د. هاني حجاج
كاتب مصري
"ديستوبيا" عكس "يوتوبيا" المدينة الوهميّة الفاضلة، فلا أحد يملك أخلاقيّات مثاليّة إلى هذا الحد، ومن المستحيل أن ينشأ مجتمع فاضل كالذي كان يحلم به "دون كيشوت" أو السيد أبو العلا البشري على هذا النحو الأفلاطوني. أمّا الديستوبيا (Dystopia) عالم الواقع المُرّ والحقيقة المريرة، فهو خيالي في السينما والروايات لكنّه قابل للتطبيق بسهولة كأنه لا يوجد سيناريو محتمل سواه ربَّما لأنَّ الشرّ والهدم والفساد أيسر بطبيعة الحال. الفوضى تسود ويحلّ الخراب.
"ديستوبيا" تعني باليونانيّة (المكان الدنيء) وكانت القصص تتخيَّل هذه الأحداث الحافلة بالفقر والقمع في المستقبل في ظلِّ مجتمعات شمولية عظيمة في البنيان خبيثة في التكوين فيما عُرف باسم "قصص ما بعد المحرقة"، وهو مصطلح ينتمي أكثر إلى عالم الخيال العلمي؛ حيث ينتهي العالم، وتقضي الحرب النووية على كل شيء ونرتدّ للعصر الحجري فنحارب بعضنا بعضًا بالطوب والهراوات.
لكنَّنا نعيش هذا الزمن الذي تتجسَّد فيه أسوأ كوابيس الديستوبيا التي تنبَّأ بها "جورج أورويل" عام 1948 في روايته المستقبليّة –وقتها- (1984) عن الأخ الأكبر الذي يراقب كل شيء، وبالتالي يفرض علينا تعليماته بلا مناقشة (ومنذ سنوات قريبة تمَّ احتجاز طالب على أبواب القاهرة لأنَّ معه نسخة من هذه الرواية، طبعًا لا يفهم فرد الأمن القروي أيّ شيء، ربما السبب هو صورة الجنرال على الغلاف)، والمُطارَد –في الرواية- هو "ونستون سميث" الذي يعمل في قسم التحقيقات والكل يراقبه، ومطلوب منه تصحيحات معيَّنة وتعديلات تملى عليه بالاسم في كل شيء يكتبه، فالحكومة تحدِّد الخبر ومصداقيّته، أمّا الوثائق الأصلية لأيّ شيء فلا تهمّ أحدًا. هناك كذلك (الرجل الراكض) لـ"ستيفن كنج" حيث يصير الإنسان مجرَّد طريدة في لعبة فيديو، تنطلق منها روايات مثل (ألعاب الجوع) عندما تنهار أميركا وتنشأ محلها دولة (بانيم) ويتم اختيار ولد وبنت من كل مقاطعة للعراك حتى الموت و(الراكض في المتاهة) وكلتاهما تحوَّلتا إلى أفلام شهيرة عن عالم قاتم يتسلّى فيه الأثرياء كما رأينا في (يوتوبيا) د.أحمد خالد توفيق الذي ستجد المستقبل المشؤوم يسيطر على رواياته الكبيرة (في ممر الفئران، السنجة، مثل إيكاروس). هناك كذلك (فهرنهايت 451) لـ"راي برادبوري" حيث تكرس الدولة جهودها لحرق الكتب، ورواية (المانح) حيث تموت العاطفة تمامًا من العالم لكنها تتحوَّل إلى مدينة فاضلة عندما يكتشف بطل القصة الذي يختزن الذاكرة الجماعية للبشر، يكتشف تلك المشاعر الخفيّة (وهي بالمناسبة آخر رواية ترجمها د.أحمد خالد توفيق قبل وفاته ولم تنشر حتى الآن)، ونرى فيها الحد الفاصل بين المدينة الفاضلة التي تصبح كتلة من الخبث إذا تحكَّم فيها المستبدّ العادل بحكم فردي مهما كانت نواياه طيِّبة، وتنتمي إلى هذا النوع روايات مثل (عالم شجاع جديد) و(نحن) حيث المُحسن الكبير يسجن الناس في بيوت من زجاج ويطعمهم أشياء مركّبة كيميائيًّا وتستحيل الأسماء إلى مجرَّد أرقام، والرواية العربية التي قدَّمت (الجليل والصعلوك) لمحمد سالم عن قرية وهميّة تعيش في ظلام طغيانٍ عفِن، ومستقبل مصر كالح في (عطارد) محمد ربيع.
• جحيم إخوان الطريق والاستبداد الديني.. رواية (المهدي) نموذجًا
لم يذق عبدالحكيم قاسم مرارة السجن فقط، بل السجن داخل الذات والحرمان من الحب والتقدير. لهذا تستحق روايته (المهدي) أن تكون مقدمتها المكتوبة بقلم الدكتور جابر عصفور بحجم الرواية نفسها، هي رواية قصيرة كتبها عام 1977 في غربته ببرلين، ونُشرت مع رواية قصيرة أخرى في كتاب واحد تحت عنوان (روايتان) عن دار التنوير في بيروت، وبعد عشر سنوات أعيدت طباعتها في القاهرة تحت عنوان (الهجرة إلى غير المألوف). ثمّة حرب على كرسي العموديّة بين أكثر من أسرة في محلّة (الجياد) وهي غالبًا مكان وهمي. تسبَّبَ الصراع في زيادة فقر الفلاحين ما استوجب ظهور أفراد جماعة الإخوان المسلمين بينهم، يدعون إلى تغيير الأحوال إلى الأفضل، وأنَّ ما حدث ليس بسبب الطمع البشريّ وإنَّما بسبب الانصراف عن الدين، فالإسلام هو الحل.
ألبسوا البنات الحجاب والشباب ملابس الجوّالة واستُبدل صراخ المشاحنات بهتافات (الله أكبر وسبحان الله)، ومع تحويل عنف القوم إلى قسوة منظَّمة تمَّ استبدال أجزاء المجتمع إلى مؤسسة دينيّة لا وجود فيها لأيٍّ كيان ممّن يمسّ مصلحة الجماعة. يأتي للقرية المعلم "عوض الله"، صانع شماسي مسيحي يبحث عن قوت زوجته وطفليه، فيصاحب عمّ "علي أفندي" الذي يستعين بمعونة الأخ "طلعت"؛ المشرف على شعبة الإخوان في القرية، بحثًا عن سكن وعمل لعم "عوض الله"، وبالطبع يهدف "طلعت" لاستئلاف قلوب الأسرة للإسلام. هكذا ينصاع الصنائعي القبطي لعصابة الغلاظ الذين قدَّموا لداره نسخة إجباريّة من القرآن الكريم مع مذكّرات مؤسس الجماعة الأخ حسن البنا الداعية الأول وكتاب (من هنا نعلم) للشيخ محمد الغزالي، دعكَ من استمارات المحاسبة التي يكتب فيها الأخ المسيحي كل ما يفعله في يومه مستغفرًا ربَّه ومقدِّمًا كشف حساب لمندوب الجماعة! إنهم لم يسألوه ولم يسألوا أنفسهم إذا كان الرجل أصلًا يرغب في أن يكون من المؤلّفة قلوبهم للإسلام، وهو مضطرّ لمجاراة الموقف فلا حيلة له، وأيّ اعتراض يعني أن يعود لحياة التشرُّد هو وأسرته، وفي النهاية تحتفل الشعبة بإشهار إسلام الرجل في المحكمة الشرعيّة وأمام أهل القرية، ويتحوَّل اسمه إلى الشيخ "عوض الله المهدي"، ويعلِّق الأخ "طلعت" بخشوع: "لقد أضاء الإيمان قلب الرجل!"، أمّا "عوض الله" فيسقط محمومًا وتنهار صحّته ويهذي بآخر كلمات المسيح حين يسلَّم إلى أيدي الرومان. كل هذا ولا يهمّ الأخ "طلعت" وشُعبته إلّا أن يتأجَّل موت الرجل قليلًا حتى يلحق بالاستعراض الذي أعدَّته جماعة الإخوان المسلمين!
ترسم "فلّة" زوجة عوض الله الصليب على صدرها وتهمس: "لننشد كفرًا مسيحيًّا يا عوض الله.. فيه كنيسة يلمس ذراع صالح"، حلم كجناح ملاك أبيض طفلي الوجه يلمس شغاف قلبه فيتنهّد: "سيرعانا المسيح يا فلّة". ثم يسلّم جبينه للنسيم "ولا تدخلنا في تجربة.. ونجِّنا من الشرير".
كانت المبادئ الدينية تستند إلى نظم اجتماعية، واليوم يظهر أنَّ تلك النظم تنهار الواحد تلو الآخر، ومعه تفقد مبادئ الدين شيئًا من سلطانها. يريد "جوستاف لوبون" أن يقول في كتابه (السنن النفسية لتطور الأمم)؛ إنَّ الجماعات لا تقنع بالأدلة أبدًا، بل بضروب التوكيد، وتوقف هذا التوكيد على نفوذ الشخص الذي يصدر عنه، إذ قامت الدول والممالك في العصور الوسطى على مبدئين في الأساس: القيم الدينية وقوانين الإقطاع، ومن هذا وذاك خرجت آداب ذلك العصر وفنونه حتى ظهر في الأفق عصر النهضة وسادت المبادئ الأخلاقية الإغريقية، ونشرت أجنحتها على ربوع أوروبا، وبفضلها لاحت حرية تناول الموضوعات في النصوص واللوحات، ومن خلال التحوُّل البارز في الفلسفة والآداب والفنون تزعزعت أركان التقاليد البالية وبدأت الحضارة تأخذ أشكال مختلفة. وخرج رأي أنه كلما ابتعدنا عن الأصول الدينية ابتعدنا عن الرّاحة، وخير دليل على ذلك الفساد والشهوانية التي أصبحت تسود العالم، وأنَّ الفنان ليس حراكًا يبدو، بل هو يركض لاهثًا في عجلة الحياة النزقة ينافس بقية الزملاء من الفنانين ولا يستقر أبدًا على مدرسة فنيّة كاملة الأوصاف، ولم يعد هناك مجال لحب الطبيعة التي خلقها الله إلا في لوحات مزيَّفة ملوَّنة في أماكن مظلمة خانقة، حتى فقد الجمال الطبيعي نفسه سحره الخاص، ولم تعد ربّات الجمال في العبادات القديمة يأتي ذكرهنّ بالشكل الذي يناسب الحفاوة وحب الحياة، بل حتى ابتعد مفهوم الجمال الأنثوي المتمثل في إفروديت اليونان وعشتروت بابل وفينوس روما وإيزيس مصر، ولم يعد مرتبطًا بالحب.
لكنَّ استبعاد القيم الدينيّة لم يرتَقِ بالفنون لتسدّ الفجوة وتستبدل التقديس الوثني للجسد بتقدير حضاري نظيف، ومن ذلك –على سبيل المثال- كيفيّة المنافسات التي تجري لاختيار الفائزة في مسابقة ملكة جمال الكون التي ابتدعها "إيريك مورلي" في المملكة المتحدة عام 1951. سُئل "بيكاسو" عن إحدى لوحاته فقال: (إنها مزوَّرة، لأنها لا تعبِّر عن مشاعري الشخصية الداخلية، بل رسمتُها فقط للبيع!)، فهل اعترف كل فنان بصراحة عن عدد أعماله التي يعتبرها تجارة؟!
في كتاب "السُّنن النفسية لتطوُّر الأمم" الذي ترجمه عادل زعيتر، يقسم المؤلف "جوستاف لوبون" الكتاب إلى خمسة أبواب مقسّمة بدورها إلى فصول يحمل بعضها عناوين (كيف تتغير أخلاق العروق النفسية؟) و(شأن الأفكار في حياة الأمم)، ويشبِّه "لوبون" في كتابه الأخلاق النفسيّة للعروق بالعناصر التي تتراكم ببطء مع الزمن كالجينات الوراثية، ويجعل تطوُّرها غير ملحوظ مغيّرًا في الشرائح الخاصة بالأنواع والعناصر التشريحيّة للشعوب، بالتوازي مع التحوُّلات التي تطرأ على العوامل المؤثرة في تنويع التغيرات النفسية بحسب الاحتياجات الأساسية والمنافسة الحيوية لكل بيئة مع الأخرى، كما يتعرَّض الفكر الشامل لعملية إنضاج على نار هادئة بغضِّ النَّظر عن الحالات النفسية والمشاعر لتُحَوِّر خطَّ سيرنا وتخلق عناصر أخلاق جديدة، تؤثِّر على السيرورة والصيرورة في النفوس الساذجة، العاجزة عن المناظرة، وتمثل أمورًا تنتشر نتائجها بقوَّة السَّيل الذي لا سبيل إلى ردِّه بسدّ. ومن السهل أن نجد في الأمة، دائمًا، مائة ألف رجل مستعدين للتضحية بأنفسهم دفاعًا عن مبدأ؛ فإذا ما تمكّن هذا المبدأ منهم، تظهر عندئذ تلك الحوادث العظيمة التي تقلب التاريخ، والتي لا يقدر على إنجازها غير الجماعات.
في خضمّ هذا العالم المنبهر بما توصَّل إليه مجموع المنجز البشري في عصر ثورة الاتصالات من تطوير لآليات التواصل الاجتماعي والعرض العلني للإنتاج الأدبي والفني والديني، وفي حمأة الصراع حول الحفاظ على الهوية أمام الأبعاد المادية والثقافية والإمبريالية والعولمة، وما صحب هذه المعارك من تنازع للأخلاق والمبادئ والمرتكزات الدينية كقناع للأطماع والأفكار المختلفة، ومعها تنامي الاحساس بالحيرة والاغتراب والإحباط والريبة والقلق في قلب ووجدان كل طائفة إزاء بقية الطوائف الأخرى. ينشأ عن هذا التوازن الاستاتيكي غياب الخطاب الوجداني، وعدم جدواه الأخلاقية، واختفاء أي أثر فاعل له في سير الحياة السياسية والاجتماعية وفي توجيه سلوكيات الأفراد في المجتمع الواحد والمجتمعات في العالم؛ "إنَّ الخطورة لا تكمن فقط في افتقار مجتمعنا في الحاضر لمزيد من الوعي الفكري والثقافي، أو على عدم إدراك طوائف من هذا المجتمع لمتطلبات التطور الحقيقي للحضارة، وإنَّما تكمن كذلك في ما يترتب على شيوع هذه الظاهرة نفسها من آثار سلبية خطيرة على مستقبل الأمة.
إنَّ أمتنا العربية تمرُّ عبر آفاق غائمة للعولمة التي تقودها هيمنة القطب الواحد، بحالة من الصراع القيمي والحضاري الطاحن الذي لا تؤمَن عواقبه.
ومن أبرز ما يمكن أن يترتَّب على تفشي هذه الظاهرة في خضم هذا الصراع، ضعف التواصل مع التراث، ومع لغة هذا التراث وأداته الأولى والجزء الأساسي فيه، وهذا الضعف يمكن أن يقود إلى الانفصال التدريجي عن الهوية القومية والحضارية، أو إلى فقدان الولاء لهذه الهوية، أو قلة الارتباط بمكوّناتها ومقوّماتها"(الظاهرة الأدبية بين هواجس العلم وتيارات العولمة، د.أحمد محمد معتوق، العربي الكويتية، ع702، أيار/ مايو 2017، ص75-81). وبما يخص العرب، يتحدَّد وزنهم لدى الآخر بما يقدِّمونه للحضارة، فلا يمكنهم أن يعيشوا في عزلة، ويتحتم عليهم مجاراة الواقع وخوض التحديات، وأن ينبذ الجميع فكرة هضم الآخر ومحاولة إذابته، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"(سورة هود، 118).
• (الإحساس بالنِّهاية).. الديستوبيا الذاتيّة
وصفت "ستيلا ريمنجتون"، رئيسة لجنة تحكيم "جائزة مان بوكر"، رواية "جوليان بارنز" الحائزة على جائزة البوكر في أكتوبر2011، (الإحساس بالنهاية)، وصفتها بأنَّها تتمتَّع بمزايا الأدب الكلاسيكي، وأنها تتحدث للإنسانية في القرن الواحد والعشرين. وقال عنها "جستن جوردان"، محرر باب الأدب في مجلة الـ"جارديان" الأميركية: إنّ الرواية تُعدُّ تأمُّلًا عميقًا في قضايا التقدُّم في العمر والذاكرة والندم، كما أثنى "مايكل بروجر" محرر "فاينانشال تايمز" على قدرة مؤلفها في تطويع اللغة لهذا الغرض، ألا وهو الغوص في أعماق النفس الإنسانية، لذلك هي تستحق أن تقدم لأفضل الجوائز الأدبية في العالم. وقالت عنها "أنيتا برونكر" من الـ"ديلي تلجراف" إنها تشبه روايات الكاتب الأميركي المعروف "هنري جيمز" لما تصوّره من مأساة للقلب والذاكرة.
أمّا الرواية فمؤلفها هو "جوليان بارنز" المولود في لايستر بإنجلترا في كانون الثاني/ يناير عام 1946، ولم تكن هذه هي الجائزة الأولى التي تفوز بها رواية له، لقد فازت روايته "مترولاند" بجائزة "سومرست موم" عام 1981، وروايته (ف. ب) فازت بجائزة "جيفري فيبر ميموريال" عام 1985، بل رُشِّحت روايتان له في القائمة المختصرة لجائزة البوكر، وهما "ببغاء فلوبرت"(1984)، و"إنجلترا،إنجلترا"(1988). الرواية ترجمها د.خالد مسعود شقير، وراجعها د.حسين علي الديحاني، وأصدرتها سلسة إبداعات عالمية في عددها رقم 389 الصادر في حزيران/ يونيو 2012 عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت. قال مترجمها عنها إنها تغوص في أحد الصراعات الإنسانية الخالدة بين حاضر الإنسان وماضيه وهيمنة الماضي على الحاضر، بحيث يصبح شبحًا يطارد الشخصية الرئيسة وراوي القصة "أنتوني وبستر" ويلوّن وعيه الحاضر، لاسيما أنه في أواسط العمر وعلى عتبة الشيخوخة، وبهذا فإنَّ الراوي يحاول أن يتصالح مع ماض مشوّه ويبحث عن الخلاص من ندم على أحداث ماضية لا يستطيع تغييرها، فالندم، كما يصفه الراوي، هو شعور أكثر تعقيدًا، متخثر وبدائي. شعور سمته الرئيسة أنه لا يمكن فعل شيء حياله: زمن طويل جدًا مضى، ودمار كبير جدًا وقع، إلى درجة لا يمكن معها إصلاحه.
في ذكريات "أنتوني وبستر" علاقة ثلاثية مع حبيبة صباه "فيرونكا"، التي خرج من حياتها بهدوء، وبشكل جبان، غير مسئول، بعد علاقة لها طابع عجيب وترتيب غامض أدّى في النهاية وبشكل غير مفهوم إلى انتحار "أدريان". وتمضي أربعين سنة من عمر "أنتوني وبستر" في هدوء وسكينة بلا مطبّات أو متاعب أو على حد وصفه (كانت الحياة تحدث له) تزوج زيجة ناعمة من "مارجريت" ومنها أنجب ابنته الوحيدة "سوزي"، وفي هدوء وتحضُّر طلّق زوجته واستقال من عمله وترك كل شيء. لتصله رسالة من "فيرونكا" التي ماتت عن قريب تاركة له خمسمائة جنية وورقة كتب فيها "أدريان" يومياته قبل انتحاره. بشكل "بروستي" يبدو الماضي مشوشًا ويتداخل مع الحاضر، وعليه الآن إعادة تركيب ذكرياته وذاكرته، في انعكاس لظلال الذاكرة الإنسانية، وبينما يتوقع أي شخص نهاية عمر هادئة ومنطقية، مكللة بالنضج والاستقرار، لكنه ينبغي أن يتوقع صدمة كالتي تحدث لـِ"أنتوني" عند إحساسه بالنهاية، ويعرف أنَّ البحث عن الذات مشوار مستمر لا يوقفه إلا الموت.
تنتهي رواية "الإحساس بالنهاية" بأمر لم يكن بطلها "أنتوني" يتوقعه على الإطلاق، فالرواية الجميلة تنتهي بصدمة للقارئ نفسه لم تكن لتخطر له في بال، وتترك لديه الشعور بالرغبة في إعادة قراءتها من جديد. ثمّة لعبة من ألاعيب التذكّر والدماغ المنتبه وحنين المرء لماضيه الخاص. فما يبقى في ذاكرتنا في نهاية الرواية ليس هو ما قرأناه. أو كما قال "أنتوني" في بداية الرواية: "إنني أتذكر، ولكن ليس بترتيب معيَّن!".