معاذ بني عامر
باحث في الدراسات الفكرية والفلسفية/ الأردن
لا يمكن للتَّفلسُف الحضاريّ أنْ يركنَ إلى نمط خطابي وحيد، فلا بُدَّ له من أنماطٍ عديدة لكي تنفجر الحيوات الإبداعيّة عن آخرها، فتعدُّد الخطاب مؤشِّر صريح على صحّة العقل وسلامة فاعليّته في الاجتماع الإنساني. وقد أمكن تفتيت الخطاب الثقافي وتحويله من سياقات فرديّة إلى أنساق جمعيّة، لكنَّ هذا التفتيت ونقْل فعل التَّفلسُف من سياقِه الفرديّ إلى سياقِه الجمعيّ، لا يعني ابتذال هذا الخطاب وتحويله إلى سياقٍ شعبويّ، يقوم على استعطاف الناس وطلب رضاهم من جهة، وتحقيق هوس نفسي بالشُّهرة السَّريعة لدى صاحب الخطاب من جهة ثانية.
عندما تشرع أمة من الأمم في بناء معمارها الحضاري، فإنها تبدأه بلبناتٍ صغيرة أو وحدات أو "مونادات" بلغة "لايبنتز" أو مبادئ، ستكون الأساس القويّ والمتين الذي يَسْتندُ عليه معمارها ساعة يأخذ بالتمدُّد؛ سواء بشكلٍ أفقي أم بشكلٍ عمودي. لكن هذه "المونادات" تبقى في طور تذهيني أو اصطلاحي إلى أنْ تتم مَفْهَمَتُهَا أو تقعيدها وإلباسها لباسًا معرفيًّا يُسْتَنَدُ عليه في تعريف تلك الوحدات أو "المونادات".
بالتَّقادم تأخذ تلك المبادئ بالثبات والاستقرار، فتنتقل من طور التقعيد المفاهيمي إلى طور التشكّل الهُوياتيّ أو إلى طور الكينونة القارّة، أي تتحوّل إلى أنويةٍ مُغلقة ومُوصدة الأبواب التي لا يجوز فتحها تحت وطأة انتهاك الأسرار الخطيرة للأمة.
السؤال هنا: ما هي هذه المبادئ أو الوحدات الصغيرة التي لا يمكن لأيّ معمارٍ حضاري أن يقوم دونها؟
افْتَرضُ أنها ثلاث: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. فهي "المونادات" التي يقوم عليها أيّ معمار حضاري، أيًّا كانت الصيغة التي تعتمد لتعريف تلك الوحدات أو تقعيدها معرفيًّا. فهي وحدات صغيرة مُرتبطة ارتباطًا عضويًّا بالوجود والموجودات من كُبرياته إلى صُغرياته ومن بداياته إلى نهاياته، ولا يمكن للإنسان أن يتواصل بشكل مُتسّق وسليم مع عالمه إلا بوجود هذه المبادئ التأسيسية.
السؤال اللاحق: ما الشروط الواجب توافرها فيمن يُشارك في عمليات المَفهمَة والتقعيد للاصطلاحات السابقة؟
افترضُ أنها ثلاثة شروط أيضًا: 1- الثقة النفسيّة. 2- القوة المعرفيّة. 3- الحاضنة السياسيّة.
الثقة النفسيّة تُفْضِي إلى:
- القضاء على ثقافة الخوف التي يتربّى عليها الإنسان، وتكبح جماح عقله ساعة يقترب من ثلاثيّة: الإله/ الإنسان/ العالَم.
- المساهمة في كبح جماح ثقافة التَّخويف المنصوص عليها في الشرائع والقوانين، التي تروم الإبقاء على مفاهيميّة الإله والإنسان والعالَم كما هي.
- خلق شعور بالتساوي الأفقي مع القرناء، لا سيَّما أولئك المُنتجين للمعرفة. فالشعور بـِ(فوق/ تحت- أعلى/ أدنى) يخلق تبعيّة وعبوديّة تُبقي المقاربات المعرفيّة في طور اتِّباعي غير إبداعي.
والقوة المعرفيّة تُفْضِي إلى:
- إلمام ليس بالشرط المعرفي القائم، بل وبالأسس الفلسفية التي قام عليها هذا الشرط أيضًا، بحيث يُصار إلى تبصُّر مثالبها وتجاوز بنيتها إلى بنية مُتساوقة مع الشرط المعرفي القادر على صياغة المستقبل.
- متانة في الطرح، فالأطر العقلية التي قامت عليها ثلاثية: الإله والإنسان والعالَم في صيغها القديمة، من المتانة بمكان، لذا يصير تفكيكها أولًا وتجاوزها ثانيًا بحاجةٍ إلى متانةٍ أكبر بلا شك.
أمّا الحاضنة السياسيّة فتُفْضِي هي الأخرى إلى:
- التوفّر على بيئة آمنة تحدّ من تغوّل ثقافة التخويف التي تنشأ من الروح الجمعية التي تتكالب للإبقاء على المفاهيميّة السابقة للإله والإنسان والعالَم بما هي كينونة الأمة وهُويتها الجامعة.
- توفير الوقت على انتشار الأفكار، فما هو بحاجةٍ إلى عشرات السنوات لانتقال الأفكار وتجلّيها، فهو في الاجتماع السياسي قد لا يكون بحاجةٍ إلّا لوقتٍ قصير.
السؤال الثالث: مَن يشترك في مَفْهَمَة وتقعيد تلك المبادئ الاصطلاحيّة حول: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؟
أنا أقول: البداية بالفيلسوف والنهاية بالفيلسوف أيضًا. الفيلسوف الأوّل يضع المنهج، والأخير يُفكّك المنهج الذي وضعه الفيلسوف الأوّل، يتبصّر ثغراته ويستأنف التفلسف حول المبادئ الثلاثة آنفة الذِّكر لكي يتوصّل إلى منهج جديد يُعيد الحياة للشرط المعرفي ضمن مواضعاته الآنيّة.
لكنَّ فعل الاشتراك في مفهمة وتقعيد المبادئ الاصطلاحية الثلاثة ليست حكرًا على الفيلسوف، فالفيلسوف مُشارك لكن مشاركته تنطوي على امتياز كبير يتمثل في وضع اللبنات الأساسية التي سيقوم عليها المعمار كلّه. وبعد تلك اللبنات يتحوّل فعل التقعيد المفاهيمي لاصطلاحات الإله والإنسان والعالَم أو التمثّلات المختلفة لتلك الاصطلاحات إلى حراك جمعي، يشترك فيه المفكّر والشاعر وعالِم الاجتماع والمُجدِّد في الديِّن والروائي والمسرحي والسينمائي والموسيقي...إلخ. ففعل المفهمة يبتدئ بعقولٍ فردية تُبدع منظوماتها الخاصة -وقد لا يربط بينها أي رابط بتاتًا أو قد لا يعرف الفيلسوف ما يجترحه الموسيقي- ثم تأخذ بُعدًا جمعيًّا إلى أن تُصبح فاعلة في الاجتماع السياسي؛ تحديدًا ساعة تتمكَّن من الأذهان والأعيان، على المستويين الفردي والجمعي.
وإذا كان للمرء أنْ يُلقي نظرةً على البؤر الحضارية الكبرى في التاريخ الإنساني، فسيكتشف أنها ابتدأت بمشاريع فردية لم يكن ثمة جامع بينها، لكنها تحوّلت في النهاية إلى مدٍّ عاتٍ استطاع تحريك أساسات الوعي الإنساني، حول مفاهيم الإله والإنسان والعالم. فالحاضنة الإغريقية –كمثال- أنتجت قيثارة "أورفيوس" إلى جانب مآسي "أسيخليوس" ومسرح "سوفوكلوس" وملاحم "هوميروس" وجدليات السفسطائيين ومحاورات "أفلاطون" ومنطق "أرسطو" ورياضيات "فيثاغورس" وهندسات "أقليدس" وطبابات "أبقراط". والحاضنة العربية الإسلامية -كمثالٍ آخر- أنتجت المُدوّنة الحديثيّة والفكر الاعتزالي وأشعار جرير وبحور الخليل ولغويات سيبويه وموسيقى الفارابي ومطبخ زرياب وفلسفة الكندي وأفكار ابن الرواندي وآداب المعرّي وعلوم ابن الهيثم. والحاضنة الغربية -كمثالٍ ثالث- أنتجت منطق "فرنسيس بيكون" الجديد وفلسفة "ديكارت" و"الدون كيخوت" لـِ"ثربانتس" وموسيقى "بيتهوفن" وفلكيات "غاليليو" وفيزياء "نيوتن" واقتصاد "آدم سميث" وفلسفة "أسبينوزا" وجدليّات "هيغل" و"فاوست غوته" وأشعار "هولدرين"...إلخ.
وعليه، فوجود الفيلسوف أو وجود مستوى من الخطاب المعرفي الاستشكالي على غالبية الناس، لا يعني بحالٍ من الأحوال الركون إليه أو اعتماده بصفته نمطًا أخيرًا ووحيدًا من الأنماط المعرفية التي تُقارب علاقة الإنسان بالإله من جهة وبالعالَم من جهة ثانية. بل يعتبر ذلك -أي في حال اعتمد الخطاب الفلسفي خطابًا واحدًا وأحاديًا- إهانة للفلسفة برمّتها، فالتفلسف الحضاري لا يمكنه بحالٍ من الأحوال أن يركن إلى نمط خطابي وحيد، بل لا بُدَّ له من أنماطٍ كثيرة وعديدة لكي تنفجر الحيوات الإبداعية عن آخرها، وتُجلّي علاقة الأنماط الاصطلاحية الثلاثة بعضها مع بعض على أحسن وجه. فتعدُّد الخطاب مؤشّر صريح على صحّة العقل وسلامة فاعليّته في الاجتماع الإنساني.
من هنا، ليس بالضرورة أن يلجأ الفيلسوف إلى شرح مقتضيات فلسفته ساعة تستشكل على الناس، فهو إنْ دخل في استحقاقات من هذا النوع سيتحوّل إلى شبيه ببطل قصة (موت موظف) لـ"تشيخوف" الذي عطس عطسة وأمضى بقية حياته يعتذر عنها إلى أن مات قبل أن يُوصل رسالة اعتذاره. فالمُحافظة على الخطاب الفلسفي بما هو خطاب استشكالي ضرورة معرفية قصوى، فالمطارحات الحضارية تستلزم مزيدًا من الخطابات إلى جانب الخطاب الفلسفي؛ الخطاب الموسيقي، الخطاب الروائي، الخطاب الشعري، الخطاب الفنّي، الخطاب الهندسي، الخطاب الفيزيائي، الخطاب النقدي، الخطاب التاريخاني، الخطاب المسرحي، الخطاب السينمائي... إلى آخر هاتِهِ الخطابات المُؤسِّسة للمطارحات الحضارية على المستوى الداخلي، و(المؤثِّرة/ المُتأثِّرة) مع غيرها من المطارحات الحضارية على المستوى الخارجي.
وهكذا أمكن تفتيت الخطاب الثقافي وتحويله من سياقات فردية إلى أنساق جمعية، ففعل التفلسف الحضاري فعل تشاركي أساسًا، حتى وإنْ اتَّخذ طابعًا عاموديًّا في البداية، أعني بوجود الفيلسوف، فما إن تتدفق الحياة في الحيوات الفردية حتى يبدأ هذا الوجود العامودي بالتحوّل إلى وجودٍ أفقيّ، فكما الفيلسوف أعلى هرم التفلسف كذلك هو أدناه. أيّ أنه يتخذ وضعيّته جنبًا إلى جنب مع غيره من أصحاب الخطابات الموازية الأخرى، بل إنّ الفيلسوف الثاني الذي يُفكّك منهج الفيلسوف الأوّل نظرًا لتقادمه، سيستفيد بلا شكّ من الخطابات الفاعلة في الاجتماع السياسي، من خطاب الروائي وخطاب الشاعر وخطاب المعماري إلى غيرها من الخطابات، لغاية بناء نسق جديد وإنقاذ الأمة من خلال تقديم منهج جديد يساعدها في الخروج من ركودها الحضاريّ.
لكن تفتيت الخطاب الثقافي ونقل فعل التفلسف من سياقه الفردي إلى سياقه الجمعي، لا يعني بحالٍ من الأحوال ابتذال هذا الخطاب وتحويله إلى سياق شعبوي، يقوم على استعطاف الناس وطلب رضاهم من ناحية، وتحقيق هوس نفسي بالشهرة السريعة لدى صاحب الخطاب من ناحية ثانية. فالاشتباك بين العلاقات المُـتعددة لثلاثية: (الإله، الإنسان، العالَم)، مِنْ قِبَل صاحب خطاب يتمتع بـِ(ثقة نفسية، قوة معرفية، حاضنة سياسية) ليس بحاجةٍ إلى ابتذال خطابه سعيًا وراء شعبويات زائفة. بل الأَوْلَى أن يشتغل على خطابه بطريقة تجعل منه خطابًا متينًا على المستوى الداخلي حتى لو عُورض ورفض من قبل الكتلة الشعبية، نظرًا لـ: 1- عدم فهمها لهذا الخطاب. 2- تعارض هذا الخطاب مع يقينياتها التي وجدت نفسها مؤمنة بها منذ لحظة وجودها الأولى. فالثقة النفسية والقوة المعرفية تتجاوزان محنة عدم الفهم، والحاضنة السياسية تتجاوز محنة اليقينيات الجمعية. لكن وجود خلل -مِنْ أيّ نوع كان- سيُؤدِّي إلى عطب في فعل التفلسف ابتداءً، وفي فعل تفتيت هذا الفعل في الاجتماع السياسي. وهذا عين ما نشهده اليوم في عالَمنا العربي، إذ تحوّل الخطاب الثقافي في سياقته المتعددة إلى خطاب شعبوي، نظرًا للثغرات الكثيرة في ثلاثيّة: الثقة النفسية، القوة المعرفية، الحاضنة السياسية.
فالأولى (الثقة النفسية) ضعيفة وغير واثقة أمام اندفاعات الناس غير العقلانية تجاه أيّ مقاربة معرفية لـ"مونودات": الإله/ الإنسان/ العالَم. والثانية (القوة المعرفية) تكاد تضيع وسط هوسٍ كبير -من قبل المثقف العربي- بملاحقة كل كبيرة وصغيرة في الحياة تحت حجّة الاشتباك معها معرفيًّا لكي ينتقل هذا المثقف من مثقف نخبوي إلى مثقف عضوي على طريقة الترويج العبثي في العالَم العربي لمقولة "غرامشي" حول المثقف العضوي. والثالثة (الحاضنة السياسية) تكاد تكون معدومة، بما يجعل من رغبات الناس غير العقلانية تُسيطر على المشهد الثقافي العام وتحوّله إلى مهزلة كبرى، لا تُستباح فيها العقول حسب، بل والقائمين على تفعيل تلك العقول أيضًا؛ بما يُحيل الأمة برمّتها إلى حالةٍ من الموات الحضاري الخطير.