هشاشة الشاعر أو الضعف الإنساني ‏ في (كاهن الطين) لـِ"ماهر القيسي"‏

معاذ بني عامر

باحث في الدراسات الفكرية والفلسفية/ الأردن

 

لا يُمكنُ أنْ تكتملَ رؤى الشاعر في الزمن والمكان إلّا إذا انسَجَمَت مع الشرط الإنساني الأساسي؛ ‏شرط النَّقص الدّائم، لذا فإنّ رؤى الشاعر ماهر القيسي في (كاهن الطين) هي رؤى لذيذة، لكنّها ‏ناقصة، وفي رحلة السَّعي نحو كمالها سيبقى الشاعر يبحث عن مواضعات جديدة لتلك الرُّؤى ‏حتى يُؤشِّر على أعظم لحظة شعريّة في التاريخ الإنسانيّ؛ لحظة النص المُطْلَق. ومع أنّ الرحلة ‏الإنسانيّة اقترنت بالألم ابتداءً، إلا أنها تحوّلت إلى نصٍّ شعريٍّ بديع.‏

لذّتان ذاتيّتان، ولذّة غيريّة في ديوان (كاهن الطين) لـِ"ماهر القيسي".‏

لذّة ما قبل تأويليّة أو لذّة قرائيّة بالأحرى، ستتجسَّد في مباني ديوان (كاهن الطين). ولذّة ما بعد ‏قرائيّة أو لذّة تأويليّة بالأحرى، ستتجسّد في معاني ديوان (كاهن الطين).‏

أمّا اللذّة الثالثة، أو اللذّة الغيريّة، فهي لذّة تكمن في محاولة رسم الشاعر، أو بالأحرى لذّة تعديليّة، ‏استكماليّة، استنهاضيّة، لمقولة الديوان أو لمقولاتة الأساسيّة، على اعتبار أنَّ الكمال المعرفيّ ‏للإنسان لا يتحقّق إلا في النقص. أي أنّ المعالجات الشعريّة للمقولات الوجوديّة في ديوان (كاهن ‏الطين) هي معالجات يعتورها الكمال، لذا فهي ناقصة إمكانًا طالما أنّ الشاعر يكتب شعرًا، فهو ‏قارّ في صيرورة مُتحركة وليس في كينونة ثابتة. ‏

في اللذّة الذاتيّة الأولى، ثمّة سؤال مُلحٌّ هَهُنا: أيّة وظيفة للُّغة في تجميل القبيح أو في التلطيف من ‏هول المذبحة؟

أيّة لذّة في مباني "الحلّاج" ساعة صاح في وجه جلّاديه:‏

‏"اقتلوني يا ثقاتي إنَّ في قتلي حياتي".‏

أو أيّة لذّة في تأريخ "بدر شاكر السياب" لوجع العراق ساعة صرخ في أنشودته العذبة: ‏

‏"وكل عام -حين يعشب الثرى- نجوع

ما مرّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوع".‏

بمعنى آخر، لماذا نشعر بلذّةٍ ونحن نقرأ هاتِهِ الأبيات أو غيرها، على الرغم من أنها تُمَظْهِر الألم ‏الإنسانيّ مظهرةً شديدة الأذى؟

واحدة من استبصارات اللغة العميقة على المستوى الأنطولوجي ليس فقط قدرتها الهائلة على تأبيد ‏القارئ وتعليقه في المخيال، بل وقدرتها أيضًا على فصله عن العالَم، أي إحداث خرق بنيوي في ‏الصيغة الوجودية القائمة في الواقع مع ما تحتمله هذه الصيغة من آلام مُروّعة، وتأبيد القارئ في ‏النصّ؛ أي الانتقال من عُنف العالَم إلى وداعة اللغة، بصفتها بديلًا ناعمًا عن عالَمٍ خشنٍ قائم في ‏الواقع المعيش. ‏

في قصيدة (كاهن الطين) -أتت عنوانًا للديوان أيضًا- ثمّة رصد حميم لكنه فجائعيّ للدفقة ‏الإنسانيّة الأولى في هذا العالَم، فاللغة في هذا المقام بديل حميم، لِما تجلّى في الواقع المُتعيّن من ‏ألم الانتقال من العَدَم إلى الوجود، فالرحلة الإنسانيّة في صيغتها الزمكانيّة اقترنت بالألم ابتداءً، ‏لكنها تحوّلت هَهُنا إلى نصٍّ شعري بديع:‏

‏"على طاولةِ الخلقِ‏

بيدينِ

بلا كفين

بلا ظلٍ

راح يجبلُ طينَهُ

دسَّ فيهِ الرغائبَ

رصّهُ بالشكِ

رَشَقَ الشهوات على صدرهْ

أسكَنَ فيهِ الرجفات

ولقّنهُ أسماءَ الأنثى

ثمّ سَحبها مِن ضلعٍ مكسور ‏

علّقَ في المرسمِ مشنقتين

وراحَ بصمتٍ حكيم

يقول:‏

لي الأمرُ أين أريدُ وأنّى أريدُ

أنا كاهنُ الطينِ ثم

توارى خلفَ الغياب".‏

إذًا، ثمّة تأسيس لفعل الخلق من حيث هو كذلك، لكنّ التذكير بالألم المقترن بفعل الخلق منصوص ‏عليه بمقطع "علَّق في المرسم مشنقتين..."، والذي سيكتمل في مشهد درامي عنيف:‏

‏"بهدوءِ التراب الأليف‏

ورغمَ أنّي عَلمتُ

بأنَّ الكاهن لن يسمعني

حيث تركَني أتشقّق

أنا الطينُ قُلت

أنا الطين يا سيدي

لُهاثي خَلفَ الحياةِ خطأ

وهذي الحياة خطاك

ثمَّ

لففتُ المشنقتينِ على عُنقي

وقفزت".‏

في اللذّة الأولى المُشار إليها أعلاه، أعني اللذّة القرائيّة المُتعلقة بقدرة اللغة على تجميل قبح العالَم؛ ‏يحتمي القارئ باللغة من حيث هي رَحِم، لكي ينجو من آلام الحياة. لذا سيبقى الشِعر ملاذًا ‏للإنسانيّة من الشرور المستفحلة في هذا العالَم، وسيبقى ونيسًا للإنسان في وحشته الكبيرة.‏

في اللذّة الثانية، أو اللذّة التأويليّة، يستند الشاعر في ثلاثٍ من قصائده الرئيسة في الديوان (كاهن ‏الطين+ رؤى الخزّاف+ ثلاثة نقوش لذكور العائلة الأولى) على الرُّؤية الدينيّة كما هي في ‏صيغتها البِكر؛ لكنّه يعمل على:‏

أوَّلًا: وسمها بوسمٍ أليم قيل عبْر المباني كما أشرتُ سابقًا.‏

ثانيًا: إحداث إزاحة معرفيّة لكي ينتقل الكلام من كونه كلامًا (في/ عن الدين) إلى كونه كلامًا ‏شعريًّا، يتجاوز مرحلة التأريخ لما هو دينيّ إلى مرحلة اللعب في الأصول التكوينيّة للإنسان، ‏وتحويل متونها أو بالأحرى حمولاتها المعرفيّة إلى شعر لذيذ، يُؤشِّر من جهة على فاجعة الوجود ‏الإنسانيّ كما هو في دفقته الأولى، ومن جهة ثانية يسحبه إلى عالَم اللغة كما أقرّها الإنسان أو ‏الشاعر، ويحوّله من ثمَّ إلى جمال وحشيّ يُسْتلَذُ به، حتى ساعة تأويله.‏

في (رؤى الخزّاف)، ثمّة نبرة ندم تنطوي عليها صيحة الخزّاف بعد أن صُبَّ الصلصال في ‏الروح، نظرًا لهشاشة الإنسان وضعفه الدائم:‏

‏(1)‏

‏"قُبيل الفجر

أقوم

أتحسّسُ جدرانَ الروحِ

وأتّكئُ عليها

أسكب فيها

أغرف منها

شيّبني أنّي صلصالٌ

يرشحُ بالمبهمِ من حيثُ أتى

لا وجهةَ

لا بوصلة لديه.‏

‏(2)‏

‏...‏

ويظلّ ركام الخلقِ

على صدري

وأظلُّ بشيبي

صِلصالًا ينهرهُ صلصالْ".‏

فاللّحظة الأولى لحظة هشّة، قابلة للخدش والكسر والموت؛ لذا فإنَّ تابعات تلك اللحظة شبيهات ‏بها.‏

وفي (ثلاثة نقوش لذكور العائلة الأولى)، استناد على الرُّؤية الدينيّة أيضًا، أي أخذ ما جاء به ‏الدين لناحية أنَّ آدم وولديه قابيل وهابيل، هُم ذكور أول عائلة في الوجود الإنساني. لكنَّ الرُّؤية ‏الشعريّة تشتغل على فكرة إحداث إزاحة في هذه الرُّؤية، لكي يُصبح الشاعر هو المُنْطلَق وليس ‏الديِّن. ففي النقش الأوَّل (نقش هابيل) يُوجّه الابن أباه إلى ضرورة الأكل من شجرة غير تلك ‏الشجرة التي أكل منها آدم وفقًا للسرديّة الدينيّة، على اعتبار أنَّ ثمّة خطًّا أصيلًا في ذلك المقام، ‏إذ لماذا على الأبناء أن يدفعوا ثمن خطأ الأب؟ أهو الاستحقاق المُرعب للجينات المتوارثة أم ‏الرُّؤية الدينيّة؛ للخطأ الفيزيقيّ أم للخطيئة الميتافيزيقيّة؟

‏"آدمُ يا أبي أنقذْ بَنيك‏

نحنُ لا نُديرُ أمورنا

تُديرها الشهواتُ

والرُّعبُ الذي يحتلّ داخلنا

آدم يا أبي أنقذْ بَنيكَ

وكُلْ مِن شَجرةٍ أُخرى

ليغادرَ إِخوتي هذا الجحيم".‏

ولأنَّ هابيل أكثر وداعةً من قابيل، فإنَّ الأول يُحافظ على أبيه، في حين أنَّ الثاني يُغادره أو ‏بالأحرى يقتله. الأوّل يستسلم للخطيئة الميتافيزيقية، من خلال فعل المناداة على الأب لكي يُعاود ‏الكَرَّةَ في العالَم الميتافيزيقيّ ويُرمّم الخطأ هناك دون تدخّل من الإنسان. إنه يُراهن -أعني هابيل- ‏على جودة المُنتج الميتافيزيقيّ، بصفته مُنْتجًا مُتخارجًا من لحظته الأولى مع عالمنا الشرير، لذا ‏فإنه يطلب من آدم القفز من الزمن إلى الأزل، لكي يُعيد ترتيب المعادلة من جديد، حماية للجنس ‏البشري من حمّام الدماء الذي ينتظره هُنا والآن؛ في الزمان والمكان.‏

لكنَّ قابيل الشرس يتجاوز الأب، وفي اللحظة القصوى يقتله، بالأحرى يقتل رؤية أبيه وفقًا ‏للصياغة الميتافيزيقيّة، ويشرع فورًا في إقامة معمار وجوده الفيزيقيّ مع ما تسلتزمه هذه الإقامة ‏من ضراوة قاتلة للبقاء على قيد الحياة.‏

‏"يا آدمُ العارفُ

أنا ابنك الخطّاء

خيّبتُ ظنَّ الطينِ بي

غمّستُ روحي باشتهاءاتِ المنافي

وحين أغْرتني فتاةٌ

واشتهيتُ ضفيرةً

أدليتُ دلو سلالة الصلصالِ

في بِئر الدماء

أورثتُ إخوتي المهالك

أودعتهم سُبُلَ العذاب

يا آدمُ العارفُ

أنا ابنكَ الخطّاء

ينزُّ الذنبُ من جِلدي

كيفَ أدْفِنُ عاري؟

كيفَ أواري سَوءةَ الذنبِ

الدميميةِ بالتراب؟

أنا الغراب..‏

أنا الغراب...".‏

في المرتبة الأولى، ثمّة استنادٌ في القصائد نفسها على الرُّؤية الدينيّة، أو بالأحرى استناد النص ‏الشعري على النص الدينيّ كخزّان معرفيّ يُمكن أن يتمرأى العالَم وفقًا لمنظوراته، تحديدًا في ‏التأريخ للحظة البدء في هذا العالَم، لكن لا يُكتفى بالماء الموجود في هذا الخزّان لسقاية تلك ‏اللحظة الحرجة في التاريخ الإنساني، بل إنَّ الشاعر يدخل إلى تلك اللحظة ويُجري تعديلات ‏عليها وفقًا لرؤية شعريّة سيعتورها النقص طرًّا. أي أنّ اللذّة الثالثة، لذّة الشاعر ذاته -اللذّة الثالثة ‏المُشار إليها آنفًا- لن تكتمل إلّا إذا ألبس رؤاه الشعرية لباسًا غير ساتر بالمرّة، لكي تبقى العورة ‏أو جزء منها على الأقل مكشوفًا، ليس لغاية الكشف، بل للبحث الدائم والدائب عن أستار جديدة، ‏فالرُّؤى الكبرى هي رؤى مخياليّة بالدرجة الأولى، ولا يمكن أن تكتمل في الزمن والمكان إلّا إذا ‏انسجمت مع الشرط الإنساني الأساسي، أعني شرط النقص الدائم، لذا فإنّ رؤى الشاعر في ‏‏(كاهن الطين) هي رؤى لذيذة لكنَّها ناقصة، وفي رحلة السَّعي نحو كمالها سيبقى الشاعر يبحث ‏عن مواضعات جديدة لتلك الرُّؤى حتى يُؤشِّر على أعظم لحظة شعريّة في التاريخ الإنسانيّ؛ ‏لحظة النص المُطْلَق. ‏