الموسيقى مطلب في ظلِّ جائحة "كورونا"‏ و"موهبتي من بيتي" كشفت مواهب صادقة في ظلِّ الأزمة

د. محمد واصف

موسيقار وأكاديمي أردني

abu_wasef2005@yahoo.com

 

احتلّت الموسيقى مكانة كبيرة في تاريخ المجتمعات الإنسانيّة، واستخدمها المجتمع ‏الإنساني في مواجهة الظروف والأحداث الاستثنائية التي مرَّ بها كالحروبٍ والكوارث؛ ‏وقد انتبهت وزارة الثقافة لهذا الأمر في ظلّ جائحة كورونا حينما أطلقت حقلي العزف ‏والغناء ضمن مبادرة "موهبتي من بيتي"، فكشفت هذه المبادرة العديد من المواهب ‏الواعدة التي تمتلك القدرات اللافتة في العزف والغناء، والتي تحتاج إلى تنمية ورعاية  ‏وأظهر مستوى التفاعل الإيجابي الكبير مدى إدراك الأسرة الأردنية لأهميّة الموسيقى ‏واستغلال الوقت.‏

اهتمَّتْ الحضارات عبْر التاريخ الإنساني بالموسيقى، كونها حاجة ضروريّة ومُلحّة ‏للإنسان؛ وهذا أدّى إلى تَطوُّر الموسيقى حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من خلال ‏عباقرةٍ آمنوا بهذا الفن، وعملوا على تطويره والإضافة إليه، ولطالما كان للموسيقى ‏والموسيقيين أكبر الأثر في حياةِ الإنسان مهما كان جِنسُهُ، أو دينُهُ، أو عرقه، أو لغته.‏

الموسيقى في زمن الكورونا

تُستعمل الموسيقى اليوم في العلاج، ويُمكن القول إنّ توظيفَ الموسيقى على هذا النحو قد ‏نَبَع من قدرتها على تَحريك المشاعر الراكدةِ في أعماقِ الإنسان. ويًمكن أنْ تَكون ‏الموسيقى وسيلة من وسائلِ البُعد عن المشاعر القبيحة، والتصرُّفات السلبية التي تَصدر ‏عن الإنسان في لحظاتِ الضَّعفِ والغضب. وتُساعد الموسيقى على الإحساس بالآخر؛ ‏لهذا فهي وَسيلةٌ لِترقيق القلوب، وعلى هذا فإنَّ الموسيقى تُبعِدُ مَن يَتذوّقها، ومَن يتربى ‏على ثقافتِها عن الأعمال السلبية، وتساعد على تَقريب الناس من بعضهم بعضًا. والنّاس ‏في أحلَكِ الأوقات يُردِّدون الأناشيد المُحفِّزة والتي تَبُثُّ الهِمَّة، والرّوحَ المعنوية العالية في ‏النفوس الإنسانية المتعَبَة‎.‎

وفي ظلِّ ما واجهه مجتمعنا من حظر التجوُّل للحيلولة دون انتشار وباء فيروس ‏‏"كورونا"، ممّا أثقل نفسيًّا على العديد من أبناء المجتمع، فإنَّ الموسيقى وبما تحمل من قيم ‏جماليّة، كانت أحد أهمّ الأساليب في إيجاد مزاج عام من السَّكينة والارتياح النفسي، لِما ‏أحدثته من أثر كبير في روح الإنسان. وهي أيضًا تجاوزت ذلك إلى أدوار أخرى تمثَّلت ‏في العديد من الانعكاسات الإيجابيّة على صحة الإنسان النفسيّة وتحسين المزاج لديه، ‏ومن المؤكَّد أنّ ذلك انعكس على البيئة الاجتماعيّة في الأسرة.‏

نحن في مثل هذه الظروف، بين الحظر والحجر والعزل، والانتظار، والقلق والتوتر من ‏فيروس اجتاح العالم وعطَّله، نحتاج إلى الموسيقى كمؤدّين أو مستمعين، لأنها قادرة على ‏أن تبعث فينا المشاعر المتنوِّعة، وأن تحرِّك أعضاء جسم الإنسان لا شعوريًّا؛ فهي لغة ‏يُدركها الإنسان دون ترجمة، لأنها لا تعبِّر عن معانٍ محدَّدة، ولكنها توحي بها. والهروب ‏إلى الموسيقى في مثل هذه الأيام سيطرح بعيدًا عن أفكارنا كل ما يؤرِّقنا، فتنتشي الروح، ‏ونشعر بدبيب الحياة في أوصالنا، وتغمرنا سعادة مصدرها تلك الألحان، فالصور العقليّة ‏التي ترتسم في الدماغ مع الاستماع للموسيقى لها أكبر الأثر في إحداث تغيرات كيميائية ‏والتي بدورها تؤثر على مشاعرنا وأفكارنا بشكل إيجابي.‏

مبادرة "موهبتي من بيتي"‏

في ضوء ما ورد، انتبهت وزارة الثقافة إلى أنّ الموسيقى مطلب، ولا ‏يجب أن نغفل دورها المهم في ظروف كهذه الظروف، إلى جانب ‏وظيفتها النفسيّة والاجتماعية، إذ إنَّها تزيد الحياة ثراءً وتتسامى بها على ‏الرّغم من كل ما يصلنا عبر الشاشات التي نقبع أمامها، كما تساعدنا ‏على الخروج من إيقاع رتيب نعيشه الآن. وفي ظلِّ حالة عدم اليقين ‏وفقدان السيطرة التي قد يشعر بها أيّ فرد في ظروف كالتي عشناها ‏خلال الأشهر الماضية، تحتاج منّا اللجوء إلى شيء أكثر أُلفة.‏

وعندما اتَّخذت الدولة الأردنية جميع الإجراءات الاحترازية للوقاية من فيروس "كورونا" ‏حفاظًا على صحة المواطنين. قامت وزارة الثقافة بدورها بالتفكير فى مساندة المجتمع ‏ودعم حسّه الفني، ومنح أبنائه الفضاءات الملائمة لعرض مواهبهم الصادقة من خلال ‏الإنترنت فى أثناء الأزمة، من خلال إطلاق مبادرة "موهبتي من بيتي".‏

‏ ساهمت مبادرة "موهبتي من بيتي" التي أطلقتها وزارة الثقافة، وأشرفت على كافة ‏مراحلها خلال شهرين، بإحداث فرق مهم وواضح من خلال نشاط ممنهج في عالم ‏الفضاء الإلكتروني، ساهم مساهمة كبيرة في تحسين الصحة النفسية والبدنية للمشاركين ‏فيه‎.‎

وكشفت هذه المبادرة العديد من المواهب الواعدة التي تمتلك القدرات اللافتة في العزف ‏والغناء، والتي تحتاج إلى تنمية ورعاية. وقد تفاجأ القائمون على هذه المبادرة، بما فيهم ‏أعضاء لجنة التحكيم المتخصصون في الموسيقى، بالكمّ الهائل من المشاركات المميزة من ‏أبناء الوطن من الفئة العمرية من (15-25) عامًا، فأخرجتهم هذه المبادرة من الضغط ‏الذي عاشوه خلال جائحة "كورونا" وتوابعها، وقد انتبهت وزارة الثقافة لهذا الأمر المهم ‏حينما أطلقت حقلي العزف والغناء ضمن مبادرة "موهبتي من بيتي"، ليس لحاجتنا وحاجة ‏أبنائنا الماسة إلى إيقاع يخفِّف عنّا ما نعانيه فقط، بل لكي تكون جامعة بين أفراد الأسرة ‏الواحدة، لِما تحققه من خلق حالة من التآلف المفعم بالمشاعر الإنسانية، ومن جانب آخر؛ ‏حتى تأخذ مساحة أكبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بديلًا عن الإشاعات والنقاشات ‏الحادة‎.‎

إنَّ هذه المسابقة جاءت بهدف تكييف برامج الوزارة المختلفة مع الظروف المحيطة التي ‏يشهدها العالم والأردن لاستثمار أوقات الشباب والأطفال داخل الأسرة في فترة التباعد ‏الاجتماعي، من أجل إيجاد حالة ثقافيّة اجتماعيّة في محيط هذه الأسرة لاكتشاف هذه ‏المواهب وتعزيزها، ولكسر حالتي الروتين والملل التي قد يشعر بهما بعضهم. وكان ‏مستوى التفاعل الإيجابي الكبير يُظهر إدراك الأسرة الأردنية لأهميّة الموسيقى واستغلال ‏الوقت.‏

لقد احتلّت الموسيقى مكانة كبيرة في تاريخ المجتمعات الإنسانية، واستخدمها المجتمع ‏الإنساني في مواجهة الظروف والقضايا والأحداث التي شهدها، ممّا جعلها ذات أهمية ‏كبيرة تساهم في تشّكل الهوية الاجتماعية للمجتمعات، لما تحتويه من ألحان ودلالات ‏تختلف من مجتمع لآخر وتميِّزه عن غيره من المجتمعات.‏

ففي الوقت الذي يعلو فيه صوت الفيروس "كورونا" هذه الأيام، فيزداد الرعب منه حول ‏العالم مع تزايد عدد المصابين وأعداد الوفيات فى دول كثيرة، تعامَلَ الأردن مع موضوع ‏فيروس "كورونا" المستجد من زاوية أخرى، لمحاولة التخفيف من وطأة الأمر، وتقليل ‏الذعر المنتشر بين الناس، وحاول بعضهم تحدي رعب الفيروس بالفن، والابتكار ‏والأفكار البسيطة والمبهجة فى آن واحد‎.‎‏ ولعبت الموسيقى دورًا نفسيًّا بارزًا في هذا ‏الجانب.‏

يقـول العـالِـم النفـسي ماسلـــو: "المـوهبة، هــي طاقـات، تُطالــــب باستغلالها، ورغبة في ‏كل شخص لتحقيق ذاته، وعزم متواصل على تطوير الذات، واحترامها، وتحقيق ‏الإنجازات". ويقــول الأستـاذ د.يوسف عزالدين عيسى: "الموهبة، هي عطيّة من الله. لكن ‏لا بد أن يبـذل صاحبهـــا جهـــدًا في الصقل، أو التمرين، لكي تبدو واضحة لأي متذوِّق ‏لكل ما هو جميل".‏‎ ‎ويقـــول الأستاذ د.يسري عبدالمحسن: "داخل كل منّا قدرات، قد ‏يخرج بعضها إلى دائرة الضوء، حيث يستفيد منها الشخص، ويُفيد. وقد يظلّ بعضها ‏كامنًا في دائرة الظلام، لا يتم اكتشافه على مدى حياته".‏‎ ‎

فاكتشاف الهواية، التي هي أول خطوة نحو اكتشاف الموهبة، وممارستها عند كل شخص ‏في وقت مبكر من عمره، يعتبر شيئًا مهمًّا، وحيويًّا، حيث يساعد على اكتمال النموّ، ‏والنضج النفسي، وعلى الإحساس بالذات، والكيان الشخصي‎. ‎

لذلك، حققت مبادرة "موهبتي من بيتي" دورًا مهمًّا في منح أبناء الوطن مساحة مهمّة ‏لممارسة هواياتهم على الملأ وأمام جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، ممّا ساهم في ‏كشف مواهبهم ومكنوناتهم الموسيقيّة المبشِّرة بجيل جميل.‏

إنَّ التعرُّف على اهتمامات الآخرين واكتشاف مواهبهم وهواياتهم يسبِّب ‏للإنسان شعورًا كبيرًا بالرِّضا والسعادة والمتعة. أحيانًا يكون اكتشاف ‏هذه الأمور سهلًا لأنَّ لها دلالات واضحة، لكن في أحيان أخرى يجب ‏البحث والتنقيب داخل الطرف الآخر، واستفزاز قدراته حتى تظهر ‏مهاراته ومواهبه‎.‎‏ ولا شك في أنَّ جزءًا كبيرًا من متعة وسعادة الوالدين ‏يكمن في مساعدة أبنائهما في التعرُّف على اهتماماتهم، وتنمية مواهبهم.‏

وبحسب مفاهيم التربية الحديثة لم تعُد مسؤولية الأهل تجاه أبنائهم ‏منوطة بتأمين المسكن والمأكل والمشرب حسب، بل تنادي هذه المفاهيم ‏بضرورة أن يتعرَّف الأهل على مواهب الطفل منذ البدايات العفويّة التي ‏يبديها الصغار‎.‎

ولأجل كل ذلك نقول إنَّ المشروع الوطني "موهبتي من بيتي" مشروعٌ قد جاء بوقته، ‏وحقَّق أعلى درجات الطموح، فشكرًا لوزارة الثقافة على هذه الالتفاتة الوطنيّة الصادقة ‏العصريّة، والشكر موصول لكافة طواقم الوزارة الذين ذلّلوا كل الصعاب أمام المشاركين ‏والعاملين في هذا المشروع، والتقدير لأعضاء لجان التحكيم الذين بذلوا مجهودًا مميّزًا في ‏سرعة العمل والاختيار والدقة، وحملوا هذا المشروع بقلوبهم وليس بأدواتهم الورقيّة ‏والإلكترونيّة، بكل فرح.‏