د. سامي محمود إبراهيم
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل- العراق
لَمْ يَسْلَمْ الضَّمير العالمي من آثار جائحة "كورونا" التي رسمت بفُرشاتها ملامح جديدة لحياة الكوكب بألوان لم نعهدها، فلم تترك جزئيّة إلّا ودخلتها، فارضة إرادتها على جميع جوانب الحياة، فكانت أبرز ثمن لتسطيح العقل والمرجعيّات القيميّة، ويرى كاتب هذا المقال أنَّها مرحلة تحوُّل عالمي مُرعب وخطير، إذْ أصبحت الحرية والعدالة والأخلاق، مجرَّد صفقات قابلة للمُضاربة في بورصة التوحُّش العالمي والبشاعة الدوليّة وفي أتم تجلياتها اللاإنسانية بإدارة لا نظام عالمي مجنون ومعقلن بشَّرَتنا به أيديولوجيات السفسطة الغربيّة الضاربة في عُمق الأنا والتعصُّب..
منذُ أنْ أطلقَ "فوكوياما" نهاية التاريخ ذات الصَّدى "الهيغلي" المتطرِّف، أصبح التسليم بنموذج الرأسمالية أمرًا من البديهيّات. وهذه الأيديولوجيا تمارس اليوم نوعًا من يوغا الإرهاب المفتوح الخالي من كل معنى إلا إشاعة التوحُّش السياسي وجنون المنفعة.. رأسمالية ترسم ملامح تراجيديا "نيوكنفشيوسية" بخيال مغرق في التعصُّب والفوضوية وخلق الأزمات. فلا نكاد نخلص من كارثة حتى نسمع بأخرى أكثر جرمًا منها، وما إن نتنفَّس الصَّعداء ونقول إنَّ صوت الحق والضمير انتصر، ولم تنزلق النفس الغضبيّة نحو حرب إقليميّة أو عالميّة أخرى، حتى نشهد بوادر التنفيذ الوحشي لصفقة أخرى من صفقات القرن الجديد...
لا شيء يعلو على أخبار المرض والموت والقتل والتَّهجير، لا شيء يعلو على مرض السياسة وفيروسات الإرهاب الجديد الذي لا تمانعه أحدث كمّامات الحياة. فمَن يحكم هذا العالم المُنفلت والمُتحرِّر من سائر المرجعيّات والقيم الأخلاقيّة؟ مَن يدير ألعاب المرض والموت والبشاعة والتَّشويه وتكريس مبدأ التغيُّر "النيتشوي" المُغالط و"الهايدجري" المُتناقض؟ مَن يقامر بحق الشعوب في السِّلم والسَّلام كورقة لقلب القِيَم والإطاحة بمركزيّة الذات كأساس ضامن لموت كل الحقائق بما فيها الإنسان نفسه؟ مَن يدفع بعيشنا الإنساني المشترك إلى أقذر المآلات وأقبح الاحتمالات ابتداء من تهميش العقل وصولًا إلى العشوائيّة وقلب القيم بمنهجيّات التأويل المضاعف، وتكبيل الإنسان بأشياء لا تجعله قادرًا على فرز لحظته الحاليّة؛ انهماك وتيه وعدميّة ونسبيّة مُفرطة ودوّامة في دولاب التّيه واللامعنى، وبالتالي تحوُّل الجميع إلى هامش فاقد لأيّ قيمة، مكرّسة بذلك منطق النّفي والصِّراع وخلق الوعي الزائف كنشر التفاهة والجنس والتَّرويع والقبح وما لا يمكن ذكره؟
حتمًا هناك مستفيدون، فالجاري فوق مسرح الأحداث يدفع إلى الاقتناع بأنَّ مَن يحكم العالم اليوم هم عَبَدَة الدينار أصحاب الرأسمالية المنفلتة والبرجماتية المقيتة الذين أصبحوا اليوم مُلّاكًا لحياة العصر وكبرى الشركات.. هؤلاء هم مَن يُدير عالمنا المريض بهذا المستوى من الفوضى والجنون، بمسوّغات الحقد والتفاهة والمقامرة بمصير الإنسان على الأرض... همُّهُم فقط الانتصار للمال والسلطة، لذلك ينتجون الفيروسات ويشعلون الحروب ويغرقون الجميع في الفتن والتفاهة.
إنَّ النظام الرأسمالي الذي اختزل العالم بالحرب والفوضى والاستهلاك، ينجح اليوم -بحسب تشومسكي- في تحويل الفرد إلى خطر بالنسبة للآخرين، فلا مكان يتَّسع للجميع... بل تكريس للفرديّة وتضخيم للأنا، لأنَّ كل إنسان برأيهم، هو "ذئب لأخيه الإنسان"، كما قال زعيمهم "هوبز" ومَن تلاه...
عمومًا الخطط مروِّعة، تتمثَّل في تحويل انتباه الرأي العام والشعوب عن المشاكل المهمَّة والتغييرات التي تقرِّرها النُّخب السياسية ومطابخ الفكر العالمي، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الإعلام المضلِّل من خلال تصدير كمّ كبير من التَّشتيت والمعلومات التافهة.
لقد عطَّل فيروس "كورونا" فكرة الإنسان كمكوّن أخلاقي وقيمة حياتيّة وغائيّة وجوديّة، أصاب جوهر الفرد وجميع خصوصيّاته الكونية والإنسانية، وأعاد إلى الأذهان ثقافة قديمة منبوذة هي ثقافة الخوف. وتحوَّل الإنسان، بهذا المعنى، إلى شيء من الأشياء بعدما كان ذاتًا وجودية عظمى تمثل كبرى الغايات وأعلاها، وفي ذلك عودة إلى مقولة موت الإنسان وسائر المرجعيّات التي أطلقها "فوكوياما" وتبنّاها الفكر الغربي في لحظة إعلان نهاية التاريخ وموته، بل ونهاية الإيمان والدُّخول في عصر الشكّ والجحود.
إلى هذا الحدّ علينا أن نسال: مَن المستفيد من نشر فيروسات الموت والحروب؟ سواء كانت هذه الفيروسات معلوماتيّة أو بيولوجيّة؟ بالتأكيد، مَن يُشعل نار الحرب هو نفسه المُستفيد من صفقات السلاح وما ينجم من فوضى وخراب. وإلّا لا يُعقل ونحن على عتبة القرن الذي وصلت فيه البشرية إلى مستويات عالية من التقدُّم العلمي أن نتقبَّل فكرة أنَّ هذا الفيروس لا يمكن علاجه أو حتى منعه من الانتشار؟!
لا شيء يمنع من استحضار الصراع الليبرالي "الكونفوشيوسي"، وصفقة القرن الجديدة، وربيع العرب المُغتال ومهازل الاضطرابات والفتن ونشر الكوارث وتسويقها، كل ذلك في اتِّصال مباشر مع شركات السلاح والأدوية والسينما والميديا ووسائل القرن، وصفقات الشركات الأمنيّة... فثمّة خيط رفيع يصلنا بذاك الطرف الغائب، ويؤكد أنَّ المقامرة بمصير العالم مستمرّة، وبدم بارد!
لهذه المقدِّمات أشار المفكر الألماني "يورغن هابرماس" إلى أنَّ الحرب القادمة، ستكون على الأغلب بيولوجيّة فيروسيّة، تضرب العدو المفترض من غير جهة أو مكان، لذلك طالب بحوار عالمي جديد يُتيح للبشرية سُبُل الخلاص من مأزق السياسة العالمية.
إلى هذا الحد من الممكن أنْ نعيد صياغة السؤال السابق: هل يمكن أن يكون فيروس "كورونا" بمثابة استكمال لحرب اقتصادية وسياسية "هنتنكتونية" ضد "الكنفشيوسية" والصين؟ أم هو ترهيب جديد للعالم، للتغطية على صفقة القرن الجديدة لإنعاش مداخيل سياسة التوحُّش المستقبليّة ومطابخ الفكر العالمي المريض؟ أم هو تفتيت وإعادة هيكلة القيم الأخلاقية! والروابط الدينية، وخلق حالة من الرُّعب ينتج على أثرها ردود أفعال تنمّ عن خلل في السلوك والعقل؟ كل ذلك بإيعاز لا مباشر من قوى الشرّ الخفيّة التي تقود العالم لتجديد دورة حياتها القائمة على حقن الموت في الطبيعة والإنسان، وإعادة توازنها المفقود ولو كان عن طريق الكوارث والمقامرة بسلامة الشعوب وسلْمِهم وفطرتهم السليمة، التي أودعت طوعًا في جيناتهم.
لنقف ونستذكر كل التَّهويل والتَّخويف والقلق الذي رافق أمراض العصر ابتداءً من الجمرة الخبيثة إلى جنون البقر والإنسان! ولنتساءل عن حجم ضحايا كل هذه الفيروسات المصنّعة، إن كان قد وصل إلى عدد ضحايا الجوع والغرق والحرائق وضحايا الإرهاب السياسي في العراق وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا ولبنان وأفغانستان ومناطق أخرى في المعمورة؟ لماذا لا نصادف الضجيج الدولي ذاته عندما يتعلق الأمر بضحايا "العالم المسكين" وضحايا الجوع والفقر والتشريد والتعذيب والسجون والمستشفيات المهجورة ومراكز الاعتقال؟ لماذا تنخرس هذه الأصوات وتصمت عندما يُنتهك الضمير وتُغتال الحياة؟
إنَّ النظام الدولي الراهن -بحسب "ميشيل فوكو"- غالبًا ما يقوم بتوجيه أنظار الناس نحو أحد الكوارث السائلة و"المائعة" على الأغلب للتحكُّم في حياة الناس، وهذا بحد ذاته أخطر من الكارثة ذاتها، التي تقوم على ضبط حركة ورغبات الناس وتوجيههم وفق هدف لا إنساني. فالمقامرة الجارية تستهدف صرف الانتباه عمّا يُحاك ضدّ الشعوب، مِن سرقة دوليّة وعلى جميع الأصعدة المادية والمعنوية والسلوكية، والانحراف بالإنسانية إلى مسارات مُخجلة ومُريبة، ومُصادرة تهدف إلى إلغاء أحقيّة الآخر في العيش بسلام، لأجل استكمال بنود صفقة القرن المقيتة، وفي الآن ذاته، تستهدف إعادة ترتيب الأوراق السياسية المزوّرة وكراسي الحكم، على أساس التفوُّق للأنا الغربي والتبعيّة للآخر، وكذا المركزية الغربية والتمركز العنصري في مقابل بعض ذيول النعامات الشرقيّة ورؤوسها التي تتجاهل كل هذا الخراب، فالكل يُفترض فيه أن يكون دائرًا قسرًا وطوعًا في فلك النظام العالمي الجديد، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المال والسلاح وصناعة الموت وخلق الأزمات بأساليب مقيتة ومميتة يحرِّكها خيال مغرق في العنف والبشاعة وصناعة نجوم الرذالة إلى درجة أنَّنا، كما قلت، دخلنا زمن الرعب وعصر التفاهة؛ لهذا فقد خُصِّصت ميزانيات ضخمة لترويج ألعاب "البوبجي" والهوس الإلكتروني المحرِّك للخيال الحيواني وسائر ألعاب القتل والمشاهد الدموية والعبث بجينات الإنسان ووقته وقيمه ورغباته. وستدفع شعوب العالم التي لا تدخل تحت طاولة الأنا الغربية ثمن كل هذه المهزلة، ستكون مختبرًا للفيروسات ومكبًّا للنفايات وطاولة قمار لتجريب السيناريوهات الاستبدادية وإعادة إنتاج الجاهلية السلطوية، من أجل مزيد من التحكُّم والسلطة... هي مقامرة فاسدة على طاولة السلطة ومنافذ الحكم.
لهذا، فإنَّ "كورونا" وما قبلها جاءت تكتشف خطوط الصَّدع الثقافيّة والعرقيّة والقوميّة التي قامت عليها نظرية الصِّدام الحضاريّ، وفكّكت أساطير العولمة الكاذبة وأساطير المابعديّات المنمَّقة بصبغة الحداثة، حين فرض تجاوز المسافات وسائر الاعتبارات، راسمًا خطوط طول وعرض جديدة على أساس المشترك الإنساني نفسه الذي تتيحه سيكولوجيا الهلع والخوف الجماعي الذي رسمه "هيجل" وفصَّله "هانتنكتون"، فالعزل الذي تصبو إليه نظريّة الصِّراع حقَّقته منظمة الصحة العالمية وأيقونة "أبو الحضارة"، عندما وضعت العالم في حجْر جسدي ونفسي يشتِّت العقل والروح. خاصة أنَّ نشر الخوف يمكن أن يتحوَّل إلى سلاح وبائي ما بعد حديث ضدّ الجموع يختزلها في مجرَّد مساحات للعدوى بلا حماية. وعندئذ علينا أن نسأل: هل من الجائز افتراض نيّة بيولوجيّة لتحسين النوع البشري من خلال تصنيع فيروس "كورونا"، واختباره بوصفِه يستند بوجه أو بآخر إلى سياسة تتلاعب جينيًّا بالطبيعة البشرية، سواء كان ذلك بشكل مقصود أو غير مقصود؟
تهديد يطول كل مساحات الزمان والمناعة الجسدية والمكان! ترويض قسري، لا تصمد أمامه كل أشكال العزل والمناعة والرفض، بل وكل أشكال المقاومة بما فيها كمّامات الحياة؟ ترويض يمكن أن يكون نعمة لأنه يجبرنا على ارتداء قفّازات الأمل ونحن نلامس الحياة، ويدعونا إلى غَسْلِ قلوبِنا من جراثيم الحقد، وعقولنا من التعصُّب. هذا بالإضافة للالتفاتات الإنسانية التي تفصح عن أثر الوباء في مشاعر الوحدة والعزلة، واضطراب الحياة الشخصية ومفاهيم جديدة مثل التَّباعد الاجتماعي والنفسي والوجودي. وهنا يبدو الجسد بمثابة مجموعة لا متناهية من الأمكنة التي تكوَّنت دون سبب في موضع واحد. ولذلك، فإنَّ خطورة المرض وطرافته الحادة، إنَّما تكمن في كونه شروعًا أخرسَ في هدم المكان وسائر القيم، بل والأزمنة كذلك، ومن ثم في تعطيل الإنسان من الداخل. عندئذ يعود الفرد ليس إلى قفص الجماعة، بل إلى ذات أخرى مغتربة في القطيع، تتخبَّط في اللاجدوى وعدم اليقين.
وعلى طول هذا المسار المُرعب والمُربك، لن يكون في مقدورنا إلا توقُّع، ما يصرف الانتباه عن الخطر السياسي الذي يحيق بنا، وما يبعدنا عن صفقة القرن ويغرقنا في الخطر الصحي، وما يشغلنا عن الخطر الاقتصادي، ويرعبنا بـِ"كورونا"، فعبيد السلطة الشهوانيّة بحاجة إلى إلهائنا وترويعنا، لينعموا باغتصاب الحياة، واستنزاف جمالها وغائيّتها الخيّرة كالتعارف والسلم والتعايش والحوار..
هذا هو الحلم الجديد الذي تبنّاه العصر وفيه نجد أنَّ خيالات الليبرالية التي تُظهر وبكل سفور أسس عدم المساواة وآثام مجتمع المستوطنات وإزاحة الآخر بحجّة عدم صلاحيّته للعيش الكريم والحُرّ والآمن! بعد ذلك لا ننسى سيناريو الجنون والتفاهة الذي شغل الرأي العام والحكومات والمجتمعات والمؤسسات الدولية كنوع من استراتيجيا الإلهاء، وسياسات بشعة وبرامج اقتصادية إقطاعية قذرة همّها التَّهالك والمنفعة... شاعت في حكومات أميركيّة عديدة جعلت من أجهزة الإعلام ومؤسسات الدعاية والفن محرِّكات تابعة، همّها استهداف المواطن المستهلك لتلك النزعات اللاإنسانية، والعمل على خلق مواطن غير واعٍ لحقوقه وأحقيّته في العيش الكريم والآمن... مطابخ ما يُسمّى الأمن العالمي وصناعة الإذعان... معايير مزدوجة في السياسة العالمية، تدَّعي أنَّ الحريّة للجميع على الرغم من أنَّها تتحالف مع المنظمات والدول القمعيّة بما نتج عنه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وإغراق ومبالغة ونفاق ومطالبة بحقوق الحيوان! حصل بفضل قوّة مؤسسات الإعلام التي تخدم إلى حد كبير الكهانة المأجورة للحكومة الأميركية وشركاتها العابرة للقارات وحدود أخرى لم نسمع بها أصلًا..
مسار عالمي مخيف تنتهجه السياسة العالمية المرتبطة بالعنف والإرهاب وهدر الكرامة وقتل الحرية. ومع هذه الوحشيّة التي شهدتها مجتمعاتنا البشرية ما زال الوعي بها غائبًا ومغيَّبًا إلى يومنا هذا. لهذا نتمنى أن نسهم في توجيه الأنظار إلى حِيَل السياسة الناعمة وهي تزجّ الشعوب كالقطيع في أزمات لا تحدّ وآخرها "كورونا".
إلى هنا لم يعُد بالإمكان الحديث عن نهاية التاريخ بالمعنى الذي ذهب إليه "فوكوياما" في زمن التشتيت الرأسمالي بعد أن بات الغرب قلقًا من حجم الأنا المتضخِّم فيها، وبعد أن باتت الصين الحيويّة تعرض خدماتها الصحيّة على أوروبا العجوز... لقد فرض فيروس "كورونا" أصولًا أخرى لنهايات التاريخ، ومنح لمرض الفكر "الهيجلي"، بل و"النتشوي"، الكثير من التبرير خاصة ما يتعلّق منه بكتابة التاريخ البشري وإعادة صياغة الإنسان، والذي هو ليس سوى فاشيّة دوليّة جديدة تمثل نوعًا من إمبريالية بلا عنوان محدَّد، إمبراطورية معولمة على نسقيّة "أفلاطون" العصر و"كانط" الزمان.
وعلى هذا، فإنَّ الذي يحدث اليوم ليس هو النهاية، بل هو تمرين على تبديل السلوك، لأنَّ الوباء سيغيِّر من طريقتنا في العيش والتفكير تحت ضغط الهلع الكوني، وهذا من شأنه توفير البيئة الضرورية لتكوين انقلاب الذهن البشري وانزياح ذلك الجليد المانع من توافد الجداول الأخرى من منابع العقل الممكنة. لكن، في الوقت ذاته، يجب النَّظر إلى النصف الملآن من الكأس، حيث إنَّ أوقات الفراغ قد تكون حاسمة لإعادة إحياء تجربة حياتنا، والتفكير من جديد بأوضاعنا وما نحن فيه، وأنه يمكن حتى للأحداث المروِّعة أن تكون ذات نتائج إيجابية خيِّرة، حين تجد الإنسانية نفسها في مواجهة حقيقة أنَّ الجميع يُبحر في وجه العاصفة العصريّة في المركب المثقوب ذاته القابع في بحر الظلمات.
نعم، زمن "كورونا" أيقظ جموعًا هائلةً من سباتها واعتيادها على السلطة التقليدية والإقامة الجبريّة خلف أسوار العبوديّة الفكريّة والأيديلوجيّة. إذن، آنَ لنا أنْ ننظر في مشاكل الإنسان والحرية بشكل تجريدي، وأنْ نعود باهتمامٍ وانتباهٍ جديَّيْن إلى أهميّة أن تحيا البشريّة. لذا فإنَّ محاربة هذا الفيروس لن تكون عبر العزلة والحجر الصحي، بل هناك حاجة إلى تضامن كامل واستجابة على المستوى العالمي، خاصة أنَّ أعظم الإنجازات الإنسانية قد تحقَّقت أثناء الصُّعود الخَطِر للبشر نحو صناعة مصيرهم، من منطلق أنَّ الحياة تصل أعلى درجات توثُّبها في زمن المرض والخطر، المرض ليس نقيض الحياة حسْب، بل قد يكون محرِّضًا لها في الرَّغبة لخلق مناعة جديدة، لذلك فاللحظة التي نعيشها هي لحظة مشحونة بالمُمكنات بمقدار ما فيها من أخطار وتحدِّيات. لذلك علينا جميعًا أن نرفض حكم الإقامة الجبريّة للعقل والحرية في ظلّ حجْر جائحة النّفاق العالمي و"كورونا".
ختامًا، دعونا من كل هذه الأمور، ولننتقل للتخوُّف الأكبر الذي يلاحق أيّ عربي "برشلونيّ" المنهج: ماذا لو أعلن "ليونيل ميسّي" الرَّحيل؟
هل سيستقيل العقل العربي من منصَّة الحياة والتفكير العالمي أم أنه سيغرق في فخّ التفاهة وبرامج الإلهاء؟