حاورها: عِذاب الركابي
ناقد وشاعر عراقي مقيم في مصر
تَرى الكاتبة والروائيّة ليلى الأطرش أنَّ الكتابة حياة.. وعلاقتها بالكتابة علاقة حُبٍّ وشغفٍ بلا تعب.. وبلا حدود، رحلة مغامرة شاقة وممتعة؛ من الصحافة والإعلام كان سؤال الناس وأبجديّته الحيْرة.. إلى السَّرد؛ نثرها الخرافيّ، وسؤال العالم بكليّته- كما يقول "هرمن بروخ".
تقول ليلى الأطرش إنَّ "الرواية لذةُ اللّعبِ بكلماتٍ بعدَ الكلمات، والسفر عبر خيال الخيال، ونسيج إبداع لازمني بكل أنواعه، خليط موهبةٍ واحترافٍ وخبرةٍ ومعارفَ شتى.."، إذْ لا معنى برؤاها للنظريّات التي تقسّم الإبداع إلى أزمان.. كلّ إبداعٍ لهُ زمنهُ الذهبيّ الأزليّ الذي لا يتنازل عن دقيقة واحدة منهُ لآخر!
الإبداع لديها سؤال نضجُ الفكر.. سؤال استشرافي، والإجابةُ المتلهفة والظامئة خليط من الواقع المعيش والتاريخ وغموض العالم في انحيازه السافر المهين إلى الظلمة، وهو يرى دموع النور..!! وهي دون الكتابة وعطر الكلمات هدفٌ سهل للجفاف أو الموت.. والعالم دون الكتابة متاهة ومنفى...
* يا للكتابةِ من مهنةٍ شاقّةِ..! هل تقولين ذلك أحيانًا؟
- لا أعتقدُ أنَّني قلتُ هذا يومًا لأنَّ العاشق لا يتعب من الحبّ، وشغفي بالكتابة أبحرَ بي في بحور الكتابة المقروءة والمسموعة والمرئيّة، وكلّها روافد لعشق كبير بدأ من على مقاعد المدرسة الثانويّة، حين نشرَتْ بعض الصُّحف المسائيّة في القدس قصصًا قصيرة لي، وكذلك أذيع بعضها في برنامج ثقافي من إذاعة عمّان. فكتبتُ رواية لم تُنشر بعنوان "عاشوا عمري"، عن مشاكل النساء وأنا في الثانوية، لكنَّها لم تُنشر لأنَّ الناشر طلب مائة دينار لينشرها لأنّني غير مشهورة! فوضعني أمام السؤال الكبيرـ هل تسبق الشُّهرة الكتابة أم العكس؟ ونصحني قريبٌ صحفيّ أنْ أكتبَ للصُّحف لأشتهر، ثم أنشر الرِّوايات، بلْ وتبنّى مقالًا لي عن جريمة شرف اتَّهَمْتُ فيها الأهل والمجتمع بعدم العناية بالبنات- فالجاهلة يُغرَّر بها. كانت المرَّة الأولى التي تجرَّأ كاتب/ة على إثارة هذا المسكوت عنه، ولم أفعل ذلك عن قصد لأدَّعي بطولة، لكنَّني قرأتُ حادثة عن قتل فتاة في صحيفة الحياة اللبنانيّة بدعوى الشَّرف هزَّتني وأثارت غضبي. وكأنَّما ألقيتُ حجرًا في بركة هادئة، تعرَّض لي أحد الشيوخ المتعصبين، واتَّهمني بأنني أحاول إفساد الفتيات لأنني معقَّدة وأعاني الكبْت وأشياء لم أصدِّق أنه يقصدني، وفي اليوم الثاني هاجمه شاعرٌ معروف، وظلَّ المقال موضع التعليق في ضجّة لم تتوقّف، أنا لم أردّْ ولا مَن هاجمني، لكنَّها ردود القُرّاء استمرَّت حوالي شهر حتى أوقفت الصحيفة التعليقات! عرضت عليّ صحيفة "الجهاد" المقدسيّة العمل محرِّرة لصفحة المرأة وكاتبة عمود، فجرفتني الصحافة، خاصة بعد الإنجازات التي تحققت من تحقيقات قمتُ بها، وأبرزها إثارة قضيّة جمع سجينات الرَّأي والفكر مع الجنائيّات في عنبر واحد في سجن المحطّة المركزي في عمّان، وتمَّ عزلهنَّ بعده، وكذلك وضع أطفال الأسر المفكّكة مع الأحداث أصحاب السَّوابق، وتمَّ فصلهم ونقلهم إلى دور الرِّعاية. وكنتُ ما زلتُ طالبة منتسبة في السنة الجامعيّة الثانية في كلية الآداب- لغة عربيّة في جامعة بيروت العربيّة.
حين رافقتُ زوجي إلى عمله في الخليج، أعددتُ برامج للإذاعة لاقت شهرة واسع،ة ثم عُرض عليَّ العمل في التلفزيون فوافقت، وعملتُ معدَّة ومنتجة برامج! استهلكَ الإعلام وقتي، لأنَّ العَقْد "مُنتِجة ومُعدَّة ومقدِّمة"، ولم يكُن نظام فِرَق الإعداد مطبَّقًا، ولا يتوفَّر سوى البحث الشخصي أو ما يرد على أجهزة "التيكرز"! سنوات ثم تنبَّهتُ إلى أنَّ الإعلام أخذ منّي الكثير، فعدتُ إلى الرِّواية عام 1987.
* تتعدَّدُ فنون الكتابة لديكِ.. قصة قصيرة، رواية، مسرح، وصحافة وإعلام.. أليستْ مغامرة مضنية؟ أين أنتِ من كلّ هذا؟ ماذا أخذَت منكِ؟ وماذا أعطتكِ؟
- الكتابة واحدة، الموهبة والخيال والاستقصاء والمعرفة، إنْ توافرت يصبح التنقُّل بين أنواع الكتابة سهلًا! عليَك فقط تطوير معرفتك بأساليب التقنية الخاصة بكلِّ نوع، في المقالة تحديد الفكرة والمباشرة في عرضِها، "الربورتاج" تحديد الهدف والغاية قبل البدء بالبحث عن أطرافِه والصِّدق في كل ما يُقال! وفي الإعلام المرئي الذي هو لغة العصر السائدة، البحث المستمرّ عن كل جديد أو منسي أو مسكوت عنه! أمّا الكتابة للمسرح فمتعة فائقة لأنكَ تتلقّى الإعجاب أو ربَّما الرَّفض أثناء العرض!
وأعتقدُ أنَّ لي قدوة بعميد الرواية العربية "نجيب محفوظ" الروائي العربي الوحيد الذي وصل إلى "نوبل"، فقد كتب المقالة والقصة والرواية وعددًا كبيرًا من السيناريوهات للسينما. المهم تطوير الذات مع التطوُّر السريع في تقنيات الكتابة لكل نوع. وعلى الرغم من أنَّ الرواية هي ملعبي الحقيقي حيث أجد نفسي، فإنَّ الإعلام أعطاني فرصًا عديدة بالسّفر لإنتاج برامج، فوصلتُ إلى مناطق لن أفكر بالسفر إليها، وتجارب حياتيّة لا تُنسى. حملني لقاء قمم الفكر والسياسة والأدب إلى جميع الدول العربيّة وحتى موريتانيا واليمن. ولم يكن هؤلاء الكبار ليجلسوا أمامي وأناقشهم، واستعيد ما قرأته من أعمالهم وأقرأ الجديد لو لم أكن إعلاميّة، قابلتُ نجيب محفوظ وأنيس منصور ونزار قباني ومحمود درويش وأحمد سعيد وأحمد حمروش ومنصور الرحباني ومصطفى أمين وكمال الطويل وبليغ حمدي وصلاح أبو سيف وعشرات من السياسيين والمفكرين والشعراء، وما كنتُ لأحظى بهذا لولا الإعلام، فلقاء بعض هؤلاء في المؤتمرات والندوات لقاءات عابرة ومجاملات. لكنَّ الإعلام مستهلِك للوقت والتفكير، لذلك توقَّفتُ وعدتُ إلى الرواية.
* مِن كلّ فنون الكتابة الأقرب إليكِ هي الرِّواية، أيقونة الفنون لديكِ كما تقول سيرتك.. لماذا الرِّواية؟ أهي استجابة لـ"زمن الرواية" كما يروّج النقاد في آرائهم الانفعاليّة؟ أمْ هو "لقب الرِّوائي" الأكثر حضورًا وأناقة في الفضاء الثقافي العربي؟ أم هي وسيلة كسب لناشرين أكثر؟ أمْ ماذا؟
- لا أؤمن بتقسيم الإبداع الأدبي إلى أزمان في النظريّات النقديّة. لقد كتبتُ الرواية وأنا طالبة في الثانوية قبل ظهور هذا التقسيم النقدي ومعرفتي أنَّ للرِّواية زمنًا! تتلمذنا على روايات العالم دون أن يشغلنا متى حلّ زمانها أو كيف ابتدأ؟ وبالعكس كان للشِّعر زمن واضح منذ أربعينات القرن العشرين مع ثورة الشعر الحديث والتخلّي عن قيود بحور الخليل بن أحمد وأوزانها، وظهر نجوم الشعر الكبار في تنامي الاهتمام بتجارب التَّجديد في الشعر الحديث؛ نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ونزار قباني وأدونيس وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وخليل حاوي وأمل دنقل، ثم شعراء القضايا العربية، محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد، وفدوى طوقان، لكن بعد نكسة حزيران 1967 ثم حروب العراق والعدوان عليه والخلافات العربية تراجع الاهتمام بالشعر لفقدان الحماسة والثقة في جدواه، ولم تعُد قاعات الندوات الشعريّة تغصُّ بالحاضرين إلّا لقلّة منهم، وتساقطت أسماء كثيرة من شعراء كانت القضايا الوطنية جواز سفرهم إلى عالم الشعر. ولم يعُد الشعر ولا الرواية يلقى الاهتمام إلّا في المؤتمرات والندوات لبعض كتاب الرواية الكبار، حتى برزت الجوائز الماديّة الكبيرة التي أنعشت الرِّواية وأتخمتها حدّ الاختناق بالكُتّاب الموهوبين وأشباههم.
* روايتكِ الأخيرة "لا تشبهُ ذاتها" فازت بجائزة كتارا 2018، ماذا تضيف الجائزة إلى المبدع؟ أهي مسؤوليّة أكبر، وخوف من الآتي؟ أمْ حافز أكبر على الكتابة والاستمرار والتواصل؟ حدِّثيني!
- على الرَّغم من أهميّة جائزة كتارا المعنويّة والماديّة وشرط الترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية وتوزيعها؛ وهذا هو الأهمّ، والتفاتها إلى المخطوطات غير المنشورة والدعاية الإعلامية الكبيرة للجائزة، أفرَحَني طبعًا الاعتراف بالرِّواية وتسليط الضوء عليها! إلا أنَّني والحمد لله حصلتُ على عدة جوائز قبلها، جائزة الدولة التقديرية في الآداب من دولة فلسطين 2017، وجائزة أحسن رواية عن القدس من جامعة القدس، وجائزة الدولة التقديرية للآداب من المملكة الأردنية الهاشمية 2014، وجائزة تايكي لأحسن رواية أردنية 2010، وجائزة المسرح العربي الحر عن مسرحية "البوابة خمسة" 2015، وعدد من الجوائز عن برامجي التلفزيونية في مهرجانات الإذاعة والتلفزيون العربيّة. والجوائز محفِّز جيِّد للإبداع بالتأكيد، لكن اختلاط الحابل بالنابل في تقييمات بعض اللّجان، وانتقال الأمراض الثقافية إلى بعض أعضاء اللجان ممّا يثير اللّغط حول الفائزين ويقلّل من أثر الجائزة، لكنَّها بالإجمال رافعة لِمَن يحوز عليها، ومؤشِّر للقرّاء على ما يمكن أن يشتروه في فوضى النَّشر وتحوُّل النَّشر إلى تجارة مُربحة! وأعتقد أنَّ مَن يكتب رواية وفي باله جائزة لن تكون رواية جيدة حتى ولو فازت، لأنها ستكون مفصَّلة لتُرضي المذاهب النقديّة في اللِّجان! الرواية الجيدة ستفرض نفسها حتى إن لم تفُز، لكنَّ الجائزة قطار سريع يوصلها إلى القراء، وكثير من الروايات الممتازة لا ترشَّح للجوائز لأنَّ بعض شروط الترشيح لا تنطبق عليها كسنوات الإصدار وغير ذلك! أو العزوف عن الترشُّح لعدم الثقة في لجان التحكيم واهتمامهم بأسماء مرموقة أدبيًّا فتحصد أيّ جائزة تتقدَّم لها بغضِّ النَّظر عن مستوى الرواية.
* تُرجمت أعمالكِ السرديّة إلى أكثر من لغةٍ أجنبيّة، يرى بعضهم أنَّ الترجمةَ أسلوبٌ حضاريٌّ لمعرفة الآخر.. وبورخيس يراها "خيانة للأصل"، ماذا تقولين؟ كيف رأيتِ واستقبلتِ ترجمة أعمالكِ؟ مَن مترجمكِ الأمثل عربيًّا؟
- الترجمة جسر للمعرفة، وبُنيت حضارات عربية وعالمية على أكتاف الترجمة، ولولا ازدهار الترجمة في العصر العباسي، واهتمام المأمون بنقل شتى المعارف من حضارات العالم آنذاك اليونانيّة والفارسيّة والإغريقيّة، لَما ظهر علماء وفلاسفة العرب الذين كان لهم فضل تعريف الغرب الجاهل آنذاك ورفدِه بالعلوم والفلسفة والتي بنى عليها فسبَقَنا حضاريًّا، بينما لم نبرح مكاننا، ثم تراجعنا وتخلّفنا بينما العالم يسابق العلم والزَّمن!
لا أعتقدُ أنَّ في الترجمة خيانة مقصودة للنص، لكنَّ النَّقل من لغة إلى أخرى يفقد السرد بعضًا من روحه، وهناك ترجمات سيِّئة وأخرى جيِّدة تتواصل مع المؤلف لتفهم منه أجواء وروح النصّ وبعض المفردات المحليّة فيه. فتظلّ روح النصّ الأصلي وأجوائه شبه حاضرة، عايشتُ هذا عند ترجمة "امرأة للفصول الخمسة" الذي أشرف على تحرير الترجمة الأديب والمترجم الإنجليزي "كريستوفر تينغلي". اتَّصل بي مرّات عديدة مستفسرًا عن المعاني والمضامين لبعض العبارات، فكانت ترجمة تقارب النصّ الأصلي كثيرًا، أمّا الترجمة الإيطالية أو الهندية أو الكورية والصينية مثلًا أو الإيرانّية فأفرح بالغلاف ولا أدري عنها وأتركها لأمانة المترجم لأنّني لا أعرف لغاتهم.
أعتقدُ أنَّ "صالح علماني" من أفضل المترجمين. قرأتُ ترجمة لا أذكر لِمَن لرواية (الحب في زمن الكوليرا) فألقيتُها دون أن أكملها لصعوبة الأسلوب، ثم قرأتُ ترجمة صالح علماني فوصلني روح النص. وعلماني هو صاحب الفضل في إيصال خاصيّة الأجواء اللاتينية وبواطن الشخصيات كما رسمها كُتّابها، وهو مترجم فذّ رحمه الله.
* كان "حوار القلم" نافذتكِ وقناتكِ الأكثر رحابة للدِّفاع عن قضايا المرأة والحريّة والسَّلام، والتَّعريف بالأدب العربي والمُبدعين العرب.. إلى أيّ مدىً استطعتِ وسط هذه الفوضى في عالمنا بكلِّ أشكالها، تحقيق الهدف عبْر هذا المشروع الثقافي الإنساني الحضاري؟
- الدَّوْر الأساسي لأيّ مركزٍ للقلم عضو في "منظَّمة القلم العالميّة" PEN، هو مدّ جسور التَّعارف مع أدباء العالم، خاصّة في الاجتماع السنوي للمراكز كلّها، لطرح القضايا المتعلقة بحريّة التَّعبير، وتبنّي الدِّفاع عن سجناء الرَّأي من الكُتّاب والصحفيين، وقضايا التواصل عن طريق الترجمة، وقضايا المرأة؛ خاصة العنف ضد النساء. كان هناك الكثير من عدم المعرفة عند الدول البعيدة عن منطقة الشرق الأوسط، أميركا اللاتينية ودول إفريقيا وشرق آسيا ودول الغرب عامة. هناك عدم معرفة وعدم اهتمام بمعرفة ما يدور في عالمنا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وإن عرفوا فعن طريق الدِّعاية الإسرائيليّة المغلوطة، أو الصورة النمطيّة التي لا يريدون، وغير حريصين على تغييرها، خاصة بعد العدوان على العراق وما تعرَّضت له العراقيّات والأقليّات هناك على يد الجماعات الإرهابيّة.
حاولنا من خلال لجنة المرأة ولجنة السلام تقديم حقيقة الأوضاع، وكتبنا وشرحنا من خلال الموقع الإلكتروني "حوار القلم" مشاكل الكُتّاب والواقع الثقافي، وتشاركنا مع المركز الكوري في إصداره لأفضل قصص العالم، وأوضحنا الصورة الخاطئة عندهم عن واقع النساء العربيات وإنجازات الرائدات، لكنَّ تغيير الصورة النمطيّة يحتاج الوقت والعمل المتواصل، بعدما ارتبط الإسلام عندهم بالإرهاب وقهر النساء ومعاملتهنّ سبايا وحريم، وتعزَّزت الصورة بممارسات لا إنسانيّة للجماعات الإرهابيّة.
* للكاتبة والمبدعة الكبيرة ليلى الأطرش دور إعلامي وصحافي مميَّز وفاعل.. كيف تقيِّمين صحافتنا الثقافيّة اليوم؟ بعضهم يراها مرآة مهشَّمة، وآخرون يتَّهمونها بالقصور في مواكبة التفجُّر الإبداعي.. وأنَّها صحافة علاقات ومُجاملات ومنافع مُتبادلة؟ ماذا تقولين؟ وماذا تقترحين لصحافة معبِّرة جاذبة وفاعلة؟
- افتقدَتْ الصحافة الثقافيّة دورها تدريجيًّا مع انحسار مكانة الصحافة الورقيّة والقراءة بفعل الإنترنت ومواقع التواصل، ولغلاء الورق عالميًّا وقلّة القراءة وخسارة الصُّحف المتواصلة. اختفت مجلات أدبية رائدة كان لها دورها البارز في تشكيل الحالة الثقافيّة المشرقة، وانحسرت الملاحق الثقافيّة لأنَّ معظمها لم يعُد قادرًا على دفع مكافآت ماليّة للكُتّاب والنُقّاد المعروفين، وظهرت أسماء جديدة في الملاحق ضعيفة تحكمها المُجاملات كما قلت، وهي مهمَّشة فعلًا من أصحاب الصُّحف ومن الدَّعم الحكوميّ.
المنفذ الوحيد للخروج من الأزمة هو بتوسيع القراءة على الإنترنت وإنشاء مواقع متخصِّصة بالأدب والنقد لا تجامل في تقييمها وتتابع الجيد من الإبداع وتقسو على الفاشلين ليعرفوا حجمهم، لأنَّ النَّشر الإلكتروني أطارَ صواب كثيرين ممَّن يخربشون ما يعتقدون أنّه أدب، مع تخصيص مكافآت مُجزية للنقّاد والعاملين.
* حين قرأ (همنغواي) الروائي النرويجي (كنوت هامسون) وذهلتهُ بساطتهُ الشاعرة قال: (هامسون هوَ مَنْ علَّمني أنْ أكتبَ).. قولي لي لِمَن تدينين بمغامرة الكتابة؟ ومَن كاتبكِ الأقرب لرؤاكِ، وصاحب التأثير في أسلوبك السَّرديّ المتميز؟
- مبدئي تعلَّمتُه من الناقد التاريخي "خلف الأحمر" حين قال لِمَن سأله كيف يصبح كاتبًا: اقرأ ثم اقرأ ثم انسَ ما قرأتَ واكتُب! أنا أقرأ في شتى المعارف؛ الرواية والقصة في التاريخ والتراث والأديان والأساطير، والكثير من الشعر. والمتنبي شاعري المفضل. بداية شغفي بالقراءة مع روايات جورجي زيدان، قرأتُ رواية "فتاة غسان" وأنا في السابعة ولم أفهم كثيرًا من مفرداتها، لكنّني أنهيتها في سباق القراءة مع أختي الكبرى! سحرني أسلوبه في مزج التاريخ بالمشاعر الإنسانيّة! ولم أتوقف منذ ذاك عن القراءة، وكان لكلِّ مرحلة كُتّابها، وكنتُ أنشقُّ عنهم بسرعة غريبة حين أكتشف آخرين، أو أنني أنضج مع كل مرحلة، أرسين لوبين، إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي، نجيب محفوظ، جبران خليل جبران، طه حسين، عائشة عبدالرحمن، عبدالرحمن بدوي، نوال السعداوي، ثم كُتّاب الستينات جميعهم والأجيال بعدهم! وتنوَّعَت القراءات للكُتّاب العرب عبدالرحمن منيف وجبرا وأمين معلوف وكلّ ما يقع في يدي، مع اهتمامي الدائم بالأدب المترجَم خاصّة الروسي والأميركي والفرنسي وأدب أميركا اللاتينية ماركيز وإيزابيل أللندي وباولو كويللو، والروايات الحائزة على جائزة "نوبل". وحين اتَّسعت دائرة الاهتمام شملت قراءة الفلسفة والتاريخ والاجتماع، والمسرح العالمي من إصدارات سلسلة المعرفة الكويتيّة التي اهتمَّت بالمسرح. لن أقول إنَّني نبتة بريّة متفرِّدة بلا جذور، لكنها جذور امتَّصت رحيق المعرفة من أيّ أرض، ونمت وحدها فكرًا وأسلوبًا ولستُ صورةً من أحد.
* يقول السيميائي الكبير رولان بارت: "الكتابة فنّ طرح الأسئلة، وليست الإجابة عنها"، ما رأيك؟ وما سؤالك الأعظم المثير في سردِك، وهو في انتظار إجابة ظامئة؟
- صحيح تمامًا، وينطبق على تجربتي في كتابة الرواية. كل واحدة من رواياتي العشر كان بناؤها وشخوصها يحاولون الإجابة عن سؤال دفعني لكتابتها. على سبيل المثال:
روايتي الأولى "وتشرق غربا" هي إجابة عن سؤال: ما وضع الفلسطينيين في فترة الرُّكود السياسي بعد معاهدة كامب ديفيد وخروج المقاومة من لبنان؟ ماذا بعد هذا الرُّكود والهدوء الحائر؟ وكيف سيتصرَّف الناس؟ ومن خلال قصة حبٍّ بين طبيب ومعلمة ومعاناة الناس من الممارسات الوحشية للاحتلال، وهم يمسكون بالحجارة ويلقونها على الدبابات الإسرائيلية. فكانت استشرافًا لانتفاضة الحجارة الأولى عام 1987.
في رواية "صهيل المسافات" السؤال هو هل يستطيع المثقف والمتعلم إذا اقترب من السُّلطة وامتلك وسيلة إعلام مؤثِّرة أنْ يحافظَ على استقلاليّته؟ ويواجه العشائريّة والتقاليد والمصالح؟
"امرأة للفصول الخمسة"، إجابة عن سؤال مَن يصمد في وجه إغراء الثَّروة من المناضلين؟ وهل تملك المرأة ذاتها ومصيرها حين تتحرَّر اقتصاديًّا؟
"مرافىء الوهم"، طرحت التساؤل حول إعلاميّتين عراقيّة وفلسطينيّة تذهبان إلى لندن لمقابلة صحفي فلسطيني تعرَّض للخطف ومحاولة نسف صحيفته، فتواجه كل منهما ماضيها هناك، ومعهما المخرج الخليجي البوهيمي وحديثه عن مغامراته مع طالبان. السؤال: ماذا يبقى من الماضي حين تواجهه؟ وهل يمكن استعادة ما مضى؟
أمّا "أبناء الريح" فقصّة إحدى دور الرِّعاية وقصة شاب يتيم استطاع أن يتجاوز تلك المحنة ويصبح طبيبًا، لكنه يعاني فوبيا الموت وهو ينتظر طفله الأوَّل وخوفه من أنْ يعيشَ يتيمًا مثله! خوفٌ يعود به إلى الدار والبحث عن رفاق الميتم ويلتقي بهم دون محاولة للتواصل معهم بعد ذلك. السؤال: عن وضع مجهولي النسب وقانون منع التبنّي.
"ترانيم الغواية" هي التأريخ السياسي والاجتماعي والعاطفي لمدينة القدس في المتغيّرات الكبيرة التي غيَّرت مدينة القدس بشرًا وحجرًا، سقوط الحكم العثماني ثم الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي والتطوُّرات التي عاشتها المدينة منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، وتتخلّلها قصة حب محرَّم وصراع القيادات التقليدية والتعايش والتآخي المسيحي الإسلامي.
وفي آخر رواية منشورة هي "لا تشبه ذاتها" محاولة للإجابة عن دوافع الهجرة القسريّة أو الطوعيّة لمهاجرَيْن من أفغانستان وفلسطين، ومدى الارتباط بالوطن لكل منهما، رواية الخوف من المستقبل؛ من التكيُّف ومن المرض والموت.
* "الكتابة عذاب والاسترسال فيها أليم"- باسترناك.
"الكتابة المنقذ الوحيد من ضغوطات الكآبة والإحباط"- كارين بلينكس.
"الكتابة هي طريقي في أنْ أكونَ حيًّا"- ماريوبرجاس يوسا.
ما الأقرب إليكِ من العبارات الثلاث؟ ولماذا؟
- أظنُّ أنَّ عبارة ماريوبرجاس يوسا "الكتابة هي طريقي في أنْ أكونَ حيًّا" هي الأقرب.
لم أتصوَّر أيامي بلا كتابة وإنْ اتَّخَذَتْ أشكالًا مختلفة ولمتلقّين متنوِّعين، الكتابة تملؤني بالرّغبة في مواجهة الحياة، ومواجهتها وتحدّيها، والانتصار على انكساراتها.
* "حيث يوجد قلبكَ، يوجدُ كنزكَ"! قولي لي متى تُصغين لقلبِك، وتعطينه الكلمة في غفلةٍ من حرّاس العقل التتريّين؟
- يمكن الإصغاء للقلب دون تعطيل العقل، وهذا ما حاولتُ فعله في حياتي معظم الوقت بعد أن نضجت.
* كانت لكِ مشاركاتكِ المهمّة في الملتقيات والمؤتمرات الثقافية والإبداعية.. ما الذي تضيفه هذه الملتقيات للإبداع والأدب والثقافة؟ أم هي حكوميّة رسميّة لها أجندتها؟ هل يُمكن أن تؤسِّس للتواصل ولعلاقات حميمة مثمرة بين المبدعين؟ ماذا أضافت لكِ ككاتبة لها حضورها في الفضاء الثقافي العربي؟
- المثقف ليس خروفًا في قطيع لتؤثِّر عليه لقاءات حكوميّة. بالعكس، النَّدوات والمؤتمرات الأدبيّة فرصة كبيرة للتعارف عن قرب بين الكُتاب والنُقاد من مختلف الأقطار، ومناقشة ما يُقال في جلساتها الأدبيّة والنقديّة، الخطأ الوحيد دائمًا في تعدُّد الجلسات وتعارُض أوقاتها، لكنَّها ضروريّة لتقارب الوسط الثقافي العربي.
* "لا نكتبُ شيئًا خارج الذات"- مرجريت دوراس.
وروايتك "نساء على المفارق" سيرة ذاتيّة.. والروايات الجديدة أغلبها روايات سيريّة، لماذا؟ هل الرواية "الأوتوبوغرافيّة"- (رواية السيرة) هي رواية المستقبل، كما يرى هنري ميللر والعديد من النُقّاد؟ ماذا تقولين للقارئ؟
- لا يستطيع كاتب أن ينكر أنه يطلُّ على نحو ما في أعماله، ليس تجربة شخصية بالضرورة، ولكن من خلال تجاربه الشخصية وأفكاره! "نساء على المفارق" جزء من سيرتي العمليّة، حيث التقيتُ أثناء سفري الكثير بنساء كل منهنّ تمثِّل قضيّة خاصة، لكنَّها تنطبق على عموم النساء، من الفتاة الكاميرونية في جامعة "شاتام" للبنات في بنسلفانيا التي تعيش انفصامًا حادًا بين ما تسمعه يوميًّا من والدها على التلفون وترهيبها من بطش الله لو أخطأت، وبين الحياة التي تعيشها مع صديقاتها في السكن الجامعي ومفهوم الحريّة الشخصيّة الغربيّة، طرحتُ مشكلة المهاجر الذي تربض التعاليم والتقاليد على كتفيه، حارسًا يمنعه من الحركة!
وفي الجزائر التقيتُ جميلة بوباشا إحدى الجميلات الثلاث في حرب التحرير، عرفَتْها فرنسا بعد أن كتب الفيلسوفان الأشهر آنذاك "سيمون دو بوفوار" و"جان بول سارتر" كتابا عنها، ورسم "بيكاسو" وجه جميلة صورة الغلاف، وتعرَّضت للتعذيب أكثر من "بوحيرد" و"بوعزّة"، و"جميلة بوحيرد" اشتهرت في العالم العربي بعد فيلم يوسف شاهين!
ثم قتيلة الشَّرَف حين مرّت سيارة الأجرة في طريقي إلى عمّان لتحقيق صحفي بشابّة مُلقاة على طريقٍ ترابيّ، وهي ترتعش ارتعاشة الموت كديك ذبيح، قتَلَها أخوها اليافع لأنَّها هربَتْ من ظلم زوجِها دون أن تعرف إلى أين، وحين عادت درَّبوا أخاها الطفل سنوات على إطلاق النار ليقتلها، وقد فعل.
- - - - - - - - - - - - - -
(*) هذا حوار مع الكاتبة والروائية ليلى الأطرش كان على هامش "ملتقى القاهرة الدولي للرواية العربية" 2019.