صورة اليهودي في الأدب العربي

د. تيسير أبو عودة ‏

أكاديمي وباحث أردني

 

 

تبدو صورة اليهودي الصهيوني في الأدب العربي المعاصر ممتدَّة زمانًا ومكانًا في التراث ‏العربي والوعي العربي، ليس فقط بوصفها مادة الذات التي تفتِّش عن صورة الآخر في المرايا ‏المشروخة لتاريخ النكبة والنكسة ووعد بلفور والذاكرة الدمويّة للقضيّة الفلسطينيّة، وصولًا ‏لصفقة القرن، ولكن بوصفها صورة جمعيّة وتخييلية لجماعات تمَّ تصدير سرديّتها التاريخيّة ‏الأوروبيّة للعالم ضمن سياق الإمبريالية العالميّة، وهي أقرب لردّة الفعل والانفعال، والرُّؤية ‏والكتابة بالمثل وكتابة الجمالي المتشابك مع الواقعي والسياسي.‏

 

يَقولُ الرِّوائي الإسرائيلي "عاموس عوز" في عام (1996): "إنَّ إسرائيل وطننا، وفلسطين هي ‏وطنكم. وكل مَن يرفض التعايش مع هاتين الحقيقتين فهو إمّا أن يكون أعمى أو شريرًا. بعد ‏عامين ونصف من توقيع اتفاقيّة أوسلو، علينا أن نتَّفق على بنود السلام المبرمة بيننا. علينا أن ‏نبذل قصارى جهدنا، وأن نتفاوض، وأن نصرّ على بعض القضايا، ونقدِّم تنازلات في قضايا ‏أخرى. ولكنّنا، وبعد ثلاثة أجيال من القتال فيما بيننا، كنّا قد اتَّفقنا أن نداوي جراحنا معًا. وهذا ‏ما أراده ياسر عرفات عندما تحدَّث في واشنطن حول (سلام الشجعان).... لقد كان إسحق رابين ‏رجلًا شجاعًا: لقد دفع حياته ثمنًا لهذه الجهود. كان شمعون بيريس رجلًا شجاعًا أيضًا: لقد كانت ‏حياته ومستقبله السياسي على المحكّ دومًا. لقد آن الأوان أن يثبت ياسر عرفات أنه رجل شجاع ‏أيضًا، أو عليه أن يسلّم الرّاية لرجل أكثر شجاعة منه‎.‎‏ لقد جاءت أوسلو بمئات الشروط، ولكن ‏جوهرها كان واضحًا وبسيطًا: أن نتوقّف عن السيطرة عليكم، أن نتوقّف عن قمعكم، وأنتم ‏بالمقابل تعترفون بدولة إسرائيل، وتتوقّفون عن قتلنا. ولكنّنا أذعنّا لهذا الأمر، وأنتم لم تفعلوا. لم ‏تعُد إسرائيل تسيطر على (85%) من الفلسطينيين في الأراضي الإسرائيليّة. ولكن الفلسطينيين، ‏من جهتهم، لم يتوقفوا عن قتلنا. وفي الحقيقة، فإنَّ الكثير من الإسرائيليين قد قُتلوا من قبل ‏الفلسطينيين بعد الاتفاقيّة، بالمقارنة مع الفترة التي سبقت الاتفاقيّة".‏

تبدو فكرة تحوُّل الضحيّة لجلّاد تاريخي وسردي، فكرة ممتدَّة معرفيًّا عبر التاريخ، وتتجلّى قلبًا ‏وقالبًا في منح اليهود وعد بلفور عام 1917 من قِبَل المستعمر البريطاني، والذي تشكَّلت ‏صيرورته في تشريد آلاف الفلسطينيين من عقر دارهم، وتحويلهم لضحيّة أبديّة، وقيام السرديّات ‏الصهيونيّة بمحاولة محو الذاكرة الفلسطينيّة من خريطة التاريخ والوجود، وممارسة ما يسمّيه ‏المؤرخ الإسرائيلي "إلان بابيه" (مجزرة الذاكرة) أو محو الذاكرة. ‏

لا شكَّ أنَّ صورة اليهودي في الوعي العربي، بوصفه الآخر أو بوصفه الإنسانوي، أو بوصفه ‏العدو قد تشكّلت منذ قرون طويلة، إذْ وُصفوا بنقضهم للعهود، والمنافقين، والجبن، والحقد على ‏المسلمين. إنَّ التَّعميمات التي يمارسها رجال الدين في ما يخصّ اليهود لا تميِّز بين اليهود ‏المتدينين، وبين اليهود التاريخيين، وبين اليهود الصهاينة، ولهذا تنبَّه كثير من المثقفين والكتاب ‏العرب لهذه الجزئيّة، ومنهم إدوارد سعيد، ومحمود درويش، ويحيى حقي، وسهيل إدريس، ‏وإلياس خوري وإميل حبيبي، وغيرهم. ‏

يذكر عادل الأسطة في كتابه "اليهود في الرواية العربيّة: جدل الذات والآخر" حكاية اليهودي ‏والمجوسي في كتاب أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة"، وكيف أنَّ اليهودي غدر ‏بالمجوسي الذي أطعمه وأعطاه بغلته حتى يخفف عنه عناء الطريق والرحلة(عادل الأسطة، ‏‏2012، ص18). ولستُ في صدد الحديث عن صورة اليهودي في الأدب العالمي، لأنَّ المتتبِّع ‏لشخصيّة "شايلوك" في "تاجر البندقية" لشكسبير وبعض أعمال "تشارلز ديكنز" و"تشوسر" ‏وشخصيّة "فيجين" في "أوليفر توسيت"، مرورًا بـِ"فيرجينيا وولف" و"هنري جيمس" وغيرهم، ‏يبصر صورة ثابتة نسبيًّا لليهودي الجشع والمتغطرس والشرير، الأمر الذي دفع كثيرًا من النقاد ‏لاعتبار الأمر شكلًا من أشكال معاداة الساميّة. لكنّني معني هنا بصورة اليهودي الصهيوني، ‏وتشكُّلات هذه الصورة في الأدب العربي المعاصر، ولعلَّ موقف يوسف زيدان من الشخصيّة ‏اليهوديّة الصهيونيّة موقف متواطئ مع المشروع الصهيوني، وهذا الموقف هو إسقاط تراكمي ‏للموقف الثقافي لدى كثير من الكتاب العرب، وسقوطهم في فخ البترودولار. ويبدو موقف زيدان ‏مخاتلًا تجاه السلطة، وهذا بدا جليًّا في ندوته التي قدَّمها قبل سنتين تقريبًا في منتدى عبدالحميد ‏شومان في عمّان، إذْ قام الرجل بمحاولة سرديّة واستشراقيّة لتبرير الزواج الابيستمولوجي ‏والتاريخي بين مؤسسة السلطة وبين المعرفة، ثم عرج على قصة المتنبي، وكافور الإخشيدي، ‏وسيف الدولة الحمداني. ثم استطرد زيدان في مقام آخر، وفي الليلة نفسها، في مقهى دارة الفنون ‏في جبل عمّان، في ردِّه على سؤال لي عن موقفه من مجازر صبرا وشاتيلا وما يحدث في ‏غزة، فكان جوابه: "لا أريد أن أذكِّرك بالمجازر الإسلاميّة التي ارتُكبت في حق يهود بني ‏قريضة، في زمن الحكم المحمّدي، ولهذا عليكَ أن تتحرَّر من ثنائيّة الجلّاد والضحيّة". تذكرت ‏فورًا مقولة إدوارد سعيد عن خيانة المثقفين، وسقوطهم في فخ السلطة، إذ يقول سعيد: "المثقف ‏الحقيقي لا يتورَّع عن فرك أنف الثقافة في وحل السياسة، وهو الذي يُشهر الحق في وجه ‏السلطان".‏

صورة اليهودي في أعمال إلياس خوري

تبدو صورة اليهودي الصهيوني في الأدب العربي المعاصر ممتدَّة زمانًا ومكانًا في التراث ‏العربي والوعي العربي، ليس فقط بوصفها مادة الذات التي تفتش عن صورة الآخر في المرايا ‏المشروخة لتاريخ النكبة والنكسة ووعد بلفور والذاكرة الدمويّة للقضيّة الفلسطينيّة، وصولًا ‏لصفقة القرن، ولكن بوصفها صورة جمعيّة وتخييلية لجماعات تمَّ تصدير سرديّتها التاريخيّة ‏الأوروبيّة للعالم ضمن سياق الإمبريالية العالميّة، وبعد الحرب العالميّة الثانية، وأحداث ‏الهولوكوست؛ فجاءت هذه الصورة سياقيّة وتاريخيّة وأيديولوجيّة وطباقيّة شكلًا ومضمونًا مع ‏قيام الكيان الإسرائيلي في قلب الشرق الأوسط جيوسياسيًّا، وفي أرض فلسطين بصورة وجوديّة ‏قسريّة، الأرض التي يراها اليهود الصهاينة، أرض الميعاد، والفردوس المُستعاد، والتي تصفها ‏‏"جولدامائير": (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض). وبناء على هذه المقدمة التأسيسيّة، تبدو ‏صورة اليهودي الصهيوني في الأدب العربي أقرب لردّة الفعل والانفعال، والرُّؤية والكتابة بالمثل ‏وكتابة الجمالي المتشابك مع الواقعي والسياسي، لأنَّ "مَن يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك ‏المعنى تمامًا" بحسب محمود درويش. ‏

تبدو الكتابة عن اليهودي في أعمال إلياس خوري، كما يرى الكاتب عادل الأسطة، مختلفة عن ‏الصورة النمطيّة التي قُدّمت عن شخصيّة اليهودي: "هي الكتابة عن اليهود في الرواية التي هي ‏رواية فلسطين، على الرّغم من أنَّ كاتبها هو إلياس خوري اللبناني المولد. ولعلّها تبدو صورة ‏غير مبالغ فيها، ولعلّ الكاتب لم يكرِّر الصفات التقليديّة عن اليهود. لم يكتب عن يهودي يحب ‏المال يشبه شايلوك، ولم يرسم صورة واحدة لليهودي: الجندي القاتل. لقد كتب عن هذا، ولكنه ‏كتب أيضًا عن يهود ضحايا، عانوا ما يعاني منه الفلسطيني، وبالتالي فإنَّ مصدر الصورة كما ‏لاحظنا متعدّد"(عادل الأسطة، 2012، ص110). ‏

ويبدو أنَّ عادل الأسطة قد تناول جوانب متعدِّدة لصورة اليهودي في مملكة الغرباء، بوصفه ‏‏"غريب من الغرباء" خصوصًا شخصيّة وديع السخن، والذي هاجر إلى إسرائيل، بحثًا عن آمال ‏صهيونيّة كثيرة، ثم وجد نفسه غريبًا بين غرباء آخرين، منهم "سكان مخيمات برج البراجنة ‏وشاتيلا مار إلياس وعين الحلوة، وسعيد صالح عبدالهادي، وسامية عيسى وغيرهم"(المرجع ‏نفسه، ص97). ‏

صورة اليهودي الطباقيّة في "أولاد الغيتو" ‏

لكنَّ إلياس خوري، يقدِّم وصفًا سرديًّا أكثر عمقًا ممّا يراه عادل الأسطة، شخصيّة اليهودي متعدِّد ‏الصفات، أو اليهودي المتجرِّد من ملامحه أو اليهودي ثابت أو محدَّد الصفات. ينطلق إلياس ‏خوري من سرديّة "ألف ليلة وليلة"، باعتبار الرواية صورة سرديّة منفتحة على كل احتمالات ‏السرد المعاصر، ومتشابكة مع مصادر الكتابة قديمًا وحديثًا، لكنها في النهاية ممكنات سرديّة ‏تستمد مادتها الأولى من تعدُّد الحكاية، ومن صمت التاريخ وعماه ومن عبثيّة اللحظة التاريخيّة، ‏والتي حوّلت حياة الفلسطينيين لنص لا يفتِّش عن مؤلِّفه على طريقة "بيرانديلو". لقد تجلّت هذه ‏اللحظة السرديّة في شكلها الذي يشبه الصندوق الصيني على طريقة "مايكال بختين"، وتعدُّد ‏الأصوات. النكبة كما يراها إلياس خوري، هي "سرديّة متَّسقة، حين تكون النكبة مسارًا مستمرًّا ‏لم يتوقف منذ أكثر من خمسين سنة، ولم يتحوَّل إلى ماضٍ مضى"(249).‏

يبدو مقتل الفتى "مفيد شحادة" في اللد على يد الجندي الإسرائيلي مشهدًا سنيمائيًّا محضًا. ‏الكاميرا، مصوّبة كالكلاشينكوف باتِّجاه الضحيّة، لكنّها كاميرا مخاتله، تتحرّك في زاوية منفرجة ‏وغير محدّدة، تمامًا كحركة التاريخ الأفقيّة. وكأنَّ إلياس يردِّد مقولة الرِّوائي (فورستر): "لا تثق ‏بالراوي، بل ثق بالنص". لكنّ النص يشبه الكاميرا، والحكاية رهينة تقنيات أدائيّة محضة، يمسك ‏بناصيتها العمل الروائي في صورته الكليّة. يقول الراوي هنا على لسان إلياس خوري: "وفي ‏الحالة اللدّاويّة، فإنَّ مشهد موت الفتى، كما حفظته عين الذاكرة، هو مشهد صامت بالضرورة، ‏من المرجّح ألا يكون أحد قد سمع شيئًا من الحوار الذي دار بين مفيد شحادة والجندي الإسرائيلي ‏أمام الشريط الشائك"(أولاد الغيتو، 2016، ص247). ‏

أجدُ إسقاطًا ثيميًّا وتاريخيًّا واضحًا هنا بين مقتل الفتى اللدّاوي "مفيد شحادة"، الذي صدَّق إنسانيّة ‏اليهودي الصهيوني "سيغفريد ليهمان"، والذي كان يروِّج لفكرة التعايش بين الشعبين، والذي غرّر ‏بالفتى وأعطاه رسالة لـِ"شموئيل كوهين"، والذي شغل منصب القائد العسكري للحملة على اللد، ‏وبين معاهدات السلام المزعومة. قتل الصبيّ كالعصفور معلّقا على السّياج، وكأنّ موته هو نص ‏تراجيدي يحاكي كل معاهدات السلام المزعومة، ويحاكي صمت العالم والأمم المتحدة تجاه ‏مجزرة اللد وصبرا وشاتيلا وغيرها من مجازر الصهاينة، والذين تحوّلوا من ضحيّة الغيتو ‏الأوروبي لجلاد الغيتو الفلسطيني، ومخترع وهم الديمقراطيّة في الشرق الأوسط. ‏

لا أعتقد أنَّ إلياس خوري يبحث عن إثبات رواية فلسطين المناقضة لرواية "يهودا عيمخاي" ‏و"عاموس عوز" الصهيونيّة. رواية فلسطين هي جرح ينزف باستمرار، وليس ذاكرة أو ‏نوستالجيا تتكئ على خطاب الضحيّة والجلاد. هي صيرورة الألم والمخيمات والشتات. إنّ إلياس ‏خوري يمسرح الألم الفلسطيني، ويحوِّله لحكاية محكيّة، لنص مرتحل ومفتوح -بحسب إدوارد ‏سعيد- من دائرة الصمت والهامش، الذي يشبه صمت العالم تجاه مقتل الفتى اللداوي "مفيد ‏شحادة"، لدائرة السرد والحكاية، لأنَّ الحكاية هي الشاهد المشهود، والنص والمعنى، والوثيقة التي ‏تشرّح جثة الحقيقة، وتبيِّن الفرق بين وحشيّة التاريخ وحضارته، كما يراها اليهودي "ولتر ‏بنيامين". إنَّ إلياس خوري يقول لنا بملء فيه: "أنا لا أتكلّم بحثًا عن شيء، ولا أغمض عيني كي ‏أغوص في ذاتي. عيناي مفتوحتان إلى أقصى حَدّ، كي أرى العالم بأسره في مرايا الكلمات. ‏كلماتي التي أكتبها صارت مراياي، أنظر فيها من أجل اكتشاف العالم وتأليفه من جديد...".‏

تبدو رواية "أولاد الغيتو" كما يقدِّمها إلياس خوري، نصًّا محليًّا يؤسّس صوته الفلسطيني الداخلي ‏من عقر اللد والحكاية الفلسطينيّة، وينظر لليهودي المقيم على أرض فلسطين، من نافذة إنسانويّة ‏عالميّة تحاكي ما قاله إدوارد سعيد ذات مرَّة عن نفسه: "أنا المثقف اليهودي الأخير"! بوصفه ‏وريث "ثيودور أدورنو"، ورديف اليهودي "تشومسكي"، و"جوديث بتلر"، ولكنه صوت المثقف ‏المنفي والمثقف "خارج المكان"، والمثقف المقيم في الحكاية الفلسطينيّة، والسرد العالمي، بوصفه ‏النافذة الأكثر انفتاحًا على تراجيديا الألم الفلسطيني، والوثيقة التي تميِّز بين اليهودي الصهيوني، ‏واليهودي الإنسان، واليهودي العدو، والعدو القاتل، والعدو الذي يحلم بزنبقة بيضاء. هو نص ‏طباقي، يُطلُّ على المركز والهامش في آن واحد، ويدرك مركب الهوية المتناقض، والذي لا ‏يمكن اختزاله في صوت أحادي، أو سرديّة تاريخيّة واحدة، لكنه في النهاية يوثِّق نصوص الألم ‏والاحتلال الإسرائيلي خارج ثنائيّات التاريخ الجامدة. ‏