د. محمد سليمان شناق
أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية
جامعة اليرموك- الأردن
تهدف الأنثروبولوجيا في مدارسها، وتياراتها واتِّجاهاتها المتعدِّدة إلى الكشف عن الدِّلالة الخاصة بالإنسان، وتنوُّع الثقافات، وتعدُّد الأنظمة، وتوالي التغيُّرات عبْر الزَّمان والمكان. فالحقيقة الإنسانيّة تشكِّل الهدف والغاية الأساسيّة في أوجه البحث الأنثروبولوجي المتنوِّعة والمتعدِّدة. وبالأحرى إنَّها تبحث في الطريقة المتفرِّدة التي يتشكَّل فيها ويتبنّاها الكائن البشري في الوصول إلى إنسانيّته وتحقيقها، وتَجَلّي جوهره الإنساني في دائرة الجماعة والمجتمع كونه عضوًا ينتسب إليهما.
تشكَّلت الأنثروبولوجيا على مرحلتين، الأولى ظهرت على شكل تصوُّر فلسفي، وأخرى على شكل علم مجتمعي. فالإنسان كان، منذ تكوُّن الفكر الخرافي في الثقافات القديمة، حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، موضوعًا فلسفيًّا، ولطالما كانت الماهية الإنسانية مطلبًا حيويًّا في كل فلسفة حقيقة جادّة عبر التاريخ، وقد تبدَّت هذه الروح الفلسفية في مقولة سقراط الشهيرة "أيها الإنسان، اعرف نفسك!"، وعند "جان جاك روسو" في كتابه "الإنسان النبيل"، وكذلك عند الفلاسفة العرب والمسلمين الذين كان الإنسان محور الفلسفة عندهم.
وقد اتَّخذ هذا الهاجس الفلسفي صورًا متعدِّدة، تعبِّر عن مدى التنوُّع في التيارات الفلسفية منذ القدم، ولكنه يتَّخذ اليوم صورة جديدة تتجلّى في استبصار الحقيقة الإنسانية المتفرِّدة المتجذِّرة في الجماعات التي ينتسب إليها الإنسان على اختلافها وتنوُّعها.
وهذا يعني أنَّ الفلسفة الإنسانية اليوم تركِّز اهتمامها في استكشاف العلاقة الفريدة بين الفردي والاجتماعي، أي بين ذاتيّة الفرد وخصوصيّته وبين الطابع الاجتماعي للوسط الذي يعيش فيه؛ أي بين الخصوصيّة والغيريّة، بين الأنا والآخر في أفضل تعبير.
وفي هذا السياق يمكن القول إنَّ الأنثروبولوجيا تضرب جذورها في التاريخ الفكري للإنسانية قبل أن تتَّخذ هيئة معرفة علميّة بالمقاييس الموضوعيّة التي تجلّت في المدرسة الغربية بمعنى العلم الحديث ودلالته، وأدواته المبنيّة على التجربة والبرهان.
إنَّها تتجلّى في أدبيّات الإغريق القديمة، لا سيّما في الأوصاف التاريخية التي قدَّمها هيرودوتس للثقافات القديمة بعدما قام بزيارات ميدانيّة لأكثر من ثلاث عشرة ثقافة ومجتمع، وقد أسّس أوَّل متحف إثنوغرافي في التاريخ مبيِّنًا فيه التنوُّع الثقافي لهذه الثقافات، وتجلّت كذلك في تاريخ الرحّالة العرب والوصف الإثنولوجي والإثنوغرافي اللذين قدَّموهما عن الثقافات الإنسانية وعن الأمصار التي زاروها وتعايشوا معها وكتبوا عن ثقافاتها في كثير من الكتب والرسائل التي كانوا يرسلونها إلى مركز الخلافة (المخزن)، أمثال: ابن فضلان والمسعودي والمقدسي، وغيرهم. وخطّوا نوعًا من الأدب يُعرف بأدب الرحلات، مستعرضين في كتبهم صورًا إثنوغرافيّة وأدبيّة راقية عن الثقافات القديمة في مشارق الأرض ومغاربها. ولكن الأنثروبولوجيا لم تشهد ولادتها علمًا إلّا في القرن الثامن عشر مع انطلاقة البحث في ماهيّة المجتمعات القديمة.
يؤكِّد أحد الأنثروبولوجيين الأميركيين أنَّ الطريقة المثلى للتعريف بالأنثروبولوجيا، تتجلّى في أن يقدِّم الأنثروبولوجي صورة لعملِه الميداني بصورة موضوعيّة دون تحيُّز، وبعيدًا عن إغفال نفسه فيها. وخير تعريف يمكن أن يقدَّم، يتمثَّل فيما جادت به قريحة الباحثة الأميركية "مارغريت ميد" (1901-1979) في تعريف الأنثروبولوجيا بقولها: "نحن نَصِفُ الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية عبر الزمان وفي كل مكان. ونحلِّل الصفات البيولوجية والثقافية المحلّية، كأنساق مترابطة ومتكاملة ومتغيّرة، وذلك عن طريق مقاييس ونماذج ومناهج متطورة، كما نهتمّ بتحليل وتصنيف الأنساق والبنى والنظم الاجتماعية والتقنية "التكنولوجيا"، المادي والمعنوي فيها، ونعنى كذلك ببحث الإدراك العقلي والصور الذهنية للإنسان ومبتكراته ومعتقداته ووسائل اتِّصاله"(فهيم، 13:1986).
"يُمكننا أن نعتبرَ الأنثروبولوجيا علمًا حديثًا يقرب عمرُهُ من قرن وربع القرن تقريبًا، كما نستطيع، بعين الوقت، أن نعتبرها من أقدم علوم البشر. فالجامعات لم تبدأ بتدريس الأنثروبولوجيا إلا حديثًا جدًا. فقد عُيِّن أوَّل أستاذٍ لها في جامعة أوكسفورد، وهو "السير إدوارد تايلور" عام 1884، وفي جامعة كمبرج، عُيِّن الأستاذ "هادن" في عام 1900، وفي جامعة لفربول، كان "السير جيمس فريزر" في عام 1907. وعُيِّن أول أستاذٍ لها في جامعة لندن في عام 1908، وفي الجامعات الأميركيّة في عام 1886.
ولأنَّ الأنثروبولوجيا تعنى بدراسة النظريات التي تتعلق بطبيعة المُجتمعات البشرية، فإننا نستطيع أن نعتبرها، من جهة أخرى، من أقدم العلوم. إذ هي بدأت مع أقدم تأمُّلات الإنسان حول تلكَ الموضوعات. فلقد قالوا مثلًا: إنَّ المؤرّخ الإغريقي (هيرودوتس) "أبو الأنثروبولوجيا" كما هو "أبو التاريخ"، لأنهُ وصفَ لنا بإسهاب، التكوين الجسمي لأقوام قديمة كـ(السيثيين) وقدماءَ المصريين وغيرهم من الشعوب القديمة، وصوَّر أخلاقهم وعاداتهم. كما كتب المؤرخ الروماني (تاكيتس) دراستهُ المشهورة عن القبائل الجرمانية. حتى البابليين قبل "هيرودوتس" بزمن طويل، جمعوا في متاحفَ خاصة بعض ما تركه السومريون من أدواتٍ ومخلّفات. وكما هو معروف بين الدارسين الاجتماعيين أنَّ ابن خلدون هو مؤسِّس علم الاجتماع العربي، إلّا أنَّنا في الأنثروبولوجيا نصفه بأنّه "أبو الأنثروبولوجيا" بسبب المنهج الذي اتَّبعه في كتابة التاريخ.
إنَّنا نستطيع أن نعتبر القرن الثامن عشر نقطة بدءٍ مناسبة للأنثروبولوجيا. نشهد بعدها ظهور العناصر المكونة لهذا العلم. فآراء "مونتسكيو" في كتابهِ الشهير (روح القوانين) عن المجتمع وأسسه وطبيعته. وكتابات "سان سيمون" وإدعاؤه وجود علم للمجتمع، وآراء "ديفيد هيوم" و"آدم سمث" ونظرتهما إلى المجتمعات باعتبارها تتكوَّن من أنساق طبيعية، واعتقادهما بالتطوُّر غير المحدود، وبوجود قوانين لذلكَ التطوُّر، كل تلك التأمُّلات والآراء حَوَت بلا شك البذرات الأولى والمكوِّنات الأساسية التي نمت في القرن التاسع عشر، فكوَّنت المدراس الأنثربولوجية الكبيرة.
وبعدَ مُنتصف القرن التاسع عشر بدأت الكتب القديمة في الأنثروبولوجيا بالظهور في أوروبا وأميركا. وكانَ أبرز تلكَ الكتب كتاب "السير هنري مين" (القانون القديم) عام 1861 وكتابه عن (المجتمعات القروية في الشرق والغرب) (1861)، وكتاب "باخوفن" عن (حق الأم) عام 1861، وكتاب "فوستل دو كولانج" عن (المدينة القديمة) 1864، وكتاب "ماكلينان" عن "الزواج البدائي" عام 1865، وكتاب "السير إدوارد تايلور" المُسمى (أبحاث في التاريخ القديم للجنس البشري) عام 1865 وكتابه الآخر عن (الحضارة البدائية) عام 1871، وكتاب "لويس هنري مورجان" عن (أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية) عام 1870، وكتاب "المجتمع القديم" في عام 1877، وكتاب فريدريك إنجلز "أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة"، في عام 1884(فهيم 1986:33).
كما ظهرت في الوقت نفسه مدرستان كبيرتان من مدراس هذا العلم، هما "مدرسة القانون المقارن" و"المدرسة التطورية". فأفاد رجال المدرسة الأولى في الأنثروبولوجيا كثيرًا حين انصرفوا إلى دراسة القانون المقارن، حيث اهتموا بصورة خاصة بالقانون القديم وقوانين الشعوب البسيطة. كما تأثرَ رجال المدرسة الثانية "التطورية" بنظريات "لامارك" و"دارون" في التطور البيولوجي، فأقاموا نظرياتهم في التطور الثقافي والاجتماعي على النحو نفسه.
وفي مطلع القرن العشرين برزت في الأنثروبولوجيا أسماء ضخمة مثل "السير جيمس فريزر"، و"إميل دوركهايم"، و"راد كليف براون"، و"مالينوفسكي"، و"إليوت سميث"، و"رفرز". كما ظهرت مدارس أنثروبولوجيّة مهمّة مثل: (المدرسة الانتشارية للحضارات الإنسانية) و(المدرسة الوظيفية) و(الوظيفة البنيوية)، وجميعها هاجمت ودحضت "المدرسة التطورية"، هذا إلى جانب (المدرسة البيئية)، وهي مدرسة قديمة مستمرّة الوجود.
إننا نستطيع أن نعتبرَ نقطة البدء الحقيقية للأنثروبولوجيا هي القرن العشرين، التي تمثلت بظهور أسماء ضخمة من عباقرة الأنثروبولوجيا، إضافة إلى مؤلفاتهم في هذا الشأن. ناهيكَ عن بروز المدارس الأنثربولوجية المهمّة التي ساعدت في نموّ وتطوير هذا العلم الخصب.
ثمة قضية معيّنة هنا، وهي أنَّ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا علمان متقاربان متشابهان، بحيث "لا يمكن للباحث الفصل أو التمييز بينهما لشدّة تقاربهما، لذلكَ فإنه من الأنسب تعيين نقاط الاختلاف بين هذين العلمين لمعرفة اتِّجاه كل منهما في الدراسات الاجتماعية"(ويكيبيديا الموسوعة الحرة).
ويذكر أحد المفكرين الفرنسيين أنَّ كلمة أنثروبولوجيا ظهرت في كتابات علماء الطبيعة في القرن الثامن عشر لتعني دراسة التاريخ الطبيعي العينيّة للإنسان المبني على التجريب، وأنَّ عالم الطبيعة الألماني "بلومنباخ" كان أول مَن أدخل هذا المفهوم في مناهج التدريس الجامعي كما استعملها في كتابه (التنوعات الطبيعية بين البشر) الذي نشر في عام 1795(الحداد والنجار، 1990).
ويذكر "بواتييه" أيضًا أنَّ الفيلسوف الألماني "كانط" هو الذي أشاع استعمال هذه الكلمة بعد أن وظَّفها في كتابه المعروف "الأنثروبولوجيا من منظور عملي"(فهيم 15:1986). وعليه تُعرف الأنثروبولوجيا من حيث الأصل والجوهر بأنها علم الإنسان أو علم الأُناسة، وهو علم يقوم على دراسة الكائنات الإنسانية في سياق النظم الثقافية التي تحيط بهم على نحو كلي في المجتمع.
وتنطلق هذه التسمية من دلالة الأصل اللغوي لمفهوم الأنثروبولوجيا في اللغة اليونانية الذي يتكوّن من دمج كلمتين يونانيّتين هما "Anthropos" وتعني "الإنسان" و"Logos" وتعني "علم"، وتأسيسًا على هذا المصدر الاشتقاقي تعرف وتترجم الأنثروبولوجيا بأنها علم الإنسان أو علم الأُناسة. وهذه الدلالة لا تقف عند حدود الاشتقاق اللغوي فقط، بل تنطلق أيضًا من الدلالة الموضوعية لهذا العلم الذي يجعل من الإنسان في مختلف صوره وتمثُّلاته وتجلّياته الإنسانية موضوعًا لدراسته وتتبُّع التحولات والتقصي المستمر في ثقافته (Crawitz, 1983: 18). وهي وفقًا لهذا التصوير تركِّز بالضرورة على الظروف الاجتماعية التي تحيط بالبشر وعلى طبيعة العلاقة التي تربط بين الناس والوسط الذي يعيشون فيه على نحو شمولي.
وقد انطلقت الأنثروبولوجيا من دراسة المجتمعات البسيطة في بداية الأمر، وعُرِّفت بأنها علم المجتمعات "البدائية" بامتياز، حيث شكّلت هذه المجتمعات الموضوع المركزي لمختلف الأبحاث والدراسات الأنثربولوجية، خصوصًا في مرحلة النهوض والانطلاقة؛ وهذا ما يؤكده بعض الأنثروبولوجيين بقولهم إنَّ ما يميِّز هذا العلم عن العلوم الأخرى هو تركيزه على المجتمعات البشرية البسيطة "البدائيّة".
ونظرًا لعمليّة التمدين وانحسار المجتمعات البسيطة والتقليدية الهائل والتي شملت مختلف الجماعات والثقافات والشعوب على الأرض، اضمحلَّت الجماعات البسيطة "البدائية"، وهي في طريقها إلى الاختفاء والتلاشي ثقافيًّا، فتحوَّلت الأنثروبولوجيا إلى دراسة الجماعات والثقافات التقليدية غير البسيطة، كالريف والقرية والبدو الرحّل والفئات الاجتماعية والأقليات الدينية والعرقية، واتَّسع مجالها ليشمل مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية؛ السياسية والاقتصادية والمعرفية والقيم والهويات وعمليات التنمية والتحضُّر وعمليات التنشئة والقضايا التربوية.
ويندر اليوم أن نجد قطاعًا اجتماعيًّا ينفلت من دائرة الرصد والبحث الأنثربولوجي. وفي دائرة هذا الاتساع ظهرت فروع أنثروبولوجيا متعددة يصعب حصرها مثل: الأنثروبولوجيا الثقافية، والأنثروبولوجيا الريفية، والأنثروبولوجيا الحضرية، والأنثروبولوجيا التربوية، والأنثروبولوجيا النفسية، والأنثروبولوجيا الطبيعية أو الفيزيقية، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، ودراسة العائلة والقرابة، والأنثروبولوجيا البيولوجية، والأنثروبولوجيا السياسية، والأنثروبولوجيا التنموية، والأنثروبولوجيا البدوية، وأنثروبولوجيا المدينة، والأنثروبولوجيا المعرفية، والأنثروبولوجيا الطبية، والأنثروبولوجيا التطبيقية، إذْ ظهرت في عقد الثمانينات من القرن العشرين. ومع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحالي أي الحادي والعشرين، ظهرت الأنثروبولوجيا الرقميّة، وهي في تنامي سريع ومستمرّ بحيث يصعب السيطرة على هذا المجال وعلى تشعُّباته وأدواته.
وبدأ كل فرع من هذه الفروع يشكّل علمًا مستقلًا بذاته، له خصائصه ومناهجه وحقله الخاص ومؤسساته ودوريّاته ونشاطاته الميدانيّة.
وتختصّ الأنثروبولوجيا بوجه عام بعدد من السّمات الأساسيّة التي تميِّزها عن العلوم الأخرى، وأهمّها:
• تركز الأنثروبولوجيا على دراسة جماعات خاصة من حيث التكوين والوظيفة، مثل: الجماعات البسيطة، الجماعات الريفية، العرقيات الإثنية، والأقليات، وتتميَّز هذه الجماعات بأنها بسيطة وشفافة وصغيرة وقليلة الكثافة، ويبدو أنَّ هذا التركيز كان واضحًا جدًا في مرحلة التأسيس والنهوض.
• اعتماد الأنثروبولوجيا على طرق وأدوات خاصة؛ الإقامة في الميدان، الملاحظة بالمشاركة والمقارنة، والوصف الحيّ للظواهر المدروسة، والدراسات المكثفة لمجموعة محدّدة. وتركز على نحو خاص على البحث بالمُعايشة الذي يتطلّب اندماج الباحث الأنثربولوجي في الوسط الثقافي والاجتماعي للجماعات التي تُدرس من قِبَلِه.
• تعتمد الأنثروبولوجيا الطابع الشمولي والكلي في دراستها للمجموعات البشرية الخاصة. ويركز هذا المنهج على دراسة المجتمع دراسة كلية تشمل عقائده، وشعائره، واقتصاده، وسياسته وتكويناته الفيزيائية والطبيعية والتاريخية بالإضافة إلى كل الأنشطة التي تنمّ عن سلوك الفرد كونه عضوًا في مجتمع.
وتعدُّ الأنثروبولوجيا بصورتها الأكاديمية أحدث العلوم الاجتماعية على الإطلاق، وقد ولدت في نهاية القرن الثامن عشر في نسق من الدراسات التي خصصت لدراسة المجتمعات البسيطة المنعزلة أو التقليدية القديمة، كما ذكرنا سابقًا، وقد تطورت بصورة متوازنة مع علم الاجتماع، حيث تمحورت حول المجتمعات البسيطة بما عُرف عن هذه المجتمعات من تجانس وتناغم وشمول، في الوقت الذي اهتمَّ فيه علم الاجتماع بدراسة الظواهر الاجتماعية المعقَّدة والمتناقضة والتي أصبحت ظواهر مرضيّة تعاني منها المجتمعات المعقدة (مجتمع المدينة) مثل الإدمان، والانتحار، والعنوسة، والبطالة التي تشكل مظاهر مرضيّة مبنيّة على تصوُّر وتحليل كمّي.
وعلى الرّغم من الاختلاف في المنهجية وعمليات التحليل والاعتماد على التحليل الكمي في علم الاجتماع، تعتبر موضوعات البحث متقاربة، فالتطور البحثي لكلا العلمين ينمّ عن تقارب كبير في القضايا والموضوعات التي يجترحها كل من متخصِّصيهما، ويشمل هذا التقارب دراسة البنى الاجتماعية والعمليات الاجتماعية، مثل دراسة الطقوس والظواهر الرمزية والعلاقات الاجتماعية والتمثلات الاجتماعية والتصورات الذهنية والتنمية والبيئة.
في الماضي كانت المجتمعات البسيطة تشكِّل الموضوع الحيوي للأنثروبولوجيا، ومع غياب هذه المجتمعات اليوم –كما أسلفنا- ترتَّب على الأنثروبولوجيا ومختصّيها، أن يطوروا من أدواتها والبحث عن موضوعات أخرى ولكنها تحمل بعض السمات العامة لموضوعها الأساسي في دراسة المجتمعات البسيطة والأوليّة والتقليديّة. وتأسيسًا على هذا الواقع فإنَّ الأنثروبولوجيا تجد وحدتها في التركيز على دراسة الظواهر التي تستجمع في ذاتها خاصتي التفرُّد والشموليّة، والبساطة، وهي تختلف فيما يتعلق بالكيفيات المنهجية التي توظفها في عملية البحث الأنثروبولوجي(Martinez-Verdier, 2004).
ويمكن في هذا السياق التمييز بين الأنثروبولوجيا الفلسفية وبين الأنثروبولوجيا التي ترتكز على المبادئ والأسس العلمية؛ فالأنثروبولوجيا الفلسفية تركز على دراسة الأصول النظرية والفكرية، كما توظف طاقتها النقدية والمفاهيم في تناول مختلف القضايا والمسائل الأنثروبولوجية؛ وعلى خلاف ذلك فإنَّ الأنثروبولوجيا التي تقوم على الأسس العلمية تأخذ طابعًا تطبيقيًّا "أمبيرقيًا"(تجريبيًّا)، وميدانيًّا، إذْ تعمل على تحليل الظواهر الاجتماعية بصورة ميدانية ومنهجية، متمحورة على التحليل النوعي للبيانات. واستطاعت الأنثروبولوجيا العلمية أن ترتقي إلى مستوى العالمية بفضل الأبحاث والدراسات المكثفة وبفضل المنهجيات المتقدمة والمتجددة التي توظفها في تناول قضاياها ومسائلها الحيوية.
ومن الواضح تمامًا، أنَّ الأنثروبولوجيا تستجيب لتحديات علمية كبيرة ومعاصرة في المستوى الاجتماعي والمعرفي (الأبستيمولوجي) والنظري. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الأنثروبولوجيا قد استفادت من معطيات العلوم الاجتماعية التي ترتبط معها بأواصر القرابة والتداخلية بين التخصصات مثل؛ (علم الاقتصاد، وفلسفة التربية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم التاريخ)، ولكنها في المقابل تقدّم لهذه العلوم تصوّرات مهمة وحيوية لتطور هذه العلوم في مجملها، وهي تسعى إلى تحقيق التقارب العلمي بين هذه العلوم المختلفة، للوصول إلى مقاربة معرفيّة لعالم الإنسان.
• لمحة تاريخيّة إلى نشأة الأنثروبولوجيا
يصنِّف بنيامين (Penniman, T, K 1965) في كتابه "تاريخ الأنثروبولوجيا في مئة عام" الأنثروبولوجيا إلى خمسة أقسام:
المرحلة الأولى وهي المرحلة التمهيدية التاريخية لهذا الفرع العلمي وتبدأ منذ العصور التاريخية الإغريقية وتنتهي في عام 1838، وتتمثَّل هذه المرحلة بالأوصاف الأدبية للحضارات القديمة والتأمُّلات الفكرية الخالصة في طبيعة الإنسان وحقيقته.
وتأتي المرحلة الثانية في الفترة بين (1835- 1859) حيث بدأت الأنثروبولوجيا تأخذ صورة معرفة علمية بطابع تأمُّلي فلسفي.
وفي المرحلة الثالثة أصبحت الأنثروبولوجيا على هيئتها علمًا أكاديميًّا في الفترة ما بين (1859- 1900).
وتعتبر المرحلة الرابعة مرحلة التأصيل العلمي الأكاديمي والتي تقوم على الأسس العلمية، وامتدَّت بين عامي (1900- 1935).
أمّا المرحلة الخامسة التي بدأت عام 1935 وحتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي، فتوصف بأنها مرحلة التأصيل والتثبيت ومرحلة ظهور الفروع العلمية الجديدة لهذا العلم(فهيم، 1986).
ويتضمَّن تاريخ الأنثروبولوجيا نخبة من الروّاد والمفكرين الذي رسّخوا دعائم هذا العلم وأصّلوا حضوره الكبير بين العلوم الإنسانية. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى "فرانس بواس" (1858- 1942) بوصفه مؤسسًا للأنثروبولوجيا الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية، وفيها تألق نجم الأنثروبولوجي المشهور" لويس هنري مورجان" (1818- 1881)، الذي يُعدُّ أول الباحثين الذين نزلوا إلى الميدان الأنثروبولوجي لدراسة الظواهر الأنثروبولوجية ليقدم بحثه المشهور "المجتمع القديم"، وبحثه المعروف "جماعات الإيركواز" (1851) و"المجتمعات القديمة" (1866).
ومن أجل إجراء دراساته الأنثربولوجية أقام في الميدان، وكان عليه أن يعيش مع الهنود "الإيركواز" ليصف حياتهم ويدرس ثقافتهم وعلاقاتهم وكل ما يتصل بوجودهم الإنساني والثقافي، واعتمد في دراساته هذه على المناهج والأدوات الأنثروبولوجية التي رسخها "فرانس بواس" (1877) و"وليام هانس ريفارز" (1864- 1922) التي اتَّصفت بدقتها وفعاليتها. وقد أسهم عدد آخر من العلماء في تطوير هذا العلم فيما يتعلق بمنهجيته وأبحاثه وتطلعاته ونتائجه، ويشار في هذا الخصوص إلى أعمال "مالينوفسكي" (1884– 1942) في كتابه المشهور "الأسس الأنثربولوجية للثقافة"، الذي نشر في عام 1950، وفي بريطانيا ظهرت أسماء كبيرة مثل: "إدوارد تيلور" (1832- 1917) و"رادكليف براون" (1881– 1955)، و"إيفانس ريتشارد" (1873– 1817)، و"ماير فورتيس" (1906– 1983)، أمّا في فرنسا فقد كان من أبرزهم "مارسيل موس" (1872– 1950) وكذلك "ليفي ستراوس" (1908– 2009)، وأخيرًا "بيير بيرديو" (1934– 1977).
إنَّ الأنثروبولوجيا لديها إمكانيات لسبر عمق الواقع، ودراسته دراسة عميقة جادة تمكِّن صانع القرار من اتخاذ القرارات المناسبة، وتساهم بشكل فعال في تشخيص المشاكل والقضايا الاجتماعية التي تواجه مجتمعنا، من قضايا متعلقة بالتغيُّر السريع الذي يطرأ عليه بفعل الأزمات المختلفة والتي تحتاج إلى دراسات فاحصة ملامسة إلى الواقع الذي نعيش فيه دون الاعتماد على حلول مستوردة من مجتمعات تختلف عنّا في الثقافة والعادات والتقاليد وطرق المعالجه. وهنا أودُّ الإشارة إلى أنَّ دور الأنثروبولوجيا أساسي ومفصلي في التصدّي إلى جائحة "كورونا" (كوفيد-19) التي ألمَّت بمجتمعنا، ونحتاج إلى أفعال وجهود متكاملة لتحصين أنفسنا من هذا الوباء وما يمكن أن يتبعه من تداعيات كارثيّة (لا سمح الله)، يجب الاستشعار بها قبل فوات الأوان.
• المراجع:
- الحداد، محمد سليمان ومحمود يوسف النجار (1990)، مدخل إلى الانثروبولوجيا، جامعة الكويت، الكويت.
- فهيم، حسين (1986)، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في تاريخ علم الإنسان، عالم المعرفة، العدد 98، فبراير شباط.
Atkinson Macmillan P., & Delamont S. & Hammersley M. (1988) Qualitative Research Traditions: A British Response to Jacob”, Review of Educational Research-58-2, 231-250
Crawitz Madeleine(1983)
Lexique des sciences socials , Doloz, Paris
Herskovits Melville J. (1950)
Les bases de Panthropologic culturelle, Paris: Francis Maspero Editeur, 1967, 331 pages. Collection: Petite collection Maspero, no 106.
Mead M (1928)
Coming of age in Samoa, New York, William Morrow & Co OKANO K. 1997
• Martinez-Verdier Marie-Louise.(2004).
Approches(s) anthropologique(s) en education et en formation, enjeux et defis », Trema [En ligne], 23 | 2004, mis en ligne le 04 mars 2010.
• Penniman, T.K. (1965).
A Hundred Years of Anthropology London: Gerald Duckworth and Co. Ltd
Spindler, G.D. (1955)
Education and Anthropology, Stanford University Press
https://ar.wikipedia.org/wiki/