مفلح العدوان
كاتب وروائي أردني
هُم قناديل الضحى، العطاش للنّصر أو الشّهادة..
يشعُّ على جبهاتهم تاج الجيش العربيّ الأردنيّ، فتية آمنوا بربهم، فزادهم الله يقينًا بعزّة وطنهم، وبعزيمة الدفاع عن كل ذرة من أرض الأردن، والنَّهر معهم يردِّد نشيد الكرامة، حين كانت جحافل الجنود مزنَّرة بالتحدّي وبلهيب برق غضبتهم في كل معركة يلوِّحون فيها للنَّهر بعد أن حموه وأعزّوه، وغرّبوا نحو وجهتم فلسطين نصرةً ودفاعًا عن كل ثراها، ومعها درّة المدائن القدس مهجة الأرواح ومهوى الأفئدة.
***
هذا مقام استذكار البطولة والنصر والشهادة، تقليب لصفحات سجلّ معارك الكرامة والشَّرف التي خاضها الجيش العربيّ على ثرى فلسطين، كل صفحة فيها فيض من بطولات وأحداث ومواجهات تقارب المعجزات على مستوى المجموعات والأفراد، وفي كثير من تلك المعارك، كان من الممكن أن يتغيَّر مصير فلسطين ونتائج الحروب لو توافر السلاح والذخيرة والإرادة السياسيّة العربيّة الموحَّدة.
ولعلَّ المعارك التي خاضتها القوات المسلحة الأردنية- الجيش العربيّ في القدس هي أعمق شاهد على العقيدة الراسخة لدى أفراد الجيش الأردني بالتمسُّك بأرض فلسطين والدِّفاع عنها لأنَّها جزء من شرف الأمة، مع روابط عميقة وخاصة بين الأردن وفلسطين، والجيش هو أكثر المعبِّرين عن هذه الرابطة القويّة الراسخة المتينة.
وإذا كانت العلاقة العسكرية بين الأردنيين والفلسطينيين تعود إلى عام 1941 وفق مقولة الدكتور بكر خازر المجالي، في أنه في ذلك الوقت كان على أرض فلسطين 17 سَريّة أردنيّة وكانت العلاقة حميمة بين الجيش العربي الأردني والشعب الفلسطيني، فهذه العلاقة مبنيّة على جذور قديمة من الدِّفاع عن ثرى فلسطين؛ حيث أوَّل شهيد أردني كان كايد مفلح العبيدات عام 1920م في منطقة تل الثعالب، وكان المتطوعون الأردنيون مع إخوانهم في فلسطين في كلّ مفاصل المواجهة والثورات انتصارًا للحق، ورفضًا لقرارات التقسيم ووعد بلفور وقيام الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين.
***
وفي هذه المرحلة الخطيرة من ازدياد تعدِّيات الكيان الإسرائيلي على القدس، وحفرياته، وتجاوزاته، يتوجَّب علينا استحضار سرديّة المُواجهة على أرض القدس، وإعادة كتابة بطولات الجيش العربيّ الأردنيّ والمجاهدين والمتطوعين من أبناء الشعب الأردني من كافة مدنه وقراه وبواديه، وتضحياتهم دفاعًا عن القدس وكل فلسطين، هذا واجب على المبدعين والأدباء والفنانين قراءةً ومعايشةً لهذا التاريخ المشرِّف، وإعادة صهره وإنتاجه والاشتغال عليه وتضمينه في مدوّناتهم الإبداعيّة من سرد وشعر وسينما ودراما، ليكون هذا الإرث المجبول بالبطولة والشهادة، والمكتوب بالدم والتضحية، مادة ثريّة يحتِّم علينا أن نعطيه حقه ونستثمره في المُنتَج الإبداعي والأدبي والفنّي، بالتوازي مع ما تمَّ التعبير عنه عبر الكتابة التاريخية والتوثيق المنهجي والدقيق لكل تفصيلات تلك المعارك والأحداث والبطولات والتضحيات.
***
وعودًا إلى تاريخ معارك الجيش العربيّ الأردنيّ في القدس، ولِما تمثِّله هذه المدينة من قيمة عُليا ومن رسوخ في الوجدان على المستوى الديني والقومي والوطني، ما يحتِّم على المبدعين إعادة قراءة معركة القدس عام 1948 بعد أن انسحبت القوات البريطانية في 14 أيار 1948، وقد كانت القدس وكل فلسطين تحت خطر القوات الصهيونية، فدخلت قوات الجيش العربي الأردني بلوائين تمركز واحد في نابلس والثاني في رام الله، ثم بعد ذلك زحفت الكتيبة السادسة بقيادة عبدالله التل للدخول إلى القدس، وهنا يُشار إلى معركة الشيخ جراح في القدس التي كانت من أعنف المعارك، كما خاض الجيش في أحياء القدس القديمة، وعلى أسوارها مواجهات الشرف والبطولة، وقدَّم التضحيات والشهداء، في الوقت الذي كانت فيه قوّات أخرى تقاتل في محاور ثانية على أرض فلسطين، حيث تدوّن سجلات القتال بحبر ودم العزّة انتصارات القائد حابس المجالي، ومعه الجنود الميامين الأخيار، ما قدّموه من بطولات وانتصارات في باب الواد واللطرون، هذا بعض سجلّ المعارك التي تعبِّر عن متانة العلاقة بين الأردن وفلسطين، بين الجيش العربيّ والقدس وكل أنحاء بلادنا حولها، تلك التضحيات في معركة القدس عام 1948 التي كانت من أهم المعارك، وحققت نصرًا تاريخيًّا، فكانت السبب في بقاء القدس القديمة وما جاورها من الأحياء في يد العرب حتى عام 1967م.
***
لا يتوقف التاريخ هناك، فعلاقة الجيش العربي الأردني بالقدس بقيت مستمرّة وأكثر متانة ورسوخًا، وكانت الاستماتة في الدفاع عنها أثناء حرب حزيران 1967، ولعلَّ معركة تل الذخيرة في حيّ الشيخ جراح في القدس شاهدٌ حيٌّ على استبسال أفراد الجيش العربي الأردني في الدفاع عن ثرى القدس، حيث مواجهات كتيبة الحسين الثانية التي سمِّيت بعد ذلك "كتيبة أم الشهداء"، والتي استشهد منها 97 شهيدًا من أصل 101 جنديًّا هم تعداد هذه الكتيبة التي روت دماء شهدائها ثرى القدس، وتناثر عبقهم على غير مكان هناك، فدفنهم أهلهم في القدس تحت الأسوار وفي باحات البيوت، وما زالت الشهادات نسمعها أو نعاينها عن قبور لشهدائنا مزروعة هناك تؤنس الدُّروب والبيوت والأهل في القدس وفلسطين، فطوبى للشهداء، طوبى لأكرم بني البشر.
***
وهذا الملف يعاين في بعض جوانبه بطولات جنود الجيش العربي الأردني في فلسطين والقدس، مع تركيز على تلك الذاكرة والتضحيات في معارك حيّ الشيخ جراح والقصص التي تُروى عن أبطال تلّ الذخيرة، في ظلِّ الهجمة الصهيونية على الأرض والإنسان هناك، تأتي الكتابة هنا بأقلام وعت دور تضحيات الجيش العربيّ الأردنيّ وبطولاته، وتؤكِّد على أهميّة ترجمة هده القصص والأحداث لإيجاد سرديّة إبداعيّة تخلِّد وتوثِّق هذه البطولات لتبقى حاضرة في وجدان الأجيال القادمة انتصارًا لذاكرة الشهداء وتضحيات الجنود، وتأكيدًا على عمق العلاقة المجبولة بالدّم والتضحية والمحبّة للقدس ولكل أرض فلسطين.