الأنثروبولوجيا الرقميّة: ‏ فيروس كورونا وإدارة الأزمة في الأردن

د. محمد سليمان شناق

أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية

جامعة اليرموك- الأردن

mshunnaq@hotmail.com

 

إنَّ الإفراط في الاعتماد على الثقافة الرقميّة دون تحصين سيؤدّي إلى كوارث، فالعجز في ‏تحريك الفاعل الاجتماعي "المشغِّل الاجتماعي" الذي يساعد في تحصين الشعوب من الخطر ‏القادم، سيؤدّي إلى كارثة رقميّة في جميع مستويات الثقافة المرقمنة المتَّبعة من قبل الحكومات؛ ‏وهنا يبرز الدور الأساسي للأنثروبولوجيا في رسم السياسات العامة وتمكين صانع القرار من ‏ملامسة الواقع على حقيقته، واجتراح حلول من شأنها أن تساعد على تجاوز المحنة من خلال ‏واقع المجتمع، وتساعد في تجاوز الظروف التي برزت بسبب جائحة كورونا. ‏

 

تُعدُّ جائحة كورونا (‏COVID-19‎‏) من الأمراض السارية السريعة الانتشار بين بني البشر. ما ‏إن انتشرت في الصين في مدينة "ووهان" بؤرة هذا المرض الساري وسريع العدوى، حتى بدأت ‏تنتقل وبشكل سريع إلى باقي المدن في الصين وإلى دول العالم الأخرى. وفي بداية انتشار هذا ‏الوباء لم تعره السلطات الصينيّة أيّ انتباه، حتى بدأ يتفشّى وبشكل كبير وسريع بين السكان، ‏فأخذت السلطات الصينيّة الأمر على محمل الجدّ، وراحت تحارب هذا المرض بضراوة منقطعة ‏النَّظير. ولأنَّ الصين متحصِّنة بتراث حضاري وعُمْق سكّاني كثيف، وتفوُّق تكنولوجي ورقمي، ‏مقنَّن ومقونن، فإنّ هذا كله منح السلطات في الصين القدرة على التَّعافي من جائحة كورونا ‏بحيث  أعطت للعالم مثالًا يمكن أن يكون أنموذجًا يُقتدى به في التعامل مع هذا الوباء.‏

وعندما لاحظت الدولة الأردنية أنَّ أعداد المصابين بهذا الوباء في الصين أخذت تتضاعف، وأنه ‏صار خارج السيطرة، سارعت بترحيل رعاياها الأردنيين من طلبة وتجّار تقطَّعت بهم السُّبل في ‏الصين، وبشكل خاص من مدينة "ووهان"، مصطحبين معهم مَن رغب من الأخوة العرب، وجاء ‏هذا الإجراء المبكر من باب حرص الدولة الأردنيّة على سلامة ورعاية أبنائها أينما كانوا. ‏وقامت الجهات المختصّة بفحص وحجْر مَن قدم من تلك المنطقة أو غيرها خلال الفترة المطلوبة ‏لضمان سلامة العائدين وسلامة ذويهم، ولم تظهر أعراض الإصابة بفيروس كورونا على غالبيّة ‏الرعايا الأردنيين ممَّن تمَّ استقدامهم من الصين، أمّا الحالات التي ظهرت عليها الأعراض فقد ‏تمَّت السيطرة عليها من قِبَل الكادر الطبي الذي خاض حربًا ضروسًا مع هذا الوباء وما زال.‏

أصبح فيروس كورونا (كوفيد- 19) مرضًا مرعبًا، بسبب تفشّيه وسرعة انتشاره. صحيح أنَّ ‏نسب الوفيّات من هذا الوباء أقل مقارنةً مع الأمراض المعدية أو غير المعدية الأخرى من حيث ‏النسبة، إلا أنه يُعدُّ المرض الأكثر فتكًا والأسرع انتشارًا منذ بدأت البشريّة بالتعامل مع الأوبئة ‏التي تتالت عليها على مرّ التاريخ. ‏

وبسبب السرعة الهائلة لانتقال هذا المرض أخذت تتعمَّق الصورة المخيفة عنه بين الدول، ‏حكوماتٍ وشعوبًا. وبعد أن دخل هذا الوباء مرحلة خطيرة، أعلنت منظمة الصحة العالميّة -ولو ‏متأخرة- أنَّ لهذه الجائحة تداعياتٍ خطيرةً على الإنسان صحيًّا "بيولوجيًّا" واجتماعيًّا ونفسيًّا ‏واقتصاديًّا وصفتها بالخطيرة. وأخذت دول العالم تتفاعل مع هذه الجائحة، وتحذِّر من التداعيات ‏التي ستلحق بالسكان من مختلف فئاتهم وشرائحهم. وقد أصبحنا الآن نشعر وندرك معظم هذه ‏التداعيات؛ من اقتصاديّة ونفسيّة واجتماعيّة وحتى روحيّة.‏

وفي هذا المقال أودُّ أن أحذِّر من خطر قادم؛ حيث قامت الإدارة الأميركية باتِّخاذ إجراءات ‏وتوقيع قرار يمكّن هذه الدولة من التعامل مع الخطر الذي أصبح خارج سيطرة أجهزة الولايات ‏المتحدة الأميركية التي تعدُّ من الدول المتقدمة والمتطورة تكنولوجيًّا ومن أكثرها دقة وتنظيمًا ‏وقوّةً، ويبدو ذلك جليًّا في عمل وزارة الدفاع (البنتاغون) وجهازها المخابراتي (‏CIA‏). وقد ‏بيَّنت الإدارة الأميركية بأنها ستُتبِع هذا القرار بتعليمات تنظيميّة للتعامل مع الفيروس الرقمي ‏‏(‏Digital Virus‏). واعتُبرت هذه الخطوة بأنَّها كبتٌ للحريّات وتقييدٌ لها وتراجُعٌ للحياة ‏الديمقراطيّة التي ينعم بها الشعب الأميركي.‏

على الرّغم من أنَّ الشبكة العنكبوتيّة والتطبيقات التي تحتويها سهَّلت علينا الكثير من الأمور، ‏وأخذت الكثير من الدول تحثُّ مواطنيها -وبشكل خاص الفئة الفاعلة والمنتجة من شريحة ‏السكان- على التوجُّه واستخدام التسهيلات التي تقدِّمها الشبكة العنكبوتيّة لجميع المواطنين ‏والمؤسسات الكبرى والصغرى في الدولة، إلّا أنّه يجب التَّنبيه بأنَّ الشبكة العنكبوتيّة في الصين ‏تختلف عن الشبكة العنكبوتيّة في باقي دول العالم، فجميع تطبيقاتها مُراقَب ومقنَّن ومقونن، ‏وأطراف خيوط هذه الشبكة موجود في أيدي المراقبين ونافخي الصفافير على حركة المعلومات ‏كما ورد في دراسات "فريدريك كِك" عن الرقميّة وتدفُّقها حول جميع الأمور التي تؤثِّر على ‏مصالح الدولة في الصين، سواء كانت صحيّة "بيولوجيّة" أم اجتماعية أم اقتصادية، فجميعها ‏مُراقَب مراقبةً حثيثةً ومُسيطر عليه، بفعل الإرث الحضاري والعمق السكاني والتطوُّر ‏التكنولوجي، والتحكُّم الرَّقمي الذي تديره الصين في مساحة حدودها الجغرافيّة. وهو الأمر الذي ‏غفلت عنه كثير من دول العالم المتقدِّم، وتركت الفضاء الرَّقمي مفتوحًا باستثناء بعض القيود ‏التي وُضعت من قِبَل صانعي الشبكة العنكبوتيّة ومخترعي برامجها وتطبيقاتها، بحيث أنفقت ‏أموالًا هائلةً على هذه‎ ‎البرامج لكي تتمكَّن من تقديم أفضل خدمة لمستخدمي الشبكة العنكبوتيّة دون ‏الاكتراث إلى الأمن السيبراني وما يصاحبه من اعتماديّة كبيرة من قِبَل الشعوب والمؤسسات ‏المختلفة في جميع الدول التي تمتلك ناصية المعرفة الرقميّة، والقدرة على تطويعها لما يخدم أبناء ‏شعبها بشكل مستقلّ، دون أن يتحكّم بها القراصنة الرقميّون، أو حاضنو هذه الشبكة.‏

تأتي الصين في مقدّمة الدول التي تمتلك قدرةً هائلةً على التحكُّم والسيطرة على أيّ اختراق ‏فيروسي رقمي أو غيره من الفيروسات، وهو الأمر الذي أبرز إمكانيّاتها أمام جائحة كورونا التي ‏كان من الممكن أن تكون عواقبها كارثيّة على كل مفاصل بُناها الحيويّة. إنَّ الإفراط في الاعتماد ‏على الثقافة الرقميّة دون تحصين سيؤدّي إلى كوارث عصيبة، لا بل سيؤدّي إلى إنهاء دول ‏وشعوب من العالم بعد أن يكون اعتماد هذه الدول والشعوب على الحياة الرقميّة اعتمادًا كليًا، في ‏جميع المناحي المختلفة من الحياة لأيّ دولة؛ عندما لا تكون قادرة على استعادة معلوماتها بثقافة ‏رقميّة محصّنة.‏

إنَّ العجز في تحريك الفاعل الاجتماعي "المشغِّل الاجتماعي" (المفهوم المستخدم من قبل "ليفي ‏ستراوس" في كتابه "العقل الوحشي")، الذي قد يساعد في تحصين هذه الشعوب من الخطر ‏القادم، سيؤدّي إلى الكارثة الرقمية في جميع مستويات الثقافة المرقمنة المتَّبعة من قبل ‏الحكومات؛ وخاصة الحكومات الإلكترونية التي تعتمد على: تعليم عن بعد، اقتصاد رقمي، ‏خدمات إدارية رقمية، فكلها ستكون في مهبّ الريح. ‏

وهنا أجد أنَّ دورَ الأنثروبولوجيا أساسيٌّ ومحوريٌّ في تنشيط "المشغّل الاجتماعي" في رسم ‏السياسات العامة التي تعمل على وضع خطط وبرامج لمساعدة صانع القرار في تجاوز الظروف ‏التي برزت بسبب هذه الجائحة. فالأنثروبولوجيا، تمكِّن صانع القرار من ملامسة الواقع على ‏حقيقته دون أيّ تضليل، وتمكِّنه من اجتراح واقتراح حلول كثيرة من شأنها أن تساعد على ‏تجاوز المحنة من خلال واقع المجتمع، وبشكل ناجع ومقبول من أطياف المجتمع والناس كافة، ‏ويخفِّف على الدولة الكثير من الجهود والأعباء التي من الممكن أن تكون غير مجدية ومجانبة ‏للصواب والواقع الذي نعيش. ‏

وعليه، أجد من الضروري أن أُبرز النقاط التي قد تفتح المجال لهذا العلم -أي الأنثروبولوجيا- ‏حتى تأخذ دورها في جميع مفاصل الحياة اليوميّة للمجتمع، وتعطى المجال لأصحاب التخصص ‏كي يدلوا بدلوهم في صنع السياسات والاستراتيجيّات العامّة للدولة في عصر الثورة الصناعية ‏الرابعة؛ الثورة الرقميّة:‏

‏1.‏ يجب أن تتوافق جميع الأنشطة مع الاحتياجات الرَّئيسة لبناء المجتمع، وتُبنى لإشباع ‏الاحتياجات الأساسية بحيث تستهدف المشاريعُ برامجَ مصمَّمةً بشكلٍ يدمج كلّ الفئات المختلفة ‏من المجتمع. وهذا يتطلّب عملًا جماعيًّا مترابط الجهود، ويجب أن تبرز فيه الجهود المشتركة ‏بين الدولة والمواطن في المجالات الأساسية (الصحة، التعليم، الاقتصاد، والبيئة).‏

‏2.‏ الأخذ بعين الاعتبار تغيُّر اتِّجاهات السكان وأبناء المجتمع، وإدماجهم في برامج توعويّة ‏وتنمويّة لتغيير العمل الظاهر أو السلوك، لأنَّ العمل والسلوك هما سابقان لعملٍ أو سلوكٍ ‏كامنٍ. لا بدَّ من توظيف الأنثروبولوجيا للتأسيس للعمل الجديد الذي يجب أن يتناسب مع الفعل ‏الاجتماعي الجديد.‏

‏3.‏ يجب أن يكون هناك دورٌ محوريٌّ وأساسيٌّ للـ"المشغّل الاجتماعي" لزيادة إشراك شريحة ‏عريضة من أبناء المجتمع، واكتشاف وتفعيل القادة المحليين وتشجيعهم وتدريبهم كي يمارسوا ‏دور "المراقبين ونافخي الصَّفافير على حركة المعلومات".‏

‏4.‏ التركيز بشكل كبير على دور الشباب والمرأة في جميع البرامج التي تنتج بتشاركيّة بين ‏الحكومة والجماعات المنتفعة منها، لتكون فاعلية هذه البرامج بصورة أوسع وأعرض وأعمّ ‏وتهيئ الفرصة للتوسُّع المستقبلي المتوسط وطويل المدى، بحيث تقوم الحكومة بإمداد ‏المساعدات والتوجيه دون احتضانها، حتى تكتمل حيويّة وفاعليّة هذه البرامج.‏

‏5.‏ يتطلّب تطبيق البرامج التنموية بشتى أنواعها، اتِّباع سياسة متناسقة متكاملة وترتيب خاص، ‏من حيث، تدريب العاملين "المشغّلين الاجتماعيين" بهذه البرامج، وتوجيه الدعم المادي اللازم ‏لتنظيم البحوث والتجارب لزيادة فاعليّة هذه البرامج.‏

‏6.‏ ‏ يجب استغلال وتوظيف ثروات وإمكانات المنظمات المجتمعيّة، بشحذ طاقاتها واستعداداتها ‏الكاملة نحو التقدُّم الاقتصادي والاجتماعي على المستويات كافة؛ المحلي والوطني والعالمي.‏

لأجل هذا كله لا بدَّ من استخدام المنهج الأنثروبولوجي وتوظيفه في رسم السياسات والتخطيط ‏الاستراتيجي للدولة. ولا بدَّ من توجيه المراكز الأكاديمية في الدولة لتدريس الأنثروبولوجيا بشكل ‏عام ضمن مناهجها، وتدريس الأنثروبولوجيا الرقميّة بشكل خاص في الصروح الأكاديمية ‏المختلفة في الدولة الأردنيّة، وهذا يتناسب مع توجيهات جلالة الملك عبدالله الثاني ضمن لقاءاته ‏التوجيهيّة للحكومة.‏