محمد السَّاهــل
كاتب مغربي
تأتي بعض الكتب النقديّة محشوّة بالاقتباسات، وتخلق انطباعًا بأنَّ المُؤَلِّف يملك مكتبة ضخمة، فماذا لو أفرغنا هذا النوع من الكتب من تلك الحَشْوَة (الاقتباسات من أقوال النقّاد)؟! سيبدو الكتاب مثل مكتبة صُودِرَتْ كلّ محتوياتها، ولربّما سترى حجم الثُّقوب التي سَتُبَقِّع صفحات هذا الكتاب، ومَن يدري هنا أنَّنا –ربّما- سنكون إزاء نص سوريالي جميل! ومع ذلك، لا ينبغي أن ننكر فضلَ هذا النوع من الكتب الذي يضع مكتبة كاملة في راحة اليد. لكنَّ هذا الوصف لا يغني عن السؤال: لماذا يفرط النقّاد في الاقتباسات؟
عادة ما يأتي المَسْطُور النقديُّ مُثْقَلًا بالاقتباسات، أي أنَّ مسطور النّاقد يكون مَضْفُورًا بمسطور الآخرين. والاقتباس هنا هو تقليد نقدي ليس بمقدور أيّ ناقد الفكاك منه، ﻷنَّ المعرفة النقديّة -بكل بساطة- تقوم على مبدأ (تعلُّق اللاحق بالسابق) أو على (مبدأ الحوارية) تأكيدًا أو دحضًا أو إضافة. وليس يشغلني هنا هذا النوع من المتون النقديّة، ليس فقط ﻷنَّ الاقتباس فيها هو مادة للاشتغال النقدي هدمًا وبناءً، وصلًا وفصلًا، بل أيضًا ﻷنَّ الاقتباس فيها لا يُغَطِّي على صوت المؤلف.
إنَّ ما يُشغلني هنا أساسًا هو تلك المتون النقديّة التي يحتكر فيها الآخر (= النقاد السابقون) الكلمة، إلى درجة تبدو فيها الأنا (= الناقد) باهتة، منكمشة، وبكماء. وبتعبير آخر، إنَّني هنا منشغل بتلك المتون التي يبدو فيها المؤلِّف –أحيانًا- كمن يُسَيِّر ندوة، كمن يُدَبِّر حوارًا، وكمن يوزِّع الكلمة على الضيوف، وتلك المتون التي يبدو فيها المؤلف -أحيانًا أخرى- كجُمَّاع أقاويل، وكحَمَّال متاع. بؤرة هذه السُّطور، إذن، هي تلك المتون التي يتحوَّل فيها الاقتباس إلى غاية في ذاتِه ولذاتِه.
*****
كلّما تصفَّحتُ كتابًا نقديًّا من هذا النوع، شعرتُ وكأنَّني أتجوَّل في مكتبة من المكتبات الوطنيّة. ومَن يدري هنا أصلًا أنَّ (الناقد) ليس إلا كُتُبِيًّا أخطأ السَّبيل إلى هذه الحرفة. وعليه، قد يكون (الناقد) هنا لا يقيم سوى مكتبة (عموميّة) في كتاب. إنَّ المُؤَلَّفَ -والحال هذه- هو مُؤَلَّفٌ- مكتبة، والمُؤَلِّف هو مُؤَلِّفٌ- كُتُبِيٌّ، ﻷنَّ الناقد هنا يؤدّي أدوار الكُتُبيّ من جمْع، تنظيم، ترتيب، وتوثيق، وﻷنَّ صفحات المُؤَلَّف تتحوَّل هنا إلى رفوف وخانات تزدحم فيها الأقوال/ الكتب.
لكن، ماذا لو أفرغنا هذا النوع من (الكتب النقديّة) من الحشوة (= أقوال النقّاد)؟!
إنَّ هذا الكتاب سيبدو -وفق الرُّؤية المومأ إليها- مثل مكتبة، لكن مكتبة صُودِرَتْ -لسبب ما- كلّ محتوياتها، ولم يتبقَّ منها إلا الرُّفوف المهترئة. كم سيبدو هذا الكتاب مثيرًا للحزن والرّثاء تمامًا كما تثيرهما أيّ مكتبة موصدة بعد سنوات من العطاء والحياة. ولربّما سأحاول مستقبلًا أنْ أفرِّغ أحد هذه الكتب- المكتبات من محتوياتها (= الاقتباسات)، ليس فقط ﻷرى حجم الثُّقوب التي سَتُبَقِّع صفحات هذا الكتاب، بل أيضًا ﻷرى المعنى واللامعنى الذي سينطق به، ومَن يدري هنا أنَّنا سنكون -بحذف الاقتباسات وإلغاء البياضات التي ستخلفها- إزاء نص سوريالي جميل. ومن ناحية أخرى، يمكنُ تجميعُ هذه الاقتباسات في كتاب مستقلّ تحت اسم (مجمع الأقوال النقديّة) على غرار مجاميع الأمثال.
*****
المتن النقدي الذي يأتي مثقلًا بالاقتباسات يخلق انطباعًا بأنَّ المُؤَلِّف يملك مكتبة ضخمة، وإلا من أين سيكون المؤلف قد تَزَوَّد بكل هذه الاقتباسات؟! وهذا الانطباع يتقوّى ونحن نطالع لائحة المصادر والمراجع التي قد تكون -في حد ذاتها- كل كنوز هذه المكتبة وكأنَّ المُؤَلِّف هنا يصَرِّح بالممتلكات. إنَّ التأليف هنا يقوم على إظهار المقروء، التصريح بالممتلكات، وتعضيد الكلام بالقبسات، وهذا الأمر قد يُؤَوَّل على أنَّ المُؤَلِّف هو مِن تلك الفئة التي تضع المكتبة في أبرز مكان في البيت لكي تجذب إليها الأنظار والأيادي، ومن -ثم- آيات الإعجاب والإطراء. لكن، ماذا لو كان المؤلف -على الرّغم من كل الكتب التي يحيل عليها- لا يملك أصلًا مكتبة؟
في هذه الحالة، قد يكون المؤلِّف يقيم مكتبة (شخصيّة) بين دفَّتي الكتاب بعد أن يكون قد تعذَّر عليه -لسبب ما- أن يقيم عُودَها في البيت. وعليه، فبقدر ما يستحيل الكتاب هنا مكتبة شخصيّة متنقلة، خفيفة، وافتراضيّة، بقدر ما يستحيل هذا الكتاب تعويضًا (بالمعنى الفْرُويدِيِّ) عن رغبة امتلاك المكتبة التي قد تكون صُرُوف الدَّهر أرجأت تحقُّقها. وليس من المبالغة في شيء هنا القول: ما أكثر الكُتّاب الذين لا يملكون مكتبة إلا بين دفّات الكتب.
*****
لماذا يفرط هؤلاء (النقّاد) في الاقتباس؟
لا شكَّ أنَّ الاقتباس هنا هو شكل من أشكال الاستقواء بالآخر (=النقّاد السابقون)، ونوع من أنواع الاحتماء بالخارج. وعليه، قد لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الاقتباس هنا هو طوق نجاة، ليس فقط ﻷنه يضمن للمُؤَلِّف أسباب البقاء في بريّة النقد، بل أيضًا ﻷنه يضفى على كلام المؤلِّف الشرعيّة والمصداقيّة. إنَّ المؤلِّف -والحال هذه- يستدعي أساسًا -عبر الاقتباسات- سلطة الآخر. وبمعنى آخر، إنَّ ما يعني المؤلِّف هنا ليس ما تنطق به الاقتباسات (كم من كتاب يحوي قبسات لا تندغم وموضوع الكتاب؟!)، بل ما يعني المؤلِّف هنا هو السلطة، الثقة، والتقدير الذي تحظى به مصادرها بين الناس. وفي هذا السياق، نشير إلى أنَّ هذا النوع من التواليف غالبًا ما يتَّجه إلى القامات المُعَلَّمة، وذائعة الصيت كأنْ يقتبس المؤلِّف من التراث العربي نظرًا للمنزلة التي يحظى بها هذا التراث في الوجدان الجمعي، أو كأنْ يقتبس من المنجز الغربي نظرًا للغرابة والدهشة التي تعتري القارئ العربي دومًا إزاء كل ما هو أجنبي ووافد. إنَّ المؤلِّف يجري -عبر الاقتباسات- وراء السلطة. ومَن يدري هنا أنَّ المؤلِّف لا يرى في الاقتباسات هوية وانتماء: أنا أقتبس من هذه القامات إذن أنا منها. وهذا (الكوجيطو) يفرض -من منظور هذا المؤلِّف- على القارئ أن يعظِّم ما يكتبُ تمامًا كما يعظِّمُ مكتوب القامات الأخرى. لكن، أليس المؤلف عندنا مكرهًا –أصلًا- على الاقتباس وبإفراط؟
لا بدَّ من القول هنا إنَّ فعل التلقّي عندنا هو فعل يخضع لممارسات تمييزيّة من جهة، ويخضع لاعتبارات عاطفية من جهة أخرى. وممّا تجدر إليه الإشارة في هذه المناسبة أنَّ العقل العربي لا يطمئن إلا إلى الكلام المسنود (من السَّند)، ولا يرتاح إلّا إلى فسيفساء من النصوص داخل النص. ومن هذه الزاوية، قد نلتمس العذر للمؤلِّف الذي يُظْهِر المقروء في ثنايا المكتوب، ﻷنَّ الاقتباس هنا هو شرٌّ لا بدَّ منه في بيئة تؤمنُ فعلًا وممارسةً –على الرغم من كل الخطابات- أنَّ المتقدِّمين لم يتركوا شيئًا للمتأخِّرين كتابةً وقولًا. إنَّ المؤلِّف هنا يلبِّي شروط المجتمع في التأليف أو يستجيب لانتظارات القارئ العربي الذي تعوَّد على الكتابات التي تزدحم فيها الاقتباسات والأقوال. لكن، قد يبدو هذا العذر -من زاوية أخرى- أقبح من الزلّة، ليس فقط ﻷنَّ المؤلِّف هنا يرضى أن يكون فعل الكتابة النقديّة خاضعًا لمزاج وأوهام القارئ، بل أيضًا ﻷنَّ المؤلِّف هنا يزَكِّي النمطيّة على مستوى التأليف النقدي، ويتحوَّل، دون قصد، إلى عقبة أمام تلك المحاولات النقديّة التي تختار دربًا آخر غير إعادة تدوير كلام السابقين.
*****
لا شكَّ أنَّ المتون النقديّة التي تأتي مثقلة بالاقتباسات تفرضُ على القارئ أن يتحوَّل إلى (رحّالة)، أي أن يَنْتَقِل باستمرار بين المتن والهوامش، وأن يقلب على الدوام صفحات الكتاب بحثًا عن المصدر الذي يحيل عليه المؤلِّف الذي غالبًا ما يشير -بعد الاقتباس الأول- إلى المصدر دون تفاصيل (م.س= مصدر سابق). وهذا الانتقالُ هو عمل مضنٍ ومرهق خاصة حين تكتظّ الصفحة بأكثر من اقتباس، ﻷنَّ فعل التلقّي هنا يقتضي مجهودًا ذهنيًّا كبيرًا لاستعادة عناوين المصادر وأسماء الكُتَّاب، وهو -إلى جانب ذلك- عمل مزعج ومربك، ﻷنَّ فعل التلقّي يخضع -أثناء العودة إلى الهوامش- لوقفات اضطرارية، وقفات تؤثر سلبًا على القراءة وسيرورتها، وتورِّط القارئ في التيه والضياع. إنَّ القراءة هنا هي سفر متقطع، وتنقلٌّ دؤوب بين المتن والهامش، وتشتيتٌ للتركيز بين ما قيل وما يقال.
وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي أن ننكر فضلَ هذا النوع من الكتب، فضلَ وضع مكتبة كاملة في راحة اليد.