المكانُ وأنا

 قاسم توفيق

روائي وقاص أردني

 

qasem.tawfiq@gmail.com

 

 

‏ قَرَأتُ الكثيرَ عن ماهيّةِ وفلسفةِ المكانِ وتعلَّمتُها، لكن لم أعِشْها إلّا في الأدب الذي أقرأه أو أكتبه. ‏الحديث عن المكان بأنَّه مُطلق، أو نفيه بأنَّه نسبيّ، أو أنَّه الحيِّز، أو أنَّه معزول عن العقل ‏البشري، كلُّ هذه التفاصيل والاختلافات لم تَتْركْ في عقلي اللافيزيائي أثرًا أو نهجًا أتبعه في ‏تفكيري عندما أفكر بماهيّة المكان.‏

ما أعرفُهُ بأنَّ رحمَ أمي كان بالنِّسبة لي مكانٌ، والبيتُ الذي وُلدتُ فيه مكانٌ جديدٌ، وحارتنا ‏وعمّان وما تبقّى من الكرة الأرضيّة أمكنة أخرى، كلّها لم تكن ثابتة أو جامدة، بل لحظيّة التغيُّر ‏والاختلاف. من الممكن أنَّ ذلك يَنتُج عن جدليّة تعامُل الحواس مع الأشياء، أو تأثُّرِهِ هو "المكان" ‏بحركةِ الزمن. فالمكانُ كيانٌ ماديٌّ لحظيّ، ثابتٌ ومتحوِّل.‏

عشتُ العقدَ الأوّلَ من عمري في بيتٍ واحدٍ، ولكن ما أتذكَّره بأنه لم يكن البيتَ ذاتَه المرسوم في ‏داخلي، ففي واحدٍ من تلك البيوت/ البيت؛ كنُّا أنا وأخوتي نعيش في سلام؛ نأكل وجبة الطعام في ‏وقتها، ونلبس ما يقي أجسادنا من البرد أو الحرّ، وأحيانًا كُنّا نتجَّمل. وفي بيتٍ آخر/ البيت ذاته، ‏عشنا أيّامًا لم نجد فيها ما يسدّ رمقنا أو يستر عرينا. في واحدٍ من هذا "البيت/ البيوت" كان أبي ‏موجودًا يُضحكنا ويُلاعبنا ويؤدِّبنا، وفي واحد آخر كُنّا أيتامًا. هو البيت ذاته لكنه لم يكن هو؛ بل ‏كان أمكنة وأزمنة ولربّما تهيُّؤات.‏

المكان الأوَّل الذي أعرفُه؛ رحمُ أمي، فقد سكنتُ فيه تسعة أشهر، والمكان الأوَّل بعده كان المهد ‏الذي تلقَّفني بعد أن جئتُ إلى الأرض، والمكان الأوَّل الجديد صار الحارة التي شاهدتُ فيها العالم ‏للمرّة الأولى. المكان الأوّل يا سادة، ولكي لا نفقد نكهته مهما كان طعمُها أو شكلُها؛ هو الحلم ‏الواعي الأوّل الذي حلمت، والفرح النقيّ الذي انزَرَعَ في داخلي إنْ نجحتُ، أو حصلتُ على ‏بضعة قروش، وهو الموسيقى التي هزّتني أوّل مرّة، والكتاب الذي حفر أحرفه الأولى في عقلي، ‏والمرأة التي صارت حبيبتي بعد أمي. إلى أنْ حطَّ بِيَ العمرُ في قلب امرأةٍ لعوبٍ، شقيَّةٍ، مشاكسةٍ ‏اسمُها "عمّان".‏

منها وفيها كانت البداية، أوهَمَتْني بأنّ العالم لا بدَّ أن يصيرَ أجمل، لأنه لا يليق بهذا الكوكب ‏الصغير الجميل الذي أعيش فيه سوى الفرح، وآمنتُ بأنَّ مقدِّمات تحوُّل كوكَبِنا إلى الأجمل، لا ‏بدَّ أن تكونَ من مدينتي الحلوة. ولأنّي كائنٌ ساذجٌ صدَّقتُ كل ذلك، وأعلنتُ عن هذا الأمل ‏بصوتٍ مرتفعٍ في مجموعتي القصصيّة الأولى "آن لنا أنْ نفرح". كُنّا آنذاك نعيشُ في أكثر من ‏معتَقَل، معتقلات الجوع والفقر والاضطهاد وزنازين المخابرات، لم أكترثْ لكلِّ هذا الحصار ‏فأصدرتُ مجموعتي القصصيّة الأولى "آن لنا أنْ نفرح"، في العام 1977، في هذه المجموعة ‏ذكرتُ اسمَ "عمّان" علنًا، وجعلتُ من زقاقِها وحاراتِها وناسِها وأحداثِها مشروعي الكتابي الأوّل.‏

كلُّكُم تعرفون بأنَّ اسمَ "عمّان" كان آنذاك يُعدُّ واحدًا من التابوهات، مثله مثل الدين والسياسة ‏والجنس. تَسَلُّطُ الرَّقيبِ حرَّمَ علينا ذكر اسم المدينة التي جئنا من رحمِها، هذه حقيقةٌ يعرفها ‏القرّاء، وأقَرَّ بها الكثير من الكتاب الأردنيين الذين كان عندهم ما يبرِّر تخلّيهم عن ذكر اسم ‏مدينتهم، لأنه كان من المؤكد أنْ يقعوا تحت طائلة المُساءلة إنْ هم كتبوا رواية أو قصة عن ‏الفساد أو القمع وتجرَّؤوا وجعلوا المكان "عمّان"؛ لأنهم إنْ فعلوا يكونون قد وجَّهوا أصبع الاتِّهام ‏إلى فاسدين فيها.‏

سذاجة الرَّقيب، أو خوفه، أوْدَت بعشرات الأعمال الإبداعيّة إلى الهلاك. فالتجأ الكتّاب إلى ‏اختراع أماكن غريبة عن "عمّان". سافروا في شخوصهم وأحداثهم، وحتى أماكنهم، إلى بيروت ‏أو القاهرة أو فلسطين المحتلة التي لم يزوروها أبدًا. وسيلة من أساليب التخفّي أمام مقصِّ الرَّقيب ‏وأمامَ المُخبِر والاعتقال.‏

لم أكن قادرًا على احتمال هذا الأمر، وأنْ أرضخَ لصداع تابوه جديد يُعلَّق فوق رأسي. فأصدرتُ ‏مجموعتين قصصيّتين؛ واحدة كان اسمها "سلامًا يا عمّان، سلامًا أيتها النجمة". بعدها نشرتُ ‏من بيروت روايتي الأولى التي تُعدُّ الأكثر جرأة في الأدب الأردني آنذاك، وحتى وقت قريب؛ ‏‏"ماري روز تعبر مدينة الشمس"، أحداث هذه الرواية المعاصرة وتلك التي حدثت في القرن ‏التاسع عشر كلها كانت تدور في "عمّان" وفي قرية "الفحيص" القريبة ومع أهلها العريقين. لم ‏أرفض الانصياع لتابوه اسم "عمّان" بحسب في هذه الرواية، بل حاولتُ أنْ أفلتَ أيضًا من ثالوت ‏التابوهات التاريخي؛ السياسة والجنس والدين.‏

لا أدّعي البطولة ولا الجرأة ولكنَّني إنسانٌ معتدٌّ بموقفه من الحياة بكلّ تفاصيلها، فعندما حطَّمتُ ‏هذا "التابو" لم أكن معنيًّا بغير أنْ أكونَ أنا، وليذهب النَّشر إلى الجحيم، لأنه يكفيني أنْ أقرأ ‏قصَّتي لأمي، أو لرفاقي في الجامعة أو لحبيبتي.‏

‏***‏

حياةُ كلِّ واحدٍ منّا مجموعة مُتشابكة من الحكايا والقصص، الرِّوائيُّ هو مَن يمتلكُ الذاكرة ويمتلكُ ‏القدرة على إعادة سرد هذه الحكايات، إنَّ حالة الإلهام التي تأتي من الواقع إلى نفس المؤلف لا ‏تكون من ذات الشخصيّة أو الحدث، بل من طريقة تشكُّلها في وعيه وفي لا وعيه، لذلك نجد أنَّ ‏الكثير من الأماكن التي تكون مُلهِمة للمُبدع، تتحوَّل وتصير غريبة عن تلك التي كان فيها، ولأنّي ‏لا أؤمن إطلاقًا بفكرة فطريّة الموهبة، بل إنّي على قناعة بأنَّ هذه المقدرة التي يتملَّكها الكاتب في ‏خلق شخوصه وأزمنته وأحداثهما والمكان، كلها نتاج تجربة وثقافة أهمّ ما يميِّزها أنها تجربة ‏وثقافة جمعيّة، يكتُبُها راوٍ أو شاعرٌ أو فيلسوف.‏

مُنعَت روايتي الثانية "أرضٌ أكثر جمالًا" من النشر، وتمّ حرقها في حديقة دائرة المطبوعات ‏والنشر تحت باب التهمة ذاتها؛ التطاوُل على "عمّان". ما حدث لرواية "أرض أكثر جمالًا" ‏‏(الأرض التي أقصدها هي "عمّان")، أنَّ دائرة المطبوعات والنشر في "عمّان" قامت بمُصادرة ‏الرواية حال دخولها الأردن، وتمّ منعُها من التداول، والأهمّ من ذلك أنه قد تمّ إتلافها بحرقها في ‏برميل كان في ساحة خلفيّة لهذه الدائرة أمام ناظري، وتمَّ إجباري على مشاهدةِ إعدامِها حرقًا. ‏ذُكِرَت هذه الحادثة في مواقع عدّة أهمها كان المجلة المهمّة التي كانت تصدر عن دار الريِّس ‏آنذاك "الناقد"، وقد نشرتُ فصلين من هذه الرواية تحت عنوان "ممنوع من النشر".‏

لا أستبعدُ أنْ يكونَ المكانُ هو مَن أقْحَمَ نفسَهُ في كتاباتي بدءًا من تشكُّله في ذاكرتي مرورًا ‏بتحوُّلاته عند مَن يقرأني. أماكنُ الروايةِ هي جزءٌ من صنْعتِها ومقوّماتِها مثل الشخوص ‏والأحداث والأزمنة؛ تبعثها كلها للوجود؛ الفكرة. فما يشكِّله الكاتب هو المكان الروائي وإنْ كانت ‏مدلولاته ومسمّياته مشابهة لبقعة ما على الأرض، ويظلُّ في حالة جدل مع الشخصيات ‏والحوادث والأزمنة والأماكن التي تصنع فضاء الرواية. لو افترضنا أنَّ قارئًا لرواياتي لم يسبق ‏له أنْ شاهَدَ "عمّان" وحَدَثَ أنْ زارَها، أعتقدُ بأنه لن يجدَ أنها هي المدينة نفسها التي قرأ عنها، ‏ولا أماكنها هي نفسها التي كتبتُها وأعطيتها الأسماء ذاتها.‏

ما يهمُّ أنَّ جماليّات المكان ليست في تشكيلها الهندسي، ولا في معمارها، بل بأثرها في النفس، ‏لقد أُتيحت لي فرصةُ السَّفَرِ لعددٍ كبيرٍ من دول العالم، ومن خلال هذه الفرصة المهمّة استطعتُ ‏أنْ أصلَ لقناعةٍ بمدى قدسيّةِ الأمكنة.‏

عندما نمعن النَّظر في المدن ونراها من خلال ساكنيها وتاريخها، نكون وقتها نراها على ‏حقيقتها. لذلك لم تبهرني المدن الحديثة، لأنها لم تترك أثرًا جميلًا في روحي، شعرتُ بالاختناق ‏في "لندن"، وعشقتُ صنعاء التي كانت تطوف بي حول الكون منذ خُلق آدم. أشتاق لـ"غزّة" ‏و"روما" كثيرًا ولا أفتقد "نيويورك". إنَّ جمال الأماكن يربض في روحِها التي يجب أنْ نوقظَها.‏

من هنا كانت علاقتي بـِ"عمّان"/ المكان، التي أتصوَّرُ بأنّي قد عرفتُ كيف أوقظُ روحَها.‏