التجربة الشعريّة للشاعر الأردني أمين الربيع

د. سامي محمد عبابنة

ناقد وأكاديمي أردني

 

 

تكشف التجربة الشعريّة لأمين الربيع مقدرةً شعريّةً تحاول أن تؤسِّس لذاتها مكانًا في ‏أفق الشعر العربي المعاصر، وتنتمي هذه التجربة إلى أفق شعري هو الممثِّل للذهنيّة ‏الشعريّة المؤسّسة لنمط الكتابة الشعريّة في مطلع القرن الجديد. وهو يوظف تفاصيل ‏الحياة، والمضمون اليومي، لإحداث شكل من الألفة والمشاركة الفاعلة بين الذوات ‏الإنسانيّة والكائنات، وبذلك يعمِّق من إحساسه الشعري، ونزوعه المتأمِّل بأشكال ‏الوجود.‏

 

تَنْظُرُ هذه المقالة في تجربة الشاعر الأردني أمين الربيع بنظرة نقديّة كاشفة ومحللة ‏للرُّؤية والمضامين الشعريّة، رغبة في التعرُّف إليها ووضعها في سياق الحركة ‏الشعريّة العربيّة، وتحقيقًا لذلك فإنها تقوم على ثلاثة محاور:‏

‏-‏ الأول: الأفق الشعري الذي تنتمي إليه هذه التجربة الواعدة. ‏

‏-‏ والثاني: تحليل أبعاد الرُّؤية الشعريّة ومضامينها، التي يمكن حصرها في ‏ثلاثة أبعاد:‏

‏1.‏ تقاسيم الوجود.‏

‏2.‏ تباريح العشق.‏

‏3.‏ تفاصيل الحياة.‏

إذ تكاد تجمع هذه الأبعاد جوانب الرُّؤية الشعريّة، وتختزل دائرة المضامين والثيمات، ‏في حدود التجربة والتجريب الشعري للشاعر أمين الربيع، ضمن سياقاتها التاريخيّة ‏والاجتماعيّة، وربما ببعض التحرّز يمكن القول: سياقاتها الفكريّة. ‏

أمّا المحور الثالث، فيقف عند ظواهر فنيّة ولغويّة في شعره. ‏

الأفق الشعري والتَّجريب

تضاهي الحركة الشعريّة المعاصرة في الأردن مثيلاتها في العالم العربي، وتكاد ‏تتماثل الرُّؤى والتشكيلات الشعريّة بينها، والمُعاين لهذه الحركة الشعريّة لا تعوزه ‏الفطنة ليرى مسارات الشعر العربي واهتماماته في ظلِّ مرحلة من الصعب وصفها ‏بالاتزان ووضوح الرُّؤية، ليس ذلك في إطار تجربة الشعراء الجدد‎ ‎وإنّما تكاد تشكل ‏تلكم الحالة الاتجاه الشعري للشعراء الكبار أمثال أدونيس ومحمود درويش في ‏أعمالهما الشعريّة في مطلع القرن الواحد والعشرين، فضلًا عن أنَّ الأفق الأدبي ‏مجملًا والنقدي تحديدًا يبدو أكثر انصياعًا واستجابة لحالة التيه التي يحياها العربي في ‏واقع اهتزَّت لديه منظومة القيم ومآلات طموحه وأحلامه، ولعلَّ هذا ما يفسر الأعمال ‏الشعريّة المتأخرة لأدونيس، والانعطافة الحادة لدى درويش مستغرقًا في تجربته ‏الذاتية، والسياق الحالي يقصر عن إيضاح هذه الحالة الشعريّة.‏

وليس بوسع المتابع للحركة الشعريّة في الأردن في تجلِّياتها المعاصرة أن يتجاوز ‏تأثير التوجُّهات الشعريّة العربيّة منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، إذ يمكن ‏ملاحظة اتجاهين عامين مثّلا الشعر العربي: الأول ينزع نحو طرح مسألة الكينونة في ‏نزعة تأملية وجودية، وهو الاتجاه الذي أُسس له ورُسِّخ مع تجربة "مجلة شعر" وفي ‏شعريّة أدونيس تحديدًا، وهو ما بات يعرف -تبعًا لما اصطلحت عليه مجلة فصول- ‏بالأفق الأدونيسي. وقد وجد الشعراء في طريقة الكتابة الصوفية النثرية على وجه ‏الخصوص، التي تعرفوا إليها من توافقها وتحققها عند الشعراء السورياليين، مجالًا ‏رحبًا لتشكيل لغة شعريّة مغايرة قادرة على كشف نزعة التأمُّل الحادة في الكينونة.‏

أما الاتجاه الثاني في الشعر العربي، في الثلث الأخير من القرن الماضي، فهو الشعر ‏المعني بتفاصيل الحياة اليوميّة، تبعًا لأسلوب الشاعر اليوناني "ريتسوس"، الذي ظهر ‏أثره عند شعراء أمثال سعدي يوسف ورفعت سلام. وكلا الاتجاهين يكشفان عن ‏تحوُّل جذري في الثقافة العربيّة مجملًا منذ السبعينات من القرن الماضي إثر فشل المدّ ‏الأيديولوجي الذي هيمن على المرحلة السابقة.‏

ولا تكاد تخرج تجارب الشعراء الأردنيين عن هذا الأفق الكلي للشعر العربي، فمنذ ‏العقدين الأخيرين من القرن الماضي والشعر في الأردن لا يتجاوز هذه الطروحات، ‏وهو ما امتد مع مطلع القرن الواحد والعشرين.‏

وتأتي تجربة أمين الربيع منسجمة مع ذلك كله، وهي تجربة على الرغم من حداثتها، ‏ما زالت تبحث عن خصوصيتها على مستوى المضمون الشعري على الأقل، إلا أنّها ‏منسجمة مع توجُّهات الشعر وأساليبه ولا تتجاوزه أو تنقص عنه في المستوى الفني ‏لغة وإيقاعًا، وعلى مستوى الرُّؤية الشعريّة إحساسًا وفكرًا. ‏

فقد صدر لأمين الربيع ثلاث مجموعات شعريّة: "مرايا القتام"، و"كن" (2012)، ‏و"قوارير" (2016)، وتكاد أعماله الشعريّة لا تفارق حالة التجريب الشعري أسلوبًا ‏ومضمونًا، ولا يمكن النظر إليها خارج الأفق الشعري الأردني والعربي في هذه ‏المرحلة، التي يمكن وصفها -مع مطلع القرن الجديد- بما تشهده من إحساس حاد ‏بالضياع ونزعة البحث والتقصي باستثارة الشك والأسئلة الأولى الأساسية للذات ‏الإنسانية في مختلف أبعاد وجودها؛ على مستوى الكينونة، وعلى مستوى الكائن في ‏أنحاء وجوده القومية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية... وكل ذلك بالانطلاق من ‏تأسيس نظرة جديدة تستند إلى معرفة تحاول أن تؤسس لها تحت تأثيرات جمّة أهمها ‏التفاعل المنفتح على الحضارة الغربية- الأوروبية شعرًا وفكرًا وفلسفة، وأغلبها دون ‏اتصال مباشر مع الغربي، وإنّما من خلال أسلاف وسطاء من الشعراء كما هو الحال ‏مع أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف ورفعت سلام ومحمد عفيفي مطر ‏وغيرهم.‏

 

 

أبعاد الرُّؤية الشعريّة ومضامينها

تكشف التجربة الشعريّة لأمين الربيع مقدرة شعريّة تحاول أن تؤسس لذاتها مكانًا في ‏أفق الشعر العربي المعاصر، وعلى أساس ذلك لا تكاد تختلف أبعاد الرُّؤية الشعريّة ‏لديه عن اهتمامات الشعراء في ذلك، وهو أمر طبيعي؛ إذ يتفاعل الشعراء مع حالتهم ‏الوجودية وأنحائها المتعددة فكرية أو اجتماعية أو قومية أو ذاتية خالصة ضمن ‏المعطيات الحضارية والسياقات التاريخية ذاتها، وعلى الرغم من قصر تجربته ‏الشعريّة -في حدود ما نشر منها- إلا أنها تنذر باتساع الرُّؤية ومداها خاصة في ‏المجموعة الشعريّة الثانية "كُنْ"، التي يكشف من خلالها عن إحساس بـ(المسؤولية) ‏لذات فاعلة تدرك أهمية دور الشعر في الكشف عن سرّ الكينونة في الوجود.‏

ويمكن ملاحظة أنّ شعر أمين الربيع يطرح رؤيته الشعريّة بالارتكاز إلى ثلاثة أبعاد ‏للحالة الوجودية التي يعينها، وهي تتلاقى في مستوى الحسّ والرُّؤية على الرغم من ‏تباينها على مستوى المضامين كما يبدو عند تتبُّعها في الأبعاد الآتية:‏

‏-‏ البُعد الأوّل: تقاسيم الوجود

تُظهِر المجموعة الأولى منذ عنوانها اهتمام الشاعر بحدث الكينونة كما يبدو من عنوانه ‏‏"كُنْ"، وطرحه للأسئلة الوجوديّة الأساسيّة، ففي القصيدة الأولى التي تحمل عنوان ‏‏"السرّ"، تتكرّر الدّوالّ الدالة على الكون والوجود، إذ يقول فيها:‏

قلبي يُرتِّبُ نبضَهُ والشَّكَّ في ضوضائهِ

فغريبةٌ آمالُهُ من مبتدى أهوائه

يُصغي لهمسِ الكونِ مشغولًا بحالِ فنائهِ

ويميلُ للأحياءِ مُنحازًا لحُلْمِ بقائهِ

يُذكي الرؤى ويعودُ مُحترِقًا بنار شقائهِ

ويُعيدُ إصدارَ الحقيقةِ من عِناقِ ضيائهِ

يَفنى سؤالًا ثُمّ يُولَدُ مِن تَمَكُّنِ دائهِ

ويحيط أقطابَ الوجودِ يَضمُّها بغنائهِ

هو أغربُ الأسرارِ ما سَعيي إلى إخفائهِ

أُفشيهِ مِنهُ بخَفْقَةٍ، والسّرّ في إفشائهِ

يا ابنَ الوجودِ حياتُنا وقْفٌ على إغرائهِ

حَمَلَ الترابُ خطيئة رُدّت إلى إنشائهِ

والكونُ مجموعٌ بِهِ في منتهى أجزائهِ

سَجَدَتْ أخصّ الكائناتِ فَحَلَّ في عليائهِ

والقومُ ظلّوا دائرينَ بمُقتضى أسمائهِ

فالشاعر يتجاوز في هذه القصيدة حالة التأمُّل الساذج في الوجود إلى حالةٍ من الشك ‏التي تبقي على حرارة سؤال الوجود يقظة متحفزة، تستعذب إغراء هذا السؤال المنبثق ‏من قلبه في إصغائه للكون، متأرجحًا بين آماله وأحلامه بحال من الوجد الذي لا يخلو ‏من حسٍّ صوفي، مرتكزًا إلى مرجعيّة دينيّة في تعليل حدث الكينونة بالتسمية ولفظة ‏الخلق "كُنْ".‏

ويبدو الشاعر مسكونًا بهمٍّ طبيعي بدافع من خوفه الغريزي من معميات ما يخفيه ‏الموت، نتيجة إدراك ذاته ككائن محدود الوجود مسيَّج بالزمن، كما عبَّر في قصيدته ‏‏"..وددت لو.."، إذ يقول:‏

وددتُ لو

يكونُ لي براعةُ الحكيمِ في تقمُّصِ الدّهورِ

واحتباسها بأحرفٍ شِباكْ

فبراعة الحكيم، التي تأتي من قدرته على تجريد التجربة في حالة محضة، هي تعبير ‏كلّي يتجاوز الظرفية الزمانية والمكانية، ويحاول الشاعر من خلالها الاتصال بالمطلق ‏الكلي، وهو أمر ناجم عمّا عبَّر عنه من خوفه الإنساني في قوله:‏

أو ربّما خوفي الطبيعي -أنا الإنسانَ-‏

من غياهب الأجلْ!‏

ويتجلّى هذا الإحساس الوجودي المنذر بالنهايات وبالموت في قصائد عدّة، مثل قصيدة ‏‏"طقس أول لموت المتيقن.."، كما أنَّ الشاعر يقترح (سيناريو) لموته في قصيدة ‏حملت عنوان "سيناريو مقترح لموتي!!"، فينطلق من تفاصيل الحياة البسيطة ليخيّل ‏حالة تلقي نبأ موته فيقول:‏

ماذا سيحدثُ

حينَ تُعلُنُهُ الجرائدُ والإذاعةُ؟

ثم يدفع بهذا الحدث إلى حالة من النزوع الفكري الفلسفي الذي ينسبه إلى ألاعيب ‏الحداثة على حدّ تعبيره، فيعبِّر عن الموت بقوله:‏

لا بأسَ، إنّ الموتَ أغزرُنا تُراثًا كالهوى

فهو القديمُ هو الجديدُ

الموتُ مخلوقٌ وحيدُ!‏

إنّ العبارات الشعريّة، التي تُظهر هذا الإحساس المتأزم تجاه الموت والنهايات، تكاد ‏تظهر في أغلب قصائد مجموعة "كن"، لكن الشاعر ينزع أحيانًا إلى الإيحاء بالعبثيّة ‏إزاء معاينة دورة الوجود، فعندما يسأل: "ماذا سيحدثُ للكثير وللكثيرِ..؟" يجيب عن ‏ذلك بقوله: ‏

لا شيءَ.. تبقى للحياة ولادةٌ‏

ويظل للموت المصيرْ..‏

ويظل دولابُ الوجودِ

يدورُ في الفَلَكِ الكبيرْ!‏

إنّ هذا الإحساس المفرط إزاء الوجود يتجاوز فيه الشاعر الحالة الذاتيّة إلى حدود ‏أشمل وأوسع تشمل العالم كلّه، وهو ما يشير إلى إحساس الشاعر بـ"المسؤولية" في ‏الكون، ففي قصيدة "أحزانٌ دائمة الخضرة" يعبِّر عن هذه المسؤولية بقوله:‏

باردةٌ أصقاعُ العالمِ

تتجوّلُ فيها الأشباحْ

مغلقةٌ أبوابُ الرؤيا

وخيالُ المبدعِ مفتاحْ ‏

وفي هذه القصيدة يتجاوز الشاعر- المبدع حدوده ككائن محاصر بذاتيّته وظرفيّته إلى ‏حالة من الامتداد والشمول لكل ما هو كائن في أصقاع العالم، فهو إذ يعبِّر عن ‏الاختراق أو "المقذوفيّة" في الكون فإنّما يعبِّر عن حدث الكينونة الكلي والمطلق.‏

‏-‏ البُعد الثاني: تباريح الوجد

ليس بالضرورة أن تعبِّر تجربة العشق والوجد عن همّ ذاتي محدود بظرفيّة الشاعر- ‏الكائن، إذ ينفذ من هذه التجربة إلى التعبير عن حالة روحانيّة، فتسمو بها لتكون معبِّرة ‏عن ذوات إنسانيّة أو ربّما كائنات الوجود مجملة في صورة واحدة، وبذلك لا يمكن ‏التعامل مع أيّ قصيدة في المرأة أو الحبّ، أو الشكوى من تباريح الجوى على أنّها ‏حالة خاصة آنيّة، وإنّما هي حالة تمثُّل سامية لمشاعر إنسانية عندما تعاين لحظة ‏وجودها في علاقتها مع ذات أخرى (المرأة- المحبوب) بما تمثله هذه المرأة من ‏مشاركة وضمانة لاستمرارية الحياة والوجود الإنساني، هذا ما تكشف عنه بعض ‏قصائد مجموعة "قوارير" للشاعر أمين الربيع، إذ يقرن بين الحبيبة والعزاء المجسّد ‏لفكرة الموت، والوقت المسبِّب لهذه الحالة في قوله:‏

لأيِّ حبيبةٍ تُهدي عزاءَكْ

وغولُ الوقتِ مُندَفِعٌ وراءكْ!‏

وتتجلّى حالة الوجد للتعبير عن وجه الحقيقة الأسمى من خلال التعبير عن حالة عشق ‏روحانية في قصيدة "حَضْرة": ‏

مثلَ الحقيقةِ في دوارِ الأسئلةْ

شاهدتُها مالتْ،

فمالَ القلبُ ميلَ السُّنبُلةْ!‏

ويتجاوز الشاعر بالعلاقة بين الرجل والمرأة الحالة البسيطة للحب ليعيد تشكيل قصة ‏الخطيئة ويقلبها، مستعينًا بمضامين القصة الدينيّة ذاتها، وكأنه يعبِّر عن نزوع إنساني ‏أرضي، فعندما يقول:‏

تعالي

سنفعلُ عاداتِنا الخالدةْ

سنأكلُ تفاحةً واحدةْ

لندخُلَ جَنَّةْ!‏

وبذلك فقضيّة الوجد والعشق جاءت لتنسجم مع الرُّؤية الكليّة التي قدَّمها أمين الربيع ‏في مجموعة "كُنْ"، وهو ما يؤكد انتماء تجربته الشعريّة إلى أفق شعري هو الممثل ‏للذهنيّة الشعريّة المؤسّسة لنمط الكتابة الشعريّة في مطلع القرن الجديد.‏

البُعد الثالث: تفاصيل الحياة

يستثمرُ أمين الربيع تفاصيل الحياة اليوميّة لتأصيل رؤياه الشعريّة، وهي لا تأتي منبتّة ‏الصلة عن القضيّة الأساسيّة التي يطرحها على مستوى التفكير في الوجود، وإنّما ‏تكون لديه سبيلًا لإثارة اهتمام القارئ بتساؤلاته حول الكينونة والوجود، فيعمد إلى ‏توظيف تفاصيل الحياة، والمضمون اليومي، لإحداث شكل من الألفة والمشاركة ‏الفاعلة بين الذوات الإنسانيّة والكائنات الموجودة، وبذلك يعمِّق من إحساسه الشعري ‏الحاد، ونزوعه المتأمل بأشكال الوجود وكائناته.‏

وتحفل مجموعة أمين الربيع الشعريّة "قوارير" بموضوعات الحياة اليوميّة وتفاصيلها ‏لتكون مضامين الرُّؤية التي ينسجها في شعره لغة وأخيلة وأحاسيس، وتكاد تسيطر ‏على قصائد هذه المجموعة دوالّ بعينها تحيل إلى ظواهر الطبيعة وموجوداتها مثل ‏الغيم والريح والنهر، أو الكائنات الأرضية الأليفة مثل القطط والطير والحمام، فقد كثر ‏ذكر الغيم في قصائد كثيرة، منها قوله:‏

الحبُّ مرَّ على الحديقةِ باكرًا،

كالغيمِ مرَّ الحبُّ

مرتديًا مشاغلنا.‏

ومن الواضح أنَّ التوظيف الشعري قادر على استثارة المخيّلة لحدودٍ أبعد من العلاقة ‏الشكليّة غير الحاضرة بالضرورة، فأن يشبِّه الشاعر الحبّ بالغيم في مروره بالحديقة ‏مسألة لا تخلو من إشارة إلى صلتهما (الحب والغيمة) بالخصب والحياة المحدثة في ‏الحديقة، خاصة عند تأطيرها بزمن البكور (الصباح الباكر وأول الشيء). ويؤكد ذلك ‏حالة الحب في الليل في القصيدة ذاتها، إذ يصوِّره الشاعر على أنه "مثل وشاية..".‏

وتعكس قصيدة "صباحٌ قرويٌّ طازج" الإحساس بفاعليّة الحياة وحيويّتها الممتدة في ‏موجودات الكون: الولد، العسكري، العصافير، الشجرة، السخلة، التين، ثغر الحبيب، ‏الديك، الكروم. كل هذه الموجودات التي تظهر في قوله: ‏

ولدٌ

هبَّ في غبشِ الفجرِ يعدو

لفرحته التاليةْ

‏"مِصْرَفٌ" سالَ منذ قليلٍ على غفلةٍ،‏

عسكريٌ سرى،

زَفَّةٌ للعصافير تتقافز في الدربِ،

جروٌ ينام على هدأة المقبرةْ

بَسَماتٌ على شجرِ التينِ عاليةٌ

مثل ثغرِ حبيبي،

وديكٌ يُرحِّبُ بالصبحِ مرتديًا زهوهُ،

ولدٌ

والكرومُ على وعدِها

مِزَّةَ النّهدِ أو حاليةْ

منذُ عانقَ طيفُ الصباحِ افتتاحيةَ الهالِ

هبَّ

وعادَ سعيدًا "بأشراكهِ" الخاليةْ!‏

لقد حشد الشاعر هذه الموجودات ليرسم صورة مفعمة بالحياة في مختلف جنباتها ‏الاجتماعية والطبيعية، وقد اقترنت جميعها بالحركة والفاعلية المعبِّرة عن عنفوان ‏الحياة، لامتلائها بكامل وجودها مع إبرازها بأقصى مدى من البساطة كما ينبغي ‏للممعن بالحياة في أبهى صورها.‏

ظواهر فنيّة ولغويّة

تمتاز اللغة الشعريّة عند أمين الربيع بارتكازها على معجم شعري لا يبتعد كثيرًا عن ‏جملة اهتماماته بمباشرة ووضوح، فقد تكرَّرت لفظة "الوجود" وقريناتها تكرارًا ‏ملحوظًا في مجموعة "كُنْ"، انسجامًا مع عنوان المجموعة الذي أقيم على لفظة الخلق ‏الأولى: "كُنْ" فيكون.‏

وقد استمرأ الشاعر نزعته التأمليّة في مشاعره ووجدانه من جهة، وموجودات الكون ‏من جهة أخرى، فكثر في شعره ترديد ألفاظ مثل: الحب والحلم والبنت والولد على ‏الصعيد الذاتي، والغيم والنهر والريح والموج على صعيد مظاهر الطبيعة، والحمام ‏والقطط والشجر على صعيد الكائنات الموجودة، وغير ذلك من منجزات الإنسان من ‏سياج وشباك وغيرها.‏

ولعلَّ اهتمام الشاعر بالإيقاع الشعري قد أكسب جمله اللغويّة قيمة تعبيرية ‏جمالية ذات خفّة اكتسبتها من قصر الجمل ورشاقة القافية كما يبدو من قوله:‏

حيثما شِئتِ أمطري يا سحابةْ

لي خراجُ الأحزانِ، وفَيءُ الكآبة!‏

لي احتراقُ الفؤاد في كلّ نجمٍ

لي اشتباك الأغصان في ألف غابةْ.‏

فالإيقاع الشعري استطاع أن يُخيّل الحالة الشعورية ويجسد الرُّؤية الفكرية المعبَّر عنها ‏بتجربة ذاتيّة محضة، وقد مكَّنه هذا الإيقاع من النفاذ بسهولة بين تفاصيل الحياة ‏البسيطة وموجوداتها إلى إحساسه ونزوعه المتأمل في الوجود والكون.‏

وقد اعتمد الشاعر أغلب الأحيان -في بناء قصائده- على نمط البنية الخطيّة الممتدة ‏المرتكزة على السردّ –أحيانًا- كما في قصائد مثل: "السّرّ"، و"على أهبة الضوء"، ‏و"صباحًا من شرفة البيت"... من مجموعة "كن". وقصائد مثل: "قليل هو الحبّ" ‏و"الحبّ مرّ" و"عُذريون"... من مجموعة "قوارير".‏

واهتمَّ –أيضًا- بالبناء المقطعي المرتكز على القافية، بحيث يقوم المقطع على التحفز ‏والتفريغ في مقاطع قصيرة، وهو ما يظهر في قصيدة "أحزان دائمة الخضرة" المكوّنة ‏من أربعين مقطعًا مرقمًا.‏

وختامًا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه التجربة الشعريّة لأمين الربيع قد جاءت متوافقة ‏والأفق الشعري العربي في مطلع القرن الواحد والعشرين، لما يحققه لدى الشاعر من ‏انعكاس لأفكاره الدفينة، فقد تفاعل الشاعر مع لحظته الوجودية بحسّ شعري ينزع ‏نحو الشك في تفسيرات الوجود، ويسعى إلى مساءلة السرديات التي تفسر الحدث ‏الوجودي. كل ذلك جاء باستغلال الشاعر لمضامين واضحة دلَّت عليها مفردات ‏الشاعر وألفاظه.‏