د. مهند مبيضين
أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية
ومدير عام مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي
ليست كتابة التاريخ في الأردن مُنتَج دولة، ولا صناعة أيديولوجيّة خاصة بها، فالحكم منذ قيام الإمارة لم يشأ صناعة نصوص تثبّت شرعيّته، ولم يكن قلقًا بهذا الجانب، فلديه ما يكفيه من رمزيّة التاريخ والسلالة الحاكمة والدَّور العروبي والإرث، ولعلَّ السؤال المهم اليوم هو: هل نكتب تاريخًا في الأردن مواكبًا لتطوُّر المعرفة التاريخيّة العالميّة وتطوُّر مدارسها أم لا؟
حَكَمَ الأردن الأمير عبدالله بن الحسين ثلاثة عقود من القرن العشرين، اجتمع له فيها علاقات وطيدة مع نخبة عربيّة، ولم يكن أقلّ ثقافة ومعرفة منهم، بل كان مشاركًا في الـتأليف سواء في المذكرات أو المؤلفات التراثيّة، وكان بلاط الأمير –آنذاك- مقصدًا للأحرار العرب ورجال الحركة العربيّة، أمثال خيرالدين الزركلي ويوسف ياسين ومحب الدين الخطيب وعارف العارف ونبيه العظمة وفخري البارودي وغيرهم.
لم تكن عمّان عاصمة الدولة الناشئة تُجاري دمشق أو بغداد أو القاهرة أو حلب أو القدس أو نابلس، لقد أخذ الأمير المؤسِّس على عاتقِه همَّ بناء دولة من موارد بسيطة في بقعة جغرافيّة فيها بلدات كبرى مثل السلط والكرك وعجلون، ولم تكن عمّان إلّا أقلّ من تلك البلدات حجمًا ونموًّا حضريًّا، وكان التعليم شحيحًا وعدد السكان ضئيلًا وأغلبهم من البدو والفلاحين وعددهم لا يتجاوز مئتي ألف.
هذا الواقع انعكس على الثقافة وتطوُّر المعارف، ويكفي أنْ نعودَ لحوليّة الثقافة العربيّة لساطع الحصري ودراسات علي محافظة عن تاريخ التعليم وتطوُّره كي نرى حجم محدوديّة المعارف وانتشارها، ومع ذلك وصل الأردنيّون مثل غيرهم من أبناء الحواضر العربية، ولكن بدرجة أقل، للمدارس العثمانيّة في دمشق وإسطنبول، وعملوا في الإدارة العثمانيّة والجيش. وفيما بعد وبعد الاستقلال الأردني عام 1946 بدأت حركة تعليم نشطة، وفي عهد الملك حسين بن طلال 1952-1999 تطوّرت المعارف وانتشر التعليم بشكل كبير وكان له أثرٌ على حركة الكتابة التاريخيّة التي كان لها روّادها أمثال الأمير المؤسس في مذكّراته وروكس العزيزي في مدوّناته ومذكّراته ومحمد الأسد وخيرالدين الزركلي وعارف العارف، وكل هذا كان قبيل الاستقلال الأردني عام 1946 واستمرَّ لاحقًا وشهد أكبر تحوُّلاته على يد جيلٍ ثانٍ أمثال سليمان الموسى وعلي محافظة ورؤوف أبوجابر وعدنان البخيت ومصطفى الحياري وغيرهم.
إنَّ الحديث عن كتابة التاريخ، يجب أن يدخلنا في صميم البحث عن المعرفة التاريخيّة المنتجة في الأردن، واتجاهاتها ونوعيّة البحوث، وعلائق المؤرِّخ بالدولة، وعلاقة الأردنيين بماضيهم، القريب والبعيد، وكيف تعاملوا معه، وكيف نظروا إليه، بهزائمه وانتصاراته، بتفاصيل اليومي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وكيف يحضر ويُستدعى، وكيف تشكَّل في اللحظة المؤسسة للبدايات، التي ظهرت في كتابات عن الدولة ككيان سياسي باسم "حكومة الشرق العربي"، وهي لحظة فارقة وذات أبعاد عروبيّة ووطنيّة تبدّت في مؤتمر أم قيس في أيلول 1920، وفي محطات لاحقة مع لحظة الإمارة، والمعاهدة الأردنية البريطانية، ثم زمن المملكة في الاستقلال فالنكبة فالتعريب فالنكسة فالكرامة فالتحوُّل الديمقراطي عام 1989 وصولًا إلى التاريخ الرّاهن.
في بناء سرديّات الدول المطوَّلة تحتاج الشعوب إلى توافق على التاريخ، ولا يوجد كبير اختلاف على المسار العام في الأردن لسياقات الشرعيّة والتاريخ، لكن هناك مفاصل وتواريخ وموضوعات غابت، أو غُيّبت بقصد أو دون قصد، هذا ما نشهد إثارته في السنوات الأخيرة، من صعود الرّغائب نحو كتابة تاريخ المدن والمذكرات والأنساب والعائلات، وما يصدر عن الأردن في الغرب من مؤلفات جديدة، في ظلّ طفرة وثائقيّة كبيرة.
إنَّ ولادة التاريخ العلمي في الدوائر الأكاديميّة منذ العام 1962 أو الكتابة بدعم الدولة وعبر مؤسسات المعرفة، لم تحُل دون كتابة موازية من قِبَل أفراد ومراكز بحثيّة، ذلك أنَّ التاريخ العلمي في الجامعات دارَ دورةً علميّةً بحتة، وظلَّ وفيًّا للتوثيق والتاريخ المنضبط بقواعد العلم، والخط الزمني السياسي.
لذلك، وفي بلد اتَّسم بالاستقرار السياسي، ليس من المناسب أن يطغى التاريخ الحَدَثي السياسي على تاريخ الناس، الذي كان محلّ اهتمام قليل من قِبَل باحثي الدوائر الأكاديمية أو خارجها، إذ تباعد تاريخهم عن تاريخ دولتهم، فأُهمِلت بعض الأزمنة، ووجدت محطات مموّهة غير مكتوب فيها، ومنها أحداث عديدة لا تبدأ بالحركة الوطنيّة وثوراتها في زمن الإمارة احتجاجًا على العلاقة مع بريطانيا، أو مع ربيع العام 1956 ولا تنتهي بأحداث 1989 وما بينهما أحداث أيلول الأسود، هذا على صعيد الحدث السياسي، أمّا فيما يتصل بالهويّة والمجتمع والعادات والأمراض والجوع والسجون وغيرها، فظلّ هذا النوع من التاريخ الجديد بعيدًا عن الأعمال التاريخيّة الرسميّة المنضبطة بإيقاع المنهج العلمي أو تاريخ الدولة الرسمي، الذي نهضت به أعمال تاريخيّة زامنت عصر الإمارة، وقد نتج عن ذلك إشكاليّات عدة يطول شرحها. لكن الثابت اليوم أنَّ الكتابة التاريخيّة في الأردن قلّما توزي أو تتعرَّض أو نجد فيها تأثيرًا لمدارس التاريخ العالميّة كالحوليّات الفرنسيّة والوضعانيّة الألمانيّة أو مدرسة التاريخ الجديد التي تركّز على الذهنيّات. هذا للأسف هو الغائب الكبير الذي انعكس على مُنتج المعرفة التاريخيّة الأردنيّة وأضعفها في السنوات الأخيرة، وهذا هو عنوان أزمتها بعد مئة عام.