شهادة إبداعيّة:‏ جُدْرانُ الـمَنْفى

نوري الجراح

شاعر وأديب سوري

 

‎ ‎الشُّعراءُ لا يموتون. الشُّعراءُ زوّارٌ يأتون من المستقبل. وعندما نتفقدهم ولا ‏نجدهم بيننا؛ نكتشف أنهم قفلوا عائدين من حيث أتوا‎.‎

كنتُ أريدُ أنْ أقولَ هذا لأمجد، وأنا أكشف الغطاء عن وجهه‎.‎

لكنه كان نائمًا، ونومه منشغل بأنوار تتلألأ في بهو قصيدته‎.‎

خفافًا كما يفعل سراة الليل، خطفًا كما تفعل الشُّهب، يتوارى الشُّعراء، ويتركون صورهم ‏معلّقة على جدران المنفى لتحرس أرواحهم المقيمة في القصائد‎.‎

قبل عناقنا الأخير في لندن، أهداني كتابًا جمع فيه مختارات من شعره‎.‎

قلّبتُ صفحات، وقرأتُ‎:‎

أرأيت،

نحن لم نتغيّر كثيرًا

وربّما لم نتغير أبدًا.‏

وقرأت‎:‎

كيف أكتب قصيدتي‎ ‎

وأنا لا أملك إلا حطامَ الوصف

 

ذهبتُ إلى النَّهر فلم أجد إلّا الحصى‏

ووصايا الجفاف

ذهبتُ إلى العاشقين

فلم أجد سوى حبرِ الرّسائل

وخريفِ القرنفل‎.‎

ذهبتُ إلى البراري‎ ‎

فلم أجد إلّا عزلة الذئب‏

ووحشة الأفعوان‎.‎

ذهبتُ إلى الحكمة‎ ‎

فلم أجد إلّا فتاتَ الموعظة‏‎.‎

وذهبتُ إلى الشِّعر‎ ‎

فلم أجد إلّا حطام الوصف‏‎.‎

 

وقلبت صفحة وقرأت:‏‎ ‎

لكل أجل أَمارةٌ

ولكل أَمارةٍ ميعاد‎.‎

 

كان جالسا ينتظر الحقيبة ليسافر، وكنتُ على أهبة الخروج سفر‎.‎

وقبل أن يغادر، وأغادر، سألني إن كنت سألحق به إلى عمّان؟

ساد صمت‎...‎

كان يقصد شيئًا

وكنتُ أقصد شيئًا آخر‎.‎

ولم يكن هناك جسرٌ بين هذين الوحشين: اليأس والأمل‎.‎

كلُّ ما بقي لنا الآن من تلك المحاولة، منذ أن خرجنا أحياء من حصار بيروت صيف ‏‏1982، وقد كنّا لاجئين عربيّين يقطنان خيمة فلسطينيّة، وحتى لحظةِ العناق الأخيرة تلك في ‏‏"أوسترلي"، كل ما بقي لنا هو ضوء الأمنية التي رافقت صداقتنا المترعة بالأسى والفرح ‏والأمنيات، بالغضب والرّضى، بالحب والفقد، بالحروب التي التهمت الأصدقاء والأعداء، ‏وبالثورة على كل ما بدا لِيَفاعتِنا باطلًا. صرفنا الوقت ننتصر للشِّعر بوصفه الحريّة، ‏وللإنسان بوصفه القصيدة، وصرفناه بالشغف -أولًا وأخيرًا- بالكلمات، الكلمات، الكلمات؛ ‏سلاحِ الشاعر في العالم‎. ‎

أمجد كان رفيق تلك الرحلة من بيروت إلى نيقوسيا إلى لندن، وصداقتنا، في أطوارها ‏المختلفة، كانت صداقة المغامرة في اللغة والمنفى الاختياري، وقد اقتسمنا معًا، صحبة شعراء ‏آخرين، رغيف الخبز وساحة المعركة‎.‎

كيف لي أنْ أستعيدَ وجهكَ يا أمجد، من دون أن يقتسم الصورةَ ثالثُ سمّيته الأجمل بيننا، وقد ‏ضرّجت صدرَه بقرنفلٍ أحمر رصاصاتُ ذلك الصباح البعيد في أثينا، ميشيل النمري. ستكتب ‏قصيدتكَ فيه مرثية للموت في الأربعين‎.‎

وكيف يمكنني أن أفعل، من دون أن أستعيدَ جلوسنا لساعات وأيام في تلك النهارات الكئيبة ‏الباردة بباب المستشفى اللندني في انتظار خروج ناجي العلي من غيبوبة الطلْقة الآثمة؟‎ ‎

كيف لي أن أفعل، من دون أن تبرق أنوار القنابل المضيئة في ما وراءَ الصور والكلمات في ‏قصائدنا المقاتلة عتمة العالم‎. ‎

كانت فكرتنا الفلسطينيّة الوتدَ الذي رفع خيمة القصيدة وخيمة المنفى للهاربين من مدن ‏الاستبداد العربي. وكنّا في تلك الخيمة شقائق نعمان الشام بأعمار قصيرة وأبصار تطارد ‏الأنجم‎. ‎

الشعراء لا يموتون، لكنهم يسافرون في قصائدهم ليحرسوا الأمل في فكرة المستقبل. ‏

الشعراء يصلون في الأرض "وصول الغرباء".‏

ويصلون في القصيدة كما يصل الضوء من الأنجم البعيدة.‏