د. فيصل دراج
ناقد وكاتب وباحث فلسطيني
كَتَبَ الشِّعر شابًّا، تعامل معه جادًّا وهو طالب في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وانصرف عنه وغدا عالِم اجتماع، اختصَّ به طالبًا في جامعة كنديّة، وزاوَل الترجمة في طوْرٍ لاحقٍ من حياته، وأصبح عَلَمًا بين المترجمين العرب، وكوفئ بأكثر من جائزة... لكنَّ الشعر لازم روحه في حياته كلها.
كان فايز الصيّاغ شاعرًا في أسلوب كلامه البهيج، وشاعرًا وهو يحتفي بالأصدقاء، وشاعرًا وهو يحتفل بجماليّات الحياة الصغيرة والكبيرة. وكان في روحه الشاعرة يجمع بين العفويّة والبساطة، وجهٌ سموح لا يعرف الأقنعة، وسلوكٌ بلا تكلّف ينشر الكلام كما اتّفق، لا تعنيه الكلمات الجاهزة في شيء. آثر الصِّدق والتَّضامن والانفتاح على مشاكل الآخرين، وزامله الكرم كما لو كان صديقًا منذ الطفولة...
كان د.فايز الصيّاغ من تلك القلّة الرهيفة المهذبة التي تعلّم الآخرين بسلوكها. لم يعترف بصنعة الكلام الاجتماعي الهاجس بالمنفعة، ولم يأنس إلى ما يدعوه "علماء الاجتماع" بالتجمّل الاجتماعي الباحث عن رضا الآخرين. كان فايز في حياته كما أراد أن يكون، تسبقه بشاشة طليقة، يصاحبه صوت أليف ينثر كلمات ضاحكة، ينطق بها كيانه كلّه: "وَيْنك يا زَلَمة، صار زمان؟". ولم يكن "الزَلَمة" الجميل إلا فايز الذي يتعامل مع الوجود بجديّة مضمرة، إذْ الصداقة قيمة، والوفاء بالوعد قيمة أخرى، والحوار في مواضيع كتاب قيمة ثالثة. وكثيرًا ما كان يفاجئ صديقه، فرحًا، بكتاب جديد يستأنف به حوارًا سبق. علّمه الشعر الذي لازمه الألفة مع الوجود، فلا غريب إلا ما هو غريب، ولا غريب إلا ما يهدر القيم الإنسانية، ويُبضِعُ الروح باحثًا عن مصلحة، ولا غريب إلا صناعة الأقنعة التي تجعل من النفاق قانونًا، اجتماعيًا.
وكان فايز يحسن القراءة المفيدة، ويفتِّش عن الصّالح في ممارسات البشر وصفحات الكتب الصالحة. كان مثقفًا بامتياز، يحافظ على "اختصاصه الجامعي"، ويسأل عن الجديد فيه، ويتجاوز الاختصاص ويلاحق، بشغف، معارف متنوعة، أكانت في فلسفة الناقد الألماني "فالتر بنيامين"، أو خطاب "فرانتس فانون" التحرُّري، أو كتابات لبناني حصيف يدعى: فواز طرابلسي والمؤرِّخ الموسوعي الذي كسر هالة الاختصاص.
أفصح فايز، المتنقِّل بين الشعر وعلم الاجتماع وعلم الترجمة، عن فضول معرفي متجدِّد، ذلك أنَّ في التعدُّد رفضًا للأحاديّ، ونزوعًا إلى تنوّع يلبّي وجوه الحياة المتنوِّعة. لكأنَّ في تعدُّد فايز المعرفي ما يترجم فلسفته في القراءة والحياة، إذْ كل قراءة تحيل على غيرها، وإذْ وجوه الحياة المتجدِّدة توقظ اللايقين. قال لي فايز في لحظة صفاء غابرة: "لا معنى لمعرفة إلّا مقارنة بمعرفة أخرى، ولا وجود لجديد نص أدبي إلا إذا أضاءه غيره". وضحك وقال: "الناس يضيئون بعضهم بعضًا". أجبتُه: وإذا كانت أرواحهم قاتمة فماذا نفعل؟
أجاب: "نتابع المنظر، ربَّما كان فيها ضوء لم نلمحه"!! لم تسمح له روحه المُتعافية بالأحكام السريعة، ولم يكن جفاف العالم قادرًا على تعطيل ضحكته العفيّة، حتى في ساعات المرض.
جعلته فلسفته الحياتيّة المتصالحة مع مبدأ التعدُّد، شاعرًا وعالم اجتماع ومترجمًا ومثقفًا متجدِّدًا، وأبًا رحيمًا وزوجًا شغوفًا بعائلته، يذكر أولادَه بمحبّة وفخار وبفرح يعلن عن الرضا وهدوء الروح، كان في هذا كلّه صورة عن الإنسان المتكامل، الأردنيّ المُدافع عن بلده، والعروبيّ الذي يتأسّى على أوضاع أمّته، التي فقدت ما كانتْه وفقدت سُبل البحث عن بديل، وإنسان الثقافة الذي يقدِّم اقتراحات جميلة، وترحّب به المؤتمرات العلميّة في كل مكان.
سألتُه مرَّة: مَن هو المثقف يا فايز؟ أجاب بلا تلعثم: "هو الذي يتابع قضايا الشأن العام، فمثقف مغترب عن مجتمعه مغترب عن معنى الثقافة". وحين سألتُه: ما هي الثقافة يا فايز؟ قال: "الثقافة هي القيم والأخلاق وما يفصل بين الخير والشر، وهي اقتراحات معرفيّة تنشد إصلاح الخطأ وتوطيد القويم. لذا على المثقف أن يعرف الناس ويتعرّف على قضاياهم. ويتأمل "في عزلته" ما تعرّف عليه، ويبحث عن إجابة نافعة يفهمها الجميع". كان يرى في التعرُّف على قضايا مجتمعه بُعدًا معرفيًّا، لا يستقيم إلا بمساءلة ما ادَّخره المثقف من معرفة، كما لو كان بسطاء البشر يحاورون "ثقافة الاختصاص"، يحرِّرونها من المجرَّدات ويوسِّعون آفاقها بأسئلة مشخّصة.
رأى فايز الصيّاغ الثقافة حوارًا مفتوحًا بين المعايشة والاختصاص، إذْ في المعايشة إكبار للحياة، وفي الاختصاص اعتراف بالمعرفة الجادّة. وعن وحدة الطرفين صدرت صيغة: لماذا؟ تلك الحروف الخمسة الباحثة عن: السبب. فالتغافل عن الأسباب آية الفكر العقيم، الذي يأتي ويذهب ولا يفيد الإنسان في شيء، حتى يساهم المثقف في إصلاح مجتمعه عليه أن يعرف الأسباب التي تؤدّي إلى إضعافه.
حين سألته: ما سبب اهتمامك يا فايز بترجمة أعمال المؤرِّخ الإنجليزي "إيرك هوبسباوم" اليهودي ذي الأصول الشرق أوروبية؟ قال: "يفسّر المؤرخ كتاباته بشخصيّته وبمنظوره للعالم. "هوبسباوم"، كما تدلّ سيرته الذاتيّة، جادٌّ أخلاقي موضوعي ونصير للحق، يوحِّد بين المعرفة والأخلاق". تابع مبتسمًا أو ابتسم متابعًا: "لا تنسى أنه متعدِّد المعارف أيضًا. له دراسة صغيرة عن المحتاجين "قطّاع الطُّرق"، ودراسة عن "الجاز" والموسيقى، وثالثة شهيرة عن معنى التقاليد، إضافة إلى عمله الكبير عن: الثروة والثورة الصناعية ودينامية رأس المال. إنّه نموذج العالِم المختص الذي يضع معارفه في خدمة التحرُّر الإنساني. وهل هناك أجمل من بحث علمي دقيق غايته تحرير المضطهَدين من العبوديّة؟"، وأكمل شاردًا: "ليت عندنا، نحن العرب، مؤرخ يبحث في الأسباب الموضوعية التي أنتجت لنا، ذات مرَّة، نهضة وتنويرًا، وعاد واكتسحها ما أجهض الطرفين". صاغ "أمنيته" بأسى واضح أقرب إلى الانكسار.
في مسار الراحل الكبير فايز الصيّاغ ما قدَّم صورة عن الإنسان الطّليق المتعدِّد العوالم، الشَّغوف بما هو جماعي، الكاره للتقوقع الفرداني المريض. وفي حياته ما جسّد صورة المثقف الأخلاقي، الذي يكون مع البشر ومنهم، طاردًا صورة الأكاديمي الكاريكاتورية، الذي يعتبر "المعرفة المختصّة" مرتبة ومقامًا عاليًا وسلطة، ووسيلة إلى شهرة متكسّبة أو ارتزاق منشود. وفي فايز ذلك المتكامل المُشرق، الذي جعل من أردنيّته امتدادًا لعروبته، ومن عروبته مرآة لثقافةٍ جمعت، أو يجب أن تجمع، بين الشاعر الفلسطيني والرِّوائي الأردني والناقد المصري والفيلسوف المغربي.... فكما أنَّ تجزيء العروبة فعلٌ مارقٌ مشبوه الأغراض، فإنَّ تفكيك الثقافة العربيّة تعبيرٌ عن فقدان الذاكرة...
جمع فايز مزاياه المتعدِّدة ورحل فجأة دون سابق إنذار. ترك وراءه ما يدلّ عليه: بساطة مُشرقة تعلّم بلا خطابة معنى السلوك الأخلاقي، وابتسامة عفويّة تدفع إلى الثقة بالحياة، وعائلة على صورته تتوسَّطها الروائيّة المبدعة ليلى الأطرش التي نسجت معه حوارًا مثمرًا أضاء دربيهما لعقود، وأتاحا لنا معًا حوارات ممتدّة عن جماليّات وقضايا الرِّواية.
مع رحيل فايز الصيّاغ تخسر المعرفة كتابًا مرجعيًّا، ويغدو العالم من دونه أقلّ دفئًا.