د. محمد المسعودي
كاتب مغربي
جاءت رواية "الحياة من دوني" للمغربيّة عائشة البصري نتاج اطِّلاع على قضايا المرأة عبْر قراءاتها ومن خلال سماعها عن تجارب نساء عشن بين المغرب وبلاد شرق آسيوية محنة الحرب وتبعاتها، واتَّخذت البصري منها أفقًا لتشكيل متخيّلها السردي عن الحرب الصينية- اليابانية، وما ترتَّب عنها من ويلات خلال أواخر الثلاثينات وبدايات الأربعينات، وتركِّز على معاناة الشخصيّة المحوريّة وأختها وأسرتها، بما يمكن اعتباره مُنطلَقًا لتشكيل نظرة فنيّة مُقنِعة عن بعض قضايا المرأة في عصرنا الحديث، وفي أزمنة الحروب.
تَتَّخذ الرِّواية في تفاعلِ كاتبها مع الوجود والحياة، وفي صياغتها فنيًّا منحيين في الغالب الأعمّ:
- منحى ينطلق فيه المبدع من تجاربه الحياتيّة اليوميّة المباشرة، أو من تجارب أناس عرفهم وعاش معهم، وسمع معاناتهم، ولهذا تكون الرواية في هذه الحال نتاج تجربة ومعايشة، لكن الخيال يحضر ليشكِّل منها نصًّا إبداعيًّا فنيًّا.
- منحى ثانٍ يستند إلى مقروء المبدع وتمثُّله لتجارب الآخرين من خلال التمرُّس بالنصوص الإبداعية والاطِّلاع على الوثائق والآثار، فتكون الرواية نتاج تجربة قرائيّة يغنيها المتخيَّل، أيضًا، ويؤدّي فيها دورًا فعالًا لإنتاج النص الروائي.
وقد عرفت الرواية المغربية منذ بداياتها هذين المنحيين في الكتابة السردية، وحضرا لدى الكتاب المغاربة إنْ بشكل أو بآخر. ولا بدَّ، هنا، من تأكيد ما أشرنا إليه أعلاه من أنَّ المنحيين معًا يتخذان من المتخيَّل أساسًا للإبداع، لأنَّ الرواية فنّ لا نسخ للحياة والواقع. فهي تمثيل متخيَّل لبعض مناحي الحياة يوهمنا بواقعيّة ما يصوِّره.
ورواية "الحياة من دوني"(*) للشاعرة والروائيّة المغربيّة عائشة البصري اتَّخذت المنحى الثاني أفقًا لتشكيل متخيّلها السردي، بحيث جاءت روايتها نتاج اطِّلاع على قضايا المرأة ومعرفة بحالات إنسانية نسائية عبْر قراءاتها، ومن خلال سماعها عن تجارب نساء عشن بين المغرب وبلاد شرق آسيوية محنة الحرب وتبعاتها على النساء والرجال على السواء. ومن هذا الأفق كانت هذه الرواية "أنشودة فقد" عزفت على بلاغة الحنين وغاصت في تجسيد أثر ويلات الحروب على روح المرأة وجسدها. فكيف تمثَّلت الرواية تراجيديا الحرب؟ وهل تمكَّنت من تصوير معاناة المرأة زمن الحرب؟ وكيف عملت "بلاغة الحنين" على تشخيص لوعة الفقد وآثاره الروحيّة والجسديّة؟
ذهبت رواية "الحياة من دوني" إلى بيئة بعيدة عن المغرب، إلى شرق آسيا: الصين والفيتنام واتَّخذت منهما مكانًا لجريان الأحداث وتطوُّرها، كما يحضر فضاءان آخران هما فرنسا (باريس) والمغرب (الدار البيضاء)، وذلك لترصد معاناة شخصيّتي الرواية المحوريّتين: "قوتشين" و"جين مي" زمن الحرب الصينية- اليابانية، وزمن الحرب الفيتنامية- الفرنسية، وزمن الحرب العالمية الثانية. وبهذه الشاكلة تضعنا الرواية منذ صفحاتها الأولى في بؤرة الأحداث الدامية، وتركز على تصوير تراجيديا الحرب وآثارها المدمرة لنفسية المرأة وروحها قبل جسدها. وعبْر تصوير هذه التراجيديا تُمعن الرواية في بلورة "أنشودة الفقد" ولوعة الاغتراب الوجودي لدى بطلتها "قوتشين". كما تجلي بلاغة الحنين وحلم العودة إلى الوطن الأم بعد طول تغرُّب واغتراب.
تعود أحداث الرواية في صفحاتها الأولى إلى تصوير بعض مشاهد الحرب الصينية- اليابانية وما ترتَّب عنها من ويلات في المجتمع الصيني خلال أواخر الثلاثينات وبدايات الأربعينات من القرن الماضي، غير أنها تركز على معاناة الشخصية المحورية "قوتشين" وأختها "جين مي" ومَن ارتبط بهما من الشخصيات الروائية. ومن هنا كانت حكاية أسرة "قوتشين" و"جين مي"، وما تعرَّضت له المرأتان مدار الرواية، منطلقَها لتشكيل نظرة فنية مشوِّقة ومُقنِعة عن بعض قضايا المرأة في عصرنا الحديث، وفي أزمنة الحروب. وبذلك تُعدُّ الرواية تمثُّلًا لما جرى وشجْبًا لما يمكن أن يجري في حروب مماثلة في المستقبل. تقول "قوتشين" وهي تروي ما عاشته في "سايغون" بالفيتنام:
"في البيت الذي سكنتُه رفقة دَيين، كانت الغرفة المقابلة مسكنًا لأربع كوريّات قادمات من "ميكيين" ببرمانيا. كُنَّ ضمن مجندات في جيش آخر اسمه "فتيات الراحة". فضَّلن الاستمرار في أقدم مهنة، بدل العودة إلى الديار بعار لا يغفره المجتمع، مع بعض الأمل في زوج ينتشلهنّ من المأساة.
كُنّا نتبادل الأخبار ووصفات الأطعمة في المطبخ المشترك. حكين لي تفاصيل مؤلمة عن حياتهن في محطات للجيش الياباني، من الخنوع إلى التعذيب الجنسي الذي يصل في الكثير من الأحيان إلى القتل.
في ذلك الجزء من مدينة سايغون الجميلة اجتمعنا، شابات يافعات باحثات عن المتعة والمغامرة. بريئات لا نحتاج لآيات استغفار كي نكفِّر عن ذنوبنا، لهذا لم تكن لنا آلهة ولا كهنة. كنّا فقط أجسادًا عارية في براري الرّغبة حين نحبّ، وساحات معارك حين نُغتَصَب.
أمّا الجنود فكانوا يقصدون أسرَّتنا بغم شهواني، يبحثون في أجسادنا عن زوجات، حبيبات تركوهنّ في الديار. أو يتخيّلون ممثلات مشهورات علقن صورهن في مخادع العنبر. كنّا بالنسبة إليهم أجسادًا بلا وجوه"(الرواية، ص105).
بهذه السردية الحزينة، وعبر تتبُّع خيوط تراجيديا وضع المرأة فترة الحرب، تكشف "قوتشين" في هذا المقطع من حكايتها عن معاناة المرأة التي تتعرَّض في زمن الحرب للاغتصاب ويصير جسدها مستباحًا عن سبق إصرار وترصُّد. ففي جميع الأحوال تتحول أجساد النساء إلى ساحات معارك، ويصرن أجسادًا بلا وجوه ولا ملامح. وبهذه الكيفية يشخِّص هذا البوح مدى اغتراب المرأة المغتصَبة، التي أُرغمت على التكيُّف مع مجريات الحرب، ودُفعت إلى جعل جسدها وسيلة عيش عبر ممارسة الدعارة، واختيارها المضي في هذه الطريق أو حلمها بالعدول عنها. ومن خلال هذا المقطع تتبدّى فداحة شعور المرأة بفقد روحها وفقد دفء الاطمئنان على الرغم من بحثها عن المتعة والمغامرة، وتيهها في براري الرغبة. ولعلّ الرواية، وهي تقف عند هذه المشاعر المتضاربة لـِ"قوتشين"، وهي تصف وتقف عند ما جرى لفتيات أخريات قاسمنها العيش في فيتنام، إنّما تكشف عن توزُّع ذات البطلة بين شعورين:
- لوعة الفقد؛ فقد البراءة والطهر على الرغم من ادِّعائها أنها لم تكن في حاجة إلى استغفار وإلى رضا الآلهة بعدما فقدت الوطن والأسرة وخاصة أختها التوأم "جين مي".
- شدة الحنين إلى الوطن متمثلًا في قرية "جسر تشولانغ" التي عاشت فيها طفولتها وذكرياتها، والحنين إلى الأسرة وما تمثله من معاني الترابط والاحتواء والمحبة.
وستتجلّى أهميّة هذين البعدين (الشعورين) في تطوُّر أحداث الرواية وتشكيل متخيّلها باعتبارهما قطبين متقابلين، شكّلا فاعلية أساس في حركيّة الرواية. ولعلَّ شعور الفقد لم يكن مقتصرًا على "قوتشين" التي سعت إلى المغامرة، وفرَّت بعيدًا عن وطنها حالمة بالعيش في فرنسا، بل اقتسمته معها أختها "جين مي" التي ذاقت الإحساس بالاغتراب على الرغم من مكوثها في الصين وعيشها بين جدران بيت صيني. وقد كان موت أبيها وأمها، ثم ذهاب أختها إلى جهة مجهولة سببًا في لوعة "جين مي" وإحساسها الفادح بالفقد. تقول "جين مي":
"قوتشين عادت لأحلامي من جديد بعد سنوات من الغياب. أحسُّها بجانبي على السرير. أكلمها كلامًا يشبه العتاب. أبكي وبأعلى صوتي أنادي قوتشين. تسرع إليّ ابنتي:
- هل ناديتني أمي؟
من تحت اللِّحاف وبلسان أثقلته المسكّنات:
- أنادي خالتك، اشتقت إليها كثيرًا، أريد أن أراها ولو مرَّة قبل أن أموت.. قوتشين أختي، وأمي، وشريكتي في حرب لم نخترها ولم نعرف لحدّ الآن سببًا مُقنعًا لها. حبيبتي.
ناولتني قوتشين حقيبة جلديّة. وأخرجت كل ما تبقى من رحلتنا القصيرة أنا وأختي: مناديل طرَّزناها معًا، خيوط حرير ملوَّنة خبَّأناها في جرابنا المشترك ليلة الهروب من القرية، شريط أحمر لشدِّ الشَّعر، لا أعرف الآن إن كان يخصّني أو يخصّها، صورتنا معًا، الصورة الأولى والأخيرة، بدهشتنا الأولى أمام الكاميرا، بابتسامتها الماكرة وعيوننا المغمضة من شدة الضوء. قبل سفرها أخذتني إلى محلّ تصوير حيث التقط لنا المصوِّر صورة بالأبيض والأسود بخلفيّة سور مينغ. لماذا احتفظتُ بصورتها في الصندوق، ولم أضعها بجانب صورة حماتي ووالدتي؟ هل خفتُ أن أضعها بين الأموات؟ رغم أنَّ أخبارها توقَّفت وبدا الشكّ في موتها أكثر من اليقين في الحياة؟"(الرواية، ص131-132).
يكشف هذا المقطع من الرواية عن لوعة الفقد وشدة وطأته على روح "جين مي" التي عادت إليها صورة أختها "قوتشين" بعد غياب طويل عن الذاكرة، وبعدما أصابها المرض وأعجزها، وهي المرأة التي تفانت في خدمة الآخرين ونسيَت نفسها، أو حاولت نسيان ماضيها المؤلم، لكن يأبى الحنين إلّا أن ينبعث من جديد، وتُصرُّ الذكريات أن تحيا ولو عن طريق شرارة الحلم.
وهكذا، يقف هذا المشهد السردي عند معاناة "جين مي"، وارتباطها بالماضي على الرّغم من قسوته، لأنه ماض اشتركت فيه مع أختها وتوأمها "قوتشين". وهكذا يشخص هذا المشهد حنين المرأة إلى لحظات الدفء الحقيقي الذي جمعها بأختها واحتواها في قريتها. وبهذه الكيفيّة يتصادى هذا المشهد مع مشاهد أخرى في الرواية تكشف عن توزُّع "قوتشين" وأختها بين لوعة الفقد والحنين إلى الماضي المشترك بينهما على الرّغم من علّات ذلك الماضي الذي شهدت فيه المرأتان الاغتصاب والخيانة والقهر والجوع والتشرُّد والخوف من الموت، وكل الويلات الناجمة عن اقتتال البشر وصراعهم.
وبهذه الشاكلة نجد الرواية توزِّع "أنشودة الفقد" بين الأختين، وترويها من خلال أوراقهما، أو مذكراتهما، وهي مذكرات عجيبة فيما يتعلق بـ"جين مي" لأنها مذكرات امرأة ميتة تراقب العالم المحيط بها من جرَّتها التي احتوت رفاتها، واستوَت على رفّ في بيت أسرة زوجها، وقد سافرت الجرَّة من مدينة نانجينغ الصينية -بعدما حملتها "قوتشين" إثر زيارتها للصين بحثًا عن عائلتها- لتستقرّ في مدينة الدار البيضاء، ولفتت نظر ساردة الرواية التي اشترتها من محل صيني بدرب عمر (سوق الشينوا)، هي وكتيِّب حمل عنوان (قوتشين معزوفة حرب منسيّة) وبعض أسطوانات معزوفات وأغان صينيّة. وقد تشكَّلت الرواية من خلال ما ترويه "قوتشين" في الكتاب الذي حرَّرته صحافيّة فرنسيّة تدعى "كاترين لي"، فكانت الفصول التي ترويها يعلوها عنوان: "قوتشين معزوفة حرب منسيّة"، أمّا التفاصيل الأخرى وما يتعلق بما عاشته "جين مي" بعد فراقها عن أختها فقد حملت عنوان: "أوركيديا فبراير" (وهو لقب لجين مي). وبهذه الكيفيّة يتوزَّع سرد الوقائع والأحداث بين الأختين، وهكذا يتشكّل متخيَّل الرواية من أفق شبه فانتاستيكي حينما ندرك أنَّ ما تحكيه "جين مي" في غالبه الأعمّ تمَّ وهي ترصد العالم من جرَّتها التي زيَّنتها زهور اللوتس.
السّاردة، وهي باحثة تكتب عن مقابر العالم، وعن الأشكال المختلفة للموت، أنقَذَت حكاية الأختين التوأمين من التلف والنسيان، وتمكَّنت من التوليف بين صوتي المرأتين المنكوبتين، وبذلك قدَّمت صورة دقيقة عن تراجيديا الحروب، وهوْل الفقد الذي تستشعره النساء خاصة، وذلك لأنهنّ أكثر عرضة للقهر والاضطهاد والقسوة من غيرهنّ.
وقد تمكَّنت الرواية من تجسيد مدى فداحة الإحساس بالفقد وانهيار الألفة وتصدُّع المحبة في أزمنة الحروب، كما استطاعت أن تجلي كُمون الحنين إلى الدفء الإنساني الأصلي دومًا: دفء الأسرة ووشائج القربى والمحبّة المنزَّهة عن المصالح والصراعات من خلال الأختين التوأمين "قوتشين" و"جين مي"، وعن طريق رصد تفاصيل معاناتهما سواء هناك في الصين وفيتنام، أو هنا بالمغرب: حيث عاشت "زهرة" أو "قوتشين" تجربة حياة قاسية على الرّغم من حب زوجها "محمد" وحمايته لها، إلا أنّها كانت تفتقد أختها وتحنّ إلى رؤية وطنها مرَّة أخرى. ولكنَّها حينما زارت بلدها وجدت كل مَن عرفتهم وعاشت معهم قد ماتوا، وباقي عائلة أختها لم يهتمّوا بها، وهي العجوز التي جاءت من بعيد وغابت عن الوطن زمنًا طويلًا، وهكذا آثرت الأوبة إلى المغرب مرَّة أخرى، وإلى المدينة التي احتضنتها، وتركت فيها ابنتها: الدار البيضاء.
انطلاقًا من كل ما سبق يمكن القول إنَّ رواية "الحياة من دوني" جسَّدت تراجيديا الحرب في أبشع حالاتها وأقساها وطأة على روح الإنسان وجسده، وآثارها في تغيير وجوده وكينونته، وتحويل هويّته وعقائده. وقد كانت "قوتشين" خير مَن مثَّل معاناة الإنسان زمن الحرب، وخير مَن قدَّم صورة عن هول ما يحدث للنساء في زمن الاضطرابات والحروب.
وقد ساهَمَ أسلوب الرِّواية السلس المنساب، وتنقُّلاتها بين حكاية "قوتشين" من جهة، وحكاية "جين مي" من جهة ثانية، وتبيان تكامل الحكايتين وإسهامهما معًا في إضاءة الأحداث وبلورة مسار الوقائع، وكشف الحالات الوجدانيّة والنفسيّة للشخصيات، كل هذا ساهَمَ في القدرة على تشويق المتلقي وشدّ انتباهه وإغرائه بمتابعة القراءة. وبذلك حقَّقت الرواية غايتيها الدلاليّة والفنيّة: فكانت من حيث أبعادها الدلاليّة رواية تحمل رؤيتها الرافضة لوضع إنساني قلق وجانبٍ قاسٍ من جوانب الحياة المعاصرة خضعت فيه المرأة لصنوف شتى من الإهانة والإدلال، ومن حيث أبعادها الفنيّة تمكّنت الساردة من إحكام التصوير، وشدّ خيوط اللعبة السرديّة، فجاءت الرواية عملًا إبداعيًّا جادًّا وجديدًا، وهو بذلك ينضاف إلى متون روائية عربية معاصرة أفادت المتلقي وأمتعته.
- - - - - - - - - - -
(*) عائشة البصري، الحياة من دوني، الدار العربية للكتاب، القاهرة، 2019.