سامر أنور الشمالي
أديب وناقد من سورية
اختار الروائيُّ المعروفُ (أمين معلوف) أن يكون بطلُ روايته (ليون الأفريقي) الشاهدَ على ما جرى في عصره، فهو طاف في البلاد المتحاربة، والتقى الشخصيات المتقاتلة، وأدار حواراته بأكثر من لغة. ولم يشعر بالغربة أو يجتاحه الحنين، فهو لا يجد نفسه مرتبطًا بمكان محدد، أو منتميًا إلى قوميّة بذاتها، أو معنيًّا بلغة دون الأخرى، فضلًا عن أنّه منفتح على الأديان كلها. إنّه يرتاح في المكان الذي يوفر له حياةً كريمةً هانئة، ويتكلّم لغة أهل البلاد التي يقطن فيها، حتى إنّه تزوّج من نساء ينحدرن من أعراق عدة، وينتمين إلى أديان مختلفة، وينجب منهن أيضًا، دون الإحساس بوجود عائق شخصيّ لديه، أو أنَّ مشاكل اجتماعية محتملة سوف يعاني منها أولاده في قادم الأيام.
ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا البطل لم يكن محور أحداث الرواية كلّها، بل ذريعة لعرضها، فالبطولة الحقيقيّة كانت للوقائع المبنية على أحداث تاريخيّة جرت بالفعل، وإن كانت الشخصية المتخيلة حاملا لها، ومبررًا فنيًّا لعرضها ضمن سرد قابل بطبيعته للكثير من المعالجات الفنية، فالرواية بأساليبها المتعددة يمكن استثمارها بطرق كثيرة. ولكن: (كلما تعددت الإشارات المباشرة إلى المواقف والأحداث والشخصيات القائمة خارج النصّ الإبداعي، بأسمائها المعروفة تاريخيًّا، صبغت العمل تدريجيا بصبغة سياسية) ورغم ذلك امتلكت الرواية القدرة على تجنب المباشرة لتنوّع أساليب السرد، وهذا يوفر مساحة أوفر لحرية التعبير، لاسيّما إذا كان الروائيّ لا يحبذ إشهار أفكاره في دعوة صريحة إلى القارئ لتبنيها.
***
العتبةُ السرديّةُ الأولى تشير صراحة إلى منطقة جغرافية محددة (ليون الإفريقي) ومنذ السطور الأولى ثمة تمهيد مكثف لتقديم الشخصية التي ستلعب دور البطولة، حيث تتضح أهم سماتها، حتى إن الفقرة الأولى تبدو مثقلة بالمعلومات وإن تكن غير زائدة عن السرد المكثف والمثقل بالأخبار: (خُتنت، أنا حسن بن محمد الوزان، يوحنا- ليون دومديتشي، بيد مزين وعمِّدت بيد أحد البابوات، وأُدعى اليوم الإفريقي، ولكنني لست من إفريقيا ولا من أوربة ولا من بلاد العرب، وأُعرف أيضا بالغرناطي والفاسي والزياتي، ولكنني لم أصدر عن أي بلد، ولا عن أي مدينة، ولا عن أي قبيلة، فأنا ابن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعا)ص9. وهذا المغامر التاجر- كما في الحكايات ورواية (رحلة بالداسار) أيضًا- ينتقلُ من القصور المزخرفة إلى السجون المعتمة، ومن الثراء المترف إلى الفقر المدقع، ومن صحبة الملوك والأمراء إلى مرافقة اللصوص وقطاع الطرق، فضلًا عن أنّه ينظُم الشعر في مديح السلاطين والأمراء، ولكن الشعر لديه بقي هامشيًّا في حياته، فلم تكن له هواجس الشعراء ومزاجهم، فاهتمامه كان منصبًا على الكتابة عن الأمكنة التي يعرفها جيّدًا، وعلى تدوين رحلاته التي وجدها تستحق العناية لأنها لم تكن بالعادية: (وضعت في هذا العام اللمسة الأخيرة لكتابي "وصف إفريقية". ثم قررت من غير أن أستريح يوما واحدا أن أنصرف إلى تأريخ حياتي والوقائع التي قدر لي أن أدانيها) ص377. ونلحظ أنَّ ثمة كتابا آخر لصاحب السيرة الذاتية بعنوان (وصف إفريقيا) ولكنّه لم يضع عنوانا ليومياته حتى بعد الانتهاء منها. وبذلك اشترك الروائيّ والشخصية في وضع العنوان (ليون الإفريقي) الذي يشير إلى القارة السوداء. علمًا أنَّ الرواية لم يقتصر وصفها على إفريقيا- كما كتاب الشخصية- لأنَّ بطل الرواية تنقل بين قارات ثلاث (إفريقيا- آسيا- أوربا) ولكن رحلاته انطلقت من إفريقيا، ومن هنا غلبت عليه صفة (الإفريقي) رغم أنّه ولد في القارة الأوربية وعاش فيها شطرا من حياته: (أحضر لي من تونس صندوقًا صغيرا يحتوي على الأوراق الكبيرة الحجم التي كنت قد دونت فيها ملاحظاتي عن أسفاري، والتي سوف أتمكن بها من كتابة العمل الذي كثيرا ما طولبت به منذ وصولي إلى رومة: وصف لإفريقية وما فيها من أشياء مهمة) ص357.
فرواية (ليون الإفريقي) هي سيرة حياة الشاهد على أحداث عصره التي عايش أغلبها بنفسه، فزمنه غني بالأحداث الخطيرة التي رسمت خارطة العالم فيما بعد. وهو يقوم بهذا العمل بجدية مدركا أهميته: (لو أني تكتمت عليه لخنتُ مهمتي كشاهد أمين) ص119.
***
في السفينة العائدة من روما إلى تونس يكتب المغامر السطور الأخيرة عن رحلاته وما شاهده، وكأنّه يقرّ باختتام سفراته التي خاضها بمتعة وجرأة رغم المشاق والأخطار. وعلى الرغم من أنّ الرحالة لم يطعن في السن- أتم عقده الرابع منذ عهد قريب- فإنّه شعر بالحاجة إلى الراحة بين الأهل بعدما طال البعاد والتعب، وكأنّه العجوز الحكيم، ومبرر هذا أنّه يتوجه بخطابه إلى ولده، موطّنا في نفسه ترك إرث ثقافي يفيده في حياته، فمعرفة أحوال البلاد تعينه في معيشته، فربما يجنح إلى طبع والده ويشد الرحال، أو يعمل في التجارة. وضمنًا يتوجّه الأب إلى الجيل الذي لم يكتب له العيش في أيام الزهو والترف، وإن ورث عقابيل الهزائم المريرة: (رسمت آخر كلمة على آخر صفحة وكنا قد أصبحنا عند الساحل الإفريقي. مآذن قمارت البيضاء، أطلال قرطاجة الشامخة، إن النسيان يتربص بي في ظلالها، وباتجاهها يتحول مجرى حياتي بعد تعرضي لعدد من حوادث الغرق. خراب رومة بعد نكبة القاهرة، وحريق تومبكتو بعد سقوط غرناطة: أتكون المصيبة هي التي تناديني، أم إنني أنا من يستدعي المصيبة؟ مرة جديدة يا بني يحملني هذا البحر الشاهد على جميع أحوال التيه التي قاسيت منها، وهو الذي يحملك اليوم إلى منفاك الأول. لقد كنت في رومة ابن الإفريقي؛ وسوف تكون في إفريقية ابن الرومي. وأينما كنت فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بني، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور فمسلما كنت أو يهوديا أو نصرانيا عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة، ورحبة هي يداه وقلبه. ولا تتردد قط في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التخوم والأوطان والمعتقدات) ص388-389.
وأن يكون الراوي هو الأب الذي يتوجّه إلى ابنه عن طريق المذكرات سيكرره (معلوف) لاحقًا في رواية (القرن الأول بعد بياتريس).
***
على الرغم من أنَّ الرواية بضمير المتكلم فإنَّ الراوي قد ينقل ما يقوله الآخرون له، وعادة يخبرونه بأشياء لم يتسنّ له معرفتها بنفسه أو معاينتها عن قرب: (في اليوم السابع على ولادتي استدعى أبي حمزة المزين لختاني ودعا جميع أصدقائه إلى مأدبة) ص17. كما نلحظ أنَّ البطل لا يكتفي بإخبارنا بالأحداث التي جرت له منذ طفولته المبكرة، بل يروي الأحداث التي سبقت ولادته عن طريق أمّه التي كانت تروي قصة حياتها لابنها، وتروي أيضًا جانبًا من تاريخ غرناطة عاصمة مملكة الأندلس، وذلك كما كانت تدور على ألسنة الناس من حولها: (كانت أمي تقول برتابة العبارات القاطعة: وكان ذلك جزاء وفاقا لجرائم غرناطة. فقد أراد الله أن يُظهر قدرته على ما يَعْدِلها من قدرات، وأن يعاقب صلف الحكام وفسادهم وجورهم وانحلالهم. وسعى إلى تحذيرنا مما سينزل بنا إذا ظللنا سادرين في الغي، ولكن العيون والقلوب بقيت مغلقة) ص23. إضافةً إلى حكايات خاله الذي فتح له باب السفر على اتساعه، وكان رجلًا شهمًا خبيرًا بشؤون الرجال وأحوالهم: (واستأنف خالي قائلا بصوت عاوده الهدوء: ما كان تصرف أبي عبد الله ليفاجئني. فلم أكن أجهل طيش صاحب الحمراء ولا ضعف طبعه) ص35.
ولعلَّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنَّ رواية (صخرة طانيوس) تمهد قبل ظهور بطلها بتقديم لمحة عامة عن عصره وأسرته وأهل قريته التي سيولد فيها.
الكتب الأربعة
أشرنا سابقًا إلى سبب تقسيم رواية (ليون الإفريقي) إلى أربعة كتب. وهنا سنعرضها بإيجاز لأهميتها في فهم الرواية ومعرفة أسلوبها.
1- كتاب غرناطة.. طرد غير المسيحيين
الرحّالة الهُمام (حسن) ينحدرُ من أسرةٍ ثريّةٍ متنفذة في غرناطة، وهذا سبب ليتمكن من الانتقال عبر الأمكنة بيسر دون عوائق اقتصادية وغيرها قد تحد من حركته: (لم يكن ذلك مصير ذوي. فحتى في أسوأ لحظات القحط لم يكن ينقص بيتنا شيء بفضل مكانة أبي. فقد ورث بالفعل عن أبيه منصبا بلديا مهما يقضي بوزن الحبوب والتأكد من سلامة الممارسات التجارية؛ وهذا ما أضفى على أفراد عائلتي لقب الوزّان الذي مازلت أحمله؛ ولا يعرف أحد في المغرب أنني أدعى اليوم ليون أو يوحنا- ليون دومديتشتي، ولم يلقبني أحد بالإفريقي؛ فهناك كنت حسن بن محمد الوزّان، وكان يضاف في الوثائق الرسمية الزياتي نسبة إلى قبيلتي الأصلية، والغرناطي، وعندما كنت أبتعد عن فاس كانوا يقولون الفاسي نسبة إلى أول بلد أقمت فيه بعد نزوحي عن بلدي، ولم يكن موطني الأخير) ص50. لقد اكتسب هذه الألقاب لأنّه لم يستقر في غرناطة العربية التي عاشت في تلك الحقبة أسوأ أيامها، وكان البطل طفلًا عندما نزحت أسرته عن الأرض التي ولدوا عليها وعاشوا جميعا: (كان الغرناطيون يدركون أن النهاية قد قربت، وأن المصائب التي لم يفتأ استغفر الله يتنبأ بها قد بدأت تنهال عليهم، كان يزداد اقتناعهم بأن الشيخ كان على حق منذ البداية، وأن السماء طالما تحدثت بلسانه) ص43. إذن ثمة شخصيات أخرى تشتهر بألقابها أيضًا، وهذا الشيخ نال لقبه من جملةٍ يردّدها بكثرة، وهو ابن مسيحي اعتنق الإسلام، وهذا يدلُّ على أنّ أهل غرناطة لم يشكّكوا في عقيدته وأنّهم يرحبون بالمسلمين الجدد. وفي الوقت نفسه ينظرون بريبة إلى الطبيب (أبو خمر) الذي أطلق عليه الناس هذا اللقب لكثرة شربه الخمر، وهو لم يحظ بثقة الناس رغم أنّه من أسرة مسلمة عريقة. وهاتان الشخصيتان المتناقضتان- ببعديهما النمطي- تعكسان بشكل غير مباشر أفكار المؤلف، وهي قليلًا ما تبرز بطريقة مباشرة في رواياته، ولكنَّ موقف الرجلين المتناقضين وفر جدلًا سمح للكاتب بالظهور عندما وجد من يتحدث بلسانه دون مواربة.
نلحظ رجل الدين يجنح إلى الغيبيات، ويرى أن خسارة المسلمين نتيجة تهاونهم في أداء واجباتهم تجاه ربهم، وأنّهم سينتصرون إذا عادوا إلى التمسك بأهداب الدين. بينما رجل الدنيا يميل إلى العلوم الوضعية، ويرى أنّ المسلمين لن ينتصروا إذا لم يتمكنوا من استعمال وصناعة السلاح الجديد الذي يعمل بالبارود. ولكن الحاضنة الاجتماعية التقليدية جعلت من الدين بموروثه قوةً عارمةً لا يمكن التصدي لها، وهذا ما فطن إليه الحكام المتخاذلون الذي غطوا تقصيرهم تجاه شعبهم بسيطرتهم على رجال الدين الذين يبحثون عن مصالحهم الخاصة أيضًا، وهذا من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط غرناطة آخر مدن الإسلام في الأندلس: (وكانت المعارك حول المدينة المحاصرة أكثر تقطعا وأقل ضراوة. ولم يكن فرسان غرناطة ومشاتها يجرؤون على التجول زرافات بعيدا عن الأسوار، لأن المدفعية القشتالية كانت تبيدهم عن بكرة أبيهم عند كل خرجة. وكانوا يكتفون بعمليات سطو ليليّة صغيرة لمهاجمة زمرة من جنود العدو، أو لسلب أسلحة، أو للاستيلاء على بعض الماشية، وكلها أعمال جسورة وإن كانت لا طائل تحتها، لأنها لم تكن كافية لفك الطوق ولا لتموين المدينة، ولا حتى لاستعادة الشجاعة) ص47.
ولم ينجد سلطانُ القاهرة غرناطة، أو السلطانُ العثماني، أو أمراء فاس وتلمسان، وتنصلوا جميعًا من واجبهم المفترض تجاه إخوتهم في الدين، ولهذا تمكن القشتاليون من دخول المدينة، وقد استسلم آخر حاكمها دون مقاومة جدية: (لم أرَ من السلطان غير عمامته التي كان قد لاثها حول رأسه فغطت جبينه إلى الحاجبين. وبدا لي جواده باهتا بإزاء جوادي الحفلات الملكيين اللذين كانا يتقدمان من الناحية الأخرى بخطا وئيدة وقد غطاهما الذهب والحرير. وتظاهر أبو عبد الله بالترجل، بيد أن فرديناد أوقفه بحركة مُطمئنة. وعندها تقدّم السلطان من قاهره وحاول إمساك يده لتقبيلها، ولكن الملك سحبها، ولم يستطع أبو عبد الله الذي كان قد انحنى عليه أن يقبل غير كتفه علامة على أنه لا يزال يُعامل كأمير. لا كأمير لغرناطة على أي حال؛ لقد منحه سادة المدينة الجدد إمارة صغيرة في جبال البيجراس وسمح له أن يقيم فيها مع أهله) ص63. ودخل (فرديناند) و(إيزابيل) الحمراء، وهكذا انتهى الحكمُ العربيّ والإسلاميّ في الأندلس بطريقة مذلة بعد ثمانية عقود مزدهرة. وبعدما أحكم القشتاليون السيطرة على آخر حاضرة للإسلام في القارة الأوربية تقدموا إلى الشاطئ العربي المغربي وانتزعوا مدنا عربية، منها ظل تحت حكم الإسبان حتى الآن!.
وفي غرناطة- التي كانت نموذجًا لما جرى في الأندلس كلها- أُجبر الذين دخلوا الإسلام على العودة إلى دينهم لأنَّ المفتشين وجدوا أنَّ الاتفاقية التي تكفل عدم التعرض للمسلمين لا تشملهم، وخشي المسلمون والعرب على أنفسهم ومالهم ففضلوا النزوح، وكذلك اليهود الذين تعرضوا للتنكيل والاضطهاد أيضًا، ولكنهم احتفظوا جميعًا بمفاتيح المنازل لأنّهم لم يفقدوا الأمل بالعودة، فقد وُلد أجدادهم على هذه الأرض التي كانت وطنهم الحقيقي. ثم: (تفاقم الأحداث المثيرة كان يتم بشكل خاص في ألبيسان. فقد أُحرقت غير بعيد من منزلنا القديم كنيسة كانت قد بُنيت حديثا. واقتصاصا لحرقها عيث فسادا في مسجدين. لقد كان كل شخص سطحي الإيمان) ص122. وبذلك برز الصراعُ الدينيُّ الذي كثيرًا ما يكون أحد أوجه الصراع السياسيّ بين من يريد فرض سيطرته على الأرض بحجج يعيدونها إلى السماء. وهذا ما عالجه (معلوف) بطرق متعددة في روايات أخرى، منها رواية (التائهون).
2- كتاب فاس.. الاكتشافات المثيرة
الرحلةُ الأولى لـ(حسن) كانت مع خاله الذي كلفه سلطان فاس الجديد بحمل رسالة إلى ملك السودان لتوثيق روابط الصداقة بين المملكتين، وفي طريق العودة توفي، وخلف الشابَ ذا السابعة عشرة من العمر قائدًا للرحلة، ومنذ ذلك اليوم لم يكف عن الترحال بمفرده أو ضمن قوافل التجّار: (أعرف أسماء ستين مملكة زنجية منها خمس عشرة اجتزت بها واحدة بعد أخرى في ذلك العام من النيجر إلى النيل. ولا وجود لبعضها في أي كتاب، ولكني أكذب إذا نسبت اكتشافها إلى شخصي لأنني لم أزد على أن اتبعت الطريق المألوفة من القوافل المنطلقة من جنة أو مالي أو أوالاته أو تومبكتو إلى القاهرة) ص235. ولم تخلُ هذه الرحلات من المغامرات، والحكايات الغريبة التي سمعها. أمَّا مسرتُه الكبرى فكانت مع الزنجيّة التي تلقاها هديةً، وشغف بها، كما كلّ النساء اللواتي سيعترضن دربه لاحقًا. ولكن سير العشق لا بدّ من أن تنقطع وإن طالت المدة، ففي إحدى الرحلات تهبُّ عاصفةٌ ثلجيّة تقتل الرجالَ والجمال تحت الثلج، ويستغل اللصوص الأمر وينهبون القافلة. ولكن المغامر ينجو لأنّه نام مع تلك الجارية في كوخ صخريّ بناء على نصيحتها، وهي التي أنجته أيضًا من فقره عندما طلبت إلى عشيرتها فداءها بالمال. فدائمًا يقع البطل في المآزق، ولكن سرعان ما يخرج منها، وإن بحلول غريبة أحيانًا.
3- كتاب القاهرة.. صراعات سلاطين المسلمين
يحلُّ (حسن) في القاهرة في عهد حاكمها العجوز الجركسي (قانصوه) الذي يروي طرفًا عن شخصيته الضعيفة، وعن طريقته البليدة في الحكم، وهذا ما يفقده هيبة الملوك ويجعله مثيرًا للضحك- وهذا يذكرنا بنمط الملك الغبيّ النادر في الحكايات الشعبية- ورغم أنَّ بطل الرواية يشترك مع أبطال الحكايات في الخروج من المآزق، حيث تكون المصادفات في صالحه، وبنيله النساء الجميلات، فإنَّه لم يتمتع بالشجاعة التي يتفوّق بها أبطالُ الحكايات على خصومهم، فالحدثُ هنا هو صاحبُ البطولة المطلقة.
وفي رحلة مصر يلتقي بالجركسيّة الأرملة والدة الطفل الذي تخفيه عن أعين جواسيس العثمانيين: (سوف يزعزع بايزيد بن علاء الدين عرش العثمانيين في يوم من الأيام. فهو وحده القادر، بوصفه آخر الأحياء من سلالته، على إثارة قبائل الأناضول. وهو وحده القادر على أن يجمع حوله المماليك الجراكسة والصفويين الفرس للقضاء على السلطان التركي المعظم. هو وحده. إلا إذا خنقه جواسيس السلطان سليم) ص265. ويتزوّج من تلك الحسناء التي تسعى لزوال ملك الأتراك، ويساعدها في شؤونها رغم أنّه يدعو للسلطنة بطول البقاء لأنّه يأمل بخلاص غرناطة بفضل جيش العثمانيين الذي فتح القسطنطينية وحول كاتدرائيتها (آيا- صوفيا) إلى مسجدٍ يذهب إليه السلطانُ أيامَ الجُمعِ في موكبٍ مهيب: (وعلى الرغم من هذا النزوح فقد بقي الشعب الغازي في عاصمته أقلية بين أقليات أخرى، وليست أكثر الأقليات يُسرا، باستثناء الأسرة الحاكمة. ففي أجمل الدارات، وفي أكثر دكاكين الأسواق رواجا، يُرى على الأخص الأرمن واليونان والطليان واليهود الذين كان بعضهم قد أتى من الأندلس بعد سقوط غرناطة. ولا يقل عددهم عن أربعين ألفا، وهم متوافقون على امتياح عدل مولانا السلطان. وفي الأسواق تتراصف عمائم الأتراك مع قلنسوات المسيحيين واليهود بلا ضغينة ولا بغضاء. وشوارع المدينة باستثناء بعضها القليل ضيقة موحلة إلى حد أن عِلية القوم لا يستطيعون التجول إلا محمولين على الظهور البشرية. وآلاف من الناس يمتهنون هذه المهنة الشاقة، ومعظمهم من القادمين الجدد الذين لم يجدوا عملا خيرا من هذا العمل) ص280. وبذلك كانت هذه المدينةُ نموذجًا مبكرًا للمدينة العالمية، رغم فرض الامتيازات للدين الذي يحقّق أصحابه النصر العسكري.
ويدخل الجيشُ العثمانيّ بلاد الصرب، ويسير إلى الشام والعراق، ويدخل مصرَ ويقطع الرؤوس، وينهب الأموال، لاسيّما المماليك، وبخاصة الشركس منهم، ويعدمون سلطان مصر (طوبان باي) الذي وقف بشجاعة في مواجهة الغزاة، وبكبرياء أمامَ المشنقة. ولكن تلك القوات لم تصل إلى غرناطة التي انتظرت النجدةَ دون جدوى فانهارت في عزلتها.
ويسوء حالُ مصر حتى إنَّ الوباء يحلُّ على أرضها، ويعتقد سكانها أنَّ السماء سلطت غضبها عليهم وأن لا جدوى من المواجهة. وهذا يعيدنا إلى موقف أهل غرناطة من الهزيمة التي حاقت بهم. حيث يتحوّل الدين إلى قوة سلبية مسيطرة على العامة، رغم أنّه يمكن أن يشحذ الهمم ويتحول إلى رافعٍ اجتماعيٍّ للمواجهة والتحدي، ولكن ذلك الزمن كان زمن سقوط وانهيار.
4- كتاب رومة.. بابا الفاتيكان والراهب لوثر
يأسر القراصنةُ (حسن) على شاطئ "جربة"، ويأخذونه إلى ايطاليا، ويهدونه كعبدٍ إلى بلاط الفاتيكان. ونبوغه يساعده في دراسة اللغات واللاهوت المسيحي ولفت الأنظار إليه، ثم يُعمّد كمسيحيٍّ ويُحرر من العبودية، ولكنّه لا يفكر بالعودة إلى الديار، ويمنحه البابا اسمه (يوحنا- ليون) واسم عائلته المهيبة: (المترددين على البلاط البابوبي الذين أدهشهم أن يولد متأخرا واحد من آل مدتشي أسمر جعد الشعر لم يلبثوا أن أضافوا إلى اسمي لقب الإفريقي لتميزي من أبي المقدس بالتبني. وربما ليتجنبوا أيضا تسميتي بالكردينال مثل سائر أبناء عمه، وبعضهم منذ بلوغه الرابعة عشرة) ص320.
ويزوّجه البابا درءًا للفضيحة معشوقة "كردينال" يمتُّ له بصلة قرابة، وهذه اليهودية الحسناء تنجب له طفلًا يدعوه جوسيب أي يوسف- وهو الذي يخاطبه في مذكراته- إنّه الابن الذي يرث عن والديه دينين وعرقين وقوميتين. ومثل تلك الولادات تتكرر بمدلولاتها نفسها في روايات (معلوف) الأخرى، وتبرز بشكل خاص في رواية (سلالم الشرق).
ولسوء الحظ المؤقت يموت حامي (ليون) ويرثه البابا المتقشف المتشدد، ويحبسه لمدة تصل إلى العام، ولكنه لا يعيش طويلا. ويفرج عنه البابا الجديد، ويكلفه بسفارةٍ بينه وبين السلطان العثماني سليم لرأب الصدع، فلم يكن الفاتيكان يعيش أحسن أيامه، فثمة صراعات وخصومات بين المسيحيين أنفسهم.
ورغم أنَّ روما من أكثر المدن اختلافًا عن بيئة (حسن) فإنّه بعد الإقامة على أرضها لسنوات وجدها موطنه الذي أكرمه فطابت نفسه للبقاء: (هذه المدينة هي اليوم مدينتي، ولأن أكون قد عرفت فيها السجن فلا أراني إلا ازددت تعلقا بمصيرها ومصير الناس الذين يصرفون شؤونها. إنهم ينظرون إليّ كصديق، وليس في وسعي أن أعاملهم على أنهم ليسوا سوى روم) ص356. ولكن القدر لا يدعه يستقر طويلًا في مدينة بذاتها، فمثلما نزح عن مدينته الأولى غرناطة يرحل مكرها عن مدينته في بلاد الروم. فثمة جيش يزعم أنه يحارب تحت لواء الصليب، أفراده من عصابات القشتاليين ومرتزقة الألمان اللوثريين- بحسب المؤلف- يسعى لخلع البابا لإفساده المسيحية ببدع ليست من الدين في شيء: (فهل أصدق إذا قلت إن راهبات قد اغتصبن على مذابح الكنائس مرتزقة يضجون بالضحك قبل أن يخنقونهن؟ هل أصدق إذا قلت إن الأديرة قد خربت، وأن الرهبان قد خلعت عنهم ملابسهم واجبروا تحت التهديد بالسوط على دوس الصليب وإعلان أنهم يعبدون الشيطان الرجيم، وأن مخطوطات المكتبات قد غدت إبالات كبيرة أقيمت للفرح وأخذ الجنود السكارى يرقصون حولها، وأنه لم ينج محراب ولا قصر ولا منزل من النهب، وأن ثمانية آلاف مدني، ولاسيما من الفقراء، قضوا، فيما أُخِذ الأغنياء رهائن حتى يدفعوا جزية؟) ص382-383.
لقد أخذت الحروب في تلك الحقبة طابعًا دينيًّا لأنّه الطريق الأقصر للسيطرة على العامة وحشد المقاتلين، سواء بين المسيحيين والمسلمين، أم بين المسيحيين من مذهبين، أو بين المسلمين أنفسهم.
***
كثيرة هي الشخصياتُ والأحداثُ في هذه الرواية، ولكنّنا سلطنا الضوء على المعالم ذات الطابع التاريخيّ بسماتها الدينيّة والسياسيّة، لدلالتها على الهُويات الفعلية للشخصيات، رغم أن الشخصية الرئيسية (ليون) لم تكن معنية بها بذاتها لانفتاحها على الآخرين، فهي على وفاق مع البيئة التي تنتقل إليها في كل مرة لسرعة تآلفها مع المحيط الاجتماعي، رغم خروجها من منطقة متوترة عرقيًّا ودينيًّا، ورغم معايشتها لصراعاتٍ محتدمة امتدت في رحلة طويلة استمرت لأربعة عقود على أرض ثلاث قارات.
ومثل هذه الموضوعات كانت محورًا أساسيًّا في أغلب روايات (أمين معلوف) ومنها رواية (التائهون) التي جرت أحداثُها في العصر الحديث مع مطلع القرن الحادي والعشرين.
المراجع:
• روايات أمين معلوف المذكورة في الدراسة:
o (ليون الإفريقي) المترجم: د. عفيف دمشقية- دار الفارابي- بيروت- ط3-1997.
o (رحلة بالداسار) ترجمة: روز مخلوف- دار ورد- دمشق- ط1- 2000.
o (صخرة طانيوس) ترجمة: جورج غريب- منشورات ملف العالم العربي- ط1- 1994.
o (القرن الأول بعد بياتريس) ترجمة: نهلة بيضون- دار الفارابي- بيروت- ط1- 1997.
o (سلالم الشرق) ترجمة: منيرة مصطفى- مراجعة: د. إحسان عباس- دار ورد- دمشق- ط2- 1998.
o (التائهون) المترجمة: نهلة بيضون- دار الفارابي- بيروت- ط1-2013.
• مراجع عامة:
o فضل، د. صلاح (أساليب السرد في الرواية العربية) الناشر: دار المدى- دمشق- ط1-2003.