د. نادية هناوي
أكاديمية وناقدة عراقية
يَعتقدُ بعض الباحثين أنَّ "جيرار جينيت" بوضعه مسمّى (الأجناس الجامعة أو جامع الأجناس) في كتابه (مدخل إلى النص الجامع) يكون قد حلّ الإشكاليّة الأجناسيّة وأغلق باب الأجناس الأدبيّة إلى الأبد. ومَن يعُد إلى هذا الكتاب فسيجد العكس؛ أي أنَّ "جينيت" فتح باب الإشكاليّة من جديد على أساس أنَّ النظريّات السابقة (البنيويّة والسيميائيّة والتناصيّة) قد انحازت لصالح النص فلم تستطع أنْ تحلَّ الإشكاليّة التي صارت تتَّجه بقضيّة الأجناس نحو اللاتجنيس، وهو الخطر الذي يعقِّد الإشكاليّة ويصيبها في الصميم. لذا وضع "جينيت" مدخله النظريّ محاولًا طَرق باب الأجناس مجدّدًا، فهل تمكَّن من تخطي المدخل؟ أم أنه بقى واقفًا عنده وربّما خارجه؟
لقد أضاف "جيرار جينيت" إلى النظريّة السرديّة إضافات بنيويّة مهمّة، دشَّن خلالها مصطلحات ووضع مفاهيم ووطَّن تصوُّرات على الصعيدين النظري والإجرائي حتى تخطّى النصيّة البنيويّة إلى ما بعدها، مهتمًّا بدراسة سيميائيّة النص كعتبات عنوانيّة رئيسة وفرعيّة وأسماء المؤلفين والأغلفة الأماميّة والخلفيّة وإهداءات واستهلالات وكليشهات يضعها المؤلف والناشر..إلخ.
ولا يخفى أنَّ ملامح الفكر النقدي عند "جينيت" كانت قد بدأت بكتابه (وجوه) 1959، أمّا كتابه أو بالأحرى كتيّبه (مدخل لجامع النص أو مدخل إلى النص الجامع) الذي نشره عام 1979 فكان المنطلق نحو ردم نواقص النص بما بعد النص، وقد فهمه كثير من نقّادنا على أنه وَضَعَ حلولًا لإشكاليّة التجنيس الأدبي. وما تعدُّد ترجمة هذا الكتاب والاختلاف فيها سوى دليل على صعوبة أسلوب "جيرار جينيت".
وصعوبة أسلوب "جينيت" أمرٌ يؤكِّده المترجمان د.عبدالرحمن أيوب ود.عبدالعزيز شبيل، فالاوَّل عدَّ أسلوبيّة الكتاب محفوفة بالمخاطر(1)، أمّا الثاني فوصف الكتاب بأنه يجمع الدقّة العلميّة بالعبارة المخاتلة(2).. ونضيف للصعوبة بُعدًا آخر هو توزُّع فكر "جينيت" بين تأكيد أهميّة الأجناس الأدبيّة وبين التركيز على النص وأهميّة التداخل النصّي وحقيقة التعالق بين النصوص والأجناس، والذي معه تُنتفى قضيّة التجنيس أصلًا.
ويبدو أنَّ اهتمام "جينيت" الكبير بالتنظير للتناص والتداخل النصّي قد ألزمه الوقوف عند هذه القضية مكتشفًا أنه أمام إشكاليّة.
إنَّ موقف "جيرار جينيت" من قضية الأجناس وأسباب الحيرة التي وقع فيها يتطلّب منّا تحرّي المؤشرات التي حواها كتاب (مدخل لجامع النص) لعلّنا نتمكّن من الإجابة عن تساؤلات تتعلق برؤية "جينيت" لماهية النص ومفهومه للجنس؟ ولماذا كانت تطبيقات "جينيت" أجناسيّة بينما تنظيراته نصيّة؟ وما سبب الحواريّة التي ختم بها "جينيت" الكتاب وفيها رفع الراية البيضاء مكتفيًا بالوقوف عند المدخل حيث دوّامة النص وما بعد النص قائمة، متبنِّيًا مفهوم (التعالي النصّي architext)؟ ولماذا رفض المترجمان تعريب المفهوم بـ"النص المعماري" أو "معمار النص" الذي هو أقرب لمعناه بالفرنسيّة؟ وما علاقة التعالي النصي بجامع النص أو الجنس الجامع؟
إنَّ قراءة استقرائيّة في هذا الكتاب ستكشف عن خمسة مؤشرات، فيها نجد الإجابات الناجعة للأسئلة أعلاه، وهذه المؤشرات هي:
• أولًا: ركام نوعي من دون قانون شعري
ابتدأ "جيرار جينيت" كتابه موضع الرَّصد بكلمة في الأجناس الأدبيّة افترض فيها أنَّ هناك أجناسًا أدبيّة كبرى، وتحتها يوجد ركام من الأشكال الصغرى. وقوله (ركام) يعني أنَّ لا نوعيّة حديّة فيها كما أنّها مقصيّة لصغرها إقصاءً يمتدُّ لقرون. وهذا برأي "جينيت" لا يشمل الأجناس السرديّة لأنَّ لها قانونها. أمّا أنواع الشعر وأشكاله فلا قانون لها يوضّح (الضيق الحقيقي لحدودها والضيق المفترض لمادتها)(3) ومثاله على ذلك (القصيدة الغنائية والسونيت والمرثاة) لكونها ليست محاكاة كلاميّة ولأنَّها محرَّفة عن القانون التصنيفي للسرد.
لكن السؤال هو لماذا تجاهل "جينيت" تصنيف أرسطو للعنصر الغنائي جنسًا أدبيًّا معروف الحدّ ومعلوم المحاكاة جنبًا إلى جنب العنصرين الدرامي والملحمي؟
لا شكَّ في أنَّ "جينيت" رفض مسايرة النظرية الأرسطية في الأجناس محاولًا بذلك إيجاد وجهة نظر تعديليّة قوامها التقنين وليس التراكم.
• ثانيًا: سخرية علنيّة واندفاع متدار
لأنَّ "جينيت" غير مقتنع بالتجنيس، سَخَر من موضوعة التصنيف، معبّرًا عنه بالرّسم البياني الشديد الإغراء للنموذج الثلاثي الذي لا ينفك (يتحوّل) لكي يبقى حيًّا(4). ولا شكّ أنّ ما يعنيه "جينيت" بـ(التحوُّل) هو عدم ثبات أرضيّة التجنيس كما إنَّ تعبيراته الساخرة بأوصاف (الباهرة/ نشوى/ مزيف/ مزيفة) هي الإشارة الأولى إلى أنه ينحاز إلى القول باللاتجنيس على حساب التصنيف. وعلى الرغم من محاولته إرجاء الإعلان عن هذا القول، فإنَّ فكرة اللاتجنيس ستتّضح أكثر فأكثر كلما تقدمنا داخل الكتاب، وأنَّ الأجناس الثلاثة الكبرى (نفسها في فوضى.. نشعر إذن بالحاجة إلى تصنيف أكثر صرامة ينظم حتى توزيع كل نوع)(5) فهل وصل "جينيت" إلى نظام صارم في التصنيف فعلًا وهو الذي استهزأ بالتجنيس أصلًا؟!
لا نريد أن نستبق الكلام فنقول إنَّ "جينيت" من دعاة اللانظام في بناء الأجناس لأنه أول الأمر بذل جهدًا وهو يحاول وضع تصنيف للسرد فوجده صرفًا ومختلطًا أو كبيرًا وصغيرًا أو هو رئيس وفرعيّ. أمّا لماذا استند "جينيت" إلى "غوته" فلأنَّ الأخير قال باللاتجنيس، وهذا مؤشِّر أوَّل على أنَّ "جينيت" يحبذ ما كان متبنيًا نقديًّا في القرن التاسع عشر حول قضية الأجناس محتجًّا به لتدعيم رأيه. أمّا المؤشر الثاني على ميلان "جينيت" لفكرة اللاتجنيس فهو اعتقاده الجازم بمغلوطيّة فهم شعريّة أفلاطون وأرسطو وأنَّ الاحترام والوهم هما اللذان أدَّيا إلى فهم تنظيم الأجناس وتقسيم الأنماط فهمًا خاطئًا.
واستند "جينيت" أيضًا إلى "كارل فييتور" الذي رأى أنَّ الأجناس الثلاثة الكبرى تعبِّر عن ثلاثة مواقف جوهريّة، فبنى عليها "جينيت" بدوره تمييزات لسانيّة بين الأجناس والأشكال والصيغ والأنماط، مندفعًا نحو اعتبار (الصيغ مقولات نابعة من اللسانيّات)(6).
• ثالثًا: الجمع حلًّا والحلّ جمعًا
إنَّ هذا الاندفاع في لملمة الأجناس بالأشكال والصيغ والأنماط جعل "جينيت" يقترح بشكل مبدئي مفهوم (الأجناس الجامعة أو جامع الأجناس أو معمار النص) معتبرًا أنَّ كلمة الجامعة ستفي بالغرض الذي يريد تحقيقه، إذ لا حدود ولا تفريعات بين الأنواع والصيغ والأجناس التي هي بداهة -بحسب "جينيت"- مجرّد ظواهر ثقافية وتاريخية مهما كانت سعتها ودوامها وأيًّا كانت سماتها في التحديد والتقولب.
و"جينيت" يقرّ بوجود معايير للأجناس الجامعة ولا يقرّ بوجود قوالب أو حدود تتخندق فيها الأجناس والأنواع والأشكال، ومن ثم لا مجال لضبطها و(لا أحد يقدر هنا على وضع حد لتكاثر الأنواع)(7).. تأثرًا بـِ"غوته" وترسيمة "بترسن" لوردة الأجناس(8).
وبقبول "جينيت" بالمعمار الجمعي وبرفضه القول بالحدّ والإطار يكون مقتربه النقدي قريبًا من نظريّة التداخل النصي وطبيعته التجريبيّة (اللاحديّة) وبعيدًا عن نظرية الأجناس وما فيها من أفكار تصنيفيّة (حديّة).
وما دام الأمر بحسب "جينيت" قائمًا على الجمع والشمول، فلا حاجة بعد ذلك كله إلى تصنيف أو تبويب فـ(في تصنيف الأنواع الأدبية لا يوجد موقع يكون بالأساس طبيعيًّا أكثر أو مثاليًّا أكثر.. لا يوجد مستوى أجناسي يمكن أن نقرّ بشأنه أنه أكثر تنظيرًا أو يمكن إدراكه منهجًا أكثر استنباطًا من المستويات الأخرى)(9)، وبهذا الحل الجامع المانع تكون فكرة التجنيس الأدبي منتفية بفكرة التداخل النصي، وتغدو كل الأجناس الفرعية والأجناس الرئيسة والأنواع والأشكال خليطًا متجانسًا (تضيع معه الحدود) حيث لا قوالب مرسومة ولا طبقات محدّدة.
• رابعًا: مقبوليّة الطبيعة ولا مقبوليّة التاريخ
نظر "جينيت" إلى الأجناس الأدبية بوصفها ظاهرة إبداعية طبيعية، معتبرًا العلاقة بين الأجناس والصيغ علاقة معقدة. وقد تعرض "جينيت" بسبب نظرته التقاطعية هذه للطبيعة والتاريخ إلى انتقادات وأهمها ما قاله "فيليب لوجون" عن خاتمة مقالة "جينيت" (أجناس، أنماط، صيغ) المنشورة في مجلة (إنشائية) في تشرين الثاني/ نوفمبر 1997 بأنها شديدة الجرأة لكونها تخترق الأجناس؛ أي تفكِّكها.
وبرأي "جينيت" تكون المأساة مضمّنة في الدراما، والدراما مضمّنة في المأساة، كما يمكن لأجناس فرعيّة أن تتداخل بغيرها.
• خامسًا: حيرة التَّداخل وصعوبة التَّجنيس
إنَّ ميل "جينيت" الكبير نحو النص جعله يرى الأجناس بلا قوالب ذات حدود بيانيّة وبلا خانات حديّة. ومن ثم تغدو ماهيّتا الجنس والنص عنده واحدة حيث الأنماط الكبرى والأشكال الصغيرة والأجناس المتوسطة ليست سوى طبقات أوسع وأقل تخصيصًا من بعضها بعضًا.
ولأنَّ أمر هذه المجهولية قد أسقط إثباتها في يد "جينيت"، قال مستدركًا: (إنني لا أدّعي بتاتًا أنني أنفي عن الأجناس الأدبية كل أساس طبيعي وعابر للتاريخ)(10)، وكلما حاول "جينيت" إثبات فكرة اللاتجنيس بتفضيل مفهوم النص والتنصيص على الجنس والتجنيس، تظلّ الحيرة مرافقة له في شكل تردُّد وإبهام وتذبذب والتباس، سببه عدم رغبته في التصريح بأنه مع اللاتجنيس. وحين أراد أن يعمِّم التداخل على الصيغ بوصف التداخل هو الاحتضان والتضمين وجد أنَّ الأمر يزداد صعوبة، والسبب:
أولًا: أنه جعل الصيغة أشمل من الجنس في عمليّة الجمع والاشتمال والتضمين، قائلًا: (فإذا كانت الصيغة السردية صنفًا شاملًا مستمرًا بصفة شرعيّة فمن البديهي أيضًا أن تحتضن نظرية عامة للأجناس تخصُّصات تحت- الصيغيّة لفن السرد، ويصدق هذا القول على التخصصات المحتملة للصيغة الدرامية)(11)، ولا يتَّضح من هذا التغليب للصيغة على الجنس أيّة أطر أو حيثيات تعطي لمفهوم الصيغة مكانًا ما في نظرية الأجناس.
ثانيًا: أنه جعل الصيغة أعمّ من النمط، وهو ما زاد في إشكالية التداخل بين الأجناس، مما عبّر عنه "جينيت" بالصعوبة قائلًا: (إنَّ الصعوبة تبلغ ذروتها عندما نحاول ربط صنف الجنس بصنف النمط ربطًا تداخليًا. فإذا كانت الصيغة السردية تتضمن الرواية مثلًا فمن المستحيل أن نبوّب الرواية تحت تخصُّص معيَّن من الصيغة السردية.. باختصار إذا كان النمط صيغة فرعية، فإنَّ الجنس على العكس ليس نمطًا فرعيًّا وهنا تنفصم سلسلة التداخل)(12)، وينتهي "جينيت" إلى:
- أنَّ (الصيغة) مقولة متفرعة لسعتها، و(الجنس) إحدى تفريعاتها، وهو يتفرَّع إلى سرد متشابه الأطراف وسرد متعدِّد الأطراف.
- أنَّ التطبيق على جنس الرواية سيكشف أنها لا تندرج في أي من هذين السردين، فهناك روايات بضمير المتكلم وروايات بضمير الغائب(13)، وما كان لـ"جينيت" أن يقع في هذه الحيرة لو أنه أقرَّ بطبيعة الجنس القوالبيّة واعترف بالتطوُّر التاريخي للأجناس.
وبدا الاضطراب واضحًا على "جينيت" من استدراكاته التطبيقية على تنظيراته، وفيها يتقاطع النَّمط بوصفه صيغة فرعيّة مع الجنس بوصفه ليس نمطًا فرعيًّا، لذا اعترف: (إني أقرّ بالفعل بوجود نسبي على الأقل لثوابت لا تاريخية أو بالأحرى عابرة للتاريخ)(14).
وإذا كان للأجناس تاريخ من التطور الأدبي، فإنَّ من الطبيعي أن نجد "جينيت" يصف الأجناس باللعبة الخطرة، بوصفه الناقد صاحب الرؤى البنيوية والمتحفظ من التعبير صراحة عن موقفه من تاريخ الأجناس، غير مستبعد وجود مفاجآت وتكرار ونزوات وتحوُّلات فجائية وإبداعات غير منتظرة، قائلًا: (توجد دومًا صعوبة وارتباك. وتاريخ هذا الارتباك هو تقريبًا ما رسمته في ما سبق وهو أيضًا ما يهدّدني هنا بإعادة فتح فصل جديد له. التاريخ رسم كاريكاتوري بنيوي فلا يكون التراكمي والحتمي ممكنًا للاختزال)(15)، والمحصلة التي ننتهي إليها هي أنَّ التداخل يُلغي التاريخ.
وما كان لـ"جينيت" أن يوافق "فيليب لوجون" في عدِّه السيرة الذاتية جنسًا حديثًا نسبيًّا إلا لأنه عرَّفها بألفاظ لا يتدخل فيها أيّ تحديد تاريخي (حكاية استرجاعية..) لكنه يعود مناقشًا صحة رأيه في اتخاذ السيرة جنسًا، قائلًا: (الحقيقة أنني لست متأكدًا أني مع السيرة الذاتية قد اخترت المثال الأصعب، كما أننا دون شك سنلقى عناء أكبر في تصوُّر أرسطو وهو يعرف أفلام رعاة البقر أو أوبرا الهواء الطلق)(16)، ويظل "جينيت" دائم الاستدراك والتشكيك والتعارض مع مقولاته حول الصيغة والنمط والجنس إلى جانب تعقيباته التي تكشف عن تذبذبه وصعوبة ما يسعى إلى توكيده(17).
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل هزمتْ الأجناس الأدبيّة "جيرار جينيت"؟
إنَّ ميزة النقاد المنظرين الكبار أنهم يتمتعون بروح رياضية؛ فهم يعلنون فوزهم حين يكونون واثقين من تنظيراتهم احتجاجًا وانتصافًا، لكنهم أيضًا لا يتردّدون من الاعتراف بالهزيمة والفشل إن هم عجزوا عن وضع أساسات متينة لِما ينظِّرون له تاركين الباب مشرعًا لمن يأتي بعدهم ويكمل مشوارهم.
وإذا كانت هذه الروح الرياضية هي الحاضرة في الفكر النقدي الغربي، فإنَّ روح الانبهار بفكر الآخر هي الطاغية على نقدنا العربيّ، ليس لأنَّ مثل هذا الفكر قليل بالقياس إلى التطبيق الذي لضخامته ضاع النقد العربي في ركاب النقد الغربي، بل هو أيضًا ما اعتاده الناقد العربي من التحلّي بذات سمتها الاعتداد الذاتي والتباهي والتعالي والتباري في استقبال المفاهيم والنظريات الغربية والاحتشاد له بالتطبيق على الشعر والسرد(18).
وبسبب ما تقدَّم ظنَّ بعض الدارسين نقادًا وباحثين أنَّ كتاب "جينيت" (مدخل إلى النص الجامع) قد حلَّ إشكالية الأجناس الأدبية بعد أن اختبر فروضها غير مصدّقين أنَّ "جينيت" أقرَّ بأنَّ (تقريبه متعجِّل) وأنَّ من الضروري التخلي عن المشروع لمؤرِّخي الأدب (قد تكون في ذلك (هزيمة) لا بأس بها وفيه أيضًا فيما يبدو ما يريح كل الناس مع أنَّ كل المقالات المستشهد بها ليست بالتأكيد مصادر، لكنّني أشك في أننا نستطيع بسهولة كبيرة أو بفائدة كبيرة كتابة تاريخ مؤسسة)(19)، وعبَّر في موضع آخر عن الهزيمة بالورطة بالقول: (إنَّها ورطة كوضع الإصبع بين التروس المسنَّنة)(20).
وعلى الرغم من محاولات "جينيت" اقتراح مسميات (الصيغ والأنماط والأجناس) بأشكال فرعية ونقية ومختلطة، فانَّ ذلك لم يمنعه من الاعتراف للقارئ بأنه انتهى إلى دوامة هي نفسها التي ابتدأ بها عائدًا من جديد إلى تعريف الجنس متسائلًا: ما الرواية؟ قائلًا: (ها نحن -من جديد- في خضمّ الإنشائيّة= ما الرواية؟ سؤال عديم الفائدة، فالمهم هو هذه الرواية.. لنشغل أنفسنا بما يوجد أي بالآثار الفرديّة، لنَنقُد فالنَّقد ليس بحاجة إلى الكليّات بتاتًا)(21).
وهذه الروح العالية من العلمية والتواضع انتهت بـِ"جينيت" إلى افتراض وجود حوار بينه وبين "فردريك"، فيه حاول "جينيت" أن يبيِّن ميله إلى اللاتجنيس(22)، ولا فرق إن كان "جينيت" يقصد بفردريك "نيتشه" أو كان يقصد به "شليغل" ما دام الاثنان قد قالا باللاتجنيس. وممّا جاء فيه:
(ولحدّ الآن لا يعنيني النص إلا من حيث تعاليه النصي، معرفة كل ما يضعه في علاقة -ظاهرة أو خفيّة- مع نصوص أخرى اسمّي ذلك "التَّعالي النصّي" وأدرجه ضمن التناص بالمعنى المحدّد والكلاسيكي منذ جوليا كريستيفا)(23). وقد ترجم د.عبدالرحمن أيوب المقطع بالشكل الآتي (لا يهمّني النص إلا من حيث تعاليه النصّي؛ أي أن أعرف كل ما يجعله في علاقة خفيّة أو جليّة مع غيره من النصوص، هذا ما أطلق عليه التعالي النصي وأضمنه التداخل النصي بالمعنى الدقيق والكلاسيكي منذ جوليا كريستيفيا)(24).
وبهذه الحوارية يكون "جيرار جينيت" قد أكّد أنه مع النص قبلًا وبعدًا، أمّا الجنس فمستبعد من هذا التنظير كل الاستبعاد. وأمّا لماذا تبنّى "جينيت" مفهوم (التعالي النصي) فلأنَّ العودة تكون دائمًا إلى النص كحلٍّ وسطي بين رفض التجنيس وعدم رفضه.
وبمفهوم (التعالي النصي) يكون المستقبل -بحسب "جينيت"- للتداخل النصي وليس للتجنيس، وهنا اعترض "فردريك" فوضَّح "جينيت" أنه تبنّى مفهوم التعالي النصي لأنَّ فيه ضروبًا من العلاقات، أهمّها: علاقات المحاكاة والتمويل وعلاقة التضمُّن.
هنا يأتي ما سمّاه "جينيت" (النص الجامع والنصية الجامعة أو ببساطة النسيج الجامع)(25). وترجم أيوب التضمُّن بالتداخُل. ويظلّ المفهومان (التعالي النصي) و(النص الجامع) يصبّان في نظرية (النص) وليس نظرية الأجناس، وهنا حاول "فردريك" إغاضة "جينيت" قائلًا: يا سيدي الإنشائي أراكَ انطلقتَ انطلاقًا سيّئًا، وردّ: عزيزي "فريدريك" وهل قلتُ إني سأنطلق؟
وليس وراء توكيد "جينيت" أنه لم ينطلق بعد سوى دليل أنَّ ما جاءت به "كرستيفيا" حول التناص والتداخل النصي يظلّ أصيلًا لا مجال للمُزايدة عليه، أمّا مفهومه المقترح (التعالي النصي) فمحاولة لتوطيد مفهوم التناص ونظرية انفتاح النص.
وهو ما أكّده "جينيت" أيضًا في التقديم القصير الذي خصَّ به ترجمة د.عبدالرحمن أيوب: (ليس النص هو موضوع الشعريّة بل جامع النص أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة وتُذكر من بين هذه الأنواع أصناف الخطابات وصيغ التعبير والأجناس الأدبية.. ولقد سعيتُ هنا إلى تفكيك هذه الثلاثيّة المزعجة "الغنائي، الملحمي، الدرامي" بان أعدتُ رسم تكوينها التدريجي وميّزتُ الأنماط المتعلقة بجامع النص التي تتداخل فيها، ولا يعدو مسعاي أن يكون محاولة لفتح الطريق ولو بصيغة تهكميّة أمام نظرية عامة ومحتملة للأشكال الأدبية"(26).
وهذا التوضيح دليل آخر على تفاوت مسعى "جينيت" مع ما تطلَّع إلى تحقيقه من ناحية مراجعة (ما اقترحه أفلاطون واستغلّه أرسطو) حول نظرية الأجناس، ومن ناحية مؤاخذة "باختين" -الذي ذكر أنَّ نظرية الأجناس لم تضف إلى ما أنجزه أرسطو شيئًا جوهريًّا(27)- لأنه لم يلتفت إلى صمت أرسطو عن الأجناس الغنائية.
وجدير بالذكر أنَّ "باختين" كان قد بحث عن التداخل النصي في مختلف النصوص المقدسة منها والأدبية، فوجده في سفر أيوب والقديس يوحنا والأناجيل وفي كلمة سيمون اللاهوتية وفي النكتة والمحاكاة الساخرة parody والمشاهد السوقية المبتذلة والمبالغة الفنية والأحجية ومفاجآت القصص السوقية والصفحات الملهمة للكتب المقدسة. وبيَّن أيضًا أنه في حمأة العمل الإبداعي تنصهر بشكل خام في بوتقته كل العناصر الجديدة النابعة من الواقع الفجّ(28).
إجمالًا؛ فإنَّ مراد "جينيت" من جامع النص هو التداخل النصي، وليس التقولب الأجناسي، ومن ثم لا عبور ولا غلبة لجنس على آخر، بل هناك نص جامع وأجناس جامعة فيها العلاقة بين الأجناس والصيغ علاقة نصية معقدة حيث الأجناس تخترق الصيغ، والآثار الأدبية تتداخل في الأنواع، والأنواع في الأجناس، والأجناس في الأنماط. ولو كان "جينيت" يرى للجنس الواحد حدودًا تميزه عن غيره لما عدَّ الجنس والنص واحدًا.
• الهوامش:
(1) مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، ترجمة عبدالرحمن أيوب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1986، ص12. وسنعتمد في الإحالة على الكتاب اسم المترجم كي لا يختلط أمر الترجمتين على القارئ.
(2) مدخل إلى النص الجامع، جيرار جينيت، ترجمة عبدالعزيز شبيل، مراجعة حمادي صمود، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 1999، ص3.
(3) ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص27.
(4) ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص40.
(5) عبدالعزيز شبيل، ص5.
(6) عبدالعزيز شبيل، ص56.
(7) عبدالعزيز شبيل، ص57.
(8) ترجمها عبدالرحمن أيوب، زهرة الأجناس، ينظر: ص62.
(9) عبدالعزيز شبيل، ص57.
(10) عبدالعزيز شبيل، ص59.
(11) عبدالرحمن أيوب، ص83-84.
(12) عبدالرحمن أيوب، ص83-ـ84.
(13) ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص65.
(14) عبدالعزيز شبيل، ص66.
(15) عبدالعزيز شبيل، ص68.
(16) عبدالعزيز شبيل، ص86.
(17) من قبيل قوله: (سيقال لي بأن هذا التقريب المتعجل هو كذلك استرجاعي كله.. أقر بذلك.. ولكننا سبق أن لاحظنا أنه..).
(18) والنتيجة تعاظم الحال تارة في شكل موسوعة أو سلسلة أو أعمال كاملة وغير كاملة، وتارة ثانية في مجموعة ترجمات وأرقام طبعات مزيدة ومنقحة وأعداد صفحات مئوية وتارة ثالثة في التباهي بما يدرس من كتبه وما يفوز به من جوائز في مسابقات مغرية.
(19) عبدالعزيز شبيل، ص69
(20) عبدالعزيز شبيل، ص71-72.
(21) ينظر: عبدالعزيز شبيل، ص 69 وما بعدها.
(22) ينظر: عبدالرحمن أيوب، هامش ص88 وذهب المترجم د.عبدالرحمن أيوب إلى أن جينيت في هذه الحوارية يتخيل حوارًا بينه وبني فردريك حول بعض المآخذ التي أخذها عليه فيليب لوجون.
(23) عبدالعزيز شبيل، ص70.
(24) عبدالرحمن أيوب، ص90-91.
(25) عبدالعزيز شبيل، ص71 ومن دقة جينيت وأمانته العلمية أنه ذكر في الهامش أن الناقدة ماري آن كاوس هي أول من استعمل النص الجامع في دراستها (ممر القصيدة) عام 1978.
(26) عبدالرحمن أيوب، ص5.
(27) عبدالعزيز شبيل، ص10.
(28) ينظر: شعرية دوستويفسكي، ميخائيل باختين، ترجمة د.جميل نصيف التكريتي، مراجعة د.حياة شرارة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ط1، 1986، ص22.