ترجمها عن الروسيّة: د. حسين جمعة
كاتب وناقد أردني
عملَ الفيلسوف "ميراب ما مارْداشْفيلي" (1930– 1990) أستاذًا في قسم الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية، وكان عضوًا في الأكاديمية السوفياتية عن فرع الفلسفة. له مؤلفات في الفكر وهو صاحب اتجاه في فلسفة التفكير والتحديق في الماضي، يرى أنَّنا لسنا بحاجة إلى المعارف الميتة، ويقول إنَّنا نتوجَّه إلى الماضي لفهمه واستيعابه بالمستوى الذي نتمكّن منه، ويضيف: "أنْ أفكِّر- هذه صورة حياتي"، "أنْ تفكِّر بالوجود هذه وسيلة وجود المفكِّر".
لو لم أكُن أكاديميًّا(*) لقلتُ إنَّ مشكلة الإنسان كمادة للبحث الفلسفي غير موجودة. غير موجودة بمعنى أنَّ الفلسفة من البداية كانت مضطرّة لإدخال مطلقات في فهم العالم تستطيع بها -إلى حدّ ما- عزل جميع خصوصيات مدركات العالم وتلقّيه، التي تنبع من طبيعة الإنسان الأرضيّة الخاصة أو الجزئيّة. طبيعة هذه التعقيدات التي تتبدّى أمامنا تعبِّر عنها مقولة نيتشه الفريدة "الإنسان.. هو الإنسان". لكن حينما تتسلّل هذه المقولة الفلسفية إلى اللغة اليومية الدارجة، فإنها تُفهم وفق قواعد هذه اللغة التي تستند إلى بعض اللوحات العيانيّة تحت غطاء من المصطلحات والتوكيدات؛ فتغدو هذه المقولة لا إنسانية. في الواقع، الأمر يتطلّب في سبيل إدراك الفعل الذي نقوم به، ومفاده إيقاف هَوَس الإنسان الأبديّ في ذاتِه- وضع لوحات حياتية تحت التوكيدات والمفاهيم الفلسفية. تحمل الاعتمادات الفلسفية، لا سيما فيما يخص الإنسان، دائمًا شيئًا من المعنى التجريدي التأمُّلي الافتراضي. وهذا المعنى من الصعب الإمساك به لسبب بسيط، فنحن حينما نتكلم عن شيء ما ظاهر جدًا ندركه بالعقل، ونستخدم ألفاظ اللغة العادية، التي تمتلك كل لفظة منها بنايات ماديّة واضحة.
ولكي أشرح ما قيل، أسوق مثالًا بسيطًا، مع ضرورة الملاحظة إلى أنَّ الأمثلة البسيطة خطرة، لأنَّ إدراكها يتطلب حدوسات يتشاطرها كثيرون، وتصوغ شذراتها في بيئة ثقافية وفكرية محددة، وانغماسنا في كلماتها وخبراتها الثقافية حسية. نحن وُلدنا في أكنافها ونعيش فيها. من هذه الزاوية نلقي نظرة على الحالة الثقافية المعاصرة.
أستطيع تحديد حالتنا كوضع "تنابلة السلطان".. جميعنا نعيش ونركِّز على الرابطة الإنسانية الميسورة مباشرة، والفهم المشترك اللاشكلي غالبًا. أمّا القانون فيمثل أمامنا كشيء شكلي جدًا مفرغ من الظلال الإنسانية الضرورية. ونحن نعوِّض هذه "التنبلة" بالارتكاز الواحد على الآخر، علاقة إنسانية ما غير متبلورة وغير ناطقة من التلميحات المتبادلة والتفاهمات، التي تُقام دائمًا على سطح أي قوانين أو معايير شكلية وعلى الرغم منها. نحن نستدفئ بتماس أجسادنا البشريّة بالحد الأدنى من الدفء بما يضمن عدم الوقوع في غيبوبة، بينما في الوقت ذاته، وفي أماكن ودوائر أخرى تتفكك.. وبدلًا من "الحرارة الرفاقيّة" يخترعون تدفئة غازيّة.
نحن منغمسون في إنسانية مباشرة، وغالبًا غير قادرين على تحطيم رابطة التفاهم، وكأننا نريد بالفهم المتبادل وبالدفء الإنساني تعويض عدم تطور حياتنا الوطنية والاجتماعية، وكل ما يخرج عن حدود هذا الدفء الإنساني يبدو لنا توافقات شكلية وتوسُّطات ما لحالاتنا التي تترامى بعيدًا عنّا إلى أفق قصيّ، وهذا ينتزع منّا شارة الإنسانية. هذا الاستنكاف يظلّ أقوى لأنه يحمل في ثناياه تقليدًا عالميًا قديمًا، أو تقاليد عالم ما أو طائفة ما. وها هو ذا الوجود، الذي يلتصق بدفء الحرارة الإنسانية المتبادلة يستمر في ديمومة الحياة التي هي كما هي، على أمل أن "يحملني الآخر إذا لم أرفع رأسي وأبتعد عن هذه الرابطة الإنسانية" (ما دام الآخرون هم مَن يموتون دائمًا). هذا هو "الإنسان- هو الإنسان" الذي قال عنه "نيتشه" أو أي فيلسوف آخر أنه الأوَّل، وهو الذي يعيق الإنسان عن التفكير ويحجبه، كما الستارة، عن ذاته نفسها، عن وضعه الفعلي في العالم وجدواه ورسالته، هذا ضرب من الحالة البربرية المهجورة التي استقرَّت في العالم المعاصر، يعني العالم الذي يستثني هذه الحالة الفجّة، عالم يفترض توافقات لفظية معقدة، وصياغة أهلية واجتماعية، وحضور لأرباب الثقافة (إذا فهمناها كعادة فعليّة وقدرة وقوّة على ممارسة المعقَّد والمتنوِّع). والمعقَّد والمتنوِّع لا يمكن العثور عليه بكليّته في أفق النظرة الإنسانية الشمولية، الذي يتيح درجة من الدفء المتبادل لغيبوبة الأبدان الإنسانية المهترئة والمتكلسة.
وأفضل مثال لتوضيح هذه الغيبوبة الضالة في اختلافها عن قوانين التاريخ الإنساني، ووجود إمكانية لقوانين الدورة الميثولوجية والتكرارية، هو فيلم "القطار.. توقف"، الذي تجري وقائعه في عالم بشري منضبط، يتناهى فيه مستوى مريح ومثالي من الإخفاقات العامة. لا أحد من مكونات هذا المجتمع يستطيع أن يفعل شيئًا كما ينبغي بمهارة ومسؤولية، ويتم تعويض هذا النقص بتبادل الفهم المشترك. والمحقق الذي يحضر لا يريد تفهُّم هذه الحقيقة، لكنه يُقدم على الخطوة الأولى، التي يتعيَّن أن تتلوها خطوات- خطوة التفكير التي تُطرح لمساءَلة تلك الجذور والثوابت التي يسترشد بها الناس المنغمسون في الحدث. لكن خطوته لم تكُن خطوة المفكِّر، وإنَّما هي خطوة المحقِّق. وجراء ذلك تبرز في الفيلم حالة أولية تأملية: مَنْ يجرؤ على بدء الخطوة الأولى ليخرج من العلاقة الإنسانية ويغدو معزولًا وموسومًا، فإنَّ الناس سينظرون إليه مستنكرين، ونقرأ في عيونهم الحالة الإنسانية الشمولية والطيبة التي تستبعد الاستخدام الشكلاني البارد للقانون، كان يمكن إلقاء حجارة على المحقق! لقد ظهر منفردًا وموسومًا.
وعليه، دون هذا الوسم وهذا الانفراد، ودون أن تُلقى عليك الحجارة، لا يمكن أن يتكشَّف فضاء التفكير الإنساني والوجود الإنساني، فضاء الإنسان العاقل (Homo Sapiens)!
هكذا، حينما نتكلم عن الإنسان فإنَّ الحديث، يا للغرابة، يقوم على أساس التجريدات، نستبعد مباشرة وبالحد الأقصى إنسانيًا الأشياء الميسورة لدينا. بهذا المعنى لا وجود لمشكلة الإنسان في الفلسفة! يعني أنَّ الإنسان كمخلوق يمتلك بشكل طبيعي ما صفات محدَّدة معطاة له، لن يكون مادةً أو موضوعًا للبحث في الفلسفة، الذي يمكن أن يكون مادة أو موضوعًا للبحث في الفلسفة، ويسمح بالتقصي فيما بعد ليس هو دائمًا الإنسان الماثل، وإنّما هو الإنسان الممكن، الذي يمكن أن يشعّ لفترة ما، ويترسّخ في المكان بجهد خاص ما. الجهد المتعالي القائم في القدرة على طرح الذات نفسها إلى الحد الذي يتبدّى خلفه وفي شخصه ملامح الموت، إلى الحد الذي يومئ للإنسان عن قدراته أو استعداده أن ينسلخ عن ذاته كما كان في لحظة الحدث، وأن يفارق القشرة الخارجية الملتصقة به.
في الفلسفة ومنذ زمن الإغريق القدماء استقرَّت ثلاثة أشياء حول صورة الإنسان: السعادة القصوى، الجمال والحقيقة. في حالة أناس فيلم "القطار.. توقف" لا يكتفون بالتصوُّر المعياري العالي عن الإنسان، لأنهم منوّمون بما يتبدى لهم أنه السعادة الإنسانية.
وكما يؤكد الفلاسفة، فإلى جانب السعادة الإنسانية، ثمة مصلحة سامية تقف على الجانب الآخر "الإنسان- هو الإنسان". المصلحة السامية لا تتناول مادة ما محددة، وتبرزها وكأنها هي المبدأ "السامي" في علاقتها بالآخرين. وأي تطلُّع أو تسامح بخصوص الصورة الداخلية أو الشكل الخارجي وارتباطها بالمادة الجزئية مستبعد تمامًا. المصلحة السامية- هذه شكل ("صورة"، "فكرة"، "جوهر"، "مظهر") تحظى بصفة كل التجريدات الفلسفية، وتخضعها للمبدأ العام، المؤدي إلى أن لا شيء ينبغي أن يتحدَّد بمضمونه، وإنّما يقوم على جلاء ما هو غير مرئي بدقة، ويكون هذا مقياسه الذي لا يتفتَّت. لنأخذ على سبيل المثال مبدأ "الواجب". لم يكن الواجب محددًا بمضمونه أبدًا. الواجب هو ما يبدو في تلك اللحظة- هنا والآن، ولم يُستخرج قط من التحديدات العامة.
وهذا ما يمكن قوله عن المصلحة. الناس في الفيلم متمسكون بتحديد معيَّن كأساس للمصلحة- يجب أن تكون حقوق الأرملة وأسرة القتيل مكفولة. ولهذا يتعيَّن أن يطرح القتيل كبطل. وجراء ذلك يتطلب من المصلحة الإنسانية أن توافق على باطل، على حياة في إسار الأوهام. وهذا بحد ذاته لم يكن سيئًا جدًا، ما دامت الحقيقة كما هي عليه، فلن تكون موضوعة على شكل مصلحة عليا. لكن المصيبة في الشيء المنحصر في الباطل، وستتكرَّر بالتَّناوب التَّعاساتُ ذاتها بلا نهاية. وإذا لم نتمسك نحن بالحد القاتل للوجود الإنساني (لا تتمثل صورة الإنسان في الفلسفة دون اتصالها برمزيّة الموت)، فعندئذ نعيش جزئيّة الحياة التي لم نعِشْها نفسَها أزليًّا. ستجري الأحداث ذاتها معنا، التي تكررت أبديًا، ونقع فريسة لعدم الاستنارة، التي يمكن تصوُّرها بسهولة، إذا تخيّلتَ أنه محكوم عليكَ أزليًّا أن تمضغ القطعة نفسها، وأنه لا يمكنك أن تنتهي من مضغها أبدًا. هذا هو الجحيم. بالمناسبة فقد التقط الفيلسوف الروسي "تروبيتسكي" بدقة في كتابه "مغزى الحياة"، هذه اللحظة مؤكدًا أنَّ: "الجحيم- هو إمكانيّة أن لا تموت أبدًا". يموتون مرَّة وإلى الأبد موتًا حقيقيًّا. وثمّة موت عندما تموت دومًا. ولا تستطيع بأيّ شكل أن تموت. هذا هو الجحيم، هذا- عذاب جهنَّم.
لقد استدرجت مفهوم "المصلحة العليا"، وبالدقة هذا ليس مفهومًا، وإنّما هو رمز، وفق ما كان يمكن أن يقوله "كانط"، لا يتضمّن تأمُّلًا أو تبصُّرًا يمكن بواسطته فك عقدته. يعني أننا لا نستطيع أن نضع تحت هذه المفهوم أي مادة محددة. ها هي "المصلحة العليا" تقع في ذلك الجانب من الارتباط بالسعادة التي نراها، ويمكن صياغتها بالقول القديم: "ليهلك العالم، ولتحقق العدالة!". وهذا لا يعني أبدًا الصيغة السائدة في القانون الإنساني الفاتر، الذي في سبيله يمكن التضحية بالجميع. مثل هذا التأويل يتطابق ومنطق اللوحات التي تتسرَّب إلينا بلغتنا الجارية. في واقع الأمر، فإنَّ هذا الفهم يستقيم والقول إنَّ العدالة وحدها تشير إلى السعادة الحقيقية، وبالنسبة إليها فإنَّ العالم الذي تعيش فيه هو عالم يغطّ في غيبوبة الأبدان الإنسانية، ويستحق أن نقول فيه "ليفنى ولتتحقق العدالة!"، بقدر أنَّ ما يُرتكب يمكن أن يكون كذلك في حالة ما إذا ظهرت جليًّا نزعة حفظ العدالة. يعني لا يمكن اختراع قانون يكون عادلًا، ويحقق غايته بشكل كامل. دائمًا ثمة شيء لا يؤخذ بعين الاعتبار، وجميع الحالات الملموسة في تنفيذ القانون ليست على مستوى صياغة القانون ذاته، وتوضع هذه الصياغة تحت منظار الشك. لكن الفلسفة تتطلب أن نتفهَّم أنَّ مقاصد القانون هي القانون نفسه. لا وجود لعدالة ملموسة في القضايا الجزئية، كلا. وحتى يكون الناس راضين- فهذه ليست مصلحة عليا، لأنَّ هدف القانون هو القانون نفسه. وبكلمات أخرى، ليتحقق أي قانون ينبغي دائمًا وفي كل مكان استخدام تلك الوسائل التي ترسِّخ القانون نفسه المعلّق أمامنا. وفي حالة التعليق هذه لا يمكن بلوغ عدالة القانون بنقائه الكامل، وهذه حالة منشودة. وهي تستثني الطابع المطلق لالتصاقنا بذلك العالم الذي ترعرعنا فيه، والذي نعتبره شاملًا ونهائيًا. ودون المقدرة على التحديق في هذا العالم، فلا وجود لجمالٍ أو سعادة عليا للإنسان.
وردت هذه الحقيقة القياميّة (من القيامة) في منظور ديانات الإنسان الأولى- في الديانات العالميّة، وفي ذلك الجزء المسمّى "الميتافيزيا". أمثولة ذلك تلك اللوحة الغريبة المرسومة في إيحاءات يوحنا في سفر الرُّؤيا (الأبوكاليبسيس)، التي تتحدَّث بوضوح عن أنَّ صورة الإنسان في الفلسفة لم تكن أبدًا لوحة لأيّ موضوع خاص عن العالم، يمكن تسميته بالإنسان؛ الذي تطوّر بصورة ما، وقطع مراحل عدة وفترات زمنية ما. هذه اللوحة تشير إلى القدر الإنساني، إلى الحالة الأساسية والمصير الذي قُدِّر للإنسان، وما هو متاح له، وإلى ما يمكن أن يسعى إليه، وما يمكن أن يبلغه. ولهذا؛ فإنَّ لوحة سفر الرُّؤيا ليست لوحة عصر محدَّد وقع بعد عهدٍ آخر، نقول فيه أنه حالة عاديّة جيدة. هذا ما لاحظه المفكر الروسي الكبير "تْشأَدايف" الذي أشار إلى أنَّ سفر الرُّؤيا ليس عصرًا ما يهلُّ، وإيمانًا بعلامة ما لتشاؤمها، أو حالة رؤيوية خاصة لدى الإنسان الذي عاش في النقطة السابقة لسفر الرُّؤيا. سفر الرُّؤيا- توصيف لإمكانية سقوطنا في هذه الحالة، توصيف لأزلية هذه اللحظة، ومن جانب آخر القدرة على البقاء على الحد من رفض العالم الذي نبتنا فيه ونموْنا، ومن وراء هذا الحد نجد سعادتنا الحقيقية وصورتنا الحقيقية، ونرى الواقع كما هو. من قبضة الملح هذه علينا أن نتلقى التوكيدات الفلسفية، جميعها حول الإنسان بمقياس فلسفي فعلًا في اختلافها عن التوكيدات التي يمكن أن تنجز في العلوم البيولوجية والإنثروبولوجيا وما يشابه ذلك. جميع التوكيدات الفلسفية المتضمنة مصطلح "الإنسان" لا يمكن حلّها بواسطة أي خصائص بيولوجية، ولا على أساس أي صورة ملموسة للإنسان، وذلك -كما مرَّ معنا- أنهم دائمًا يُعنون بذلك الإنسان الممكن الذي لم يتواجد قط، أو الحالة الآتية، وإنما دائمًا الحالة الفاعلة مع أنها لا تعود إلى أي من الموجودات.
نسوق للتوسُّع في التوضيح تجريدًا فلسفيًّا إضافيًّا آخر، وأعني التعريف العبقري الوحيد للكينونة، المبني وفق النحو الفلسفي، وليس نحو اللغة الدارجة. وبحسب هذا التعريف أو التحديد فإنَّ الكينونة- هي الشيء الذي لم يكن أبدًا، ولن يكون أبدًا، وإنما ما هو عليه الآن! وإذا أردنا أن نفهم هذا القول، ونحن نتتبَّع قوانين اللغة الجارية، فعلينا أن نقول: إذا كان يوجد "الآن"، حينئذ بعد "الآن" وحينما يمرّ وقت ما، نقول عن هذا "الآن" أنه "كان"! وعلى الرغم من هذا النحو، فإنَّ هذا التعريف يقول في واقع الأمر: إنَّ الكينونة ليست شيئًا ما، أو ما كان، ولن يكون أبدًا، يعني لا يمكن أن يكون هو ذاته بذاته. إذًا لا شيء كان، فيمكن تصوُّر استمرار هذا عبر لحظات الزمن، حينئذ يكون. والكينونة- إنها الشيء الذي يكون داخل لحظة العالم الزمنية وفي إطارها. لكن، وكما هي حال سفر الرُّؤيا. هذا ليس ما يكون، وإنّما هو ما يكون دائمًا "الآن".
القول "لم يكن أبدًا"، ولن يكون أبدًا، وإنَّما يكون "الآن" هو نفس ما يقال "أبدًا"، إذا استخدمنا المؤشرات الزمنية المتواجدة في اللغة، التي تعيق فهمنا حول ما يجري عليه الكلام، وإذا لم نكن على درجة من الذكاء لاستخلاص التجريد الفلسفي، وترسيخ السعي الحثيث في ذاتنا لترتيب التباينات المادية تحت أي توكيدات. جميع التوكيدات الفلسفية تنتمي لبعض لحظات الوجود، ولا تأخذ في منظارها أي مادة منقطعة عن المواد الأخرى في الزمان والمكان. وإذا كانت صورة الإنسان قد طرحت في الفلسفة بوضوح، فإنَّ الوسائط الفلسفية لا يمكن أبدًا أن تؤسس لأية مقولة يقينية حول "الشمولية". إنها تحمل في ثناياها دائمًا تعقيدًا أنثروبولوجيًّا لوجود الإنسان الأرضي، وتستثني أي مقولة فيزيائية (نعتمد مقولة حول القوانين الفيزيائية) عن أي شمولية. وعليه، فإنَّ الفلسفة تقيم شيئًا ما شبيهًا بالأنطولوجيا الرافضة للإنسان، يعني وكأنها أنطولوجيا الغياب. أو أنطولوجيا ذلك الشيء الذي لم يكن قط، ولن يكون، وإنما هو الآن حسب.
وهنا يمكن أن نستحضر مثالًا آخر يوضِّح أيضًا ماذا تعني الفلسفة بالحالة الإنسانية. ثمة تعريف رائع للحب عند "باسكال": "الحب ليس له عمر، إنه دائمًا في حالة ولادة". إذا كان موجودًا فإنه لا يتجزأ زمانيًا من داخله، إنه دومًا جديد، ليس له عمر، ويبقى دائمًا في حالة ولادة. وهذا التعريف في بنيته العميقة يمكن أن يُنظر إليه بنجاح كتعريف للكينونة، كتعريف للإنسان. وهكذا، فإنَّ النحو الفلسفي بهذه البنية ذاتها يحدد الأشياء التي تبدو مختلفة- طبيعة الكينونة وطبيعة الإنسان.
الصورة العظمى -الأنطولوجيا الرافضة- وجودها مخفي في الفلسفة دائمًا، هذه صورة "اللاشيء العظيم". ينبغي القول إنَّ مجرى التفكير هذا حدث في الفلسفة الغربيّة وفي الفلسفة الشرقيّة، مع أنَّ التصنيفات الفلسفية التاريخية المستقرة تعزو هذه الصورة للفلسفة الشرقيّة، كالبوذيّة، وتُستثنى من الفلسفة الغربيّة. إلا أنَّ القراءة المعمَّقة الباطنية لنصوص الفلسفة الغربيّة التي تخضع لقواعد النحو الفلسفي تظهر الشيء ذاته "وجه اللاشيء"، الذي يسكن في الأساس الذي تقوم عليه الميتافيزياء والأنطولوجيا الغربيّة.
شهد تاريخ الفلسفة دائمًا اتجاهًا طريفًا: إلى جانب الأفعال الفلسفية الفعلية (في اللحظة ذاتها التي تتمّ فيها) تنبت وتعمل "الفلسفة الجامعية" أو المعادلات الثقافية للفعل الفلسفي الكامل، وتتمثل في هذه المعادلات الثقافية نوطة التفلسف الحيّة المتفجرة، ووفق رؤيتي، هذا غير ممكن دون التوقف أمام وجه ذلك "اللاشيء" الذي حاولتُ وصفه من كل جوانبه. لكن، عادة ما يضيع في هذه المعادلات الثقافية الفعل الحيّ، وهناك لقطات عرضية فلسفية كاملة تحضر كأشكال مستقلة، وهي في الواقع استمرار للنوطة الحيّة في النصوص الفلسفية النابضة. وكمثال على هذه الحال في القرن العشرين هو الفيلسوف "هايدغر" الذي امتلك موهبة قراءة هذه النوطة في النصوص القديمة، التي تعتبر بالنسبة إليه، اكتشافًا خاصًا به، مع أنَّ الأمر ليس كذلك. ونتيجة هذه القراءة يتم إعادة تعمير المغزى الحياتي في التجريدات الفلسفية، التي أضحت مادة للدارسة المدرسية "الفلسفة الجامعية"، وفقدت دلالتها الأولى. وبفضل الحساسية الخاصة لهذه المغازي الحياتية يقف "هايدغر" في الأدبيات كمعاد "للنزعة الإنسانية". إنه يدرك ما يُقال في الفلسفة عن الإنسان، على أرضية وعلى ضوء "اللاشيء العظيم".
وبناء على ذلك، الإنسان- يبدو أنه المخلوق الوحيد في الكون (كمخلوق إنساني، بمعنى أنه ليس من إنتاج الطبيعة، التي يمكننا دراستها موضوعيًا- في لوحة ما متجرِّدة عن ذاتها) الذي يكون في حالة الولادة المتجددة باستمرار. وهذه الحالة المتجددة تحدث في المدى الذي يتاح فيه للإنسان وجهوده الخاصة أن يضع نفسه في فكرته، في سعيه، في جزء من الحقل المغناطيسيّ القويّ المقترن برموز في منتهى الدقة. هذه الرموز تتجلى سطحيًّا في الدين (وبدقة في الأديان العالميّة، يعني أنها ليست قومية ولا عنصرية)، من جانب، ومن الجانب الآخر في الفلسفة. هذا يعني، بمعنى أساسي ما أنَّ الإنسان المفكر هو جزء من قوة طبيعية ما، إذا استخدمنا كلمة "طبيعية" بالمعنى الذي سبق تصنيف "كانط" إلى جوهر وظاهرة، إلى "شيء في ذاته" وظاهرة، ونعني أنّ "القوة الطبيعية" ليست مكافئة أو معادلة لقوة الطبيعة البيولوجية أو الفيزيائية. في هذه الحالة نعني قوةً ما داخل الطبيعة لا نعرفها، لكنها -بشكل طبيعي أو عضوي- تعمل ما دامت لا تُفكَّك من قِبلنا إلى أجزاء ولا تتراكب. ولو استطعنا تشطيرها إلى أجزاء، وكل ما يمكن أن يُجزّأ يمكن أن يركَّب. وعليه، يمكننا تدشينه. بينما قوة هذه اللحظة (مع أنَّ هذه "الرَّمشة" في لغتنا العيانيّة يمكن أن تهلَّ كمئة سنة أو ألف سنة). لا تتكرر وغير ممتدة! ويمكنها أن تحدث مرَّة أخرى، لكن دون أن نكون نحن قادرين على إطالتها. ولهذا، فإنّ جميع المصطلحات الزمنية التي تتواجد في الحوارات الفلسفية، عن الإنسان، وعن الظواهر التي لا تتجزأ فعليًا تشير إلى بعض الحالات اليقينية التي تتطلب منّا استيعابًا لا عيانيًّا. يعني ذلك الذي يمكن بواسطته أن نتمكن من فرز ليس فقط المكوِّن المادي للتوكيدات، وإنما نأخذ بالاعتبار شيئًا ما حول إمكانيات طبيعتنا الإنسانية، وحدودها ومكوّناتها. ومثال ذلك الوصيّة الإنجيلية القائلة: "إذا ضربك أحدهم على أحد خدّيك، فأدر له الآخر"، ليست "روشيتَّة" سلوك يُستنتج منها حقيقة في الحياة الفعلية أنه إذا صفعني أحد على خدي، فأدير له خدي الآخر في جميع الحالات. هذه الحقيقة الروحية المجرّدة، التي تقول للإنسان عندما يُرتكب بحقك عمل ما، وتعتبر أنَّ فيه إهانة واحتقارًا لك، فاعلم أنَّ هذه الإهانة تتضمّن حقيقة ما عنك، وإذا أردتَ أن تتعرَّف عليها، توقَّف ولا تحلّ مشكلتك بأول حركة آلية كردّ فعل على الفاعل وصفعه على خدِّه. وفي سبيل هذه الوصيّة بهذا الشكل، يكون من الضروري اختمار رزانة وأريحية نفسية وروحية ما في داخل الإنسان، وهذه الأريحية تتطور بالممارسة الدينية والفلسفية. وهذه يمكن أن تُغيَّب في التنظيم التحريمي للكنيسة. وفي الشعائر المقامة آليًا في "الفلسفات الجامعية"، بالمدى الذي تضيع فيه الحدوسات الميتافيزيقية البدئية. لكن، ما دام ثمة قواعد للرزانة الروحية تحضر هناك وتكون متاحة أحيانًا- على سطح الشعائر والمحرمات- ترتقي إلى جوهر المسألة.
سأواصل التأمُّل حول الإنسان المفكِّر كقوة طبيعيّة انطلق ذات مرَّة في الأرض. جاء في التاريخ على أرضية ما قبل التاريخ الأسطوري، أنْ حدث انهدام وصدع -انهدام مزدوج: الهيئة الإنسانية والتاريخ. التاريخ بلغتنا- هو ما حدث قبلًا؛ وعليه الأساطير- تاريخ إذن. لكن التاريخ كلسان حال الكينونة البشرية والتطور- فهو شيء ما، ينبع من ذاته تاريخيًّا. في هذه الحالات كان يمكن لـِ"ياسبرس" أنْ يتحدَّث عن الزمن المحوري.
هكذا، انبجس الصَّدع، وحينها ظهر التاريخ كحقل للقوى البشرية، وكلسان حال للكينونة الإنسانية والتطور، ظهر حقل المسؤولية الشخصية وتعبُ الروح كدراما ومغامرة ما على الإنسان أن يجتازها نهائيًا، ليتمكَّن من أن يصبح في حالة الولادة ثانية وثانية على امتداد الوقت. هذا الشكل الإنساني يتسق والفضاء بالمدى الذي يفترضه بحيث يمكن في نقطة محلية ما أن تحدث الحالة والفعل الذي يعكس ويحمل في ذاته تعالقات الكل الفضائي جميعها غير المتّسقة، مع المخلوق الإنساني الفرد طبعًا، ولا يمكنها أن تسكن فيه. بكلمات أخرى، يمكن الافتراض أنّ المعجزة التي تحدَّث عنها "كانط" حينما لاحظ أنّ الذي يدفع به إلى حالة الاندهاش والإعجاب شيئان: عالم النجوم فوق الرؤوس والقانون الأخلاقي الباطن. هذه ليست براعة مفكر عاطفية بمعيار الإنسانية في الإنسان. القانون الأخلاقي- معجزة حقًا بمعنى الكلمة، وذلك أنه على هيئة إحساس بسيط وحقيقي، أو إدراك ما يمكن الحصول عليه من حيث المبدأ، والقدرة على عبور سلسلة لا متناهية من الترابطات والتوسطات السببية التي تشمل العالم كله، ومن ثمّ تبلغ حد الضرورة- الفعل هنا. هذا الفعل معطى على هيئة بداهة أخلاقية بسيطة وإجبارية (كما كانوا يعبِّرون عن ذلك في الأزمنة الخوالي). هذا هو السبب الذي كان يدفع "كانط" أن يحتفظ في مكتبه بصورة شخصية لمفكِّرٍ -يبدو مناقضًا له تمامًا- وهو "روسو"، وكان دائمًا يذكره باحترام وحب شديد. كان يعتبر أنَّ "روسو" قد وصف هذه الحالة من البداهة الأخلاقية بدقة ومن قرب. وبهذا، وضعها في مكان أسمى من العقل، وحتى يثبت أنّ هذه البداهة معطى مباشر، يتعيّن تفكيك جميع التعالقات والتشابكات الكونية، ومن المعلوم أنّ هذا غير ممكن. وفي مجال البداهة فإنَّ هذه التشبيكات مقدّمة في هيئة مقلوبة. هذه هي المعجزة التي لا يقدر عليها سوى الإنسان. هذه المعجزة- جلاء ونتيجة اجتياح فضاء الشكل الإنساني، المؤشر إلى العنصر المقترن به.. إلى الحرية. الشكل الإنساني قناة توجد عبرها في الفضاء ظاهرة الحرية، أو الفعل الحر، ظاهرة يمكن في سبيلها أن لا تترك العلاقات السببيّة سوى الفراغ.
وكما هو معلوم، فالذريّون/ الحتميّون الإغريق عندما أدخلوا الذرّة كعنصر من عناصر منشآت العالم المدركة عقليًا، أدخلوا رأسًا الفراغ كشرط لحدوث شيء ما بشكل عام. والفراغ- هو ذلك الشيء الذي من أجله لا يمكن وجود أيّ سبب. وحينئذ يمكننا القول إنَّ الإنسان- هو ذلك المخلوق الذي يمكن أن يقع في حالات لا يتخيّلها أي سبب. وقد تساءل "ديكارت" في حينه، هل يوجد في العالم أيّ سبب للإنسان أدّى إلى انبثاق فكرة الأبديّة، فكرة الحياة الأبديّة والرغبة فيها؟ أو ليس في العالم، في ذاته وتأثيراته على الجهاز التجريبي المُدرك إنسانيًا، شيء ما يمكنه أن يختلق لغزًا أو فكرة عن الأبديّة، وينهض بها ليستحوذ على حياة أبديّة. من أين تنبع هذه الفكرة؟ والجواب يتلخص في أنَّ التفكير الإنساني خاصةً بالمعيار الذي يتحقق به -في فضاء الإنسان الممكن، يعني ذلك الذي لم يكن قط، ولن يكون، وإنما هو الآن- إنه شيء قادر على مثل هذه الحالات، التي لا يمكن تخيُّل لأي سبب استطاعت أن تكون. إنها ظاهرة الحرية التي لا يمكنها ذاتها أن تكون مادة، فهي لا تمتلك البصيرة الحاسمة، التي على أساسها نستطيع أن نقيِّم مفهوم الحرية. وبهذا المعنى، فإنَّ الحرية لا تتذاكر، وليست شيئًا يصنعه الإنسان، وإنّما هي ما يُنتج الحرية.
هنا يندرج جانب آخر من جوانب النحو الفلسفي وبنية التحديدات الفلسفية. نحن نقول إنَّ الوعي في النحو الفلسفي لا يتحدّد، وإنّما يُلفظ أو يُنطق، وإنَّ الوعي هو إمكانية الوعي الأكبر. كما هي حال الحرية بالدقة. الحرية- هي كل ما يشكل إمكانية الحرية الكبرى. وهذا يعني أنّ الحرية تُنتج الحرية فقط، وليست أي مادة أخرى قد تنتج مواد أخرى غيرها. وبهذا، تبدو شرطًا لجميع الأفعال الإنسانية الأخرى- بذلك المقدار الذي تنجز به من قبل الإنسان.
وعليه، التاريخ- الحقل الخطير المسؤول عن دراما الوجود الإنساني، الذي على ضوئه يقرر الإنسان، وهو يسير في عذاب الروح المهلك والقاسي، وأحيانًا غير المضمون بمعنى الناجح، العذاب الداخلي والانشغال الداخلي. هذه هي وشيجة التاريخ والإنسان التي تحدِّد حضورنا المعاصر. يعني تؤطِّرنا كأناس ينتمون للثقافة المسيحية والتقاليد المسيحية (وأسمح لنفسي أن أستخدم كلمة "المسيحية" هنا بمعناها المحلّي (الإيكوميني) حتى لا أضطر لتعداد جميع الديانات العالمية). وهذا الإحساس بالتاريخ كمَشاهد دراميّة للوجود الإنساني، التي تتجلّى لحظات كنوطة أخرويّة (من الآخرة)، نوطة تنفيذ ذلك الذي يتعيّن أن يُنفّذ، التنفيذ حتى النهاية هو الإحساس الأساس للإنسان الأوروبي بالمقياس الذي يعتبر الثقافة الأوروبية ليست واحدة من الثقافات إلى جانب الثقافات الأخرى، وإنّما هي مقطع آخر من الكينونة الإنسانية كما هي. وبهذا المعنى، فإنّ أوروبا ليست مفهومًا جغرافيًا، فأوروبا يمكن أن تكون في طوكيو، ويمكن أن لا تكون في تبيليسي أو في موسكو.
النص الذي جرى تخطيطه هنا، -بحسب رأيي- هو مقياس فعلي لتفكيرنا، ولتلك المفاهيم التي نستخدمها. وكثير من المسائل التي أشرنا إليها. نقول: مفاهيم المسؤولية أو احترام الإنسان لذاته. ومن هنا- احترام الآخرين، والاهتمام بما نشتغل عليه وبالعمل الدؤوب وغير ذلك- هذه جميعها لا نواجهها في حدود العقود الحالية، وإنّما مقياسها قرون عدّة، ومن خلفها تقف قوى التاريخ الفاعلة طويلًا. وإذا كنّا نفكر، فعلينا أن نفكر بمصطلحات هذه المقاييس، وإلا فإنّنا لن نفهم في القضايا الإنسانية التي تواجهنا اليوم. عندما نعيد رثي الخيوط المتقطعة لمئات السنين، ونستعيد تقاليد التفكير الممتد زمنيًّا، نستطيع أن نتفحّص التصادمات البشريّة الحاليّة، ونحدِّق في وجه الإنسان المعاصر.
- - - - - - - - - - - - -
(*) الأكاديمي: عضو الأكاديمية عن فرع من فروع المعرفة، وأعضاء الأكاديمية محدودو العدد، وكل واحد منهم يمثل الحقل العلمي المختص به، وعضو الأكاديمية عادة يكون صاحب اتجاه أو مذهب في علمه ومنهجه له تلامذة وأتباع، ولا يُطلق مفهوم الأكاديمي اعتباطًا وبشكل مبتذل كما هي الحال في ساحتنا الثقافية والفكرية.
مصدر الترجمة: كتاب "ما هو إنسانيٌّ في الإنسان"، مجموعة مؤلفين، الناشر: دار الأدب السياسي، روسيا، 1991.