حاورها: جعفر العقيلي
كاتب أردني
تكتب عائشة السيفي الشعر ضمن إيقاع تفعيلي لا يقيّد فضاء الحرية والحلم. تحتشد قصائدها بالرؤى والتشكيلات والتعابير الصوفية، وتمسك بتفاصيل الحياة اليومية وتكشف المستور في الذات المنطوية على نفسها. أمّا في مقالاتها فهي تشتبك مع الراهن، وتكتب بجرأة حول مسائل مجتمعيّة ملحّة، وهي ترى أنَّ هذه الكتابة مرآة لهواجسها وتفرِيغ صادق للقلقِ الذي تمتصّه من القضايا اليوميّة التي تلامسها وهي في الشّارع تتقاسم الحياة بضيقها واتّساعها مع آخرين لا يملكون قدرة الكتابة.
وُلدت الشاعرة العُمانية عائشة السيفي عام 1987، درست الهندسة المدنية في جامعة السلطان قابوس وتخرجت فيها عام 2010، ثم عملت في مجال اختصاصها وأدارت شركة استشارات هندسية هولندية في عُمان قبل أن تسافر إلى لندن لتواصل دراستها العليا في الهندسة.
أشرفت السيفي على مختبر الشعر ببيت الزبير في مسقط، وكان لها عمود ثقافي يُنشر كل يوم أربعاء في صحيفة "الوطن" العُمانية (2006-2010)، وأعدّت لإذاعة السلطنة برنامجًا ثقافيًا بعنوان "مرافئ شعرية" (2007) التقت فيه بعدد من التجارب الشعرية البارزة في الوطن العربي.
نالت السيفي جوائز في المسابقات الجامعية ومن وزارة التراث والثقافة والمنتدى الأدبي ومهرجان الشعر العُماني السادس، وهي عضو في جمعية الكتاب والأدباء العُمانيين، وجماعة الخليل للأدب.
صدر لها ثلاث مجموعات شعرية هي: "البحر يبدل قمصانه" (2014)، و"أحلام البنت العاشرة" (2016)، و"لا أحبّ أبي" (2017).
تاليًا حوار مع السيفي عن رؤاها وتصوراتها، وموقفها من التفعيلة والوزن، ودور العائلة في صقل تجربتها، والتجسير بين الشكل التقليدي والحداثة في الصوغ والتعبير والأسلوب، وعلاقتها بالقارئ، ورسالة الشعر.
• تحتشد قصائدك بالرؤى والتشكيلات والتعابير الصوفية، خصوصًا ذات الصبغة الحلّاجية، ما مدلولات هذا التوجّه، وما الذي يمثّله الحلّاج لك؟
- الحلّاج وآخرون نافذة للجمال أركن إليها بوعيٍ ودون وعي ثمّ أراها بطريقةٍ ما عالقةً كرائحةٍ جميلة في نصوصي.. حضوره كحضور شجرة السفرجل التي تتوسط بيتنا.. أقف أتأمّلها لساعات ثمّ أرى أثر رائحتها في قصيدةٍ ما. حضوره كأثر كوبِ شايٍ بالقرفة شممته في مقهى عابر لا أتذكّره. فتنت بالحلّاجِ أيّام الجامعةِ وما أزال.. إنّ لديهِ قدرةً هائلةً في أن يبدو غير مرئيٍ ولكنْ مرئيّ في آن.. أن يحيط بك دون أن تحيط بهِ.. أن يكون خفيفًا بشكلٍ هائلٍ ولكن متجليًا في كلّ كلمة من قصائدهِ.. تشعر أنّه كان يعرف نهايته وأنه متصالحٌ تمامًا معها.
• يقول الشاعر سيف الرحبي إنك تكتبين الشعر ضمن إيقاع تفعيلي لا يقيّد فضاء الحرية والحلم، بل هناك سعيٌ يبتعد عن قسْر الوزن وإكراه القافية. هل ترين أنَّ الوزن والقافية ما زالا معيارًا للقصيدة؟
- لا أعرف ما معيار القصيدة سوى أنّك حين تقرؤها تعرف أنّها قصيدة.. القصيدة الجميلة لا تحتاج معايير لتقول حين تقرؤها: "الله!". دعني أستحضر في ذلك ما قاله لي يومًا الشاعر العراقيّ عدنان الصّائغ حين قرأ لي مجموعتي الأخيرة: "اسمعي.. أنا لست ناقدًا ولا أجيد تحليل النصّ.. أعرف فقط حين أقرأ شعرًا حقيقيًا أن أقول إنّه شعر.. يكفي ذلك".
ودعني أيضًا أقول شيئًا آخر؛ نحن شعوبٌ موسيقيّة بالفطرة.. منذ الأغاني الأولى التي تحرسنا بها الأمهات في المهد.. والأناشيد التي نرددها في الحواري، وتلك التي تكبرُ معنا في المدرسة.. إنّها مغموسة تمامًا في الذاكرة البعيدة وبالتالي فليس من السّهل أن ننسحب من الوزن والقافية.
أُسألُ كثيرًا إنْ كنت سأجرّب كتابة قصيدة النّثر وهذا السؤال يدهشني.. على القصيدة حين تولد ألّا تحدث بنيّة مسبّقة في تحديد شكلها وصيغتها. القصيدة تخرج حرّة من التصنيف. من أجل ذلك فإنّ تجربة الوزن والقافية ما تزال مساحةً خصبةً أستمتع بها لأنّ نصوصي تخرج موزونة بطبيعتها الفطريّة دون أن أُكْرِهَ الوزنَ عليها.
نحن نقرأ قصائد شعراء عالميين مترجمةً دون وزن، وقد تكون في طبيعتها الأولى موزونة، ومع ذلك فإن متعتنا بها مدهشة، واحتفاءَنا بها عالٍ، وربّما أعلى من احتفائنا بالقصائد الموزونة.. هناك شعراء نثر عرب يرفعون سقف توقّعاتك كشاعر. إنّك تقلق من أن تُقْدِم على التجربة النثريّة بدهشةٍ أقلّ من تلك التي يغمرونك بها. تصبح أكثر حذرًا وأكثر انتقائيةً وأنت تقرأ للدهشة التي يغمرونك بها وأنت برفقةِ نصوصهم. عندما تكتب قصيدة النّثر عليك أن تكون قارئًا شرسًا وناقدًا أكثر شراسةً لنصّك.
• يقول الناقد حسونة المصباحي إنَّ قصيدتك تمسك بتفاصيل الحياة اليومية، وتكشف المستور في الذات المنطوية على نفسها. متى تكون القصيدةُ ابنةَ الحياة و"فضّاحة" من غير مواربة؟
- عندما تبلغ بك الحساسيةُ تجاه الأشياءِ أن تقضي يومًا وأنت تتأمّل صنبورًا صَدِئًا أو ورقةَ شجرةٍ متآكِلةً أو تُبكيك فردةُ حذاءٍ على الشّارع تفكّر في حكاية مَن تركها.
عندما تؤلِمُك ليومينِ، ندبةٌ غائرةٌ لمَحْتَها في وجهِ بائعٍ في الشّارع.. تفكّر في حكايةِ وأثرِ بقائها في حياتهِ للأبد.
عندما تتأمّل النقوش على كوبِ شايِك وتفكّر فيما حدث لليدِ التي خطّت هذه التعرّجات خَطًّا خَطًّا.
التفاصيل التي لا تعني أحدًا سوى الشّاعر الذي يعيش ملتقطًا كلّ ما يخلفه الآخرون.. وكلّ ما لا يعني أحدًا.
عندما تقضي ثلاثَ ليالٍ وأنت تفكّر في آيةٍ قرأتَها قبل أيّام دون أن تتركك للحظةٍ واحدة.
القصيدة عندي هي ذاكرة التفاصيل التي لا أريد لها أن تغادر. وهذا متعبٌ جدًا. كيف للشاعرِ أن يتخلّص من حساسيتهِ المفرطة تجاه الأشياء؟
• يرى نقاد أن قصائدك أغنيات تفيض بالشجن الذي يذكّر بشجن السياب وكذلك درويش في قصائده الخريفيّة. كيف تعيشين هذه التجربة وتختبرين الخريف وأنت ما تزالين في "ربيع الحياة"؟
- أعتقد أنّ لدى الشّاعرِ قدرة على القفزِ على تجربته العمريّة لأنّه مدرّبٌ على اختصارِ الأشياء.. اختصار المشاهِد واختصار التفاصيل، واختصار الأحداث، والبشر..
لمْ يحتج أجود مجبل أن يقول الكثير ليصف "داخِل حسن" كمْ كان مضيئًا:
"هل سيكفيهِ أنّ شمسًا أحبّته... لديها من ليلهِ أضواءُ؟!".
أو البؤس في أجَلِّ صُوَرهِ كما تصفه كاتيا راسم:
"تعالي ولو بيدكِ السّكين أيّتها النهاية!".
أو توحّش الرغبة على طريقةِ ميسون الإريانيّ:
"أريد أن أقتلك حتى آخرِ العالم
حتى آخرِ سحليّة تنقرض
وآخر فستانٍ يجلب الضّجر".
نحن نعيش مراتٍ كثيرة ونموت مرّاتٍ أكثر.. هذه القدرة الهائلة على الانبعاث على هيئة مشاعر وصور وحيَوات وأناس وجمادات، تمنحنا القدرة على القفزِ على تواريخ ميلادنا إلى أعمارٍ أخرى.. أكبر منّا أو أصغر.
• واجهتِ سلطة العائلة حينما حاولتْ منعك عن ممارسة الكتابة/ الحلم. من زوّدكِ بالقوة الكافية للمواجهة، وكيف تنظرين الآن إلى ما حدث؟ لو رضختِ حينها؛ أين كنتِ ستكونين الآن؟
- لم أكنْ لأواصل تجربة التشكّل الشعريّ هذه دون مساندة عائلتي. غير أنني أعترف أنّ خروج شاعرةٍ من عائلة محافظةٍ من قلبِ "نزوى" تريد للعالم أن يسمع صوت قصائدها، كان صادمًا لهم ولآخرين.
أكثرهم كان والدي، الذي ضحك في المرةِ الأولى التي قلت له فيها إنني أكتب الشعر وأنشدت له قصيدةً في مديح القبيلة رغبةً في اجتذابِ اهتمامه. كان ذلك أيّام دراستي الابتدائيّة ولم يكن يخطر في باله -وفي بالي أيضًا- أنني سأواصل هذه الرّحلة الشاقة. حين بدأتُ المشاركة في المسابقاتِ الشعريّة والأماسي والخروج العلنيّ كشاعرة لم أكنْ أدرك أنّ الأمر يحتاج استعدادًا أُسَريًا وقد انطلقتُ بحريّة المناضلة من أجلِ حقّي الفطري في أن أكون ما أريد أن أكون. واحتاج الأمر سنواتٍ ليتقبّل والدي واقعَ الأمر وليدرك ما يعنيه الشّعر لي. لكنّ ذلك لم يكنْ ليَحدُث لولا إيمان عائلتي بجديّة أثرِ الشّعر في حياتي وبأنّ كتابته ليستْ نزوةً عابرة أو حلمًا سريع التلاشي. لقد ساندوني حين تخلّى عني كثيرون، وحموني حين اتُّهِمَتْ نصوصي بالفضائحيّة وقلّةِ الحياء، وكانوا ظهرًا وعونًا لي، وفي كثيرٍ من الأحيانِ أشفقت عليهم لأنّ عليهم تبرير ما لمْ يقترفوه للآخرين، ربّما ليس عنِ اقتناعٍ منهم، ولكنْ لأنّهم يعرفون ابنتهم أكثر من أيّ شخصٍ آخر.. يعرفون رسالتي، بجمالها وعواقبها وبسعادتها وآلامها.
• تكتبين العمودي والتفعيلة. متى تختارين هذا النمط أو ذاك. وكيف تنجحين في التجسير بين الشكل التقليدي والحداثة في الصوغ والتعبير والأسلوب، وهو ما يعني النأي عن النظْم قبل أيّ شيء آخر؟
- بدأتُ بالعمودي، ثمّ تركتُه لسنوات قبل أن أعود إليه مؤخرًا. كلّ ذلك يحدث دون اختيارٍ مني. إنّها اللحظة الشعريّة التي تبدأ ببيتِ شعرٍ أو بمقطعِ قصيدة تفعيلة. لكنْ دعني أقول إنّ القصيدة العموديّة أصعب كثيرًا.. أصعب في بلوغِ الدهشة من حيث المساحة التعبيرية من قصيدة التفعيلة. لكنني حادّةٌ في استبعاد ما لا أحبّ.. أعني أنّ علَيّ أن أندهش حتّى أقرر نشر قصيدةٍ عموديّة لي. ويحدث كثيرًا أن أترك نصًا لأعوام لأنّه لا يدهشني ولا يقنعني لأنشره.
كما إنّ تجارب شعريّة تكتب العمود تجعلني أكثر حذرًا فيما أكتب. إنّهم رائعون في جعلِ هذا النصّ المحكوم بالصدرِ والعجزِ حُرًّا ومتجلّيًا وواسعًا لغويًا دون أن تشعر بإكراهِ القافيةِ عليه.
• تؤثّثين نصّك الشعري بتشكيلات من النص الديني، إلى جانب الإحالات إلى المدونة الصوفية، والتعالقات مع الأسطورة.. ما الذي تبغينه من التفاعل مع التراث؟ وإلى أيّ حدّ يمكن الاشتباك معه وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بمسافة كافية عنه لنراه بوضوح؟
- أنا مفتونة بالنصّ القرآني عمومًا. أستطيع أن أقضي أيامًا وأنا أفكّر في جمال آيةٍ واحدة. في السّيارة، بين أطفالي، وأنا في حديقة منزلي لا أنفكّ أفكّر في عمقها ومدلولاتها. لا يمكن لشاعرٍ يقدّر الجمال ألّا يُفتَن بالنصّ القرآني بعيدًا عن مرجعيّته الدينيّة. النظر إلى النصّ القرآني كنصٍّ جميل هو مساحة تفكّر خصبة لشاعرٍ يقدّر الجمال والسياقات الفنيّة واللغة المعجِزة.
أمّا التعالق مع الصوفيّة فهو مساحة تجريبيّة، ولكنني لا أستطيع ادّعاءها. ما أزال أبني ثقافتي ووعيي بها مع الوقت وإن حضرتْ أحيانًا في نصوصي. يساعدني في ذلك اشتغال مجموعة مجتهدة من الشّعراء العُمانيين على تجربة السّفر الروحي في الشّعر والتّصوف ورفع مستوى وعي الجماهير -وأنا منهم- بهذهِ المدرسة الخصبة شعرًا وروحًا.
• تراهنين على القوّة الجمالية التي تتمتّع بها قصائدك، وعلى تحقّق الغنائية التي تحفز القارئ لتأمّل الموسيقى والاستجابة لنداء الرومانسية. هل تكتبين وأنت تفكرين بالقارئ لحظة الشرارة؟
- أوه لا.. مطْلقًا! أنا لا أفكّر مطْلقًا حين تحْدُثُ القصيدة. كيف أجبر وعيي على القفزِ على اللاوعي والقصيدة تشكّل لحظتَها ملامحَها الأولى؟
أنا أفكّر في القارئ حين تنسحب اللحظة الشعريّة وأتأمل القصيدة تأمُّلَ الغريب، وأخاف منه أحيانًا إلى حدّ أنّ عدمَ اقتناعي بكلمة واحدة في النصّ قد يقود إلى امتناعي عن نشرهِ حتّى يجيزه القارئ داخلي.
الأمر يصبح أكثر تعقيدًا حين تقرر نشرَ النصّ في كتاب.. النشر هو تجربة محمومة لديّ. إنّه يصيبني بكلّ حالات الفوبيا التي تتخيّلها. أن تترك قاربك يبحر من الشاطئ وأنت تعرف أنّه لن يعود. تترك نصّك للقارئ والنّاقد وأنت تدرك ألّا مجال لاسترداده. ذلك حتمًا هو الهاجس الذي يعنيه القارئ لي.
• في بعض قصائدك تلاقُحٌ بين الفصيح والعامية، وتوظيفٌ للأدب الشعبي أيضًا. متى تستعينين بالعامية، وكيف يمكن توظيف العامية بما لا يُخلّ بالمستوى الفني للنص؟
- ربّما لو سألتَني هذا السؤال قبل سنوات لأجبتك بشكلٍ مختلف.. من الصّعب جدًا توظيف العاميّة في نصّ فصيح دون أن يخلّ بانسيابيته. حتّى إنني اليوم أنظر إلى نصوصٍ دمجتُ فيها بين الفصيحِ والعاميّة -قليلةٍ جدًا على أيّ حال- وأفكّر: "أوف! لقد كان خطأً مريعًا!".
على الشّاعر، إن أراد تضمين العاميّة بوعيٍ، ألّا يفعل ذلك إلا ليثري النصّ، وعليهِ أن يمتلك رؤيةً واضحةً ورسالةً مهمّة في تضمينه له. دون ذلك فإنّ ما سيقوم به محض عبث أو تجربة عابرة دون أثر.
• هل يكفي الجمال والاحتفاء به لنضع التراب على الوجه البشع للحرب؟ هل يكون الشعر بوصفه جمالًا، خلاصًا في زمن الحرب؟
- لا أراه خلاصًا، فهو لا يعيد الموتى، ولا يبني سقوف البيوتِ الخائرةِ ولا يفتح مدرسةً أغلقت أبوابها أو هدّمت جدرانها. لكنّه حتمًا قادرٌ على رتقِ وجعِ قلب أو تكريمِ راحلٍ لا يتذكّره أحد. إنّه الوردة التي تكسر حصار الصّحراء. كلّ شيءٍ بشعٌ في الحرب. الألم بشعٌ كذلك.. ولكنّ قدَرَ الشّعر أن يخرج من تلك العصارة ومن وسطِ الدّموع والاحتراق. ما بوسعنا أن نفعل إزاء كلّ هذا القبح الذي تخلّفه الحرب سوى الاحتفاء بقصيدة جميلة لن تعيد حيًّا، ولنْ تعيل أسرةً، ولكنْ ستذكّرنا دائمًا بأنّ على الحياةِ أن تمضي كما يراد لها، وتذكّرنا بمهمّتنا كشعراء أنْ نقول للعالمِ إننا القادرون على أنّ نصنع من قبحِك شيئًا جميلًا يُنعش انكسار قلبٍ وحيدٍ في هذا العالم.
• أنتِ من منطقة نزوى العُمانية؛ حيث التاريخ والميثولوجيا والطبيعة البكْر؛ وعشتِ في العاصمة مسقط، ولك تجربة في الإقامة بهولندا، ثم انتقلتِ إلى لندن للدراسة. هل تحْضُر الأماكن في نصوصك، وهل من نكهةٍ تخصّ كلًّا منها؟
- كلّ مساحةٍ من هذه المدن تمنحنيْ أثرًا مختلفًا عن ذلك الذي تمنحنيْ إيّاه مدينةٌ أخرى. البشر، الشجر، الهواء، الرائحة، التراب، الشّمس، السّحاب.. كلّ شيء.. الوجوه، والأحاديث واللغة. المنظر الصباحي الذي تمنحني إيّاه النافذة حين أستيقظ كلّ يوم. كلّ شيءٍ له نكهته الخاصّة وأثره في نفسي وفي الذّاكرة والقصيدة أيضًا.
• في غمرة الأحداث التي تنشُد الإصلاح والتغيير في المنطقة العربية، تَوارى صوت المثقف، وبدا واضحًا غياب المثقف العضويّ أو النخبة التي تقود الشاعر وتُلهمه. على مَن نلقي باللائمة في هذا؟
- شخصيًّا، مع الزّمن أصبحتُ أكثر حذرًا تجاه تصدير صوتي مع قضيّة ضدّ أخرى أو طرفٍ دون آخر. على الأغلب فإنّ رأيك يُحَزَّب ويُحسَب على طرفٍ ما حتّى وإن حاولتَ أن تكون حياديًا. في ظروفٍ كهذهِ تشعر أنّ عليك أن تصمت وتتابع وأنت ترى ما يحدث حولك من الجنون. أن ترى كثيرًا من المثقفين يحترقون وسط الحزبيّة الحاصلة اليوم. التحزّب وراء الحكومات، والأحزاب السياسيّة والتيارات الوطنيّة والدينيّة والمذهبيّة. وفي كثيرٍ من الأحيان تفقد احترامك لهذهِ الأسماء التي تواصل إحراق ما بنته من تجربة تراكميّة في آراء لحظيّة قائمة على مواقف سياسيّة قصيرة المدى قد لا تدرك أثرها وحقيقتها إلّا بعد زمن. مَن يفهم ما يحدث اليوم في منطقة مشتعلة تمامًا بكلّ الأجندات السياسيّة والمذهبيّة والاقتصاديّة المعقّدة؟ من يدّعي فهم الأطراف النزيهة والوصوليّة؟ من يدّعي إدراكه حقيقةَ ما يحدث على الواقعِ أمام ما يُنقل أمام الشاشات؟!
يصعب على كثيرٍ منّا فهم ما يحدث.. ومن أجلِ ذلك فإنني لا ألوم المثقفين إذا خفتَ صوتهم وسط الأصوات المتعالية وأمام موجة الفذلكة العامّة التي كرّستها مواقع التواصلِ الاجتماعيّ.
أنا لا أفهم لماذا يطالب المثقّف بالخروج من المساحات الإبداعيّة التي هو جيّد فيها إلى أحاديثِ السياسة ومواقف الدّول ودفعهِ دفعًا لتصديرِ آرائه في قضيّة سياسيّةٍ ما؟ أفهم أنّ هذا خيار شخصيّ، ولكنّ فهمنا لرسالتنا في الحياةِ ووضوحنا فيها ضروريّ جدًا لنواصل التركيز على بناء التجربة الإبداعيّة التي انطلقنا منها.
• تشتبكين في مقالاتك مع الراهن، وتكتبين بجرأة حول مسائل مجتمعيّة ملحّة. هل تعتقدين أنَّ الكاتب/ المبدع بمقدوره إحداث التغيير حقًا؟ أم إنّ حَسْبُه أن يحلم!
- الحلم نفسه قد يكون شرارةً لإحداث التغيير. نعم؛ غَيّر الكثيرون حياتنا بما كتبوا. ألمْ يكنْ جورج أورويل رائيًا حين كتب "1984"، ومعلّمًا محترفًا حين كتب "مزرعة الحيوان"؟!
أليس ملهمًا أن تقرأ لجابرييل جارسيا ماركِيز حين يصف أثر الشّعر في مراهقته وكيف كانت حياتهم آنذاك غير متخيَّلة دون حضورِ الشّعر؟ سيخرج بعدها أعظم روائيٍ في الواقعيّة السحريّة كما عرَفَتْه أميركا اللاتينيّة والعالم. ألم يكن ثمّة كاتبٌ ما ألهم كلّ هذه الأسماء العظيمة التي لم تخرج بتجربةٍ هي ابنة يومٍ واحد ولكن بتجربة تراكميّة خلقتها أسماءٌ ملهِمة غيّرت واقع حياتهم.
غير أنّنا أيضًا ينبغي ألّا نثقل كتف الكاتبِ بسقف توقُّعاتٍ قصيرةِ المدى للتغيير وسريعة الأثر. إذ إنّ إحداث التغيير على المدى البعيد هو حالة مستمرّة أجدى وأوعى. على المثقّف أن يعمل بصبرٍ على رؤيته وعليه أن يعمل بصبرِ النحّات وبحساسيّةِ المزراعِ تجاه وردة. عليه أن يكون صبورًا وواسع البال ومدركًا إلى أنّ ما كان مرفوضًا بالأمسِ أصبح حالَ اليوم.
• لك مدوّنة تحمل اسم "حرية بثمن الخبز" تكتبين من خلالها في قضايا سياسية واجتماعية وثقافية، أيّ صدى حقّقته هذه المدوّنة؟
- في عُمان تحديدًا، عرفني النّاس كاتبةً في الشأن العام عبر هذهِ المدوّنة أكثر من كوني شاعرة. لقد أتاحتْ لي مساحةً في الكتابة دون رقابةٍ من أحد كتلك التي اختبرتها لأربعة أعوام حين كنت أنشر في الصّحف. اجتذَبت المدوّنة أكثر من مليون ونصف المليون زيارة، وشخصيًا كانتْ مساحة ضروريّة احتجتُ إليها في زمنٍ ما وما أزال. ما أزال بين حينٍ وآخر ألجأ إليها للتنفيسِ عن قلقي وعن شأنٍ ما يتعلّق بوطني يؤرق ذهني.. إنّها مرآة لهواجسي وتفرِيغ صادق للقلقِ الذي أمتصّه من القضايا اليوميّة التي ألامسها وأنا في الشّارع أتقاسم الحياة بضيقها واتّساعها مع آخرين لا يملكون قدرة الكتابة.