يوسف ضمرة
كاتب وروائي أردني
شكّل الغموض الكوني منذ طفولة البشريّة، دافعًا للبحث عن إجابات ملموسة أو مؤكدة، لأنَّ الإنسان لا يستطيع الاستمرار دون إجابات، حتى لو لم تكن تلك الإجابات علميّة ومؤكَّدة في نهاية المطاف.
كانت الماورائيّات وما تزال توفِّر إجابات ولو مؤقَّتة، فقد تمكَّن العقل البشري من صياغة قصص وحكايات تنطوي في أعماقها على تفسير لكثير من أشكال الغموض التي تحيط بالبشريّة. ولأنَّ هذه التفسيرات تعود إلى مصادر غيبيّة، فإنَّها كانت مؤهَّلة على الدَّوام لارتداء ثوب القداسة.
وقد ارتبطت الأساطير هذه بحياة الإنسان ارتباطًا وثيقًا، وظلَّت كذلك، إلى أنْ تفتَّح الوعي البشري، وتطوَّرت العلوم وارتفع منسوب الإدراك العلمي في البشريّة. وأصبحت الأساطير بأشكالها البدائيّة تنحسر كلَّما تقدَّم العلم وازداد الإدراك. لكن هذا لا يعني زوال الأساطير بشكل مطلق.
لقد انحفرت الأساطير في العقل البشري، وأخذت تتحوَّر وتتطوَّر بتطوُّر الحياة، وتمكَّنت من صياغة ميكانيزمات دفاعيّة ضدّ التّلاشي. ومن ذلك أنها تمكَّنت من حفر ملامحها في اللاوعي الجمعي للبشريّة. فهنالك حتى اليوم سلوكيّات ممهورة بملامح أسطوريّة، حتى وإنْ لم تَبدُ كذلك.
ولعلَّ الآداب والفنون تُعدُّ من أكثر الحواضن التي حافظت على حضور الأساطير، وقد استلهم المسرح والسينما والفنون التشكيليّة والأدب كالرِّوايات والشِّعر، الأساطير العربيّة والعالميّة في أشكال عدّة، لتفسير الواقع المعيش، ولتوفير زوايا جديدة لرؤية الحياة وكشف أسرارها.
لقد حاولنا في هذا الملف التطرُّق إلى جوانب أساسيّة تتعلق بالأسطورة، كالكشف عن أثر الأسطورة في السُّلوك البشريّ المعاصر، وعلاقة الأسطورة بالأفكار والمفاهيم المتطوِّرة، ومدى استجابة الفنون والآداب للقيم والمفاهيم الأسطوريّة، بغضّ الطّرف عن المحتويات والمضامين المعاصرة.
وقد حاولنا كذلك العودة إلى الجذور الأولى للأساطير، لكي نفهم بشكل أوضح قيمة الأسطورة ودورها في تشكُّل الوعي البشري، على الرّغم من التطوُّر العلمي الذي حقَّقته البشريّة، وعلى الرّغم من المعرفة البشريّة التي ظلَّت في جوهرها تشكِّل درعًا صلبًا في مواجهة الأسطورة وتداعياتها.
ولكن، وبالرّغم من هذا كلّه، فقد تمكَّنت الأسطورة بمراوغتها التاريخيّة، من التسلُّل إلى العقل البشريّ في صيغ وأشكال عدّة. ولأنَّ الأسطورة تتكئ أساسًا على الماورائيّات، فقد منحها ذلك فرصة الخلط بينها وبين بعض الجوانب الدينيّة، خصوصًا عند الجماعات قليلة الثقافة والمعرفة. وظلَّ ذلك يحدث إلى يومنا هذا كلّما ابتعدت الجماعات عن مراكز المعرفة والتَّنوير، وهو ما نلحظه بوضوح في التجمُّعات الريفيّة حيث الازدياد الملحوظ في نسب الأميّة وتردّي التعليم، خصوصًا في المجتمعات العربيّة.
لقد أردنا في هذا الملف الكشف عن مظاهر الأسطورة في حياتنا اليوميّة، لتعبيد الطريق أمام التطوُّر المجتمعي الذي تقف الأسطورة دائمًا في طريقه. كما أردنا تنقية حياتنا اليوميّة من الشّوائب الأسطوريّة التي تضيِّق رؤيتنا للحياة، وتعوق ارتقاءنا في المجالات كافّة، وتشكِّل قوّة جذب اجتماعيّة إلى الخلف.
كما تطرَّق الملف إلى استخدام الأسطورة في الفنّ التشكيليّ والمسرح، والقرابين، وجرى إسقاطها على الحاضر المعيش، مع نزع ثوب القداسة عنها أينما وجدت.
أخيرًا لا نستطيع الادِّعاء بأنَّ هذا الملف يحيط بالأسطورة من جوانبها المتعدِّدة، ولا يمتلك الإجابات الشافية كلها، تلك التي ما يزال المختصّون يبحثون فيها إلى يومنا هذا. ولكنَّنا ندَّعي أننا طرقنا بابًا قلَّ ما انفتح في حياتنا الثقافيّة بشكل واضح، آملين أن تتاح لنا فرصة ثانية وثالثة لكشف المزيد ممّا لم نتطرَّق إليه الآن، وهنا.