د. محمد عيسى الحوراني
أكاديمي وناقد أردني
رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية- جامعة العين/ أبوظبي
تشهد الحركة الشعريّة في الأردن تنوُّعًا لافتًا ومهمًّا على مستوى شكل القصيدة وبنيتها، وعلى مستوى الرُّؤية التي تعالج القضايا والمواقف من خلالها، لا سيّما من خلال ظهور انعطافات حادّة في الثقافة والمجتمع العربي في القرن الحادي والعشرين. ولم يقتصر التجريب في كتابة القصيدة على شعر التفعيلة أو الشعر المنثور، بل إنَّ بعضهم رجع إلى قصيدة الشطرين في قصائد تنماز بالجدّة والحداثة لغةً وإيقاعًا وصورةً وموضوعًا، وهو ما يؤكد أنَّ التجديد في الأردن لا ينبتّ عن التراث، بل يستلهمه ويُعيد بناءه.
واكَبَ الشِّعر الأردنيّ محاولات التَّجديد في الشعر العربيّ في العصر الحديث، وهي محاولات ظلَّت خجولة إلى أن وُلد شعر التفعيلة في أربعينات القرن الماضي على يدي بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، والأخيرة -كما يرى بعضهم- أقرَّت بأنَّ الشاعر الأردني (عرار) سبقها إلى ما أطلق على تسميته جزافًا "الشعر الحُرّ"(1)، والواقع أنه ليس بِحُرّ، وإنَّما هو شعر موزون مبني على وحدة التفعيلة التي هي اللبنة الأساس لموسيقى الشعر العربي، والحرية بدورها منوطة بآليات الخروج على عروض الخليل، وبالتالي اتَّخذت أشكال التَّجديد نمطين شكليّين هما: شعر التفعيلة وقصيدة النثر، ولكل منهما تجلّياته في الشعر الأردنيّ المعاصر.
• بين الحداثة والتَّحديث
بدايةً، علينا أن نفرِّق بين مصطلحي الحداثة والتحديث، فالحداثة هي مدرسة غربيّة بامتياز أخذت تدعو إلى القطيعة مع الموروث في شتى الميادين، بل ورفض كل ما هو قديم رفضًا قطعيًّا، وبين الحداثة الشعريّة التي تعني التجديد والجدّة والتحديث.
من هنا فإنَّ "الحداثة الغربية -في جوهرها- تعكس معارضة جدليّة ثلاثيّة الأبعاد: معارضة للتراث، ومعارضة للثقافة البرجوازية بمبادئها العقلانيّة والنفعيّة، وتصوُّرها لفكرة التقدُّم، ومعارضة لذاتها كتقليد أو شكل من أشكال السلطة والهيمنة"(2).
لذا، فهي ترفض الموروث رفضًا قاطعًا، بيد أنَّها عند العرب لم تنفصم عن التراث، ولم تعدّه عدوًّا في كثير من أنماطها الشعريّة وأعلام شعرائها، وحتى أولئك الذين كانت لهم منطلقات شبيهة بحداثة الغرب كأدونيس مثلًا، حتى أولئك كانت لهم صولات وجولات ومنطلقات تجسِّر الهوّة بين القديم والحديث من خلال التوظيف المتلاقي أو المعاكس.
• بين الخاص والعام
لا يَنبتّ الشعر الأردنيّ عن نظيره العربيّ في أية مرحلة من مراحل وجوده سواء من حيث الشكل أو المضمون، على الرّغم من الخصوصية التي ينماز بها كل قطر، فبالنَّظر إلى الشعر الأردني منذ تأسيس الإمارة، نجد ثلاث محطات فارقة: الأولى تمتد من تأسيس الإمارة حتى النكبة، والثانية بين النكبة والنكسة، والثالثة من سبعينات القرن الماضي إلى الآن، وهذه المراحل تعدَّدت فيها المضامين ما بين الخاص والعام، وانطلقت تعبِّر عن خصوصيّات كل مرحلة ضمن إطارها العروبيّ، ومقابل المضمون اندغم التحديث بالشكل مع نظيره العربيّ، فما إن وُلد شعر التفعيلة حتى وجدنا له أصداء في شعرنا الأردنيّ، بل إنَّ عددًا من الشعراء يمكن أن نعدّهم من المؤسسين، أمثال عبدالرحيم عمر، وكذا الشعر المنثور، فما إن وُلدت قصيدة النثر حتى كان لها الحضور في الشعر الأردني مع ما انتابها من تقهقر وتقدُّم، وفي كل ذلك كان الشعر العربي في الأردن يواكب كل المستجدّات على الساحة العربية ولاسيما في شعر التفعيلة.
فقد "ضمنَ النضال (التحريري) الذي خاضته حركة الحداثة الشعرية، النجاح النهائي للبيت الحُرّ، الذي ظلَّ يشكِّل الصيغة المفضَّلة للأغلبيّة الساحقة من شعراء الجيل الجديد، تلك الأغلبيّة التي نهضت بجانب أكبر من الإنتاج الحداثي الذي يتمتَّع بقيمة مؤكّدة، مع هذا فإنَّ (القصيدة المنثورة) أو (غير العروضية) أو (غير الموزونة) تأخَّر انتصارها النهائي، بفعل التحفُّظ السائد في الذوق العام إزاء إنتاج شعري قائم على هجران الإيقاع العزيز على الأذن العربية"(3).
• بين القديم والحديث
في أعقاب ظاهرة شعر التفعيلة نشأ في الحركة الشعرية الأردنية تياران أسوة ببقية أقطار الوطن العربي، أحدهما ينافح عن شعر الشطرين، ويعدُّ القصيدة (العمودية) شعرًا، ويرفض شعر التفعيلة (الحر) رفضًا قطعيًّا أمثال حسني فريز وعيسى الناعوري وسليمان المشيني وغيرهم.
وتيّار شقَّ طريقه في شعر التفعيلة، وأبدع فيها، ورسّخ ملامحها على الساحة الأردنية والعربية أمثال: تيسير السبول، وعبدالرحيم عمر، وعزالدين مناصرة، إبراهيم نصرالله، راشد عيسى، حبيب الزيودي، وغيرهم كثير من شعراء العقود الثلاثة الأخيرة.. وانبثق من هذا التيّار أيضًا تيّاران، أحدهما جمع بين شعر الشطرين وشعر التفعيلة، والآخر جمع بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر، وباستقراء الدواوين الشعرية الأردنية في العقود الأربعة المنصرمة نجد أنَّ كثيرًا منها يزاوج بين قصيدة التفعيلة وقصيدة الشطرين، بل إننا نجد ذلك أحيانًا على مستوى القصيدة الواحدة، لا سيما أنَّ بعض الشعراء كان يفتتح قصيدته بأبيات من شعر الشطرين ثم ينطلق بعدها مسترسلًا في شعر التفعيلة، والأخير كما أسلفنا وجد قبولًا أكبر بكثير مّما حقّقته قصيدة النثر الأردنية.
• قصيدة النثر
في إطار قصيدة النثر التي ما زالت تتأرجح بين القبول والرفض، القبول على اعتبارها تطوُّرًا شعريًّا له جماليّاته، والرفض على اعتبارها فاقدة للأهليّة لمن يعدّ الوزن أساسًا لأهليّة الشعر.
هذه القصيدة التي أثبتت لدى عدد من روّادها في الوطن العربي قدرتها على الثبات والتطوُّر، وهي مع ذلك شكّلت حالة من القلق لدى بعض كبار شعرائها، كما هي الحال عند الشاعر الأردني محمد القيسي الذي أبحر في غمارها في مجموعة من القصائد، ثم عاد إلى التفعيلة، ثم عاد إلى كليهما..
وفي ثمانينات القرن الماضي نجد مجموعة من الشعراء الذين انتقلوا من التجريب إلى الترسيخ، فتشكّلت على أيديهم قصيدة النثر الأردنية، أمثال نادر هدى، وعمر أبوالهيجا، وأمجد ناصر، والأخير من الذين أطَّروا ملامح قصيدة النثر في الأردن، وأصبح من أبرز أعلامها.
وفي العقدين الماضيين برز مجموعة من الشعراء الذين خاضوا عباب قصيدة النثر، وأسهموا في حضورها، منهم: زياد عناني وجهاد هديب وأحمد عقل، وغيرهم كثير ممّن تتفاوت تجاربهم على المستويين الفردي والجمالي..
ويمكن القول: "إنَّ قصيدة النثر الأردنية تقف في موازاة مثيلاتها من التجارب العربية، لكنها تتمتع بخصوصية كونها شاميّة الملامح، كما هو حال خصوصية التجارب المصرية والعراقية والمغربية، وبرغم كون كتّابها قليلي العدد في الأردن، فإنَّ مساهماتهم في الحراك الثقافي المحلّي وأيضًا العربي، ينشط يومًا بعد يوم، كما يفيد ويستفيد، ويتطلّع نحو توليف تجربة بدأت تأخذ حيزًا قويًا في الساحة الشعرية العربية"(4).
• توظيف الأسطورة
شكَّلت الأسطورة ملمحًا بارزًا من ملامح الشعر العربي الحديث، واتّخذت في أعقاب ظهور شعر التفعيلة مكانة راسخة أسهمت في رفد بنية القصيدة الحديثة باستلهام شعراء كبار لمجموعة من الأساطير القديمة، والاتّكاء عليها للمساعدة في إيصال الرؤية التي ينطلق منها الشاعر، وتحميلها عمقًا أسلوبيًّا ومعنويًّا.
وقد اتّكأ عدد من الروّاد على الأساطير في إثراء نصوصهم، أمثال بدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، وعبدالرحيم عمر وغيرهم، على أنَّ توظيف الأسطورة لم يكن متساويًا لدى جميع الشعراء، بل إنَّ الشاعر الواحد يختلف مقدار استخدامه لها من مرحلة عمرية إلى أخرى، ومن قصيدة إلى أخرى بحسب حاجته لتوظيفها في شعره.
ولو عدنا إلى دواوين شعر التفعيلة الصادرة في الأردن في الأربعين سنة الأخيرة من القرن الماضي، لوجدنا توظيف الأسطورة من السمات البارزة، ولوجدنا كثيرًا من العتبات النصيّة التي مهّد بها الشعراء لقصائدهم تحفل بالأساطير(5).
• مئويّة الدولة
وإذا كان الأردن في مئويّته يستذكر عددًا كبيرًا من شعرائه الذين أسهموا في مسيرة الشعر العربي الحديث والمعاصر، فإنَّ هؤلاء الشعراء كغيرهم من الشعراء العرب في العصر الحديث كانت لهم علاماتهم الفارقة، وأدواتهم وتقنياتهم المتنوعة، كما كان لكثير منهم علاماته الخاصة، وربما كان لموقع الأردن الجغرافي في قلب الوطن العربي، ولخصوصيّة اندغامه مع مجمل الأحداث العربية ولا سيما ما ترتب على النكبة والنكسة، فكان الأكثر تأثرًا وتأثيرًا، فتبدّت الروح الوطنية في مجمل أشعاره، وحضرت مدنه وقراه كعلامات بارزة تدمغ أهدابه وتزيّنها، وانبثقت من قصائده سهام الحرية، وعاشت فلسطين حيّة في وجدان الشعراء كما عاشوا قضيّتها بكل تفاصيلها، وبرزت القضيّة، وانعكاسات الصراع المتفجّر منذ وطأة الصهاينة لأرض فلسطين المباركة، وحالات الفقر والجوع والتخلف، وتباريح التشرذم العربي، كل ذلك برز للشعراء فكان محرّكًا لاستنطاق رموز التراث وأحداثه وبطولات فرسانه وأخلاقيات أنبيائه ومفكريه ومبدعيه، وكان البحث الدائم عبر تقنيات التناص والإحالة والانزياح لعبور بوابات القصائد بأنماطها المختلفة (الشطرين والتفعيلة والنثرية).
وبدت العلاقة بين الشعراء في العقود الثلاثة المنصرمة والشخصيات التراثية "علاقة استيعاب وتفهم وإدراك واع للمعنى الإنساني والتاريخي للتراث، وليست بأي حال من الأحوال علاقة تأثر صرف، ومن خلال هذه النظرة كان استخراج الشاعر المعاصر للمواقف التي لها صفة الديمومة في التراث"(6).
وعلى هذا فإنَّ ولادة الشخصيات والأحداث التاريخية عبر قصائد هؤلاء الشعراء لم تخرج قصائدهم من حداثتها وجدتَّها وعصرها، وإنَّما حافظت على الأصالة والحداثة معًا، وها هي بعض النماذج الممثّلة وسواها كثير جدًا.
• نماذج من الشعر الجديد
الحداثة الشعرية ليست مقتصرة على الشكل، فنحن نجد تحديثًا في بنية قصيدة الشطرين كما هي الحال في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر من حيث البنية اللغوية والإيقاعية والتصويرية وتوظيف الرموز التراثية، وستضيء هذه الدراسة الرمز التراثي المجدّد في أنماط القصيدة المختلفة، يقول لؤي أحمد في ديوانه (ناقف الحنظل):
أنا في المجاز المرّ ناقف حنظل أبكي على بكر المعاني المغفلة
وأبي الذي كتب الحداثة ومضة وأبي الذي مدَّ القصيد وهلهله
لكننـــي يتمتـــه مـذ قلــــت لي: كن شـاعرًا يبكي أباه ليقتله(7)
فناقف الحنظل هو أوَّل مَن بكى واستبكى ووقف واستوقف، فهو بذاك مولّد المعاني الأبكار، وهو الذي ضيّعه أبوه صغيرًا، وجنى عليه بأن حمّله ثأره كبيرًا.. وحضور امرئ القيس وغيره من الشعراء كبير في شعرنا الأردني المعاصر.
فها هو الشاعر محمد خضير في ديوانه (غِيضَ الكلام) يوظف كثيرًا من الرموز التاريخية، بل إنَّ ديوانه برمّته استدعاء لشخصيات ورموز وقصص موروثة ذات تكوين ثقافي يربط الماضي بالحاضر ويصدّره موشىً بأيقونة المعاصرة، فانظر إليه يتحدّث عن الشنفرى مستدعيًا صورة الصعاليك، الذين اتخذوا الشعر والفروسية أسلوب حياة:
ما نحنُ في سَطْرِ الخَطابةِ أهلُها لنكونَ في صدرِ المطايا شَنفَرى
الشّـعرُ سـحْرٌ، والعَرافَـةُ حَرْفُـهُ إن أقبـلتْ عينُ الحقيـقـــةِ أدبـَـرا
وأنا عَصـا موسـى أشُقُّ بُـحورَهُ يا ويلَ شِعْري كمْ غَرقْتُ وأبْحَرا!(8)
فهو يرى أننا إذا لم نكن أهلًا للخطابة، فكيف سنكون أهلًا للفروسية، ويستدعي إلى أذهانا شاعرًا صعلوكًا فارسًا شديد البأس، عظيم الشعر.
وفي إطار استدعاء الرموز الشعرية التي تجمع بين ريادة الشعر وريادة الفروسية ينحو نضال برقان في (ذئب المضارع) في قصيدة من شعر التفعيلة منحى آخر، فيستدعي واضع علم موسيقى الشعر العربي ليقف به على ما فعلته بحوره به:
"أضلّ وتعمى بعيني السبيل
ويزداد قلبي صدى يا خليل
بحورك عبت دمي كله
ونأت
فتشظى كلام على شفتي
وفي عتمة الروح.. ضلّ الدليل"(9).
وتوظيف هذه الشخصيات التراثية ذات الأثر الثقافي، والقيمة الشعرية، لم يقتصر على شعر الشطرين وشعر التفعيلة، بل تجاوز ذلك إلى قصيدة النثر، فهذا هو أمجد ناصر يستدعي شخصية أحد الشعراء الفرسان وهو السليك بن السلكة الذي كان له حضور كبير بين الصعاليك، فيوظف هذه الشخصية، رابطًا بينها وبين مجموعة من المعطيات (طرقات، خيل، عبور، انتساب، احتشاد، مصافحة):
"هذي يدي
طرقات العبور الخيل المنتسبة
إلى" السليك بن السلكة"
وهي ما تزال محتشدة للمصافحة"(10).
وإذا كان حضور الصعاليك وغيرهم من الشخصيات البارزة في التراث قد اندغم في بنية القصيدة الأردنية المعاصرة، فإنَّ هناك شخصيات أخرى ذات أثر ديني وثوري لها قصصها التي يمكن أن تتلاقى أو تتعاكس مع الفكرة التي يطرحها الشاعر، ولكنها تبقى محورًا في بنية القصيدة، فها هو محمد القيسي في قصيدة من قصائد التفعيلة يستدعي شخصية أبي ذر الغفاري، وهو شخصية ذات أبعاد عميقة في موروثنا، وكان لها حضور كبير في شعرنا الأردني المعاصر، و"استدعاء شخصية أبي ذر الغفاري في نص إبداعي معاصر يدلّ على أنها رمز حيّ على الدوام، مفعم بمعاناة سياسية واجتماعية معاصرة، قابل للتعايش القائم على أساس العدل والمساواة ورفض الظلم والاضطهاد"(11):
يقول القيسي:
"ولكن هذا الغفاري يجمع أضلاعه من صحارى البلاد
مركب جاهزة للرحيل، حقائب للقادم المستحيل"(12).
وكذا ما جادت به قريحة الشاعر نادر هدى، وهو يرسم ملامح شخصيّة أبي ذر:
"ما زال أبو ذر
باسم القوت
يعلي رايات العصيان
فأين هو الآن
وفي أيّ البلدان؟"(13).
أمّا حضور قصص الأنبياء والقصص القرآني فهو في العقود الثلاثة الأخيرة أكثر حضورًا من العقود التي سبقتها، تلك التي ركّزت فيها كثير من قصائدنا على استحضار القصص من التوراة والإنجيل وقصص الأمم القديمة، وكان لقصة يوسف وأيوب وإبراهيم حضور لافت في شعرنا الأردني، ولعلّ الشاعر عبدالله أبو شميس من أبرز الشعراء المعاصرين استدعاءً لتلك الشخصيات، وله مجموعة من القصائد استدعى فيها الرموز النسوية في موروثنا، ولم يكن ذلك الاستدعاء مربوطًا بالقصة التاريخية المتناقلة، وإنَّما استدعاء للمنسي والمسكوت عنه، فأطلق على مجموعة نشرت معظمها في الصحف المحلية وهي قيد الطبع في ديوان جديد عنونه بـِ(المنسيّات) وفي ديوانه "الحوار قبل الأخير" يعنون إحدى القصائد بـِ(قصيدة إبراهيم) جاء فيها:
"آزر يفتح باب الليل
ويدخل معبده
والنجمات تطرّز خطوته الواثقة
إلى النار الملتهبة.."(14).
وأبو شميس في قصائده المختلفة تلك لا يكتفي برسم الشخصية كما صُوِّرت لنا، وإنَّما يستقرئ ما حول الشخصية من أحداث وشخصيات فيرسم منها ملامح لقصة جديدة، ورؤية مغايرة.
وقصة يوسف ثرية، وربما كانت الأكثر ثراء في شعرنا العربي المعاصر عمومًا أكثر من قصص القرآن الأخرى، ففيها كيد الأخوة، وفيها عمى الأب حزنًا وحسرة، وفيها الرُّؤيا، وفيها الحلم وتفسيره، وفيها الصبر والنوال، وفيها القميص وارتداد البصر، فها هي مها العتوم في ديوانها " دوائر الطين" تستحضر قصة الرُّؤيا:
"فخُن
مَن يخون
ولا تعتذر للسنين العجاف
سيأتيك سبع سمان"(15).
• ملمح أخير
ظهرت في السنوات الأخيرة على الساحتين المحلية والعربية ما اصطلح على تسميتها (قصيدة الهايكو)، وقد استمدَّت التسمية من شعر الهايكو الياباني، وتأثرت بقوالبها الشكلية وأبعادها التي تعتمد على الاختزال الشديد واعتماد إدهاش المتلقي، وعلى الرغم من أنها في اليابان ذات خصوصية، إلا أن محاولات التجريب لدينا تحاول أن تصنع منها نصًا عربيًّا ناجحًا.
والشعر العربي المعاصر يمرّ بتحوُّلات "مفصلية، نتيجة المثاقفة مع الآخر، فبرزت أشكال شعرية جديدة لم يألفها المتلقي العربي، منها قصيدة الهايكو اليابانية، حيث حاول شعراء كثيرون نقلها من التأسيس إلى التجنيس، في محاولات لتوطينها عن طريق التجريب ومنحها شرعية شعرية عربية. وككل جديد شعري، يتلقاه النقاد العرب بين مرحِّب، ومشكِّك في جدواه"(16).
والواقع أنَّ هذه القصيدة لها أصول تجريبية لدينا دون أن تعرف العنوان، إذ إنَّ قصيدة (النتفة) أو النفثة الشعرية، أو القصيدة المختزلة، أو القصيدة القصيرة جدًا كل ذلك يتماهى مع هذه القصيدة خارج سياق الوزن، وإنْ تجاوزنا إلى التجنيس فإنَّ هناك وجه شبه كبير بينها وبين قصة الومضة، أو القصص القصيرة جدًا.
وما جعلني أدرجها هنا، أنَّ عددًا من الشعراء الأردنيين ارتاد مرافئها، وبعضهم من الشعراء الذين كتبوا القصيدة بأنماطها المختلفة (الشطرين والتفعيلة والمنثورة والهايكو) من أمثال الشاعر عبدالرحيم الجداية الذي أصدر مجموعة من الدواوين الشعرية في أنماط القصيدة المختلفة، كما صدر له ديوان (هي رعشة الأشياء) عن "نادي الهايكو العربي"، ومن النماذج الشعرية في هذا الديوان:
"فراغ كبير يتقمصني
وحدي أنا والناي
في هذي القبيلة".
وفي قصيدة أخرى يقول:
"تبدل ثوبها
سماء تعشق زينتها
لكل ورد رداء".
والملاحظ -كما هي الحال في هذين النصين- شدة الاختزال، واقتناص الدهشة عبر الجرأة في التصوير والربط بين الأشياء في فضاء الصورة لا عبر الروابط اللغوية المعتادة، وتبقى هذه القصيدة في مرحلة التجريب إلى أن تستقرّ وبعدها تنجلي جدارتها بالبقاء أو الرّحيل.
وفي الختام،
فإنَّ الحركة الشعرية في الأردن تشهد "تنوُّعًا لافتًا ومهمًا على مستوى شكل القصيدة وبنيتها، وعلى مستوى الرؤية التي تعالج القضايا والمواقف من خلالها، لا سيما من خلال ظهور انعطافات حادة في الثقافة والمجتمع العربي في القرن الحادي والعشرين، ومع توسُّع مصادر المعرفة والتأثير في الرُّؤى والأفكار التي تشكل أساس التطوُّر التي تقوم عليه المعالجات الشعرية"(17).
كما شهدت الساحة الأردنية أسماء لشعراء كان لهم إسهامات كبيرة في الحركة الشعرية العربية على كافة الصعد، وقد ارتأيتُ أن أقتصر في هذه الدراسة على مجموعة من النماذج الممثلة للقصيدة الحديثة، على أنَّ التجريب في كتابة القصيدة لم يقتصر على شعر التفعيلة أو الشعر المنثور، بل أن التجريب كرَّ راجعًا إلى قصيدة الشطرين، فوجدنا قصائد تنماز بالجدة والحداثة لغةً وإيقاعًا وصورةً وموضوعًا، وهو ما يؤكد أنَّ التجديد عندنا لا ينبتّ عن التراث، بل يستلهمه ويُعيد بناءه.
• الهوامش:
1. انظر أبوردن، أحمد: مقالة في مجلة الأقلام،ع 9، 1986.
2. عبدالرحمن، إبراهيم: الحداثة الشعرية العربية رؤية موضوعية، مجلة البحث العلمي في الآداب،ع7، 2020، ص51.
3. خير بك، كمال: حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر، بيروت، ط2، 1986، ص355.
4. صحيفة الخليج، ملحق الخليج الثقافي، 4-9-2021.
5. شبانة، ناصر والحوراني، محمد: النص الموازي في شعر عبدالرحيم عمر، مجلة دراسات الجامعة ىالأردنية، ج 46، ع4، 2019.
6. عزالدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ط5، 1994، ص27.
7. أحمد، لؤي: ناقف الحنظل، وزارة الثقافة، 2015، ص26.
8. خضير، محمد، غيض الكلام، دار دجلة للنشر والتوزيع، 2016.
9. برقان، نضال، ذئب المضارع، الدار الأهلية، 2015، ص109.
10. ناصر، أمجد، الأعمال الشعرية الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص117.
11. الضمور، عماد: استدعاء شخصية أبي ذر الغفاري في الشعر الأردني المعاصر، مجلة جامعة الشارقة، ج15،ع1، 2018.
12. القيسي، محمد، الأعمال الشعرية الكاملة، 1999، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص284.
13. هدى، نادر، ثلاثية حبر العتمة، 2010، ص189.
14. أبوشميس، عبدالله، الحوار بعد الأخير، دار الانتشار العربي، 2016، ص67.
15. العتوم، مها، دوائر الطين، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1999، ص14.
16. خليف، عبدالقادر: قصيدة الهايكو العربية، والبحث عن شرعية شعرية، ج21،ع2، ص411.
17. حمدان، يوسف: ملامح تجديدية في الشعر الأردني المعاصر، مجلة أفكار، ع375، 2020، ص7.