د. هند غسان أبو الشعر
أديبة وأكاديمية ومؤرخة أردنية
تدعو د.هند أبوالشعر للتوقُّف عند تجربة التَّوثيق في "كتابة تاريخ الأردن" وتقييمها، لوضع الرُّؤية المستقبليّة التي يجب علينا أن نرسِّخها ونعمل على تطويرها في المئويّة الثانية، وترى أنَّ البحث عن مصادر جديدة لإعادة كتابة تاريخ المئويّة الماضية مسألة أساسيّة، فما كُتب في تاريخ الإمارة والمملكة استُخدمت فيه مصادر محدَّدة. كما تدعو لإعادة كتابة هذه المرحلة التأسيسيّة في حياة الوطن، ولكن مع التَّجديد بالبحث عن مصادر جديدة وتحليلها، لتقديم فهم جديد لهذه التجربة الجمعيّة، على أن يتمّ تطوير الأدوات وتحديث التقنيات، لتتناسب مع خطابنا للجيل القادم.
• إضاءة
بعد مرور قرن تام على نشوء الدولة الأردنيّة، فإنَّ من الواجب التوقُّف عند تجربة التَّوثيق لهذه التجربة وتقييمها، لوضع الرُّؤية المستقبليّة التي يجب علينا أن نرسِّخها ونعمل على تطويرها، في كتابة تاريخ الأردن في المئويّة الثانية التي نحتفل هذا العام بها. وابتداء أحبُّ قبل أنْ أتناول تقييم تجربتنا في كتابة تاريخ المئويّة الأولى أنْ أتوقَّف عند المفاصل الآتية:
أوَّلًا: علينا أن نكتب للجيل القادم بمنهجيّة يتقبَّلها ويفهمها، لأنَّنا نكتب للمستقبل، ولا يجوز لنا أنْ نستمرَّ في الكتابة بلغة القرن التاسع عشر أو العشرين.
ثانيًا: هذه الرُّؤية تجعلنا نُطوِّر المنهج، ونفكِّر بعقليّة القادم ونستوعب بالتالي التطوُّرات التقنيّة التي فرضت نفسها على الأجيال كافة، فلا نقبل أنْ يبقى المؤرِّخ خارج إطار التقنيات، ليكتب بلغة ما قبل الثورة التقنيّة، وهذا يتطلّب إتقانه لكلِّ ما هو جديد وتطويعه لإثراء تجربته.
ثالثًا: البحث عن مصادر جديدة لإعادة كتابة تاريخ المئويّة الماضية مسألة أساسيّة، لأنَّ ما كُتب في تاريخ الإمارة والمملكة الأردنيّة الهاشميّة استُخدمت فيه مصادر محدَّدة، ونحن مع الدَّعوة لإعادة كتابة هذه المرحلة التأسيسيّة في حياة الوطن، ولكن مع التَّجديد بالبحث عن مصادر جديدة وتحليلها، لتقديم فهم جديد لهذه التجربة الجمعيّة التي نتشارك جميعًا بها، على أن يتمّ تطوير الأدوات وتحديث التقنيات، لتتناسب مع خطابنا للجيل القادم.
رابعًا: ما زالت المصادر المحليّة غير مدروسة، فسجلّات ملكيّة الأرض والطابو والتسوية لم تَدرس مرحلة الإمارة، ولا مرحلة المملكة الأردنيّة الهاشميّة، مع أنَّ هذا المصدر هو مفتاح كلّ الدِّراسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإذا لم تُفتح هذه السجلّات للبحث الجاد والتحليلي، فإنَّ كل ما يُكتب في الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة يظلُّ حالة هامشيّة وبعيدًا عن الدقّة، وهذا المصدر يحتاج لباحث جاد ورصين، ولديه القدرة على التحمُّل، ومن تجربتي باستخدام سجلّات الطابو العثمانيّة أجد أنَّ من الضرورة بمكان استمراريّة دراسة ملكيّة الأرض وعلاقتها بالزراعة وبالطبقات الاجتماعيّة في عهد الإمارة، خاصة وأنَّ ملكيّة الأرض شهدت تجربة (تسوية الأراضي) التي غيَّرت من حالة المشاع التي كانت تحدُّ من استخدام الأرض وتطوير استثمارها، ومع الأسف، فإنَّ سجلّات التَّسوية ما زالت محفوظة في دائرة الأراضي بلا تصنيف، وقد مرّ عليها أكثر من ثمانين عامًا دون أن تتمّ دراستها بالمنهجيّة المطلوبة، وأعتبرُ أنَّ التوجُّه لدراسة هذا المصدر سيُحدث ثورة حقيقيّة في كتابة تاريخ الأردن ما بعد عام 1935م وحتى اليوم، شريطة أن يتمّ استخدام الإحصاءات وتطويع الأرقام والأشكال البيانيّة للمنهجيّة الجديدة في كتابة هذا المحور المفصلي في حياتنا.
خامسًا: إنَّ الجهود الفرديّة هي الغالبة على التَّأريخ للأردن، وغالبيّة ما يُكتب يندرج تحت دراسات لنيل درجات الماجستير والدكتوراه، وهذا حسن، لكنّه لا يمثِّل خطًّا متَّصلًا، فغالبيّة الباحثين يعملون للحصول على الدرجة العلمية ولا يحفرون في مسارهم بعُمق، وغالبًا يكون همّ التَّرقية ونشْر الأبحاث المُحكّمة في مجلّات غير متداولة بصورة شعبيّة هو الهاجس الذي يحرِّك فئة الباحثين الذين تبذل الجامعات جهودًا أكاديميّة لكي يحصلوا على المنهجيّة المطلوبة التي تؤهِّلهم للكتابة في التاريخ، وهذا التوجُّه في الكتابة يستحقّ التَّقييم لتطويره.
سادسًا: لا بدَّ من وجود توجُّه مؤسَّسي لوضع خطٍّ متَّصلٍ للتأريخ للأردن، ومع أنَّ لدينا مؤسسات أكاديميّة وبحثيّة، لكنَّها مثل الجُزُر المعزولة، ولا توجد استراتيجيّة مشتركة ووطنيّة لرسم مثل هذا التوجُّه وتنفيذه، وهذا يحتاج لقرار على مستوى فعّال، علمًا بأنَّ بعض المؤسسات تبنَّت خطة ونشرت مجموعة من الكتب في التأريخ للأردن مثل مؤسسة آل البيت.
سابعًا: مع أنَّني مع هذا التوجُّه لتفعيل دور المؤسسات الأكاديميّة والبحثيّة، لكنَّ المشكلة الدائمة في مثل هذا العمل المؤسّسي ارتباط المؤسسات بالأشخاص، وهذا هو عيب العمل الإداري في الوطن في نصف القرن المنصرم، إنَّ المؤسسات لا تعمل بروح المؤسسة، بل بسلطة المدير الذي تنتهي بمدّة إدارته خطط المؤسسات، وغالبًا لا يقوم المدير بتدريب مَن يخلفه من الصف الثاني، وهذه المشكلة عيب كبير في كل العمل المؤسسي ولا نستثني المؤسسات البحثية والأكاديمية.
ثامنًا: مراكز التوثيق لدينا محدودة جدًا، واعتمدت على جهود فرديّة، ولا توجد لها خطط مستقبليّة، والأساس أن تكون مراكز متطوِّرة ومنفتحة على المتغيّرات الجديدة، ففي الوقت الذي يتم فيه تحديد كيفيّة الإفادة واستخدام الوثائق والسجلّات من قِبَل الإدارات، يجد الباحث اليوم أنها متاحة على الشبكة العنكبوتية، وبلا مقابل، فعند بحثي عن السالنامات الناقصة لديّ، وفرحتي بالحصول عليها من خلال زيارتي للأرشيف العثماني، فوجئت بأنها متاحة بلا مقابل وبلا سفر في جامعة "ميغيل" بكندا على موقعها.. وأمّا المكتبة الوطنيّة فتحتاج لرؤية جديدة وتطوُّر تكنولوجي متقدِّم لتكون في الموقع المتقدِّم في التوثيق والحفظ لمنجزاتنا وتراثنا.
• التَّجربة خلال مئة عام
سأوجزها بنقاط لئلا أتجاوز المساحة الممنوحة لي:
1- كان أقدم ما كُتب في تاريخ الأردن ما قدَّمه الأرشمندريت بولص نعمان في التأريخ للأردن سنة 1922م، لكنَّ كتابه غير منشور، وتبعه الزركلي في "عامان في عمّان" إلّا أنَّ تجربة الكتابة الجادة في تاريخ الأردن كانت سنة 1935م عندما ألَّف الكولونيل "بيك" باشا وهو رجل عسكري، كتاب (تاريخ شرق الأردن وقبائلها) وقام بتوثيق أصول العشائر على أرض الأردن بحسب الرِّواية المحليّة، ونعتبره أوَّل مَن دوَّن الرواية المحليّة للسكان على أرض الإمارة.
2 – يمكن اعتبار التأريخ ما قبل نشوء الجامعات والمراكز الأكاديمية حالة فرديّة، وكان سليمان الموسى الذي قدَّم جهودًا كبيرة ومُّقدَّرة دون أن يكون لديه تدريب أكاديمي ومنهجي، حالة خاصة، فقد حفر بالعمق وبشكل متتابع، كما كان لكلّ من البدوي الملثم وروكس بن زائد العزيزي وعيسى الناعوري دورهم في هذا الخط الذي يمثل الجَمْع بين الأدب والتأريخ.
3 – نقطة التحوُّل كانت بإنشاء الجامعة الأردنيّة وتأسيس قسم التاريخ وحضور مجموعة مميّزة من الأساتذة العرب من المؤرّخين المشهود لهم بالتفوُّق، وتبع ذلك تأسيس الدراسات العليا عام 1972م، ومنح درجة الماجستير لطلبة القسم، وفي الوقت نفسه تمّ تأسيس مركز الوثائق والمخطوطات الذي وفّر للدارسين فرصة ذهبيّة بتصوير السجلّات والوثائق التي تخصّ تاريخ بلاد الشام بما فيها الرسائل الجامعيّة من العالم كله، كما تزامن هذا مع عقد أوَّل مؤتمر لتاريخ بلاد الشام الذي يُعتبر علامة فارقة في كتابة تاريخ بلاد الشام بعامّة والأردن على وجه الخصوص.
4 – تبع هذه الخطوات التأسيسيّة، فتح جامعات أردنيّة جديدة؛ اليرموك ومؤتة والهاشمية وآل البيت والحسين، وكلها أسهمت في رفد حركة البحث والتأليف في تاريخ الأردن، ونتوقف هنا عند ما يأتي:
- ارتبط الاتِّجاه بالبحث في تاريخ الأردن بدراسة الدكتور يوسف الغوانمة لتاريخ الأردن في العهد المملوكي، ودراسة الدكتور محمد عدنان البخيت لدرجة الماجستير بدراسة مملكة الكرك في العهد المملوكي أيضًا وذلك في الستينات من القرن العشرين، في حين استمرَّ الدكتور غوانمة بالبحث في تاريخ إربد والحفر في العهد المملوكي توجَّه الدكتور البخيت نحو العهد العثماني وقدَّم دراسات من خلال السجلّات العثمانية لبعض النواحي في لواء عجلون في القرن السادس عشر الميلادي، وكانت أولى الدِّراسات في تاريخ الإمارة للدكتور علي محافظة من خلال الوثائق الغربيّة والجريدة الرسميّة، وتبعه الدكتور محمد محافظة بدراسة تاريخ الإمارة، والدكتور محمد الصلاح بدراسة تاريخ الإدارة في أوَّل توجُّه لدراسات جزئيّة، وهي خطوات تأسيسيّة تستحق التقدير.
- كانت الخطوة الراسخة بالتوجُّه نحو دراسة تاريخ الأردن مع التسعينات من القرن العشرين بقيام مجموعة من طلبة الدكتوراه في الجامعة الأردنيّة بتوجيه من المشرف الدكتور محمد عدنان البخيت بدراسة قصبات الأردن في العهد العثماني (عمان، السلط، إربد، الكرك، معان، البلقاء، عجلون) وتميَّزت هذه الدراسات بالجمع بين المصادر وفتح سجلّات المحاكم الشرعيّة وسجلّات الطابو وسجلّات الكنائس والمذكرات وكتب الرحلات، وكان طلبة الدكتوراه هم نوفان الحمود السوارية، وجورج طريف داود وهند أبوالشعر وعليان الجالودي ومحمد سالم الطراونه، وقد نُشرت هذه الرَّسائل، وكانت أساسًا لمجموعة لاحقة من الرَّسائل الجامعيّة التي حذت حذوها، وشكَّلت أرضيّة صلبة لمنهجيّة جديدة في كتابة تاريخ الأردن، وبدأت دراسة تاريخ الأردن تأخذ المنحى الأكاديمي.
وأحبُّ هنا أن أنوِّه بدور المؤسسات في نشر هذه الرسائل ومنها وزارة الثقافة والبنك الأهلي وجامعة آل البيت، كما أنَّ لوزارة الثقافة في مشروعها الرائد (مكتبة الأسرة) الدور الأكبر في تعميم هذه الكتب التي تصل إلى القارئ بأقل الأسعار وأفضل المواصفات الفنيّة.
- من المفاصل الرَّئيسة في ربع القرن الماضي نشر وتصنيف وثائق الديوان الملكي ضمن "سلسلة الوثائق الهاشمية" والتي وصلت اليوم إلى أربعين مجلدًا وثَّقت لتاريخ الأردن في عهد الملك المؤسس من 1921م- 1951م، وقد بدأ المشروع عام 1993م، وما زال مستمرًا بإشراف الدكتور محمد عدنان البخيت وإعداد وتصنيف هند أبوالشعر، ويقوم على جمع وتصنيف الوثائق ونشرها في محاور دون التدخُّل في الوثيقة، وهذه خطوة منهجية تقدَّم فيها الوثائق مصنَّفة للباحث، وهي حالة فريدة في الوطن العربي، ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه الوثائق في الديوان الملكي تمثل أيضًا وثائق الدولة، وهي وثائق رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية وغيرها من الوزارات، لأنَّ أرشيف الديوان الملكي يضمّ كل المراسلات بين الديوان ومؤسسات الدولة، ممّا يوفر للباحث فرصة ذهبيّة لا مثيل لها.
وختامًا، فإنَّ هذه المفاصل التي أوردتُها هي محطات تستحق الدراسة التفصيليّة، ومع أنَّ هناك بعض الجهود الفرديّة في دراسات تاريخ الأردن من غير المختصين في دراسة التاريخ، إلّا أنَّ بعضها أخذ طابع تلميع العشائر أو الجهات؛ وهو وإن كان يحمل صفة التوثيق إلّا أنَّ الحاجة لتقديم الدراسات الموضوعيّة والمنهجيّة والمستقبليّة هي الحالة المطلوبة، والتي تقوم على دور المؤسسات الأكاديميّة والبحثيّة، وهي كثيرة، خدمةً للوطن الذي يستحق منّا كلنا توظيف جهودنا الفكريّة والعلميّة، وكلّها جهود تصبّ في كتابة تاريخ الوطن وتوثيق جهود الأجيال بمسيرة المئويّة التي نعتزُّ بها ونعزِّزها.