د. عبدالله مطلق العساف
كاتب وأكاديمي أردني
الأردن بلد فقير بموارده التقليديّة وعلى رأسها النفط، لكنّه غنيّ بإرثه الحضاري الذي يُشكّلُ ثروة مهمّة ومستمرَّة، فالاستثمار النشيط والجيِّد لهذا الإرث في شقِّه السياحيّ، من شأنه تكوين قاعدة رئيسة لتنمية اقتصاده وثروته، وهذا الأمر يتطلّب فرض الحماية الصارمة للموروث الثقافي والعمراني للبلد من خلال منظومة قانونيّة مُلزِمة من شأنها الحفاظ على كلِّ المظاهر والمباني والمواقع الأثريّة والعمرانيّة القديمة، لحمايتِها من الهدم والتَّخريب والسَّرقة، وأعمال السَّمسرة والتِّجارة غير المشروعة.
يوُصفُ الأردنُّ بأنَّه متحفٌ في الهواء الطلق، إذ إنّه يُعدّ بانوراما حضارية وأثرية تُمثّلُ كنزَهُ الحقيقيّ على المستوى العالمي، وهو يحوي -بحسب الدراسات المختصة- على أكثر من مئة ألف موقع تاريخي وأثري تُمثّلُ الحقبات التاريخية والحضارات المتعاقبة على أرضه، وهي مُصنَّفة إلى مواقع أثرية دينية- إسلامية ومسيحية، ومواقع أثرية تاريخية؛ ما يعني أنَّ هذا التنوّع يُمكن له أن يحاكي أغلب أشكال التجارب الحضارية الإنسانية منذ أقدم العصور، وهذا من شأنه أن يُبرزَ صورةَ الأردن في التصنيفات العالمية، ولدى منظمة اليونسكو، كواحدةٍ من الدول الغنية بالإرث الحضاري الإنساني.
من هنا يمكن القولُ إنَّ التراثَ الحضاريَّ الأردنيّ -من الناحية التاريخية- هو نتاج تفاعل حضارات مختلفة خلّفها الأسلافُ؛ لتجسّدَ بصمةً أردنية خاصة من الثقافة وفنون الإبداع والعمران وغيرها، لذا فإنَّه من هذه الزاوية يحتلُّ أهمية حيوية عند الشعوب التي تمتلك مثل هذا الإرث الحضاري؛ لأنّه يُمثّل ثقافتها وحضارتها، ويُوصلُ الحاضرَ بماضيها التليد، كعنوانٍ للعراقة والأصالة والامتداد في التاريخ، كما أنّه يساعد في إقامةِ روابطِ المحبّة والمودّة بين سكان هذه البلاد بعضهم مع بعض، ويمنحهم شعورًا بالانتماء إلى جذورٍ وروابط تاريخية وثقافية ولغوية وعرقية مشتركة، ويجمعهم عند أهداف وطنية عامة.
تواجه بعض البلدان النامية أو الفقيرة مشكلة بخصوص نظرتها للتراث، عندما تَضعهُ في درجة أدنى من سلَّم أولويّاتها، وهذا ما يحدث في الأردن، إذ لا يُمثّلُ التراث سوى أهمية مُتواضعه؛ لأنَّ الجهودَ والاهتمامات تنصبُّ في الغالب على استراتيجيات الخدمات والأوضاع الأمنية والتنموية العاجلة.
بيد أنَّ هذا لا يعني التقليل من درجة الاعتناء بالتراث والنظر إليه بمنظار وطني، وبأنّه يمثّل حاجة روحيّة وحضاريّة وإنسانيّة، وحتى تنمويّة مهمة جدًا، وعليه فإنَّ العناية بالإرث الحضاري في الأردن هو مطلب مهم، فنحن عندما نلقي نظرة شاملة على الخلفيّة الوطنيّة للتراث، نجد أنَّ الموروث الحضاري في الأردن لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الاستعاضة عنه بغيره، فهو يمثل بالنسبة إلينا شخصيّة الأردن التاريخيّة والثقافيّة، بوصفه اليوم تراثًا وطنيًّا بالنسبة لنا، وهو يُشكّل في النهاية التجسيد الحقيقي للتقاليد المتوارثة من الماضي، ويبقى إرثًا لأجيال المستقبل. هذا فضلًا عن حقيقة كونه بالنتيجة يمثل إرثًا إنسانيًّا عظيم القيمة.
إنّنا نجد هناك العديد من المدن والحواضر والأماكن الأردنية، المبثوثة في جميع جغرافيا الوطن، والتي تتميّز بأصالة تراثها وعراقتها، وتُمثّلُ من منظور تنموي ورؤية استراتيجية مصدرًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فضلًا عن قيمتها التاريخية من حيث كونها خزّانًا ثقافيًا حضاريًا، يمدُّ الإنسانيّة بأوثق جذورها وحضورها على مسرح الأردن.
ومن المهم التأكيدُ أنَّ الأردن البلد الفقير بموارده التقليدية وعلى رأسها النفط، يُمكنُهُ الاستفادة من إرثه الحضاري الذي يُشكّلُ ثروة مهمّة ومستمرَّة، وأنَّ الاستثمار النشيط والجيِّد لهذا الإرث في شقِّه السياحيّ، من شأنه تكوين قاعدة رئيسة لتنمية اقتصاده وثروته، حيث من الممكن -مع بذل جهود وطنيّة- جعلُ الأردن المقصد الرَّئيس المفضَّل للسياحة الثقافيّة في منطقة الشرق الأوسط، لاسيّما أنّه ينعم بميزتين: الأولى توفُّر الأمن بصورة ممتازة، فضلًا عن طبيعة المناخ المعتدل الذي يتمتّع به، ليكون مقصدًا للسيّاح من مختلف بقاع العالم.
ولكي ينجح الأردن في هذا المجال، فلا بُدّ من فرض الحماية الصارمة للموروث الثقافي والعمراني للبلد، ودون ذلك فإنّهُ سيفقد مصدرًا مهمًّا من مصادر قوّته الاقتصادية في المستقبل، وهذا الأمر يتطلّب منظومة قانونية مُلزمة من شأنها الحفاظ على كل المظاهر والمباني والمواقع الأثرية والعمرانية القديمة، لحمايتها من الهدم والتخريب والسرقة، وأعمال السمسرة والتجارة غير المشروعة. وقد بتنا نشهد تلك الهجمة غير المسؤولة حقًا على هذه المظاهر العمرانيّة التاريخيّة من قِبَل رأس المال ونزعة السوق والرِّبح التي لا تُلقي بالًا إلى القيمة التاريخيّة والثقافيّة والحضاريّة الوطنيّة التي تمثلها هذه المعالم التاريخيّة في ثقافة ووعي وضمير الإنسان الأردني.
كما يجب سنّ قوانين من قِبل البلديات -وعلى رأسِها أمانة عمّان- تُجرِّم هدمَ المنازل القديمة أو التي يزيد عمرها عن مئة عام، والتي يجبُ أن تدخل ضمن تصنيف المباني التراثيّة، ومن الممكن منح أصحابِها مُحفّزات ومساعدات مالية واستشارية، واستخدامها في مجالات استثمارية، وعندئذٍ تتحقَّق غايتان: غاية ثقافيّة تراثيّة وحضاريّة، وغاية اقتصاديّة تنمويّة واجتماعيّة، تحقِّق مداخيل جديدة للأردنيين عبر مشاريع سياحيّة مُستدامة.
ثمَّة حقل أصيل وأساسي في التراث الوطني الأردني لا يجد الاهتمام اللازم، هو حقل ثريّ جدًا للدارسات التاريخية والاجتماعية والثقافية والأنثروبولوجيّة، ونقصد به التراث الشفوي/ الشفاهي، الذي يمكن أن يوفر مادّة غنية جدًا للباحثين والمهتمين بهذه المجالات التراثية.
ومع أنَّ هناك بعض الدراسات التي أنجزت في هذا الشأن، إلّا أنها تبقى دراسات جزئية وناقصة بالنَّظر إلى المادة التراثية التي يمكن أن توفِّر معلومات لا حصر لها، لكنَّ معالجة هذه المعلومات هي فوق طاقة الباحثين الأفراد، وهذه تتطلّب وجود جهة أو مؤسسة رسمية تُعنى بهذا الجانب من التراث ورفدها بكل الإمكانات اللازمة، ويمكنها صياغة استراتيجية لجمع ونشر هذا اللون من التراث.
إنَّ الرسالة التي يمليها الواجب الوطني على جميع المستويات الرسمية والخاصة، تقتضي اعتماد استراتيجية طويلة الأمد لإعداد البرامج والخطط العلمية السليمة التي تهدف -من جانبٍ- إلى الحفاظ على الإرث الحضاري والتراث العمراني الذي يتوافق مع أفضل المعايير الدولية، ومن جانب آخر إيجاد صناعة سياحية أردنية راقية ومتقدمة، من شأنها أن تعمل على ازدهار الاقتصاد الأردني، وتتمثَّلُ عناصر هذه الاستراتيجية بما يلي:
- قيام وحدة تُسمّى "لجنة تنسيق الثراث الوطني" لحماية وصيانة التراث الأردني ومشاريع الكشف عنه، تتمثّلُ فيها مختلف القطاعات الرئيسة في الدولة، وتقيم شراكات مع منظمة اليونسكو وغيرها من المنظمات ذات الصلة.
- دعم وزارتي الثقافة والسياحة والآثار؛ للتأكيد على إصلاح مؤسساتها وتحسين قدراتها وتدريب ملاكاتها في مجال العلوم التراثية والسياحية والثقافية.
- إعادة النَّظر في التشريعات الوطنية للتراث الثقافي والأثري والعمراني.
- دعم وزارة السياحة والآثار في إعداد سجلّ برنامج وطني للتسجيل والتوثيق، وترسيم المواقع التاريخية والأثرية، وعناصر التراث العمراني في الأردن، مع مقترح لتأسيس دائرة تسجيل رسميّة وطنيّة خاصة بالمواقع الأثرية والعمرانية القديمة، بغرض حمايتها من أيّ تصرُّف خاص.
- استدامة البحث والنشر العلمي، كرافد أساسي في إغناء الإرث الحضاري والأردني، ويمكن هنا الاقتراح بإنشاء مركز أبحاث متخصص في التراث، وتوفير الباحثين والخبراء، وعقد الشراكات مع الجهات الدوليّة، لغايات الاستفادة من الخبرات، ولغايات المنح والمساعدات.
- إنشاء دائرة وطنيّة خاصة بعمليات الترميم والصيانة والتطوير والإدارة، لجميع المواقع الأثرية والحضارية في الأردن.
- القيام بأعمال المسوحات الأثرية الشاملة، ووضع الخرائط، وتحديد الإحداثيات من أجل تسهيل عمل الدارسين والباحثين في مجال علم الآثار، وتمهيدًا لوضع استراتيجية تنقيبات أثرية مستدامة، تساهم في اكتشاف تاريخ الأردن الحضاري من جوانبه المختلفة.
- توفير رأس المال اللازم بالتعاون ما بين القطاعين الرسمي والأهلي لإنجاز المشاريع الخاصة بإعادة بناء التراث الوطني الأثري، في إطار استراتيجية شمولية يمكن أن تشرف عليها هيئة وطنية تمتلك رؤية علمية مُتكاملة.