كايد مصطفى هاشم
كاتب وباحث- نائب الأمين العام للشؤون الثقافية بمنتدى الفكر العربي/ الأردن
تُلقي رحلات عدد من المثقفين العرب إلى شرقي الأردن مع بدايات تأسيس الدولة الأردنية سنة 1921 وحتى ما قبيل الاستقلال والانتقال من عهد الإمارة إلى عهد المملكة الأردنية الهاشمية سنة 1946؛ أضواءً على ملامح وجوانب اجتماعيّة وعمرانيّة مختلفة من حياة الناس وأحوالهم في هذا القطر العربي، إبان تشكُّل كيانه السياسي الجديد ومجتمعه الحديث، وفي حقبة تاريخيّة كان فيها المشرق العربي على محكِّ التحدِّيات بوصفه أحد محاور المتغيّرات والمستجدّات على الساحة الدوليّة منذ نهاية الحرب العالميّة الأولى (1914-1918م) وبعد نهاية الحكم العثماني.
تمثِّل النماذج الخمسة من نصوص الرّحلات العربيّة المُختارة هنا والتي كتبها مثقفون من ذوي النزعة القوميّة العربيّة الصريحة، خطابًا نهضويًا يضيء مقوّمات التحرّر والاستقلال والتقدّم في هذه الدولة العربيّة وهي في طور النشوء والتشكُّل، وقد استمدَّت نسيجها من ميراث حضاري عريق لم يغب معه العامل التاريخي الذي يجذِّر قيمة التنوّع في إطار الوحدة، كما اعتمدت نهجًا حداثيًّا عقلانيًّا طبع مختلف مراحل تطوّرها، وحفظ توازنها واستقرارها، واستمرارها وسط أحداث وظروف وأوضاع دقيقة، إقليمية ودولية، أحاطت بها منذ مرحلة النشوء وأثَّرت عليها بأشكالٍ متفاوتة من التأثير.
• عامان في عمّان وبدايات من عهد الإمارة
لم تشهد منطقة شرقي الأردن قبل مجيء الأمير -الملك المؤسِّس- عبدالله بن الحسين (1882-1951م) قادمًا من الحجاز؛ حيوية وحركة كما شهدَت تحديدًا معان في الجنوب ثم عمّان التي أصبحت بعدئذٍ عاصمة الدولة، فقد دبَّت فيهما روح من النشاط العارم والحركة الدؤوبة بتوافد العديد من الساسة والمثقفين ورجال الإدارة والعسكرية وغيرهم من الشخصيات العربيّة في بلاد الشام والعراق ومصر، عدا زعماء القبائل والعشائر وشخصيات وطنية من أنحاء شرقي الأردن، وفيهم قسم غير قليل من رجال الحركة العربيّة، وأحيانًا بعض الصحافيين العرب، والأجانب أيضًا، ذلك أنَّ الأمير الهاشمي، نجل شريف مكة الحسين بن علي زعيم النهضة العربيّة الكبرى وثورتها، أصبح مَعْقِد آمال العرب في هذه المنطقة للتخلص من الهيمنة الأجنبية واستعادة الحكم العربي المستقل الذي قام في سورية سنة 1918 بزعامة الملك فيصل بن الحسين، وانتهى بالاجتياح الفرنسي على إثر معركة ميسلون (24 تموز/ يوليو 1920) وفرض الانتداب على سورية الشمالية ولبنان وفق اتفاقية (سايكس- بيكو)، التي تقاسمت بموجبها فرنسا وبريطانيا النفوذ والانتداب في بلاد الشام والعراق.
يصف خيرالدين الزِركلي الدمشقي (1893-1976م) في كتابه "عامان في عمّان"(1)، وهو مذكراته عن عامين أمضاهما في عاصمة شرقي الأردن (1921-1923م)، المظاهر الحماسيّة لاستقبال الأمير عبدالله من جانب الأهالي والزعماء المحليين ومعهم أحرار العرب ومعظمهم من رجال الثورة العربيّة الذين عملوا مع الملك فيصل في دمشق. وكان الزركلي واحدًا من هؤلاء، فقد وصل إلى عمّان قبل أن يدخلها الأمير ببضعة أسابيع آتيًا من الحجاز، مرورًا بمصر والقدس والصلت (السلط)، ضمن وفد مؤلَّف منه ومن صديقه يوسف ياسين أرسله ملك الحجاز الحسين بن علي لمعاونة الأمير عبدالله، ومن ثم سافر هذا الوفد إلى معان بالقطار مع آخرين من الاستقلاليين العرب في رحلة مدّتها عشر ساعات للقاء الأمير ومرافقته إلى عمّان.
ويورد الزركلي وصفًا جميلًا للاستقبال الحماسي بالهتاف والتحية من جانب أهل عمّان للأمير عبدالله حين وصلها بالقطار قادمًا من معان، وكانت المسافة بين محطة عمّان والبلدة نفسها حوالي ثلاثة كيلومترات، ولمّا لم يكن هناك سيارات فقد اجتاز الأمير ومرافقوه هذه المسافة على الجياد، ونزل الأمير في دار رئيس البلدية، وتقدَّم الناس للسلام عليه مستبشرين بقدومه ومتفائلين خيرًا. وفي اليوم التالي أقيم احتفال كبير في ساحة عمّان أمام المدرج الروماني، وألقى الأمير كلمة أمام الجمع الكبير من الحاضرين ومما قاله فيها: "وما جاء بي إلا حميّتي وما تحمّله والدي من العبء الثقيل، فالواجب عليّ أفهمه ولو كان لي سبعون نفسًا بذلتها في سبيل الأمّة لما عددت نفسي أني فعلت شيئًا".
لم تكن عمّان قبل قدوم الأمير -كما رآها الزركلي- "أكثر من قرية، قليلة السكان، ضئيلة المباني، مُظلمة السُّبل، لا يصل بينها وبين تاريخ مجدها إلَّا ما شَخَصَ من آثارها"، ويشير الزركلي إلى أنها اكتسبت بعض الشأن قبل تأسيس الإمارة من تجارتها بين القبائل العربيّة النازلة حولها (قبائل بني صخر وبني حسن وعبّاد والعدوان)، والتجار الذين جاؤوا إليها من دمشق ونابلس وافتتحوا في سوقها -أو ما يشبه السوق- بعض الحوانيت الصغيرة. كما يشير إلى سكانها من الشراكسة وقراهم ومزارعهم حولها.
وكان الشريف علي بن الحسين الحارثي (1895-1955م) الذي جاء إلى عمّان ليمهِّد مع الوطنيين فيها لقدوم الأمير عبدالله، قد استقبل الزركلي وصحبه في عمّان ومعه قائم مقامها وقائد دركها ومجموعة "من الخيّالة والرجّالة كانوا يهتفون بحياة العرب والاستقلال، وينشدون الأناشيد الوطنية"، ما جعل صاحب الرحلة يستعيد أجواء النادي العربي بدمشق أيام الحكومة العربيّة الفيصلية. ويذكر الزركلي بتقدير كبير دور الشريف الحارثي في هذا الصدد، كما يشير إلى أنَّ الأمير عبدالله أقام أول الأمر في بيت بمحطة عمّان فُرش له بعد أن كان يسكنه أحد موظفي السكة الحديدية. أمّا الزركلي ورفيق رحلته، صديقه يوسف ياسين، فقد أقاما في خيمة نُصِبت في الوادي الخصيب المجاور للمحطة وكانت مأواهما لبضعة أسابيع.
تلاحقت بعد ذلك الأحداث والتطورات السياسية التي أفضت في أعقاب عودة الأمير عبدالله من اجتماعه مع "تشرشل" وزير المستعمرات البريطاني في القدس، إلى تشكيل حكومة عربيّة في شرقي الأردن "إمارة الشرق العربي" بتاريخ 11 نيسان (إبريل) 1921، وعُرِفَت هذه الحكومة باسم مجلس المشاورين، وكانت برئاسة رشيد طليع الذي سمّي الكاتب الإداري أيضًا ووكيل مشاور الداخلية، وأعضاؤها هم: الأمير شاكر بن زيد نائبًا للعشائر، وأحمد بك مريود معاون نائب العشائر، وأمين بك التميمي مشاور الداخلية ومتصرف لواء عجلون، ومظهر بك رسلان مشاور العدلية والصحة والمعارف، وعلي خلقي بك الشرايري مشاور الأمن والانضباط، والشيخ محمد الخضر الشنقيطي قاضي القضاة، وحسن بك الحكيم مشاور المالية.
وأُسند للزركلي بعد تشكيل حكومة الإمارة هذه منصب المفتش العام للمعارف، ثم رئاسة ديوان الحكومة، وخلال إقامته في شرقي الأردن قام برحلتين صغيرتين كما سمّاهما، الأولى خلال شهر آذار 1921 مع ثلاثة من السوريين (علي آغا زلفو من أعيان الأكراد في صالحية دمشق، وشكري القهوجي، وشريف شاهين، وهذان الاثنان كانا من مقاومي السلطات الانتدابية الفرنسية في بلدهم). انطلقت الرحلة من عمّان إلى القدس مرورًا بجرش والحصن وإربد ووادي الغفر، ثم قرية كفر أسد، وقرية مخربا، وجسر المجامع، وكلها في شمالي الأردن، ومن هناك بالقطار إلى حيفا، ثم طولكرم، وحيفا، ويافا، وعاد من القدس إلى عمّان بعربة خيل مارًا بالسلط. لم يذكر الزركلي سبب هذه الرحلة واكتفى بشذرات عن بعض حوادث الطريق ومشاهداته في هذه الأثناء، ومنها لقاء بالمصادفة مع المعتمد البريطاني في جرش واسمه "منتون"، ومروره بشجرة معمّرة في مكان يبعد عن جرش بحوالي سبعة كيلو مترات قيل إنها تُظلّ أكثر من مئة شخص ويطلق عليها أهالي المنطقة اسم "شجرة المنوَى"، ويقيمون تحتها أفراحهم، ويقصدها الناس للزيارة والتبرُّك، ثم ذكر حادثة تعرُّضه ورفاقه لخيّال كَمَن لهم وصوّب بندقيته نحوهم لكن أحد رفاق الرحلة، وهو شريف شاهين، تغلب على الخيّال وكاد يسلبه فرسه.
أمّا الرحلة الثانية، فكانت بعد تعيين الزركلي مفتشًا للمعارف وقد قام بها ما بين 2-27 أيار (مايو) 1921 ليتعرَّف على أحوال بعض المدارس في شرقي الأردن، ولم يكن عدد المدارس في البلاد يزيد على 23 مدرسة ابتدائية خلا اثنتين ثانويتين، ويقول الزركلي إنَّ حصة المعارف السنوية كانت لا تزيد على ستة آلاف جنيه. شملت هذه الرحلة أو الجولة قرى وادي السير، وناعور، وخربة النابلسي (من قرى حسبان)، ومادبا، ثم وفي طريق العودة ناعور ووادي السير مرة أخرى، فقرية صويلح، فالسلط، فعمّان. ويورد الزركلي في ما كتبه عن رحلته هذه أوصافًا للقرى التي زارها فيقول إنَّ وادي السير "قرية نظيفة جميلة في وادٍ خصيب"، وناعور "أطيب تلك البقاع مناخًا"، و"مأدبا أو (ميدبا) بُليدة عامرة"، أمّا صويلح "فغاية في جودة المناخ وعذوبة الماء وطيب الهواء"...إلخ. ويروى بعض الحكايات التي سمعها من بعض مَن التقاهم عن تجاربهم والعلاقات السائدة بين السكان في ذلك الحين، ويتحدث عن الحياة الاجتماعية للشراكسة والشيشان والفروق بينهم في اللغة والعادات، وفي المذهب؛ فالشيشان شافعية والشراكسة أحناف، ويورد خلاصة من تجارب التعامل بين الحضر والبدو.
أفرد الزركلي في كتابه المشار إليه فصلًا دعاه "للتاريخ" تناول فيه شيئًا عن أحوال معان، الحجازية والشامية، وعشائرهما، وقال إنَّ لفظ معان يطلق على جميع أراضي الشراة، التي تضُم قرى كثيرة أكبرها "أذرح" و"الجرباء" وفيهما أنقاض أبنية وطواحين، وأشار إلى أسماء قرى أخرى أكثرها أصبح دارسًا، وأتى على ذِكر عشائر الحويطات في أطراف معان، وناحية الشوبك، وقلعتها، وأهاليها، ووادي موسى المشتهر بآثاره، بيد أنه لم يُتَح له زيارة منطقة الآثار في البتراء، وإنما ذُكر له شيء عن أهم آثارها الفخمة!
كما أفرد للواء الكرك –حينذاك- فصلًا نقل فيه نصّ "بيان رسمي عام وضعته القوّة السيّارة وقُدِّمت نسخة منه للحكومة سنة 1922"، وهذه القوّة هي عبارة عن سرية مُشاة عسكرية كان قائدها الضابط البريطاني "فردريك بيك"، وذكر الزركلي أنه اشترك في وضع هذا البيان ضباط القوّة الوطنيّون، ومعظم ما جاء فيه يتعلق بقبائل الكرك وعشائرها وأقسامها، وإحصاءات عن نفوسها وأعداد بيوتها وقراها، وأحوالها الاقتصادية، وقوّتها من الفرسان والخيل، وما إلى ذلك. ويمكن أن تُعدُّ هذه الوثيقة المبكّرة في القرن العشرين مصدرًا لمعلومات مهمّة عن الكرك في ذلك الحين.
• عن عمّان تاريخها وآثارها
في سنة 1924 كتب درويش المقدادي (1898-1961م)، التربوي والمؤرّخ الرحّالة، وكان حينئذٍ مدرسًا للتاريخ في دار المعلمين بالقدس، نصًّا وجيزًا عن رحلته إلى عمّان وجرش(2)، تطرّق فيه إلى التشابه بين وسائل البشر في حماية أوطانهم ومستعمراتهم في الماضي والحاضر، متخذًا من وقائع التاريخ مصدرًا للعبرة من خلال الكشف عن تجارب وصراعات بعض الدول القديمة التي حكمت هذه المنطقة، كالرومان حين أرادوا أن يتوغلوا في داخلية بلاد العرب ليقضوا على البدو، ولكنهم لم ينجحوا فعقدوا المحالفات مع تدمر وبطرا (بترا) والغساسنة، حتى أخرجتهم من الديار "موجة قوية تحمل لجّتها الأبطال من أم القرى" (مكة المكرمة) مع الفتوحات العربيّة الإسلامية. وذكر المقدادي في السياق مدن الديكابوليس التي أنشأها الرومان على الحدود لصدّ هجمات أعدائهم ونشر المدنيّة الرومانية، وأسكنوا فيها رومانيين، ويقع معظمها في أراضي شرقي الأردن، وهي عشر مدن تمتد من حوالي الكرك إلى دمشق، وأشهرها بيسان وعمّان وجرش ودمشق وأم قيس وفحل.
وممّا ذكره عن عمّان، مقرّ حكومة الشرق العربي، أنها "واقعة بين جبلين وتنبع بقربها عين يجري ماؤها في الوادي فتكسبه خضرة. وفيها ملعب كبير (المدرج الروماني) قائم على جانب الجبل"، وألمح إلى تاريخها القديم الذي أشار إلى أنه يرجع إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وإلى أنها كانت من مدن العمونيين، واستولى عليها في ما بعد البطالسة، وأعاد بناءها بطليموس الثاني فيلادلفوس الذي سمّيت باسمه في ذلك العهد، لكنها استعادت اسمها القديم (عمّان) لما افتتحها العرب.
كان عدد سكان عمّان يوم زارها المقدادي حوالي عشرة آلاف نفس، بمن فيهم سكانها الجركس أو الشركس، وقال إنَّ السلطان عبد الحميد (الثاني) أرسلهم بعد هجرتهم من القفقاس ليجعلهم حاجزًا دون غارات البدو، وإنه -أي المقدادي- وجدهم ما زالوا يتكلمون لغتهم، وذكر ما يوضح عادة الخطف في الزواج عندهم، مستحسنًا الطريقة التي يتعارف بها الفتيان والفتيات الجراكسة بمعرفة ذويهم، وبقصد الزواج وضمان الحياة الهادئة والمستقرّة في بيت الزوجية، فقال: "إنَّ الفتى منهم إذا أحبّ فتاة جركسية ذهب إلى بيت أبيها. وهناك يجتمع بها هو وأصحابه عند أمها ويحدّثها ويتعرف أخلاقها ثم يزورها بعد ذلك حتى يتمكن من معرفتها فيهواها. فإذا عزم على الزواج بها اتفق معها سرًا أن يأتي إليها على حين غفلة من أهلها ليخطفها. فيأتي عادةً فتاها مع أصحابه راكبين الخيول ويقتربون من بيت أهل الفتاة ويشعرونها بقدومهم. فتخرج الفتاة راكبة مع حبيبها. ولمّا يبتعد هذا عن بيتها يطلق مسدسه بضع طلقات ليعلم أهلها بخروجها، ثم يأخذها إلى بيت غير بيته. ومن ثم يحصل في هذا البيت عقد الزواج بحضور وليها فيتم بذلك زواج الفتى. ويعد الجراكسة الزواج دون خطف عارًا. هكذا يتزوج الجركسي بعد أن يعرف زوجته". وأردف المقدادي متسائلًا: فهل يوجد لدينا طريقة يستطيع الفتى بواسطتها معرفة شريكة حياته، أخلاقها أو طباعها وكلامها وهيئتها، كيلا يتزوّجها "على العمية" أو دون معرفة كافية؟
• رحلة إلى عمّان
خلال الربع الأخير من سنة 1933 قام صاحب صحيفة "الصراط المستقيم" اليومية في يافا وخريج الأزهر الشيخ عبدالله القلقيلي (1899-1973م)(3)، والذي أصبح في ما بعد مفتي المملكة الأردنية الهاشمية، برحلة مدّتها أسبوع واحد إلى عمّان عاصمة الإمارة التي لم يكن يعرفها من قبل، ولهذا اصطحب معه سكرتير تحرير الصحيفة علي منصور، الشاعر المصري الأصل، لما لديه من معرفة وخبرة بشرقي الأردن فقد عمل فيها منصور مدة من الزمن من قبل. وكان الجوّ العام في فلسطين حينها متوترًا بسبب الاضطرابات والاحتجاجات العربيّة التي وقعت نتيجة فتح الأبواب من قبل الحكومة المُنتَدبة في فلسطين أمام الهجرة اليهودية، فانطلق القلقيلي مع رفيق رحلته من القدس بالسيارة، وأشار إلى أنَّ السيارات لم تكن تسير بين القدس وعمّان إلَّا قليلًا، ومرّ بأريحا التي كانت مُغلَقة إضرابًا، واجتاز جسر اللنبي المقام على نهر الشريعة (نهر الأردن) الفاصل بين فلسطين والشرق، وأشار إلى أنَّ الموظفين على الجانب الفلسطيني يكتبون أسماء المجتازين إلى شرقي الأردن، لكنهم ليسوا بلطف وبشاشة وسماحة الموظفين في الجانب الحدودي الأردني، وأرجع ذلك إلى أنَّ الأوّلين يتبعون لحكومة الانتداب فيما يتبع الموظفون من شرقي الأردن حكومة عربيّة "والناس على دين ملوكهم"!
وفي طريق الصعود من غور الأردن مرَّت السيارة بقصرٍ يقع قربها كان يُشتّي فيه الأمير عبدالله ومكان آخر أشار القلقيلي إلى أنه يُضرَب فيه فسطاط الأمير، وقال ممّا عرفه بنفسه خلال رحلته: "يظهر أنَّ سموّ الأمير مشغوف بعيش البداوة؛ فهو حيث ينزل يطلب أن تُضرَب لهُ الخِيام، حتى إنَّ لسموّه في حديقة قصر رغدان خيمة" بُسِطَت فيها سفرة الغداء التي دُعيَ إليها القلقيلي ورفيقه. وتحدّث عن محافظة الأمير على زيّه البدوي أحبّ الأزياء إليه، وقد أخذ بَنيه الأمراء بذلك فكان سمو الأمير طلال متزيًا بهذا الزي مما "يدخل في الأصالة وكرم العِرق ونُبل المَحْتِد، وهو من علامات الشرف"- بتعبير صاحب الرحلة.
أمّا عن عمّان فقال إنه كان يتوهّم صورة غير الصورة التي ألفاها عليها، فقد كان يظنها أشبه بقرية، ولكنه وجدها "مدينة جميلة، ذات دور بيضاء وقصور غراء، وشوارع فسيحة مستقيمة، مفروشة بالإسفلت، وقد طاب هواؤها وعَذب ماؤها واعتدل مناخها"، وقد تقدَّمت خلال بضع سنين عما كانت عليه سابقًا، وأخبره رئيس بلديتها طاهر بك الجقة بأنّ "الحكومة لا تعارض البلدية في شيء، بل تسهّل لها عمل كل شيء"، وأنّ البلدية قامت بمشروع إضاءة عمّان بالكهرباء من مالها، ولم تلجأ إلى مشروع "روتنبرغ" لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه نهري اليرموك والأردن بامتياز من سلطة الانتداب لشخص يهودي، ولم تجبرها الحكومة على ذلك، لأنَّ البلدية رأت في "روتنبرغ" مشروعًا يشكل خطرًا على العرب وحصنًا للصهيونية يجبي المال من العرب ليعيش منه الصهيونيون. ويعلّق القلقيلي على ذلك بالقول: "من هنا يظهر أنَّ العرب إذا تُركوا وشأنهم أسرعوا السَّير في التقدّم بما لا يكون منهم في إدارة استعمارية تقف في سبيلهم، وتقيم أمامهم العقبات".
وكان أوَّل ما عمله في اليوم الثاني لوصوله عمّان أن توجّه للسلام على "صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله"، بصحبة الأستاذ نظمي بك عبدالهادي أحد أقطاب حزب الشعب الأردني، وقابلهم الأمير بزيّه العربي الذي لا يدعه لا في مكتبه ولا في مقرّه، مرتديًا القباء الحريري ومتمنطقًا بالخنجر وفوق ذلك العباءة والعقال والكوفيّة.
وتحدَّث القلقيلي عن عناية الأمير عبدالله بفلسطين واهتمامه بما يجري فيها من حوادث، وقلقه من أخبار آنئذٍ عن منشورات لحكومة الانتداب في فلسطين بأنها لن ترجع عن جعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود، لكن المعتمد البريطاني في ذلك الوقت أبلغ مستشار الأمير الشيخ فؤاد باشا الخطيب بأنه لا علم له بذلك، وأنَّ حكومة فلسطين أجابت بأنه لا صحة لذلك! ويستطرد القلقيلي للإشارة إلى مذكرة بعثها سموّه إلى الحكومة البريطانية بشأن فلسطين وقضيتها وقد كتبها بنفسه في قالب سياسي حكيم، ووقعت موقع الاهتمام لدى المندوب السامي البريطاني وحكومته، ويقول القلقيلي إنَّ الأمير أُجيب عليها جوابًا حسنًا، ويذكر صاحب الرحلة أيضًا أنَّ سموّه جاهد في الكتابة إلى الحكومة البريطانية داعيًا إلى إنصاف العرب، في الوقت الذي أضرب فيه الناس في عمّان يوم وصلها القلقيلي وساروا في مظاهرات احتجاجية على ما يحدث في فلسطين والهجرة اليهودية إليها، وكان وابل برقيات الاحتجاج من شرقي الأردن إلى الحكومة البريطانية لا يكاد ينقطع، ويقول القلقيلي: إنَّ كثيرًا من الناس كان "يرقب كلمة من زعيم مسؤول أو إشارة من مُطاع ليزحف إلى فلسطين"! ونوّه هنا بعقلانية حكومة شرقي الأردن والحكمة التي جنّبت هذا البلد ما هو أدهى ممّا وقع في فلسطين، ووصف الأسبوع الذي قضاه في عاصمة شرقي الأردن بأنه كان "أسبوع فلسطين".
وينقل القلقيلي صورة من مجلس الأمير عبدالله والمزيد من ملامح من شخصيّته التي كان من الواضح أنه يكن لها الاحترام والإعجاب، فقال إن سموّه "يقبل على مَن يتشرف بمجالسته بالبشاشة والإيناس ويجاذبه الحديث فيما يعلم سموّه أنه يحسنه، فإذا كان جليسه فقيهًا حادثه في الفقه، وإذا كان أديبًا حادثه في الأدب. وسموّه يحب العلماء ويرغب في مجالستهم ويبالغ في إكرامهم، وهو يسهّل لهم العيش في كنفه، ولذلك تجدهم يستطيعون الإقامة في ظلّ الأمير؛ كمثل الشيخ الشنقيطي (الشيخ محمد الخضر الشنقيطي) المُحدِّث، فقد علِمنا أنَّ سموّ الأمير يجري عليه مرتبًا شهريًا". وأشار إلى أنَّ سموّه يتكلَّم بلغة فصحى، ويتبسط مع مجالسيه بالمُلَح والفكاهات.
وخطر للقلقيلي أن يسأل عن حرس الأمير ولِمَ اتخذهم من الجركس، فقيل له حتى يرى شعبه أنه لا يفرّق بين أجناسه فيقتدي به، وعلى هذه القاعدة دخل شخصيات من مسيحيي البلاد الوزارة مثل عوده بك القسوس النائب العام لحكومة شرقي الأردن. ورأى القلقيلي أنّ هذه السياسة قد أثمرت فإنَّ المسلمين عربًا وجركسًا والمسيحيين متعلقون بالأمير، وإنهم حريصون على رضاه.
وتسنّى للقلقيلي أن يجتمع بالأمير طلال ولي عهد إمارة شرقي الأردن آنئذٍ، وذكر أنَّ الناس يتداولون حكايات عجيبة تدلّ على وطنيّته البالغة، وزار الأمير نايف النجل الأصغر للأمير عبدالله. كما حضر حفلة افتتاح المجلس التشريعي الأردني، واغتبط بما رآه فيها من مظاهر العزّ والمجد، فوصف مراسمها وقدوم أمير البلاد لإلقاء خطاب العرش وهو يرتدي ملابسه العسكرية في موكب عظيم فتُطلق المدافع تحيةً له وتصدح الموسيقى بالسلام الأميري. وأعجبه في خطاب العرش أنه يتميَّز عن سائر خُطَب العروش الإسلامية أنه افتُتِح بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وأنه يؤرَّخ بالتاريخ الهجري فقط، وقد لخَّص الخطاب ما عملته الحكومة من الأعمال، كما بشَّر بقرب عقد معاهدة حينئذٍ بين حكومة شرقي الأردن والحكومة السعودية.
ولاحظ صاحب الرحلة أنَّ الأغلبية في المجلس التشريعي للدورة التي حضر افتتاحها كانت لحزب الشعب المعارض ومنه تشكَّلت معظم لجان المجلس، وأنَّ رئيس المجلس هو نفسه فخامة رئيس الوزراء، وأنَّ أعضاء مجلس الوزراء لهم حق الاقتراع!
ومن الشخصيّات التي ذكرها القلقيلي في رحلته غير ما جاء في السياق هنا من أسماء أخرى: محمد بك الأنسي الذي كان في السابق رئيس ديوان الأمير، وهاشم بك خير عضو المجلس التشريعي والتنفيذي، والأستاذ الشيخ نديم الملاح الأديب المشهور (وصاحب مجلة الحكمة)، والسيد خليل نصر صاحب صحيفة "الأردن"، ومحمد بك المحيسن رئيس ديوان الأمير الذي "تلوح عليه أمارات الذكاء والفطنة ويتكلَّم الإنكليزية"، وقال عن الشيخ فؤاد باشا الخطيب إنه أستاذه فقد عمل معه في بدء النهضة العربيّة في الوكالة العربيّة بالقاهرة، التي كان الخطيب وكيلها كما كان وكيلًا للخارجية في عهد جلالة الملك المنقذ الحسين بن علي في الحجاز.
• ديار الأنباط، وفي الطريق إلى جرش
في غضون النصف الأوَّل من أربعينات القرن الماضي تسنّى للمؤرخ الرحّالة الدكتور نقولا زيادة (1907-2006م) أن يقوم برحلتين إلى شرقي الأردن أفرد لهما قسمًا من الفصل الذي كتبه بعنوان "سورية كما عرفتها" في كتابه "صور من التاريخ العربي"(4)، فزار في سنة 1942 مع رفاق له في الكلية العربيّة بالقدس حيث كان يعمل أستاذًا، معان والبتراء والشوبك والكرك جنوبًا. وفي السنة التالية 1943 سافر من القدس أيضًا إلى شمالي الأردن مع اثنين من رفاقه هما أديب عتقي وأديب خوري، المهندس الصحفي، في سيارة هذا الأخير المسماة "زنوبيا الثانية"، فزار الثلاثة جرش، التي استغرق الوصول إليها يومين مرورًا بعجلون وإربد ومصبّ وادي اليرموك في نهر الأردن، ومرورًا قرب فحل وبيسان، كما أشرفوا خلال الرحلة على هضاب حوران والجولان شمالًا.
جاءت الرحلتان كسانحة استحضر فيها زيادة التاريخ متأملًا سياقاته بما تحمله من مؤشرات ودلائل على العمق الحضاري لهذه الديار، وبما تشكِّل من رؤية جليّة لأهمية موقعها الجغرافي وأبعاده؛ مع كشف العبرة واستشفاف الفائدة من هذا الدرس الموضوعي في مطاوي التاريخ عبر الرحلة، لكن دون الاستغراق في الماضي ودون الانفصال عن الحاضر. فخلال عهد دولة الأنباط في البتراء، ثم في العهد الروماني، كان الاستقرار العامل الأهم في إبراز هذه الأهمية وانعكاسها أيضًا على المنطقة المحيطة بشرقي الأردن. فالرومان الذين احتلوا سورية وعملوا على استقرار البلاد بتنظيم الإدارة وتأمين الحماية من هجمات البادية أنشأوا القلاع والحصون التي امتدت من جنوبي عمّان إلى درعا حتى تدمر والفرات، وأعادوا القيمة لكثير من المدن المهملة بإعمارها من جديد، فعاد الناس لسكناها، ومنها زيزياء وعمّان (فيلادلفيا) وجرش وفحل وبيسان ودرعا، واعتنى الرومان أيضًا ببناء الطرق ليوفروا للجيش سرعة الانتقال والمحافظة على البلاد، وكذلك الربط بين مدن الداخل والساحل، "فكانت عكا (بطلمايوس) وبيروت وما بينهما تتصل مع بيسان وفحل وجدارا وجرش ودمشق اتصالًا مباشرًا على طرق مبنيّة من قطع كبيرة من الحجر"...إلخ.
ويبيّن زيادة أنَّ موقع شرقي الأردن الطبيعي بين الحجاز جنوبًا وسورية غربًا وشمالًا والعراق شرقًا جعل من هذه المنطقة طريقًا للتجارة وممرًا للقوافل من أقدم الأزمنة، وبسبب الاستقرار على مدى ثلاثة قرون من الحكم الروماني ازدهرت الحياة الاقتصادية، ونَمَت الثروة، وزاد عدد السكان، وعاد إليها العمران بالمباني والهياكل، واعتنت مجالسها المحلية وحكامها بتجميلها وتحسينها، وكانت مدنها قد وُجدت في زمن اليونان وقد تأثرت بالنزعة الهندسية التي عُرِفَت بها المدن اليونانية الهلينية، مما اتسمت به الشوارع التي تتقاطع على زوايا قوائم، وتسير على خطوط مستقيمة، وكانت المياه العذبة الصالحة للشرب تُنقل من مسافات بعيدة.
ويحدثنا المؤرِّخ الرحَّالة عن نهضة فنيّة في ذلك الزمان، قوامها أهل البلاد أنفسهم، وقد تمثَّلت في تزيين أرض البيوت والهياكل بالفسيفساء الجميلة بأشكالها ورسومها البديعة، والاهتمام ببناء الكنائس المرصعة أرضياتها أيضًا بالفسيفساء، "التي شملت صور القديسين، ومناظر من الكتاب المقدس، وخارطة لفلسطين وبيت المقدس وفيها كنيسة القيامة".
استقلّ نقولا زيادة في الرحلة إلى الجنوب الأردني القطار من محطة عمّان مع خليط من الركّاب بينهم التجار الذين يحملون بضائعهم من حوانيت دمشق وعمّان إلى أهل الكرك ومعان، والبدو العائدون إلى مضاربهم "بعد أن قضوا لبانتهم من مباهج عاصمة الإمارة وغيرها"، والجنود الراجعون إلى العقبة، وقلّة من طلاب المتعة بزيارة الآثار القديمة. ويصف زيادة بأسلوب قريب إلى السرد القصصي أجواء الرحلة في قطار يطوي البيد على سيف البادية، حيث أرض قفراء لا نبات فيها ولا مظاهر للحياة سوى بعض خيام تبدو للعيان بين حين وآخر، فلا يجد الركّاب ما يخفف وطأة الوقت الطويل لقطع المسافات على السكة الحديدية إلا تبادل الحديث بينهم... فهناك لغة مشتركة تربطهم "بعضهم ببعض، فيتحدثون حديث إخوان وخلّان، ويتشاكون شكوى أصدقاء أعزاء، ويروي الواحد قصته فيضحكون حينًا ويألمون حينًا"، ويذكر زيادة من بين هؤلاء الركاب "أبو شام" التاجر الدمشقي المقيم بالكرك الذي قصَّ عليهم طرفًا من اختباراته في الإتجار والسفر، ولمّا غادر القطار في محطة القطرانة أسفوا لذلك، وودّوا لو أنه قصد معان معهم ليتم سرورهم بحديثه.
كما وصف صاحب الرحلة بعض المحطات التي مرَّ بها القطار، فأشار إلى أنَّ أكثرها يتكوّن من بيت لناظر المحطة ومكتب له، وفي بعضها بنايتان أو أكثر لخزن غلّات المنطقة المتجمّعة فيها تمهيدًا لشحنها، وفي زيرياء (30 كم جنوب عمّان) بركة لجمع الماء، فأكثر هذه الأماكن خالية من الينابيع. وذكر أنَّ القطار يحمل الماء إلى سكان هذه المحطّات من عمّان، فيفرِّغونه في صهاريج مخصصة لذلك، ويقتصدون في استعماله إلى أن يأتي القطار في الموعد التالي حاملًا لهم كمية جديدة من الماء.
وعلى الطريق يذكر زيادة زيارته السابقة إلى مادبا، وإلى قصر المشتى الواقع إلى الشرق من زيزياء، ويستذكر قطع الفسيفساء الجميلة التي شاهدها مما يعد "من مفاخر الفن السوري قبل الفتح العربي لهذه البلاد"، كما يذكر بيوتًا دخلها في مأدبا فكان أهلها يرفعون الحصير الذي يكسو الأرض فتظهر تحته هذه القطع الفنية. ويعجب بما وقف عليه من الآثار المتبقية في قصر المشتى والتي تدلّ على أنَّ "القوم صنعوا شيئًا لم يعرفه الشرق منذ أيامهم"، وقد كانت قصور الخلفاء الأمويين "تحوي من لوازم الرفاهية ومقتضيات العيش الهنيء ما لم يكن الحصول عليه سهلًا في المدينة، بله قصرًا في الصحراء"!
وتدعو الرحلة في قطار يسير على الخط الحديدي الحجازي صاحبها إلى التطرُّق لشيء من تاريخ إنشاء هذا الخط ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وغاية الدولة العثمانية من إنشائه، وأثر وصوله إلى الجنوب الأردني من جهة تغيير طراز معيشة بعض البدو وانتقالهم إلى الحياة الحضرية، وما كان من تكلفة إنشاء هذا الخط على الغابات في المنطقة الواقعة قرب وادي الحسا، والتي اقتطعت أشجارها لمدّ السكّة بالأخشاب. وتتداعى في ذهنه صور التاريخ فيذكر الغساسنة العرب الخُلص الذين عمّروا مشارف الشام وكانت لهم مدنية وحضارة فيها.
ويصف زيادة آثار البتراء وصفًا شاعريًا لا يجافي الواقع، فيرسم لوحة لافتة لسحر الألوان التي تنعكس من الجبال الرملية على الصخور الوردية مع أشعة الشمس كآية من آيات الفن تتحد في إخراجها الطبيعة ويد الإنسان. وتحدَّث عن حضارة العرب الأنباط في القرن الخامس قبل الميلاد، والذين أصبحوا سادة التجارة في جنوب سورية، وغدت البتراء السوق الرئيسة لمتاجر بلاد العرب ومصر وسورية الداخلية والساحلية. وفي طريق العودة يزور الشوبك وقلعتها التي بناها الصليبيون واستولى عليها الأيوبيون واتخذها أهل الشوبك كحماية لهم ولدرء الخطر عن بلدتهم. ثم ذهب ورفاق الرحلة في زيارة إلى الكرك، وكانت ضيافتهم عند آل المجالي، ومنهم رئيس الجامعة الأردنية ورئيس الوزراء الأسبق الدكتور عبدالسلام المجالي الذي كان يومها ما يزال طالبًا في كلية الطب بالجامعة السورية في دمشق، وصديقًا للدكتور ناصرالدين الأسد الذي تمّت الرحلة برعايته، وأصبح نقولا زيادة منذ ذلك الحين ثالث الأصدقاء.
حملت الرحلة الثانية لزيادة في شمالي الأردن صورًا قلمية غاية في جمال الوصف والتصوير لمناظر جبال عجلون وغاباتها، وآثار جرش وواديها بلغة أدبيّة بليغة، تمنح حديث الرحلة رونقًا يجعل القارئ يعيش اللحظة في الاستمتاع بالطبيعة الخلابة، ويرافق الرحّالة في مشاهدة الآثار والتجوّل بين الأطلال، واستشعار أجواء العصر الذي ترجع إليه.
وعلى ذيوع شهرة آثار جرش بين الرحّالين والسياح منذ اكتشفها الرحَّالة الألماني "سيتزن" (1767-1811م)، سنة 1806، فإنَّ البلدة كانت حين زارها زيادة ورفاقة خلوًا من فندق ينزلون فيه، فاستضافهم أحد أبنائها ممّن ذكر صاحب الرحلة أنهم نعموا بضيافته ليلة "أهَّل بهم ورحَّب، وفتح لهم بيته وصدره، فاستمتعوا بكرمه وحديثه، ورافقهم في الصباح لزيارة جرش القديمة".
• تاريخ يُعيد نفسه في شرقي الأردن
الرحلة الأخيرة التي نعرض خلاصتها من الرّحلات العربيّة المختارة إلى شرقي الأردن في عهد الإمارة هي لأستاذ الجغرافيا التاريخية الأكاديمي المصري الدكتور سليمان حزين (1909-1999م) الذي شغل منصب وزير الثقافة في بلده، وأسس جامعة أسيوط (1955) وكان أوّل رئيس لها. وقد أمضى أيامًا من سنة 1945 متنقلًا في أرجاء شرقي الأردن وكتب بحثًا من واقع الدراسة الميدانية التي أجراها خلال رحلته(5)، بنظرة تجمع بين التاريخ والجغرافيا أو بين الإنسان والبيئة، ذلك أنَّ النشاط البشري الذي يصنع التاريخ هو بنظره نتيجة للتفاعل بين البيئة والإنسان. ويقول الدكتور حزين إنه بقدر ما يطول التاريخ البشري في إقليم ما، تتعدد الأدلة والشواهد فيه على تشابه الحوادث وتكرارها على مرّ العصور، والشرق الأدنى –بتعبيره- أحد تلك الأقاليم ومنه منطقة شرقي الأردن، التي كانت بمثابة حلقة اتصال بين أطرافه في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ويرى أنَّ تاريخ هذه المنطقة صورة واضحة من "تاريخ الاتصال بين مختلف أجزاء ذلك الشرق؛ وارتباطها بعضها ببعض ارتباطًا شمل نواحي الحياة التجارية والثقافية والسياسية جميعًا".
وشرح الدكتور حزين دور الجغرافيا الأردنية في اكتساب هذه المنطقة جوانب من التحضُّر والاستقرار، وما وفَّر لها هذا الدور من مزايا الاتصال عن طريق الجنوب والشمال. وتاريخيًّا، فإنَّ الموقع الجغرافي "جعل منها عقدة التقت عندها روابط الشرق، واحتكت فيها البادية بالحضر احتكاكًا لم يخل من عنف في بعض الأحايين، ولكنه مع ذلك أنتج أطيب الثمرات". كما تحدَّث عن الطرق التجارية التي كانت تتقاطع في شرقي الأردن وتلتقي فيها من الجزيرة العربيّة وأطرافها شرقًا، ومن البحر الأحمر ومصر وسيناء جنوبًا، ومن ميناء غزة جنوبي فلسطين إلى وادي عربة وأرض بطرا والأنباط القدماء، ومن الشمال طرق عدة يأتي أحدها من العراق الأوسط وبادية الشام إلى اليرموك وشمالي مؤاب، وآخر من العراق الأعلى وتدمر إلى دمشق وعمّان، وثالث من سورية الشمالية وحلب وحمص إلى دمشق وحوران ثم الجنوب، وأما الطريق الرابع فمن شمالي فلسطين عبر الأردن حتى يلتقي بطريق الشام ويمتد إمّا جنوبًا أو شرقًا أو باتجاه الشمال. وكان تلاقي التجار من أطراف الشرق الأدنى يحمل معه تبادلًا للفكر والثقافة، ما أدّى إلى التعارف والتآلف الشرقي في كثير من الأحايين، فضلًا عن أنَّ هذا الملتقى للتيارات الثقافية المختلفة أثمر ثمراته الطيبة، فقد كانت الثقافة عند الأنباط وكتابتهم بشكل خاص أساسًا من أسس الثقافة والكتابة العربيتين، وقد تطوّر الخط العربي المعروف من الخط النبطي القديم. والأمثلة عديدة من الوقائع التاريخية المتعلقة بأطماع الدول القريبة والبعيدة للاستيلاء على شرقي الأردن بسبب أهمية موقعه، فقد ظلت ميزته "قيمة دائمة لا طارئة، وكانت عاملًا أساسيًا باقيًا، أفاد منه واستجاب له سكان المنطقة نفسها". وفي العصر الحديث أدركت بريطانيا هذه الأهمية حين استقر الأمر لها بالانتداب، فأقامت حاميات ومعسكرات وقواعد جوية لتمتد بنفوذها إلى الشرق العربي، ومدَّت طرقًا عسكرية كما فعل الرومان قديمًا.
برزت قيمة عمّان من جديد حين اختارها الأمير عبدالله عاصمة للإمارة، ويقول حزين يوم زار عمّان (فيلادلفيا القديمة ووريثة موقعها): "فإذا دقَّق الزائر استطاع أن يتعرف على آثار الطرق القديمة ومعالم اتجاهاتها الأساسية، وهي الطرق التي حدَّدت موقع المدينة منذ نشأتها الأولى، ولا تزال الطرق الحديثة تتبع الاتجاهات القديمة".
ومما يتناوله صاحب الرحلة العلاقة بين العرب وأهل البادية بصفة خاصة وبريطانيا المُنتَدبة، فيرى أنَّ البريطانيين كانوا أحكم من الرومان في سياسة هذه العلاقة، فقد أدركوا أنه من غير الممكن ولا اليسير أن تحكم الإمبراطورية منطقة شرقي الأردن كما تحكم الولايات والمستعمرات، فالعرب والبدو لا يتقبلون الضيم ولا يرتضون حكمًا من الخارج، فتركت شؤون الحكم في الإمارة الأردنية الناشئة التي لم يتجاوز عدد سكانها ثلث مليون لأميرها العربي. زد على ذلك أنَّ العرب من جانبهم -كما لمس الدكتور حزين- "لم يدعوا كل أمورهم للبريطانيين، وإنما أخذوا كثيرًا من أسباب نهضتهم بأيديهم، واستطاع أميرهم إذ ذاك أن يشيع في بلاده نهضة مادية وأدبية وقومية عامة يلمسها مَن يزور هذا القطر العربي".
ويستعيد الدكتور حزين أمام النهضة الحديثة لشرقي الأردن أوجه شبه بينها وبين نهضات في عصور التاريخ الغابرة، ولا سيما من جهة ما شهده من بدء اتساع الأراضي الزراعية في وادي الأردن وبعض الأودية والبقاع المرتفعة حيث يزيد المطر زيادة نسبية، وحيث تجود التربة، ما يعني أنَّ حياة الزراعة والاستقرار بدأت تعمّ على حساب حياة البادية والتنقل طلبًا للكلأ والمراعي، كما أخذت البيوت المبنية بالحجر تظهر وسط بيوت الشَّعر، وبدأت التجارة وأسواقها تزدهر، وبدأ البحث عن الثروات المعدنية واستغلالها. وكل ذلك دلائل على نهضة اقتصادية تظهر للزائر والسائح في ما يراه بعمّان والمدن الأخرى مع ارتفاع مستوى المعيشة الناتج عن زيادة حقيقية في معدلات الكسب والأجور، ولا يقل هذا المستوى عن نظرائه في الأقطار العربيّة ومنها مصر -على ما يؤكده صاحب الرحلة- ذلك إضافة إلى نهضة البلاد التعليمية والثقافية التي بشَّرت بخيرٍ كثير.
• الهوامش:
(1) خيرالدين الزركلي: "عامان في عمّان- مذكرات عامين في عاصمة شرق الأردن 1921- 1923"، تحقيق ومراجعة: عيسى الحسن، عمّان، الأهلية للنشر والتوزيع، 2009 (ينظر الصفحات 53، 57-63، 65-67، 70-71، 93-94، 109-119، 121-147). وكان هذا الكتاب (وهو جزء أوَّل كما أثبت على غلافه حينذاك) قد طبع أولًا في المطبعة العربيّة بالقاهرة سنة 1925 وعُني بنشره يوسف توما البستاني، ونشر الباحث والمحقق الأستاذ أحمد العلاونة ما وجده من مخطوطة الجزء الثاني في كتابه "خير الدين الزركلي- ببلوغرافيا، صور ووثائق، وبعض ما لم يُنشَر من كتبه"، ط1، الكويت، مكتبة فهد الدبوس للتراث الأدبي، وبيروت، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1435هـ/ 2014م.
(2) يبدو هذا النص أقرب إلى خلاصة من ملاحظات عن رحلة، وقد نشرته بصيغة مقالة مجلة دار المعلمين بالقدس في عددها الرابع سنة 1924.
(3) نشر رحلته في صحيفة "الصراط المستقيم" على حلقات في أعداد شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1933.
(4) نقولا زيادة، "صور من التاريخ العربي"، القاهرة، دار المعارف بمصر، 1946، ص121-135. وينظر: نقولا زيادة، حول العالم في (76) عامًا: رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي (1916-1992م)، حررها وقدَّم لها: نوري الجراح، سلسلة "ارتياد الآفاق"، أبوظبي، دار السويدي للنشر والتوزيع، وبيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ط1، 2007، ص239-250.
(5) سليمان حزين، "أرض العروبة: رؤية حضارية في المكان والزمان"، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1993، ص303-314. وسبق أن نشرت الدراسة حول شرقي الأردن في مجلة "الكاتب المصري" بالعنوان الذي أثبتناه هنا، ع6، مارس (آذار) 1946.