تصاعد صورة اليهودي في الرواية والدراما العربيّة

 

عاتكة زياد الحصان

باحثة أردنية

 

 

 

لم يقتصر تصاعُد صورة اليهودي على الرِّواية العربيّة، لكنه طال أيضًا الدراما والسينما العربيّة، ‏وبينما كانت صورة اليهودي في الدراما والسينما لا تختلف كثيرًا عن صورته النمطيّة السلبيّة في ‏الخيال العربي، إلّا أنّ هذه الصورة النمطيّة تغيّرت في الرواية والدراما والسينما في السنوات ‏الأخيرة، ولم يكُن هذا التغيُّر والتَّصاعُد وليد الصُّدفة... ولم يأتِ بشكلٍ مفاجئ.‏

 

تَظَلُّ صورة اليهودي من الصور النمطيّة في الذهن العربي، نظرًا لما يحمله العرب من أفكارٍ ‏مسبقة عن اليهود بصفتهم مُحتلّين صهاينة وسارقين للأرض والهويّة، وقاتلين دون وجه حق، ‏خصوصًا في أعقاب نكبة 1948 التي صعدت بعدها أصوات القوميّة العربيّة، وغابت صورة ‏اليهود تمامًا عن المشهد الروائي العربي، مع ضرورة الإشارة إلى أنّه لم يكن لليهود أي حضور ‏لافت في الرواية العربيّة قبل النكبة، كما تم اختزالهم كصهاينة مغتصبين لفترة طويلة بعدها، ‏دون النَّظر إلى أيّ جُزئيّة أخرى تتعلّق بهم، نظرًا للأبعاد التاريخية التي ينظر من خلالها العربي ‏إلى صورة اليهود بشكلٍ عام، حتى إنّ الروائيين والكُتّاب العرب أحجموا عن ذكرهم لسنواتٍ ‏طويلة، وربما اعتبروا أنّ ذكرهم خارج إطار الصورة النمطيّة التي غُرست في أذهان العرب بعد ‏الاحتلال، نوعٌ من الخيانة للوطن.‏

انقسم الكُتّاب العرب حول الكتابة عن اليهود إلى قسمين: الأول تجاهل ذكر اليهود تمامًا وكأنّهم ‏غير موجودين، ولا يُشكّلون أي جزء من المجتمع العربي، على الرّغم من أنّ اليهود قد شكّلوا ‏جزءًا من النسيج الاجتماعي التاريخي العربي على امتداد فتراتٍ طويلة، سواء في الجزيرة ‏العربيّة قديمًا، أو في بعض الدول العربيّة مثل: مصر واليمن والعراق وسوريا والمغرب وليبيا. ‏والقسم الثاني ذكر اليهود من وجهة نظر واحدة غير محايدة، بصفتهم صهاينة ومُحتلّين فقط، ‏ووضعهم في إطار محدّد، دون التطرُّق إلى وجودهم في المجتمع العربي بصفتهم الاجتماعيّة ‏والإنسانيّة.‏

على الرّغم من هذا، برزت العديد من الروايات والمسلسلات الدراميّة العربيّة التي حاولت تغيير ‏الصورة النمطية لليهودي، وانطلقت محاولات للتعاطف مع اليهود من قبل بعض الروائيين ‏وصُنّاع الدراما العربيّة. ولعلّ السنوات الأخيرة شهدت تصاعدًا ملحوظًا في صورة اليهودي في ‏الرواية والدراما العربيّة على حدٍ سواء، حتى إنّ بعضهم اتُّهِمَ بالمبالغة في تناوله للشخصيّة ‏اليهوديّة، وإظهارها بمظهر مختلف يميل إلى تبييض صفحتها بعض الشيء، والمثير للدهشة أنّ ‏بعض هذه الروايات تحدَّثت عن الصراع العربي اليهودي في فلسطين، وفي الوقت نفسه تحدّثت ‏عن اليهودي ضمن الإطار الاجتماعي المتجرّد بعيدًا عن صفة الاحتلال، فحَضَرَت شخصيّة ‏اليهودي بطريقة مختلفة جدًا ومثيرة للجدل، كما استغلّ بعض الروائيين أوجه المقارنة بين ‏شخصيّة اليهودي العربي من جهة وشخصيّة العربي المسلم من جهة، ممّا خلق حالة خصبة من ‏توالد الأفكار الروائيّة، وذكر التفاصيل التي تتأرجح ما بين الاتصال والانفصال مع اليهود من ‏جهة، وبين الصداقة والعداوة من جهة أخرى، مع ضرورة الإشارة إلى وجود عوامل عدّة ‏شجّعت على تصاعد صورة اليهودي في الرواية العربيّة، من بينها التحوّلات السياسية الكثيرة ‏التي حدثت في الدول العربيّة، وأعقبها نوع من تقبُّل الآخر أو ما يُعرف بالتَّطبيع مع اليهود، ‏وبناء بعض العلاقات معهم والاحتكاك معهم أكثر.‏

من بين الروايات العربيّة التي تصاعدت فيها صورة اليهود: رواية إحسان عبدالقدوس ‏‏"الرصاصة لا تزال في جيبي"، ورواية "أيام الشتات" لكمال رحيم، ورواية "يوميّات يهودي في ‏دمشق" لإبراهيم الجبين، ورواية "اليهودي الحالي" لعلي المقري، ورواية "مصابيح أورشاليم" ‏لإدوارد سعيد، ورواية "في قلبي أنثى عبريّة" لخولة حمدي، ورواية "اليهودي والفتاة العربيّة: ‏قصة الحب الخالدة" لعبدالوهاب آل مرعي، ورواية "السيدة من تل أبيب" لربعي المدهون، ‏ورواية "يهود الإسكندرية" لمصطفى نصر، ورواية "اليهودي الأخير" لعبدالجبار ناصر، ورواية ‏‏"حمّام اليهودي" لعلاء مشذوب، ورواية "آخر يهود الإسكندرية" لمعتز فتحية، ورواية "اليهودي ‏الأخير في تمنطيط" لأمين الزاوي، ورواية "ماذا عن السيدة اليهوديّة راحيل؟" لأمين الزاوي، ‏ورواية "خمارة جبرا" لنبيل ملحم، ورواية "عين الشرق" لإبراهيم الجبين، ورواية "لعنة ‏الكادميوم" لابتسام التريسي.‏

تطرَّقت بعض الروايات إلى صورة اليهودي بوجهين مختلفين، كما في رواية "قصر شمعايا" ‏التي تدور أحداثها في حيّ اليهود، حيث أقام ثري يهودي قصره فيه، وبعد قرار حكومة سوريا ‏في الخمسينات من القرن الماضي فتح بيوت اليهود الذين غادروا إلى إسرائيل، صار قصر ‏شمعايا مأوى لخمسين أسرة من اللاجئين الفلسطينيين. ومن الشخصيات اليهوديّة التي ذُكرت في ‏الرواية أيضًا شخصيّة الطبيب اليهودي الذي رفض الذهاب إلى إسرائيل، بينما ذهب ابنه إليها ‏وأصبح طيارًا حربيًّا وشارك في الحرب، وسقطت طائرته ووقع في الأسر، وتجري مواجهة ‏بينه وبين أبيه فينكره الأب! وسواها من الشخصيات اليهوديّة التي أظهرت وجهين متناقضين ‏لليهود، مع ضرورة الإشارة إلى تركيز بعض الروايات على إظهار قصص حب أبطالها يهود ‏ومسلمون، حتى إنّ بعض الكُتّاب أغفلوا ذكر الجرائم اليهوديّة، واكتفوا فقط بذكر الشخصيّة ‏اليهوديّة من الناحية الاجتماعية المجرّدة بعيدًا عن المؤامرات، وبالغ في إظهار الجانب الإنساني ‏الطيّب لها، مع إظهار بعض التعاطف والتبرير، خلافًا لما هو راسخ في الأذهان.‏

وفي رواية "زقاق المدق" مثلًا لنجيب محفوظ، الصادرة في عام (1947م)، برزت صورة ‏المرأة اليهوديّة بوصفها امرأة مؤثرة تُحاول النساء الاقتداء بها وتقليدها في أسلوب الحياة، ‏وكأنهنّ يأخذن مفاهيم الحياة منها، وعلى الرّغم من هذا فلم يتردّد نجيب محفوظ في روايته هذه ‏في تجسيد الصورة السلبيّة لليهود من خلال ردود أفعال بعض شخصيّات روايته، حتى إنّه ‏استخدم وصف "الأبالسة" لليهود.‏

وتجدر الإشارة إلى أنّ صورة اليهودي السلبيّة ليست حكرًا على الرواية العربيّة فقط، بل تواجدت ‏في عددٍ من الروايات العالميّة أيضًا؛ ففي رواية شكسبير "تاجر البندقية"، كان اليهودي مقامرًا ‏ومرابيًا. أمّا في رواية "أوليفر تويست" لـِ"تشارلز ديكنز" فقد ظهرت صورة اليهودي منعدم ‏الضمير وشريرًا وسارقًا. وفي بدايات القرن التاسع عشر كانت معظم الروايات الإنجليزية تُظهر ‏اليهودي بصورة سلبيّة واضحة، وهذا بالطبع جاء ردًّا على صورة اليهودي في الرواية اليهوديّة ‏التي روّجت لليهودي المثالي الطاهر البريء.‏

على صعيدٍ آخر، تصاعدت صورة اليهود في الدراما والسينما العربيّة وفي السنوات الأخيرة. ‏وبينما كانت صورة اليهودي لا تختلف كثيرًا عن صورته النمطيّة في الخيال العربي، فأظهرت ‏الدراما العربيّة اليهودي بصورة الشخص الجشع والمتآمر الغادر والبخيل وعديم الأخلاق، ‏خصوصًا فيما يتعلّق بالصراع بين العرب واليهود، كما نلاحظ في مسلسل "رأفت الهجان"، الذي ‏دارت أحداثه حول الجاسوسيّة ومسلسل "فارس بلا جواد" ومسلسل "العميل 1001".... فقد ‏عُرضت بعض الأفلام والمسلسلات التي أظهرت صورة أقل قسوة لليهودي، مثل فيلم "حسن ‏ومرقص وكوهين"، لكن هذه الصورة أخذت منحىً آخر في العديد من الأفلام والمسلسلات مثل ‏فيلم "السفارة في العمارة"، الذي أظهر صورة اليهودي من زوايا مختلفة باختلاف رؤية ‏الأشخاص، ومال إلى الترويج لإمكانيّة التَّعايش بين العرب واليهود.‏

وفي الدراما العربيّة الحديثة نسبيًا، ظهرت صورة اليهود بشكلٍ أليف يوحي بتبادل المحبة ‏وضرورة إقامة العلاقات المترابطة؛ فظهرت شخصيّة اليهودي الجار الطيِّب والصديق الذي لا ‏يؤذي أحدًا كما نلاحظ في الجزء الثامن من مسلسل "باب الحارة" والذي أضاف إلى السياق ‏الدرامي حارة اليهود والعديد من الشخصيات اليهوديّة التي ركّز عليها صُنّاع المسلسل بشكلٍ ‏واضح، بصفات تباين الصفة النمطيّة لليهودي، فظهر اليهودي أمينًا وفيًّا ومُسالمًا، وحريصًا على ‏العادات والتقاليد التي يحترمها المجتمع، ومُدافعًا عن المسلمين ويُدافع عنه المسلمون أيضًا.‏

ومن المسلسلات التي أعادت شخصيّة اليهودي إلى الدراما العربيّة، مسلسل "مأمون وشركاه" ‏الذي جسّد التعايش بين الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة في مصر بطريقة كوميديّة. كما أنَّ بعض ‏الأعمال الدراميّة حاولت إظهار اليهودي بأنه مواطن صالح يعيش مندمجًا مع مجتمعه ونسيجه ‏الاجتماعي، ويتصرَّف بطيب وكرم أخلاق، كما في مسلسل "ليلى مراد"، ومسلسل "حارة ‏اليهود". إن تغيُّر الصورة النمطيّة لليهود وتصاعد شخصيّة اليهودي في الرواية والدراما العربيّة ‏لم يكن وليد الصدفة، ولم يأتِ بشكلٍ مفاجئ، بل هو محصلة للعديد من الأحداث السياسية ‏والسياقات التي تُحاول توجيه البوصلة وتسليط المجهر على نقاط معيّنة، قد يكون بعضها ‏مصطنعًا، لكنها نجحت في اجتذاب بعض التعاطف، خصوصًا في ظلّ سيطرة اليهود على ‏الإعلام بطريقة مباشرة وغير مباشرة، والتأثير على صنّاع الدراما والمحتوى بشكلٍ عام. ‏