حسن ناجي
لم يغب الفعل الدرامي الحركي أو الصوتي عن الإنسان منذ بدء الخليقة، فكلُّ سلوكٍ بشريٍّ هو فعل درامي بدلالة الحدث الذي بداخله، ومع مرور الزمن تم تأطير الحدث البشري بقيمه ومفاهيمه الإنسانية إلى حكايات تؤدّى على خشبة المسرح؛ وذلك في العهد اليوناني عام 430 قبل الميلاد، حيث ظهر ثلاثة كُتّاب أسّسوا لميلاد المسرح العالمي وهم سوفوكليس وإسخيلوس ويوربيدس، ومن الطبيعي أن تكون المسرحيات حول الأساطير الدينية بما يتلاءم مع المفاهيم الاجتماعية، وهكذا انتشر الفن المسرحي دينيًا واجتماعيًا، ومع مرور الزمن أخذ مفاهيم ودلالاتٍ جديدة وهي التي سادت بعدهم.
ميلاد المسرح- كتابة وتمثيلاً- في الأردن تأخر كثيرًا عن بعض الدول العربية، فقد بدأت الحركة المسرحية في الأردن في عمقها القومي، عربيّة، أردنيّة، ووصلت في عمقها الوطني، أردنيّة، عربيّة، وهذه المزاوجة بين البُعدين القومي والوطني، رسمت الهوية الفنية للحركة المسرحية على تراب هذا الوطن في أبعاده السياسية، والاجتماعية، والفكرية، ويؤطر كلُّ ذلك الحسّ الإنساني الذي لم يغب عن مضامين الأعمال المسرحية حتى اليوم. في العام 1918م وصل إلى مأدبا الأب أنطوان الحيحي قادمًا من القدس، وما إن استقر في المدينة حتى ) أنشأ جمعية الناشئة الكاثوليك العربية، وكان من أهدافها القيام بالنشاطات التمثيلية. (1) ولنا أن نخمن الزمن الذي بدأت فيه هذه الجمعية نشاطاتها، وأظنُّ أنَّ أولَ عروضها كان عامَ 1920 أي بعد سنتين من وصول الأب الحيحي.
في الجانب الآخر من المملكة، وتحديدًا في الشمال بمدينة إربد وبزمن متقارب من زمن عرض مسرحية "ملك وشيطان" كانت تُعرض مسرحية "سهرات عرب" من تأليف وإخراج عثمان قاسم (وهو من زعماء الاستقلاليين، والداعين إلى محاربة الاستعمار الفرنسي، ووحدة الوطن العربي ). (2) وتقوم المسرحية على مشروعية مقاومة الوجود الفرنسي على أرض سورية، ووحدة الأحرار العرب المقاومين لكلِّ وجود أجنبي على التراب العربي، وقد شارك فيها ممثلاً الشاعر العربي ابن إربد مصطفى وهبي التل، الملقّب بعرار، وقد كان حينها يدرس في دمشق؛ ومن هنا أرى أنَّ لعرار الدور الكبير في استضافة المسرحية وعرضها في إربد، إضافة إلى مشاركته في التمثيل.
لقد بدأ المسرحُ في إربد بمفهومه الفني عامَ 1920، وقد التفتت المدارس إلى هذا الفنِّ الجديد الذي يمكن لها توظيفه تربويًا كما بدأ في اليونان توظيفه دينيًا، وهذا الأمر رصده دارسون أولوا المسرح المدرسي اهتمامهم، يقول ثامر مهدي: " إنَّ المسرح المدرسي يمكن أن يكون أحدَ العوامل الرئيسة في تحقيق الكثير من الأهداف التربوية عند الطلبة )(3). وضمن هذا الدور الاستراتيجي والمهم للمسرح المدرسي فإنّني أرى أنَّ المفاهيم الأساسية للتربية، والقيم الأخلاقية، والدينية، والوطنية... يمكن أن تتحققَ بصورة إيجابية عند الطلاب بحسن توظيف المسرح المدرسي لهذه الغاية، ويكون التأثير أولاً من خلال النصّ المسرحي بما يحمله من مضامين تربوية، أخلاقية، وطنية، تركز في طرحها على موضوع الدين كفكر إنساني يشمل هذه السلوكيات، وثانيًا من خلال العرض المسرحي ذاته، بتفاعل الحضور الإنساني مع أداء الممثلين حركة ولغة، إضافة إلى ما يبعثه الديكور والملابس والإضاءة وباقي التقنيات المسرحية في النفس من سرور.
لم تتوقف الأنشطة المسرحية في إربد عند المدارس بل تواصلت مع افتتاح أندية شبابيّة، وأصبحت جزءًا من نشاطاتها، فالتجمعات الشبابية هي المرآة الحقيقية لإبداعات المجتمع الذي تعيش فيه، وهي المحرّك الرئيس للتغيير والباعث الأول على التطوير؛ وبالتالي فإنَّ هذه التجمعات الشبابية هي الأرض الخصبة لولادة القيادات الواعدة. وقد اهتمت الدول المتقدمة بهذه الفئة القادرة على العطاء، والمتوهجة بآمالها، فعملت على تواجدهم في بوتقة واحدة بشكل مدروس، بحيث يكفل لهم مكانهم الجديد حرية الرأي، وصقل الموهبة، وعرض الإبداع، ضمن تنافس إيجابيٍّ يغذي الموهبة ويطور الإنتاج، فكانت الأندية والمراكز الشبابية والاتحادات والجمعيات، ورغم تعدد مسميات هذه المؤسسات الشبابية، فقد اتفقت على منهجية واحدة ضمن آليات مختلفة، هي؛ خدمة الشباب وتبني طاقاتهم والسعي لتحقيق طموحاتهم، من خلال توفير المُناخ المناسب لعرض مواهبهم وإبداعاتهم في المجالات الفنية والثقافية والرياضية كافة.
إنَّ الأنشطة في هذه التجمعات الشبابيّة متعددة في مجالات رياضية وثقافية، بحيث تُلبي طموحات أكبر عدد من الشباب إن لم نقل كل الشباب الراغبين في ممارسة هوايتهم الخاصة، سواء أكانت فردية أم جماعية، فالنشاط الرياضي بجميع ألعابه متوفر ضمن إمكانيات تُساعد على التميز لكل ممارس محترفاً كان أو هاويًا، وكذلك النشاط الثقافي بتنوعه الإبداعي يتيح المجال أمامَ الشباب لتنمية مهاراتهم في كتابة الشعر أو القصة، أو التمثيل والغناء، إضافة إلى الرسم، وتساعد هذه التجمعات على اختلاف مسمياتها على خلق جيلٍ واعٍ وقادر على العطاء، والإبداع والتميز، وهو بالتالي مدرك لواجباته تجاه مجتمعه وأمته.
ارتبط تاريخ مدينة إربد الثقافي والفني والوطني برؤية قومية، ارتباطاً وثيقًا بالنادي العربي، وتعود فكرة تأسيس النادي إلى مجموعة من شباب المدينة، تربطهم صداقة طيبة ممن يهوون الموسيقى والتمثيل والغناء، ممن لديهم مواهب كتابية في الشعر والقصة والمسرح. وكان هؤلاء الشباب يجتمعون في بيت أحدهم يمارسون هواياتهم الفنية المختلفة قبل التفكير بإنشاء تجمّع خاص بهم يمارسون فيه نشاطاتهم الفنية والثقافية، خاصةً وأنّه لم تكن في إربد أندية، أو مؤسسات اجتماعية يمكن لها أن تحقق طموحاتهم.
فكّرت هذه المجموعة بتأسيس نادٍ يجمعهم ويلبي طموحاتهم ومواهبهم، واتفقوا على تأسيس نادٍ يحملُ اسم " نادي التمثيل والموسيقى" وذلك عامَ 1945م، الذي أصبح اسمه فيما بعد "النادي العربي"، ومن هذه التسمية نلمس الهدف الذي أُنشئ من أجله النادي، وقد اشتُرط لعضويته ألاّ يكون العضو منتسبًا إلى أيِّ حزبٍ سياسيّ؛ وبذلك يكون النادي العربي هو النادي الوحيد رفض انتساب الحزبيين إلى عضويته في وقت مبكر، وهكذا تأسّس في مدينة إربد أولُ نادٍ يُعني بالمسرح والموسيقى (وكان من مؤسّسيه السادة صلاح أبو زيد، وزير وسياسي، وهو مخرجٌ وكاتبُ نصوص مسرحية للفرقة. وجوزيف نصراوي، أولُّ حكم دولي لكرة القدم في إربد. وجوزيف عكاوي وهو خيّاط، ومن أمهر عازفي العود، وصاحب صوت جميل. وخليل الجباصيني، صيدلاني وممثل في الفرقة. وباسم سماوي، ويوسف أبو العيلة، وهما معلمان في التربية. ورضوان الهنداوي، طبيب، وممثل في الفرقة. والفرد سماوي، وميشيل سماوي، ممثلان وكاتبا نصوص. وموسى مصطفى التل، وكان إداريَّ النادي، ومنظم أموره ). (4)
من الطبيعي أن يقدم النادي حفلاتٍ غنائيّةً ترفيهيّة، تأخذ بعضها طابع الخصوصية، تُقدم للأهل والأصدقاء، وبعضها طابع الجماهرية، تُقدم لجمهور إربد، خاصةً أنَّ النادي اهتمَّ في بداية تأسيسه بالتمثيل والموسيقى، إضافة إلى أنَّ من أعضائه أهمَّ عازف عود في تلك الفترة وهو جوزيف عكاوي، وإلى جانبه صاحب الصوت الجميل الذي برع في غناء المواويل والأغاني الشعبية؛ الصيدلاني خليل الجباصيني. وليس بين أيدينا ما يؤكّد أنَّ النادي وظف الأغنية داخل النصّ الدراميّ، أو أنَّ هناك فكرة الأوبريت الغنائي من أجل غنائه وتمثيله، فلم يكن العمل المسرحي في بداية تأسيس النادي هاجس منتسبيه " لكنَّنا علمنا أنَّ الأغنيات التي كانت تُغنى هي من التراث الشعبي لمنطقة بلاد الشام، أو من القصائد ذات الطابع الملتزم " (5).
في العام 1948م، أخرج عضو النادي السيد صلاح أبو زيد مسرحية " الشموع المحترقة" وهي من تأليف المسرحي والموسيقي الفلسطيني نصري الجوزي، وقدّم النادي هذه المسرحية على مسرح سينما الزهراء في إربد، وعلى مسرح سينما البتراء في عمان، وشارك في التمثيل السادة: " خليل جباصيني، وباسم سماوي، والفرد سماوي وجوزيف عكاوي، إضافة إلى مخرجها صلاح أبو زيد" والمسرحيّة وطنيّة تروي صورًا من الظلم الذي كان يتعرض له الشعب الفلسطيني تحت الانتداب الإنجليزي، وجاء عرض المسرحية تلبية للحسِّ القوميّ عند هذه الفئة من الشباب الفنانين للوقوف مع إخوانهم الفلسطينيين النازحين من ديارهم بعد نكبة 1948م، وقد خُصّص ريع العروض لمساعدة اللاجئين في محنتهم.
المسرحيةُ كتبها نصري الجوزي عام 1935، وقامت فرقة التمثيل العربية التي تأسّست في القدس عام 1937م بتقديم هذه المسرحية، وأخرجتها للفرقة زوجة قائم مقام القدس السيد نقولا سابا.
سبق عرض مسرحية "الشموع المحترقة" التي قدّمها النادي العربي عام 1948م دعماً للشعب الفلسطيني، مسرحية تاريخية تحمل اسم " ضرار بن الأزور" التي عُرضت عامَ 1947م على مسرح سينما الزهراء، وقد شارك في تمثيل المسرحية فرقة كشافة اليرموك التابعة للنادي. وأرى أنَّ الالتفات إلى التاريخ العربي الإسلامي وإعادة كتابته بما يخدم ظروف العصر وهمومه، كانت وما زالت سمة الأعمال المسرحية والدراما الإذاعية والتلفزيونية؛ وهذا الأمر لا يقللُّ من القيمة الحقيقية للنصوص الدرامية؛ خاصةً إن كان استحضار شخصيات تاريخية مثل صلاح الدين، وضرار بن الأزور، بما لها من دلالات سياسيّة وفكريّة ونضاليّة، وفي هذا السياق يؤكّد عادل لافي مسوّغات كتابة المسرحيّة الشعريّة" فتح الأندلس" التي كتبها الشيخ الشاعر فؤاد الخطيب، فيقول: "وأنا أُرجع السبب الأول لكتابة هذه المسرحية، هو الردُّ على خصوم العروبة والإسلام، أمَّا ما تردّد من أنَّ السبب هو الردُّ على الشاعر أحمد شوقي فإني أستبعده" (6). وفي الجانب الآخر يقول مبررًا ميل الكتّـاب العرب لاستلهام قصص من التاريخ العربي، أو أحداث لها حضورها في الوجدان؛ " ونحن نرى أنَّ أقربَ الأسباب التي دفعت نفرًا من الشعراء والأدباء العرب للعودة إلى التراث العربي الإسلامي، هو ما أصاب الوطن العربي من ويلاتِ المحتلين وتكرار المؤامرات على أهله وثرواته". (7)
لم يتوقف عطاءُ النادي عند هاتين المسرحيتين، بل استمر في إنتاج مسرحياتٍ جديدة، ففي عام 1950 عُرضت مسرحية " مفتاح النجاح" للكاتب توفيق الحكيم، وهي مسرحية اجتماعية تربوية تدعو الشباب إلى الهمة والعمل، وفي العام الذي يليه عُرضت مسرحية "حلاق إشبيلية" التي ترجمها الفنان زكي طليمات. كما عُرضت مسرحية " باير جوز عشبة" التي أسهم في التمثيل فيها السيدان علي عبندة وعبد العزيز البلبيسي، وهي المسرحية الوحيدة التي كُتبت باللهجة المحكية في تلك الفترة، وأرى أنَّها امتداد لما كان يحدث في الأعراس الإربديَّة كما رواها نايف أبو عبيد، فالمسرحية في مضمونها لا تختلف عن المسرح الشعبي الفطري، فهي تدور حول مشاجرات بين زوجين بأسلوبٍ كوميديّ، وتتناول قضايا خاصةً بالأسرة الأردنيّة.
المراجع
1 – أوراق بيضاء/ عادل لافي / ص 27
2 – عادل لافي – مصدر سابق – ص32
3 – تامر مهدي في المسرح المدرسي، ص 6
4 – تاريخ إربد – توفيق حتاملة، ص 30
5 – مكالمة هاتفية مع معالي صلاح أبو زيد في الإمارات
6 – أوراق بيضاء – عادل لافي، ص 48
7 – أوراق بيضاء – مصدر سابق، ص 48