لتنفذ إلى الثقافة الشعبية بموجات متلاحقة من سياسات التجهيل والتضليل، والنفاق و"الشعبوية" الرخيصة.
وإزاء ذلك، كثّف نقاد الثقافة الرأسمالية المعاصرة، من جرأتهم في كشف المسار الذي تنجرف إليه المجتمعات والدول من سياسات وثقافات وممارسات، مصاغة للتحكُّم والتَّوجيه والضَّبط والسيطرة.
ينعى "ألان دونو"، الفيلسوف النقدي الكندي الفرنسي المعاصر، حالة الانحطاط الثقافي السياسي الإعلامي لإنسان "مجتمع التفاهة" Mediocratie، الحديث المعولم، الذي سيطر فيه التافهون الرأسماليون، من خبراء السوق الاقتصادي، في السياسة والإدارة، على العالم، بتسطيح فكرِه وثقافتِه، والعبث بقيمِه وعلاقاتِه.
ولم يتردَّد "نعوم تشومسكي"، المثقف المُعارض الناقد الشرس للثقافة الأميركية الرأسمالية، من كشف استراتيجيّات التضليل الثقافي الإعلامي العشرة التي تحمِلُها وسائل الاتصال الحديثة وترسِّخها في الثقافة الجماهيرية، وتوظِّفها كآليّات للتحكُّم والضبط والسيطرة (ومن هذه، مثلًا: استراتيجيّة الإلهاء وتحويل الانتباه، افتعال المشكلات وطرح الحلول، المماطلة والتأجيل، مخاطبة العواطف بدلًا من العقل، تغييب الوعي المجتمعي وتعطيل ثوراته، التكييف "للواقعية السياسية" بالإذعان للأمر الواقع، ونزع الاحتجاجات والتمرُّدات..إلخ).
• الثقافة والسياسة
مع بدايات القرن الحالي، وبصورة واضحة، صعدَتْ الثقافة بحساسيّة بالغة إلى قمّة أولويّات الأجندة السياسية. وتلك الحقبة بالذات هي حقبة صعود العولمة كقوة عالمية متحركة بثقة وإصرار على توحيد العالم، وتحطيم حواجزه ومعوّقاته، واختزال حدوده ومسافاته، لتكتشف سريعًا أنَّ أطول المسافات الفاصلة بين دول العالم ومجتمعاته وجماعاته، ليست اقتصادية أو سياسية أو إعلامية، وإنَّما هي مسافات ثقافيّة بامتياز. وهي حقبة التطويرات والتأثيرات الهائلة لإمبراطوريات وشبكات الاتصال والتواصل الاجتماعي الإلكتروني (ساري، ثقافة التنمية،2014).
سارع منظِّرو الحداثة وما بعد الحداثة إلى وصف الحياة الاجتماعية في عصر العولمة، بأنَّها حياة الإنسان في "عالم مُنفلت" (أنتوني غدنز)، و"أزمنة سائلة" (سيجمونت باومان)، تتدفَّق اتصالاتها وتواصلاتها، "مجتمعات اللايقين"؛ لا يُمكن التأكُّد ممّا يجري فيها، "مجتمعات المخاطرة" (أولريخ بك)، "مجتمعات الشبكات" الاقتصادية والمالية (كاستلز)، ومجتمعات الثورة الاتصالية والمعلوماتية.
ومع العولمة، برز للثقافة مفهومان متلاصقان:
مفهوم "عولمة الثقافة" ليشير إلى إصرار العولمة على جلب ثقافات العالم وتوحيدها في كلٍّ واحدٍ، متجانس القيم والمعاني والرموز، وموحَّد الخطاب، وأحادي المصادر والرسائل والمضامين، تضمنه وسائل اتصالية جمعية عالمية.
ومفهوم "ثقافة العولمة" لتشير إلى نمط الإنتاجات والعمليات والأهداف الثقافية للآلة العالمية التي لا تتوقف عن الدوران للإنتاج على مستوى عالمي واسع، جاهز طازج للاستهلاك على مجتمع عالمي واسع أيضًا.
كما حملت العولمة للثقافة، دون غيرها، جملة متكاملة من الاستراتيجيات والسياسات والمدارات.
يرى نقاد النزعة الثقافية الكونية أنها نزعة تعسفيّة غير مبرَّرة إلّا لأصحابها من المغامرين الغربيين لأهداف الهيمنة والسيطرة والضبط والمراقبة، على حركة العالم كله- مضامين واتِّجاهات وتوجُّهات. وإذا كان العرب قد انجرفوا (سياسيًّا واقتصاديًّا) إلى الانبهار بالعولمة، باعتبارها حركة عالمية حيادية موحّدة للمجتمعات، مربحة للاقتصاد والسياسة، ومريحة للعلم والتعليم والتكنولوجيا... فإنهم يكتشفون، بالممارسة الفعلية، أنهم لا يستطيعون ثقافيًّا العيش بالعولمة، ولا يستطيعون -اقتصاديًّا وسياسيًّا- العيش دونها!!
ولأنَّ الثقافة الجمعيّة هي ذاكرة جمعيّة، والدِّفاع عنها هو دفاع عن الوجود الجمعي، فإنَّ مواقف الرفض والممانعة والمقاطعة قد أتت على الجانب الثقافي العنيد: فلماذا يتحتَّم على ثقافة عربية تاريخية عريقة أن تنحني طواعية إذلالًا وانكسارًا لهيمنة ثقافية أميركيّة- غريبة اللّون واللّسان، صارخة التعصُّب والانحياز، ومريبة السياسات والأهداف؟ فكان لا بدَّ أن تعاود الثقافة العربية "نظرية المؤامرة" الساكنة فيها طويلًا منذ حقب الاستعمار والاحتلال والاستيطان. وانكشف مستور العولمة بمواقف السياسة الأميركية الراهنة بإعلان ما عُرف شؤمًا وعارًا بـِ"صفقة القرن" (أو صفعة القرن"!)، المنفذة للأجندة الصهيونية التوسعيّة، بالمضيّ في شطب القضية الفلسطينية، وتثبيت القدس العربية التاريخية عاصمةً للكيان المحتلّ، وضمّ الأراضي الفلسطينية المحتلة ومرتفعات الجولان السورية لسلطة الكيان المحتل!!
لم تستبطن هذه السياسات والممارسات الأميركية المعولمة، ولو للحظة، الوعي الثقافي الشعبي العربي العريض.
وعلى الرّغم من أنها سياسات ومؤامرات وانحيازات عنصريّة وجدت، كغيرها، طريقًا واسعًا يليق بها -مزابل التاريخ العربي المقاوم- فإنها كشفت التآمر والانحياز والنفاق الأميركي، سياسةً واقتصادًا، ثقافةً وإعلامًا، للصهيونية العالميّة- أليست أميركا، بداية أو نهاية، مطابقة أو مفارقة- هي المركز العالمي الوحيد المُعلن، والممارس الحصري المعتمد للعولمة!؟؟
وبإعادة اكتشاف الثقافة، برزت في السياسة العربية/ العالمية- تقييمات ثقافية (أيديولوجية) متصلّبة:
• إشكاليّة تعظيم "الخصوصيّة الثقافية".. مقترنة بتقديس الإرث الثقافي الخاص.
• إشكاليّة "تمجيد الاختلاف الثقافي" مقترنة بإنكار الكونيّة الثقافيّة. وإزاء هذه الإشكاليّات ذهب المفكرون النقديّون للثقافة والسياسة، إلى أنه إذا كانت الثقافة، في كل مكان، بريئة المعنى والمسعى، فإنَّ العولمة لم تكن بريئة يومًا، ولا يمكنها أن تكون! وإنَّما تخصِّص العولمةُ لمواجهة الثقافة مجموعة أخرى مطابقة من الآليات والتسويات والصفقات!!
ويذهب "هابرماس"، المفكرالمخضرم الأشهر للعلوم الاجتماعية في أيامنا هذه، إلى أنه يمكن التفكير في الشراكة الحضاريّة (بين العرب والغرب)، حيث تتضاءل الفروقات الصغيرة وتتعاظم االقواسم المشتركة والإسهامات الإنسانية النبيلة. وأن نتَّجه إلى "التعايش المدني" الذي من شأنه أنْ يعزِّزَ التوافق والتعاون والتواصل، وأنْ يضعَ حدًّا للصراعات والنزاعات والتوترات. وبهذه التسويات، يبدو "هابرماس"، المنشقّ عن ألأصول الماركسية لمدرسته النقدية القديمة، أنه الأكثر تفهُّمًا للحقائق الجديدة للعالم (العولمي) الجديد. وكان على تحليله في التعامل مع إشكاليّة حركة العالم والتفاعل/ الاندماج مع الآخر، أنْ يجيبَ عن سؤال الأولويّات: ما الذي يعوق أيّ مجتمع عن التفاعل والاندماج في حركة العالم (الرأسمالي)؟ ولِمَن الأولويّة للاقتصاد أم الثقافة؟
أقرَّ "هابرماس"، بواقعيّة وعقلانيّة، أنْ لا بديل للرأسمالية، لأنَّها الأكثر مرونة وقدرة وكفاءة على إنتاج مقادير هائلة من الثروة. ومع الرأسمالية، لا بدَّ لنا من استعادة سيطرتنا على المسارات الاقتصادية، التي غدت تتحكَّم في عالم حياتنا، أكثر ممّا نتحكّم نحن بها. والوسيلة الأساسية لتحقيق هذه الغاية هي إحياء "المجال العام"، الذي تشكِّل الديمقراطية إطاره العام (غدنز، 2005. انظر أيضًا: ساري وعثمان، نظريات في علم الاجتماع، 2009).
وبوسع ثورة الاتِّصال والتَّواصل أنْ تسهمَ، بوعي ومسؤوليّة، في تنمية الأفعال والتوجُّهات والممارسات الديمقراطية. والطريق الواسع المفتوح لفعل ذلك كله هو دخول المجتمع الكلي في حوار حُرّ مفتوح في الفضاء العام الحُرّ المفتوح.
ولا بدَّ أن نقف، بتقدير كبير عند الحلول العمليّة الواقعيّة التي يقدِّمها هذا المفكر النقدي الحُرّ، لأزمات المجتمعات (العالميّة) المعاصرة، ومشكلاتها وتوتُّرات علاقاتها وتفاعلاتها. وهي حلول ثقافيّة اتصاليّة ديمقراطيّة- تمامًا من صنف المشكلات الثقافيّة الاتِّصالية القائمة الماثلة على المشهد العالمي اليوم:
أولًا- استدعاء حضور الثقافة المجتمعيّة، الغائبة المغيَّبة طويلًا بفعل الحضور الثقيل المكثف للاقتصاد.
ثانيًا- نشر الديمقراطيّة، وتعميمها، بتعظيم الدور العقلاني الحُرّ لوسائل الاتصال/ التواصل الاجتماعي، المؤدّي لفهم الآخر، القبول به، والتعايش معه.
إنَّ "هابرماس" هو الذي يتابع إيمان "فيبر" الثقافي، بإيمان مماثل، برؤية أنَّ التغيير الاجتماعي والتنمية الإنسانية تتحدّدان اليوم بمحدِّدات ثقافيّة قيميّة معياريّة، تغذيهما ثقافة مجتمعية متكاملة، ويتغذّى منهما في الوقت ذاته نوعان حاسمان متكاملان من الثقافة المدنيّة الحديثة:
النوع الأوّل: ثقافة ناضجة للديمقراطية.
النوع الثاني: ثقافة عقلانيّة للاتصال/ التواصل الاجتماعي.
وهذا بالضَّبط هو ما يحتاجه اليوم المجتمع العربي والإنسان العربي في حركتِه الثقافيّة المجتمعيّة، وحركةِ رأيه العام.
ولكن، ما الذي يضمن لنا الوصول إلى تلك الثقافة المدنيّة الفاعلة، وذلك الرأي العام المستنير؟؟
بتجربته الاجتماعية السياسية الطويلة المحمومة، يفقد المجتمع/ الإنسان العربي الثقة بالمؤسسات والآليات التقليدية للديمقراطية (البرلمانات والانتخابات)، ويغدو الحلّ الثقافي الاتِّصالي هو الذي يُعوَّل عليه باعتباره ضامنًا وحيدًا، بالفعل الاتِّصالي الجمعي النظيف، البعيد عن التشويه والاحتواء، والقويّ المقاوم للتحريف والتزييف. فإذا كان للنُّخب السياسية الاقتصادية والقانونية مصالحها الخاصة حقًا، فلا أحد آخر غير الشعب نفسه أكثر معرفة بمصالحه، وأصدق سعيًا لتحقيقها بنفسه ولنفسه. ولا أحد سواه يستطيع تشكيل رأيه العام في الفضاء العام، بوعي ومسؤولية، بالحوار الحُرّ الواعي المسؤول، والنقاش الديمقراطي المفتوح.
ولكنَّ النُّخب العربيّة الحاكمة تخصِّص دائمًا مجموعة جاهزة من السياسات والاستراتيجيات والتبريرات تحول دون تمكين الشعب من التركيز على قضاياه الحقيقية، وتشكيل رأيه العام المستقل، وتحرُّكه نحو مطالباته السياسية الأساسية.
ومن هذه مثلًا: ما تلجأ إليه الحكومات العربية، عادة، ما يسميه "هابرماس" في مكان آخر، بسياسات "ترتيب الأولويات التنموية"، وتبريرات "التعجيل والتأجيل": حيث تقوم الحكومات بتحشيد الرأي العام في تعبئة عامة لتأييد النظام، في ما تقرّر من سياسات تعجيل الاقتصادي (بدعوى تأمين الحاجات الأساسية المادية للسكان وتحقيق النمو والتقدُّم) من ناحية، وتأجيل السياسي (بدعوى أنَّ الحريات الأساسية، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، هي كماليات رفاهية، يمكنها أن تنتظر)، بما يحمل ذلك من ترسيخ (رسمي وإعلامي) في الذهن المجتمعي أنَّ المطالبات المجتمعية بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لا تتأتّى بالنضال من أجلها (كما حدث في الثورات العربية في ربيعها العربي)، وإنّما باستجدائها بالخضوع والطاعة والحفاظ على النظام! كما أنَّ المطالبة بالإصلاح السياسي وسط "محيط ملتهب" هي مطالبة شعبية لا عقلانية وغير مسؤولة! وتبدو المطالبة بحرية الرأي والمساواة، بالنسبة إلى شعب عربي، يعاني قسوة العيش في الفقر والبطالة والعوز والحرمان، أقل أهمية من التطلع إلى ظروف حياة أفضل! كما تبدو المطالبة بالحقوق الفردية والجمعية باستجدائها بأشكال (قبليّة فجّة) من الخضوع والطاعة، وأشكال (مدنيّة) أخرى من إتقان فنون الاستدارة والاستخارة.. أقل تكلفة وأكثر فعالية من النضال لأجلها بالمعارضة والثورة!
وتتراكم مثل هذه السياسات، متضافرة متناغمة، مع سياسات خارجية، بأشكال ومضامين متفاوتة الحدّة والتأثير.
ومن سوء حظ الثقافة العربية اليوم أنْ لا تكون مستهدَفَة من الخارج الغربي/ الإسرائيلي العدائي حسب، وإنَّما من الداخل العربي الصديق أيضًا! وهذا يحتِّم على الثقافة العربية اليوم أن تناضل على جبهتين، تعملان بصورة متماسكة،
وتناغم وانسجام (وربّما بتعاون وتنسيق) تعملان عبر وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية المكثّفة:
جبهة داخليّة (صديقة): تصيب الثقافة العربية، والرأي العام العربي، بالخوف والتخويف، وبالتفتيت والتشتيت.
جبهة خارجيّة (عدائية): تستهدف الثقافة العربية بالوصم والتشويه (عقم، عجز، فشل) لتصل بها إلى اليأس والتيئيس.
ولا أشكُّ، للحظة، أنَّ الثقافة العربية العريقة تختزن القوة والحيوية والفاعلية، المتراكمة المفاجئة المذهلة، للتحرير والتأثير!! إنها هذه العنقاء؛ الثقافة العربية المرعبة التي تعدّ نفسها للنهوض والتدفق من رماد الهزائم والانكسارات، هي التي تصيب بالحيرة والذعر كل المراهنين على موتها أو انسحابها أو جفاف قوَّتها المحرِّكة!!
وتُظهِر النتائج الدقيقة للاستطلاع الأخير، الواسع جدًا، للمؤشِّر العربي 2019|2020، الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنه على الرغم من ما ينشط اليوم، في هذه المرحلة، من سياسات التطبيع وأحاديث التطويع، من قبل سياسيين وخبراء وصحفيين، عن فكّ الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، فإنَّ الرأي العام العربي، لأقاليم المنطقة العربية جميعًا (الممتدة من بلدان المشرق العربي إلى بلدان المغرب العربي، ومن بلدان وادي النيل إلى بلدان الخليج العربي) متوافق، بصورة جليّة، على رفض الاعتراف بإسرائيل:
إنَّ المجتمعات العربية ما زالت تعتبر القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعًا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم!
أنَّ 88% من مواطني المنطقة العربية، يرفضون الاعتراف بإسرائيل!
الكتلة الأكبر في كل من الأردن وفلسطين ولبنان ومصر وموريتانيا ترى أنَّ دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الدولة الأكثر تهديدًا لبلدانهم!
وما زالت الثقافة العربية الرافضة تحرِّك.. وما زال الرأي العام الجديد يتحرَّك، باتِّجاهات جديدة وتوجُّهات مطابقة!!