حوار مع الفنان التشكيلي والحروفي محمد أبو عزيز

حاوره: عمر العطيات

فنان تشكيلي وكاتب أردني

oatiyat0@gmail.com

 

محمد أبوعزيز فنان تشكيلي وخطّاط، له بصمة في عالم الفن العربي والإسلامي، ويُعَدُّ ‏من أكثر الفنانين الذين اشتغلوا على الحرف العربي، مستخدمًا خامات وتقنيات متعدِّدة، ‏فهو دائم التقصّي والتَّجريب. وقد اختير كأحد أهمّ 28 شخصيّة فاعلة في الأردن من ‏قِبَل السفارة الفرنسيّة.‏

 

شارك أبوعزيز بالعديد من المعارض داخل الأردن وخارجها، ومن أهم تجاربه ‏تجربته التي جاءت بعنوان "تقاسم الملح" مع الفنان الفوتوغرافي الفرنسي "جان لو ‏دوسوفرزاك" والتي عُرضت في معهد العالم العربي بباريس عام 2002، وتُعتبر ‏تجربة رائدة وفريدة من نوعها في العالم، وهي تروّج سياحيًّا وجماليًّا للبحر الميت ‏والملح بشكل خاص.‏

وهو مدرِّب متخصص في مجال الفنون البصريّة، وعمل في أكثر من جامعة عربيّة ‏ودوليّة. وعمل مستشارًا في مؤسسة إنقاذ الطفل، وأسَّس مساحات تعبيريّة في أكثر ‏من مؤسسة تعنى بالأطفال واليافعين. وهو عضو رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين ‏ويعمل حاليًا مدرِّسًا للخط العربي في معهد الفنون الجميلة. ‏

 

‏(*) لا بدَّ أنَّكَ مررتَ بمراحل عديدة في حياتك، وتأثَّرَتْ أعمالكَ الفنيّة ببيئات ‏متنوّعة عايشتَها، ومنها مرحلة الطفولة التي تؤثِّر في حياة الأفراد، وبخاصة في ‏حياة المبدع، فهل ترى أنَّ هذه المرحلة أثّرت في لوحاتكَ وأعمالكَ الفنيّة بحيث ‏نستنبط منها تعلُّقًا بمفردات الطفولة الأولى؟

‏-عشتُ طفولةً قاسيةً كمعظم الأطفال الذين قطنوا الأماكن الشعبيّة، إلّا أنَّ ذلك أثار ‏ويثير لديّ العديد من الأحاسيس، فالمفردات في كلّ مكان، حيث تفاصيل الحياة ‏اليوميّة ما زالت في رصيد ذاكرتي التي اقترفتها. فألعابنا كانت بالطّين وطابة ‏الشَّرايط، والسَّبع شحف، والـ"شَّخبطة" على الحائط وجدران المدارس، لم يكُن أحدٌ ‏يوجِّهنا أو حتى ينتبه لِما نقوم به كأطفال، وُلدنا ضدّ غاية المأكل أو الملبس، وعشنا ‏على الرّغم من الألم طفولةً خَرَجَتْ من رحم المعاناة، وبهذا السّياق أقول: ‏

الطفل بكهولته ‏

عندما يكبر كثيرًا،

يرتِّب ألعابه متأخرًا.‏

ومن جانب آخر، لا شكَّ أنَّ ثمة انعكاسات ساهمت في نتاجات اللوحات التي لم تخلُ ‏من العديد من مفردات البيئة الأوليّة؛ فقد رسمتُ السمكة، الصبّار... المرأة الملهم ‏الحقيقي كونها تحمل رمزيّة عالية للحيّ والوطن وديمومة الحياة، وكذلك وجوه الناس ‏وتعابيرهم... إضافة إلى "الجدار"، فقد استوقفتُ عنده، وما زلتُ أكتشف دروبًا ‏وعوالم جديدة به، ومن هنا فإنَّ التجريد شغلي الشاغل وعشقي الأبدي.‏

 

‏(*) في لوحاتكَ، أنتَ تجمع بين الخط والرَّسم من ناحية جماليّة، كيف توفِّق بين ‏هذين الفنَّيْن في تلك العلاقة؟

‏- سأجيبُ بحسب فهمي للسؤال بشقَّين؛ كون موضوع السؤال يحمل دلالات ‏وتأويلات، فالخط ‏‎"line"‎‏ يعتبر محرّكًا وذا ديمومة في أيّ فعل ينتج موسيقى ‏بصريّة، وإذا أخذناه بسياق آخر والمقصود الخط العربي وعلاقته بالرَّسم، فثمّة ‏إشكاليات ربّما نتقاطع معها تارة ونختلف معها تارة أخرى، وبعيدًا عن العواطف، ‏ونأمل أن نتجاوزها.. لذا اختلط الحابل بالنابل ومفهوم "الحروفيّة" أصبح شكلًا من ‏أشكال الموضة عند العديد ممَّن اشتغلوا بالحرف العربي، على الرَّغم من أنَّ "المدرسة ‏الحروفيّة" استَقَت مفرداتها من الأثر والسيميائيّة والمنظِّرين الأوائل لها، فقد وضعوا ‏بصمات جليّة واضحة المعالم، وبعيدًا عن ما إذا كانت تمايزًا إبستمولوجيًّا من وجهة ‏نظر بعضهم، فالتخبُّط حصل عندما دخل التَّنميق والزَّخرفة والشكلانيّات المباشرة في ‏الطَّرح التشكيلي. ‏

 

‏(*) غالبًا ما تشهد التجارب الإبداعيّة تحوُّلات عبْر مسيرة المبدع، برأيكَ ما هي ‏أبرز تحوُّلات تجربتك الفنيّة التشكيليّة من ناحية: الموضوع، واللون، والخط؟

‏- بدأتُ تجريديًّا كون ارتباطي يأخذ منحى مُغاير عمّا قدَّمه التشكيليون في منطقتنا ‏العربيّة، وسعيتُ جاهدًا أن أكوّن شخصيَّتي الفنيّة وأن يكون لي بصمة بالتشكيل ‏العربي من خلال البحث والتنقيب عن ماهيّة التَّجريد... وكون الفنّ إنسانيًّا ووسيلةً ‏كونيّة يحاول من خلالها الفنان الإباحة عمّا يختلج بأعماقه، يقول هيدغر: "إنَّ التدمير ‏نشاط إيجابي لأنه يفضح الزيف"، والعلم فشِلَ في تحقيق السعادة للمجتمعات، بدليل ‏تدمير الإنسان باختراعه القنبلة النووية... أي أنَّ التقدُّم التكنولوجي حينما ينحرف عن ‏بناء الإنسان (تهديم ذاته) يفشل في إسعاد الناس كافة.‏

آنذاك أسميتُ معرضي الأول "التشظّي"، ربَّما كانت المقومات البيئيّة السالفة الذِّكر هي ‏مَن ألهمَني السياق الكلي لنتاجاتي، وقلّة أولئك الذين كانوا يعرفون أنّي أرسم ‏باحتراف... لم أختر أن أكون تجريديًّا محضًا بقدر ماهيّة المعارف والثقافة والاطلاع ‏الذي أكسبني خبرات على صعيد الموضوعة، وكنتُ مولعًا بالتقنيات التي تساهم في ‏نتاج الفعل الإبداعي، فدائمًا أقول: إنَّ التقنيات في سباق مستمر مع الإبداعات الفنيّة. ‏ومن هذه الناحية، فقد كانت الخطوط سريعة وخضتُ التجربة بجرأة عالية، كنتُ ‏أوزِّعها على السطح البصري والكتل تتشظى هنا وهناك. أمّا على صعيد اللون فلا ‏يعني لي شيئًا إلّا أنه كل شيء، وربّما في مرحلة ما كان اللون الأزرق هو أكثر ‏الألوان التي عشقتها كون الأزرق يعبِّر عن الفسحة والمجال الجوّي والبحر والحيويّة ‏في العمل الفني.‏

 

‏(*) لقد جاءت واحدة من أهم تجاربك الفنيّة بعنوان "تقاسم الملح" مع الفنان ‏الفوتوغرافي الفرنسي "جان لو دوسوفرزاك" والتي عُرضت في معهد العالم ‏العربي بباريس عام 2002، حدِّثنا عن ماهيّة الرّسالة والمغزى لهذه التجربة ‏الفريدة؟

‏- لا شكَّ أنَّ تجربة "تقاسم الملح" مع الفوتوغرافي الفرنسي "جان لو دوسوفرزاك" ‏حملت رسالة بهذا الصّدد: "نحن نرغب أنْ نسدَّ ما يترتَّب علينا اتجاه الملح حاكم ‏مصير الناس منذ فجر التاريخ، فدونه ما كان لنا -نحن بني البشر- أن نكون في هذا ‏العالم ولا في غيره، ودونه لم يكن لنا من سبيل لأن نشرب أو نأكل أو نُحبّ، أو ‏نتكاثر أو نفكر أو نحلم أو نتواصل، ولا أن نكتب، فكيف الأمر إذن إن تعلّق بفن الخط ‏والتصوير؟"، لقد كان "بلين" قديمًا يقول عنه إنه شمس إلهيّة، على الرّغم من أنه لم ‏يكن في ذلك الوقت في الحضارة ما يكفي ليعطي الملح صفة القدسيّة، وفي يومنا هذا ‏في علية ذاكرتنا، وعلى الرّغم من أنه ومنذ قرن من الزمان كُنّا قد وجدنا له 1400 ‏استعمال صناعيّ.‏

على الرّغم من عرض هذه التجربة في معهد العالم العربي بمدينة باريس، إلا أنها لم ‏تحظَ بالشكل والاهتمام المطلوبين في الأردن، على الرغم من عرضها بنادي اليخوت ‏الملكي وبمدينة مادبا وكذلك عُرضت بجامعة البلمند وجامعة الجنان بلبنان، كما ‏وعُرضت في مدينة القدس... إلّا أنَّ التجربة لم تأخذ حقها كونها تروّج سياحيًّا ‏وجماليًّا للبحر الميت والملح بشكل خاص.‏

 

‏(*) متى تذهب نحو التَّجريد والحروفيّة؟

‏- عندما لا تشتغل على التشخيص في عملك الفني، تلجأ إلى توظيف مفردات ربما ‏تحمل مغزى معيَّنًا أو مضمونًا أو حكمةً تنطلق منها لتشعر أنَّ عملك يمتلك فهمًا ‏ووعيًا عميقين، والحروفيّة لم أذهب إليها، بل هي مَن جاءت مكملة المفهوم الحقيقي ‏الذي يراودني؛ هي روح أعمالي التي كانت محض صدفة تمّ توظيفها بسنوات سابقة، ‏وقناعاتي كانت من خلال الجرافيك والنّحت، فقد عملت تشخيصي الخاص كالألف ‏والذي قمتُ بدارسته مع دراسة جسدي، وأطلقت الحرف أنا، وأنا الحرف، والتي ‏حملت دلالات تحمل بطيّاتها فلسفة صوفيّة حيث روح الحرف وجسده، كما أنّ لديّ ‏تجارب جرافيكية وأزعم أنّي أوّل مَن وظّف الحرف جرافيكيًّا ببعده الجمالي قبل ‏منتصف التسعينات، كما عرضتُ تجربة "المراوح" المنبثقة من الجرافيك إلى أن ‏أخذت الشكل التصويري وما تحمله من دلالات صوفيّة، فالحرف الساكن يحيلك ‏للحركة والديمومة، للاستمرارية والتأويل... إلخ. وظّفت كثيرًا من الأشعار، لي ‏ولكتاب عرب وعالميين، وقمتُ بإذابته، أي النص المقروء، على السطح التصويري. ‏وتارة لا ترى سوى النور المنبثق من زاوية معيّنة، ونستذكر النفري بهذا السياق " ‏كلما ضاقت العبارة اتّسعت الرُّؤية ".‏

لم أتَّخذ يومًا ما أيّ تجربة كموضة دارجة، وكثيرون مَن شوَّهوا الفن تحت مسميات ‏عديدة: المحافظة على الهوية/ التراث/ الحروفية/ التجريد العربي، مع الأسف، لقد ‏اختلط الحابل بالنابل، ولم يعُد المتلقي يستوعب شيئًا ممّا يُطرح على الصعيد العربي، ‏وأصبح بعضهم يزوِّق وينمِّق ويشتغل بتقنية معيّنة، ويذود عن الفعل الحقيقي، كونه ‏دخل كسلعة، والكثير يودُّ البيع والاتِّجار بأشياء يرغبها الزبون، فلم تعُد اللوحة كما ‏كانت تحمل المعنى الحقيقي الذي يطوِّر الذائقة العامة ويرفع سويّة التلقّي حتى بالفنون ‏الأخرى.‏

فأنا شخصيًّا لا يمكن أن أساوم على الفن وأبخّس من قيمته الجماليّة والإبداعيّة، أمّا من ‏ناحية الجانب التسويقي فلستُ بارعًا بهذا المجال، فمع الأسف الفنان يقوم بعمله كفعل ‏فردي، إلا أنه هو مَن يحتاج إلى الماكنة الإعلاميّة وملاحقة الصحف والمجلات ‏وحشر ذاته بالطول والعرض، يجب أن يقوم بتسويق أعماله بذاته وهذا يحتاج لبذل ‏جهد كبير، ومتعب جدًا لإنسان حسّاس ويقوم بتعامله مع عمله بنوع من القدسيّة. ‏فكيف له أن يكون مثل تاجر!‏

 

‏ (*) لديكَ تجربة "الوجوه"، وهي تجربة شاطركَ بعض الشعراء بها، فإلى أيّ ‏شيء ترمي هذه التجربة؟

‏- الوجوه هي تجربة أسميتها "تقاسيم" مشاطرة الشعر للرَّسم، فعلًا هي دعوة... ‏للحوار، والمواجهة، وللّقاء... ‏

فالوجه هو ذو ملامح ظاهرة وأخرى باطنة...‏

ما وراء الوجه مكنونات إنسانية، ربما ذات بعد فلسفي يحتاج لتأويل...‏

وبغضّ النّظر فهو يحمل بطيّاته كل التعابير التي تعبِّر عن الجسد غير المنفصل عن ‏احتياجاته الأساسية، وربّما التطلعات وضرورات الحياة تؤثر بكافة الجوانب ‏الظواهراتيّة... لدرجة أنّ العلم أصبح يحتكم لنظريات بيولوجيّة تطرأ على ممكناته –‏الوجه- فليس غريبًا أيضًا عن كون الوجه الصورة الملازمة لتفرُّد الجسد.‏

يقول ابن عربي:‏

‏"وما الوجه إلّا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعدّدا".‏

‏ فكيف إذًا ارتبطت الدعوة من خلاله لتحاور الكتابة مخاطبةً لغته كشكل ‏ومحتوى...؟!!‏

إنَّ تقدُّم الصورة على الكتابة ليس غريبًا... فالكتابة كانت صوريّة منذ طورها ‏الأوّل... وحديثًا تقرأ على منوال آخر- الصورة كجانب معرفي يتم التعامل معها بلغة ‏موازية؛ بمعنى أنَّ الصورة لغة بصريّة تحتاج للغة صوريّة. ‏

الوجه،

يتسلل الجسد ‏

ليتحرّر من الاحتمال.‏

لعلَّ ما يدخلنا بهذه التجربة أنَّ الوجه مفتوح على الاحتمالات كافّة... وأهميّته تكمن ‏من خلال عمليّتي الاتّصال والتّواصل بين بني البشر، وكوننا بصريّين نحتاج لهذا ‏التّواصل من خلال لغة العين.‏

‏...ومن هنا نبعثُ هذه التجربة للولوج للمعنى الحقيقي الذي نستمدّه من هذه التقاسيم، ‏التقاطيع، التعابير، الملامح... على الرغم من تكرار لمقولتي التي تؤسِّس الحالة ‏الصحيّة المتناغمة مع السياق العام لمفردة الوجة ألا وهي: "إنَّ الفنان يرسم ثلثي ذاته ‏ويقول: لستُ أنا".‏

اعتمدتُ الخط بالدرجة الأولى بهذا السياق لِما له من عميق النفس أكثر من الارتكاز ‏على دلالات اللون التي تنتمي وتتفاوت بحسب ثقافات الشعوب "فاللون لا يعني لي ‏شيئًا لكنه كل شيء"، إضافة إلى بعض استخدامات قطع القماش موظِّفًا إيّاه كي نمتلك ‏اللّحمة غير المنفصلة عن جنس الوجه وانتمائه.‏

وجه، ‏

ينجز ذاته بذاته،

من أقمشة بالية،

وبضعة ألوان.‏

 

‏ (*) لقد شاركتَ بالعديد من المعارض المحليّة والخارجيّة، فما الذي أضافته لك ‏المشاركة بالمعارض الخارجيّة؟

 

‏-لا شكَّ أنَّ المعارض الخارجية تضيف لك معارف جديدة، وربّما رؤى أخرى تحيلك ‏إلى عوالم مغايرة عمّا تلقَّته عيناك بصريًّا، وإضافة إلى كون المتلقين مغايرين عن ‏بيئتك التي عشتَ بها، فتسمع آراء ربّما تضيء لك دروبًا جديدة.‏

وكم هو جميل أن تتثاقف ونطّلع على ثقافات أخرى، فالمغرب مليء بروح تختلف ‏كليَّا عن منطقة المشرق، وله ثقافة زخمة بيئيًّا وتراثيًّا وحضاريًّا، فعلًا شيء جميل.‏

 

‏(*) ما هو مفهومكَ للنصِّ المكتوب، وما علاقته بالنصِّ البصريّ؟

‏- حقيقةً أنا أعشق فكرة النص المكتوب، وخاصة عندما أقدّمه بالحرف العربي ‏وأوظفه بشكل جمالي في النص/ العمل البصري، أقتنص نصوصي بعناية فائقة، ومن ‏ثم أقوم بفرد النص على السطح، وأتعامل مع غنائيّة اللون وتوزيعه بصريًّا، ومن ثم ‏أذيب ما أريد إذابته، وأؤكد على ما خفي؛ وبهذا المنحى فإنَّ الاختفاء يحقق الحضور. ‏أو أشتغل بتقنية الكشط تارة والمشق تارة أخرى. أجعل من النص والسطح التصويري ‏واحدًا، فهو يوحِّدنا في قلوب الناس. وربما الدوران واختلاط الحروف يؤكد رؤيتي ‏التي نتوحّد بها وتتوحّد بنا.‏