هاشم غرايبة
كاتب وروائي أردني
غالبيّة القرّاء والمثقفين والأكاديميين لديهم خزانة كتب منسيّة، وملفات مطويّة في أدراج حواسيبهم. وعناوين كتب ضائعة في دهاليز الذّاكرة. الكتب التي اقتنيناها أو مررنا بها على بسطات الكتب أو رفوف المكتبات في فترات متباعدة وسياقات مختلفة عادةً ما تغيض ملامحها، وتدرس آثارها، وتنأى عن البصر لصالح الكتب المروَّج لها جيدًا، وتحظى بتغطية إعلاميّة ونقديّة واسعة. فعادةً ما نلهث -دون تمحيص كثير- وراء الجديد، والبرّاق، وما نال جوائز شهيرة، وما جمّله الإعلام والفضاء السيبراني.
يحصل أنْ نُنحّي عن سطح مكتبنا عشرات الكتب التي لا تدخل في باب انشغالاتنا الآنيّة، أو اهتمامنا المُباشر. طبعًا، الاختيار والإقصاء حق طبيعي، ولكنَّني أخصُّ هنا هذه الكتب التي نضعها على الرفّ، ونقول سنقرأها لاحقًا.. وعادةً -وهي عادة غير محمودة- لا نعود لها.
لو قمنا بنظرة سريعة على قوائم الكتب الشَّهيرة، والأكثر مبيعًا، وما تناقشه نوادي القُرّاء، وما يحظى بالتَّفاعل الأعلى عبْر وسائط التواصل الاجتماعي، لوجدنا الرِّواية في مركز الصَّدارة.
لا شكَّ أنَّ كتب الأدب وخاصّة الرِّواية والشِّعر والقصّة، تشكِّل ركنًا من أركان الفعل والتفاعل الثقافي، وهي تحظى بنصيب وافر من الجوائز الشهيرة، ولها نقّادها المختصّين، ومؤتمراتها الدوريّة، ومهرجاناتها البرّاقة، التي تعزِّز شهرتها، وتجذب القرّاء للشَّغف بها.
لكنَّ الثقافة ليست أدبًا وحسب، فهناك كتب أخرى توسِّع دائرة المعرفة، وتثير قضايا معاصرة مهمّة، وتنبِّه لما يسندنا نحن الذين نعيش الآن هنا. لكنَّها لا تتحصَّل على ما تناله كتب الأدب من تقريظ وترويج وإطراء.
وانحيازًا منّي لخزانة الكتب المنسيّة؛ تناولتُ عن رفّ الكتب المؤجَّلة ثلاثة كتب ذات مواضيع متباعدة ظاهريًّا، لكنَّها تحمل معارف مهمّة تصبُّ في جوهر الفعل الثقافي، وتُغني واقعنا الآن وهنا:
الكتاب الأوَّل: "المقدَّس والحريّة" للمفكر فهمي جدعان، وهو كتاب يبحث في أطياف الحداثة ومقاصد التحديث، ويشتبك مع مفهوم الحرية، ومواضيع الدين، والقيم، والعقل. ويرى الكتاب أنَّ الحداثة أحدثت وقائع جديدة، أقصت القريب، وقرَّبت البعيد، ونصّبت العقل إمامًا وحاكمًا، وأقرَّت حقوقًا للإنسان.. وجعلت من حقِّه الحريّة في الاعتقاد والتعبير حقًا مقدَّسًا.
يقول المؤلِّف: "أنا لستُ خصمًا للعقل، أعترفُ به وأقدِّره وأحتكم إليه في حلِّ المشكلات الشخصيّة والعامّة، لكنَّني أيضًا لا أستطيع أن أتنكّر للكينونة الوجدانيّة -الدين والقيم- في وجودي وفي وجود أيّ إنسان آخر".
الكتاب الثاني: "شاهد على الفقر" للأستاذ أحمد أبو خليل. قراءة هذا الكتاب تساعدنا في التعرُّف على الفقر والفقراء ميدانيًّا. كما يكشف النقاب عن بعض ملامح المجتمع الأردني، وتطوُّراته، وحركته الداخليّة. ويسهم في تغيير الصورة النمطيّة عن الفقراء في الأردن. ويفنِّد الفكرة السائدة بأنَّ فقراء الأردن كُسالى ومُحبَطون، واتِّكاليّون. فقد ركّز الكتاب على موقف الفقراء من فقرهم، ومبادراتهم الذاتيّة لمكافحة فقرهم. ويعرض لحالات الاحتجاج، والتنظيم الذاتي في أوساط الفقراء.
وعن "الإفقار" يقول الكاتب: "إنَّ منطق عمل البنك الدولي لا يحتمل الاعتراف بأنه يقود سياسات إفقار على المستوى الدولي، ولم ينتبه الوكيل المحلّي بوعي أو بنصف وعي، إلى أنه يمارس هو أيضًا سياسة إفقار وطنيّة".
الكتاب الثالث: "الأدب الصهيوني والاستشراق" للناقد يوسف يوسف. وهو كتاب عن التَّضليل والصُّور الاختزاليّة في الأدب الصهيوني الصادر في فلسطين المحتلّة، يتتبَّع خطوط العنصريّة الصهيونية وظلالها الاستشراقيّة في مختارات من الأدب العبري. ويقدِّم قراءات طباقيّة بين روايتين: عربيّة واقعيّة، وأخرى صهيونيّة استشراقيّة. ويربط ربطًا احترافيًّا بين النَّظرة الاستشراقيّة عند الغرب كما عرّاها إدوارد سعيد، ونظرة الأدب الصهيوني الاستشراقيّة للعربي عامّةً وللفلسطينيّ خاصّةً عبْر تطبيقات نصيّة لأدباء صهاينة.
يقول الكاتب: "إنَّما نحاول محاكمة نصوص أدبيّة: قصصيّة وروائيّة بوضعها تحت عدسة مكبِّرة، والغاية تشمل محاكمة نص المبتدأ- التوراة، التي تنعكس في النصوص الأدبية..".
كُتُب الأدب مهمّة، لكنَّها ليست كل الثقافة، فالكِتاب القادم من خارج الأجناس الأدبيّة المكرَّسة وتفرُّعاتها مهمٌّ للثقافة وللحياة أيضًا.