مقدمة الملف:‏ أَمْجَد ناصِر: ‏ طُفولَةُ الصَّحراءِ وَكُهولَةُ الـْماء ‏(‏‎1955‎‏-‏‎2019‎‏)‏

د. خلدون امنيعم

شاعر وناقد أردني

rakeen7@hotmail.com

 

‏"منذُ‎ ‎مديحِه‎ ‎لمقهى‎ ‎آخر،‎ ‎كانَ‎ ‎الفتى‎ ‎يصعدُ‎ ‎جَلعاد؛‎ ‎لِيَرْعى‎ ‎العُزْلةَ‎ ‎ويُربّيها،‎ ‎مُتيقّنًا‎ ‎من‎ ‎وُصولِ‎ ‎الغُرباءِ،‎ ‎وَلـمـّا‎ ‎سُرَّ‎ ‎إذْ‎ ‎رَأى،‎ ‎تَقطّعتْ‎ ‎بهِ‎ ‎الأَنفاسُ‎ ‎في‎ ‎الـمُرْتقى‎ ‎الصَّعب،‎ ‎وكلَّما‎ ‎رَأى‎ ‎علامةً،‎ ‎صاغَها حياةً‎ ‎كَسردٍ متقطّع‎."‎

رَحَلَ أمجد ناصر إذنْ، رحيلًا لا يُشابهُ الغيابَ الأبديّ، بلْ يماثلُه في الشّكل لا ‏المصيرِ، فالشّكلُ مشهديَّةُ الكائنِ وهوَ ينطفئُ على مراحلَ، أو بغتةً، كأنْ تسكبَ بحرًا ‏على شمعةٍ في حجرةٍ صغيرةٍ، تلكَ هي ثنائيّةُ الرّوح والجَسد، دونَ طرحِ إشكالِ منْ ‏يسكنُ الآخرَ ويستعملُهُ؛ وفي الـمصيرِ –رحيلًا- يشبهُ ذاتَ أمجد المعذّبةَ في مسرّتِها ‏وخفوتِها، كعَوْدٍ أبديّ، إنّه رحيلُ النّهرِ إلى الـمَصبّ، وجُموحُ الخيلِ في أَعالي الجِبال؛ ‏لعلَّ رحيلَه فِطنةُ الكائنِ لـمَّا يَنفطِر، أو يَقظةُ النّائمِ لـمَّا يَنتبِه.‏

‏ أمجد ناصر، هَبْ أنَّا نجلسُ في مقهًى آخرَ، والْتَقى صاعدُ جلعادَ راعيَ العزلةِ، ‏ستكونُ أنتَ –حتمًا- ثانيَ اثْنينِ، ذاكَ هوَ النّسقُ السّرديُّ الـمتقطّعُ لتلكَ الحياةِ التي ‏كتبتَها مرّةً، وعشتَها مرّاتٍ، لعلّكَ ستسألُ حينَها: ما اسْمُ الْحزنِ؟ ولَنْ نُجيبَكَ؛ ليسَ لأنّا ‏لا نملكُ وقتَها جرأةَ الجهلِ بالإفصاحِ وشراهةَ الكذبِ الـمُباحِ، بلْ لِفداحةِ السّؤالِ، وما ‏يلمُّهُ من حُطامِ الخساراتِ والشّحيحِ من حظٍّ مُتاح، لنْ يُجيبَكَ سوى تلكَ الفتاةِ في مقهى ‏‏"كوستا"... وأنتَ خبيرُ بزوغِها وانخطافِها الـمُباغتَيْنِ؛ مرّةً أُخرى، تُرى: لو فتقْنا ‏للسّؤالِ جرحَهُ، ماذا يتبقّى منهُ، أو منكَ، أو منّا؟ أجبْنا عن المسافةِ بينَنا، ما شكلُها؟ ما ‏صوتُها؟ ما طعمُها؟ ما لونُها؟

‏ لعلّها ذاكَ السّرابُ الكفيفُ في صحراواتِ الـمفرق، أو الضّبابُ الكثيفُ في سماواتِ ‏لندن، لعلّها أنتَ: قطراتُ الـماءِ محمولًا على كفِّ الهواءِ، لكنّك العَطشُ الصّحراويُّ ‏الحافي، والنّبعُ الشّعريُّ الصّافي، فكيفَ تَرتوي؟

‏ ها أنتَ، ترحلُ عن عالمٍ صغيرٍ بحجمِ راحةِ يدِك، صُغْتَهُ وَصاغَكَ، مُثمرًا فيه إرثًا ‏أدبيًّا شاسعًا، لا يكفُّ عن التّنادي في دواخلِنا، كانَ على التّوالي: "مديحٌ لمقهًى آخرَ" ‏بيروت (1979)، "منذُ جلعادَ كانَ يصعدُ الجبلَ"، بيروت (1981)، "رُعاةُ العُزْلةِ"، ‏عمّان (1986)، "وُصولُ الغُرباءِ"، لندن (1990)، "سُرَّ مَنْ رَآك"، لندن ‏‏(1994)، "مُرْتقى الأَنفاسِ"، بيروت (1997)، " أَثرُ العابرِ"- مختارات شعرية، ‏القاهرة (1995)، "خَبْط الأَجنحةِ"- رحلات، لندن، بيروت (1996)، "حَياةٌ كَسردٍ ‏مُتقطّع"- شعر (2004)، "وحيدًا كذئبِ الفَرزدقِ"- مختارات شعرية انْتقاها صبحي ‏حديدي، دمشق (2008)، "فرصةٌ ثانيةٌ"- رحلات، عمّان (2008)، "حيثُ لا تسقطُ ‏الأمطارُ"- رواية، (2010)، "بيروت بحجمِ راحةِ اليدِ: يومياتُ حصارِ بيروت"، ‏‏(2012)، "الخروجُ من ليوا يليه في ديار الشحوح"، بيروت (2010)، "رحلاتٌ في ‏بلاد ماركيز"- رحلات (2012)، "هُنا الوردةُ"، بيروت (2016).‏

‏ من هنا، تفردُ مجلةُ "أفكار" -كما دأبتْ- ملفًا خاصًّا يتناولُ تجربةَ الشّاعر العربيّ ‏أمجد ناصر الإبداعيّة والمهنيّة، وهو الـملفُّ الثّاني بعدَ النّدوة التّكريميّة في "ملتقى ‏الأردن للشّعر" في دورته الثّانية عام ألفين وثمانية عشر ‏‎(2018)‎، حيثُ جُمعتِ ‏الأوراقُ النّقديّة في ملفّ خاصّ -العدد ‏‎354‎‏- تموز، كانت أوراقُه على التّوالي: ‏‏"تأمّلاتٌ في شعريّةِ أمجد ناصر"/ علي جعفر العلاق (العراق)؛ و"سيمياءُ الماءِ: ‏قراءةٌ في تجربةِ أمجد ناصر الشعريّة"/ خلدون امْنيعم (الأردن)، و"القصيدةُ ‏وتحوُّلاتُ الشّكلِ عندَ أمجد ناصر"/ نسرين شرادقة (الأردن).‏

أمّا ملفُّ هذا العدد (371)، فيتوزّعُ على وَجهينِ: أوَّلهما، يرتحلُ إلى عوالمِ أمجد ‏ناصر النّصيَّةِ قراءةً نقديةً، وثانيهما، ينفتحُ على عوالمِ أمجد ناصر الحياتيّةِ قراءةً ‏جماليّةً؛ هنا، يطرحُ النّاقدُ فخري صالح رؤيةً منْ سماتِها التّتبعُ الدّقيقُ لمراحلِ تجربة ‏أمجد ناصر الشّعريّةِ وتطوّرِها، عنونَها بــِ"قصيدةُ النّثرِ إذْ تَتغذَّى من شِعريَّاتٍ ‏عربيّةٍ وعالـميّةٍ عديدةٍ"، ويُجري النّاقدُ والفنّانُ التّشكيليُّ حسين نشوان تَطوافًا نقديًّا ‏حرًّا في أدبياتِ المكان والرّحلة عند أمجد ناصر، وقد عنونَها بــِ"الارْتحالُ في جغرافيا ‏المكانِ والنّصّ"، ويضيءُ الكاتبُ والمحلّلُ السّياسيُّ عريب الرّنتاوي محطّاتٍ بارزةً ‏في تجربةِ أمجد العمليّةِ صحفيًّا وسياسيًّا، وعنونَها بـِ"أمجد ناصر: حضورٌ يأبى ‏الغياب"؛ وفي الوجهِ الآخرِ، يرمّمُ الشّاعر نوري الجراح ذاكرةَ الفقدِ، ويأتي بقبسٍ من ‏بهوِ قصائدِ أمجد لِيضيءَ عتمةَ هذا العالمِ الكئيبِ، مقدّمًا شهادةً إبداعيّةً "جُدْرانُ ‏الـمَنْفى"؛ ويوغلُ الشّاعرُ والفنّانُ التّشكيليُّ محمد العامري في بلاغةِ القشعريرةِ، فاتحًا ‏للشّعرِ فهمًا جماليًّا جديدًا بما هو جرحٌ بالغٌ في البالِ، في شهادته الإبداعيّةِ "بدويٌّ يلثغُ ‏بالشّموسِ".‏

هكذا، إذنْ، مُفْتتحُ الخِتام، إذْ نشهدُ أمجد ناصر يهيلُ التّرابَ على جسدِ يحيى النّعيمي، ‏كَبُستانيٍّ حاذقٍ في زِراعةِ الوَرد؛ لِتبقى روحُكَ الجماليَّةُ والشّعريّةُ شاهدًا على منجزٍ ‏شعريٍّ إنسانيٍّ عالٍ وباذخٍ، ومُفرطِ الحميميَّةِ في جُوّانيَّاتِهِ، لِتُكَوِّنَ في رحيلِكَ مُفارقةً ‏شعريّةً جديدةً: نستقبلُكَ مبتهجينَ آنَ وداعِكَ مؤبّنينَ، ونودّعُكَ مؤبّنينَ آنَ اسْتِقْبالِكَ ‏مُبتهجينَ، وبينَهما، وقبلَهما، وبعدَهما، عليكَ السّلامُ -أيُّها البَدويُّ- حَيًّا وَمَيْتًا.‏