نصوص الجائحة

‎ ‎سميحة خريس

روائية وكاتبة أردنية

 

نَحْسَبُهُم كأوراق الورد، أكثر حساسيّة، لهم عالمهم الخاص، وقَطْعًا ليسوا صورًا متناسخة عنّا، ‏حتى لو بدا هناك شَبَهٌ عابر.‏

الأطفال والشباب، القادمون لإعمار الحياة وصُنع المستقبل، إنَّهم أولادنا، لكنهم جيل جديد، لا ‏يفكر مثلما نفكر ولا يرى الأمور من زاويتنا، نعوّل كثيرًا على نقل خبراتنا إلى الجيل الجديد، ‏لكن علينا أنْ نعوّل أكثر على ما تفعله الحياة بهم، إنَّها أمهم وأبوهم الحقيقيَّين، وهي معلّمهم ‏الأوَّل، وقد أدارت تلك الحياة ظهرها بطرق شتّى، لم تعُد مسترخية وادعة، ولم تعُد تخبئ الحلوى ‏تحت مخدّات الجدّات، وتضع بعض المطبّات على الطريق، كما لو أنَّ المضيّ فيها لعبٌ ينطوي ‏على فرح وحزن، باتت دروبها وعرة صعبة الارتقاء وصارت تُوارى خلف هديرها العاصف ‏متغيّرات أكثر حدة.‏

كيف استقبل أطفالنا وشبابنا الجائحة؟ فمنذ زمن طويل ونحن نهيِّئهم لمستقبل أجمل، نخبئ أوجاع ‏التاريخ والفقد والهزائم والمتاعب التي اكتنفت مسيرتنا، ظانين أنَّ ما نفعله هو خير لهم. فصاروا ‏أكثر تفاؤلًا وأليَن عريكة وأطرى عودًا، حتى وقع ما لا يمكن إخفاؤه ولا إنكاره ولا الهروب ‏منه، جاء "كوفيد" مجرّدًا من السلاح الثقيل، لكنه على صغره ينتشر كالريح، فهل فتح أطفالنا ‏وشبابنا أعينهم دهشة؟ هل باتوا بين مصدق ومكذب كما فعل بعضنا؟ هل استوعبوا الخطر الذي ‏جمع الإنسانية على قلق واحد وحيرة والذي شحذ همّة العلم لإيجاد طرق للخلاص، كما نبَّه ‏الإيمان من سباته للتشبُّت بما نسيناه؟ ‏

ابتدعت وزارة الثقافة تجربة رائدة لاستدعاء الكتابة عن زمن كورونا، وإفساح المجال لفئة لم ‏تتعوَّد أن يسألها أحد عن رأيها بما يحيط بها من أحداث، وما تفعله بحياتها من وقائع، وما ‏تتعرَّض له من وشوم على العقل والقلب. الأطفال والشباب، يكتبون عن أثر الجائحة فيهم، كيف ‏يرونها وكيف يتعاملون مع تغيُّر الحياة التي كانت مفتوحة على مصراعيها، فإذا بها تغلق ‏الأبواب وتطالب بالتباعد. كيف يمكن لهؤلاء الصغار أن يطوّعوا المخترعات التكنولوجية ‏لاستكمال الحياة على صور مختلفة؟ عبْر التعلُّم عن بُعد، التواصل عن بُعد، صناعة الأحلام ‏والمشاريع والمنجزات عن بُعد، يبدو الأمر قاسيًا بالنسبة لنا نحن جيل التلاقي والاشتباك اليومي، ‏ولكنه أكثر سهولة لهم وهم جيل التكنولوجيا.‏

التجربة مهمّة لِمَن كتبوا، ليس لأنهم فازوا بجوائز ماليّة، ولا لأنهم استثمروا الوقت بديلًا عن ‏الفراغ والضجر، ولكن لأنَّ تلك الكتابة شاهد حقيقي على عصر، يختلف عن شهادة جيلنا المحمّل ‏بذاكرة حياة ممتدة وتجارب لا يمكن الخلاص منها، لذلك فإنّ تجربتهم أكثر وضوحًا، سيجيء ‏يوم لتبدو هذه الأيام العصيبة ذكرى، وقد تقع متغيّرات تسيطر على الوباء أو وسائل تتعايش ‏معه، فالإنسان يمضي بتجربته حتى النهاية، ستكون تلك النصوص شاهدًا على اللحظة، وأكثر، ‏سيصطحبون ما حدث في عام 2020 معهم حتى يصبحون كهولًا يروون لأطفالهم كيف فزع ‏العالم كله ولم يستثنِ الفيروس "الذي لا نراه" جنسًا ولا ملّة ولا بقعة على الأرض السعيدة إلّا ‏وطاله وأثّر فيه، وهو بذلك ليس توأمًا للحروب التي صنعها البشر، لكنه قد يكون جرسًا ينبّه إلى ‏وحدة الإنسانيّة، ويدقّ ليسمعها صوت العقل الذي يدعو إلى اتحادها بدلًا من تحاربها، كذلك ليس ‏الفيروس الجماعي شبيهًا بالزلازل والبراكين التي قد تحدث في أماكن بعيدة ويجهل وقوعها ‏ملايين البشر المنتشرين على البسيطة، فهل أيقظ الخطر الجماعي الداهم شيئًا من قيم المحبّة ‏والتعاضد؟ هل بشَّر بأفكار تتعلّق بالسيطرة عليه وإنقاذ البشريّة؟ هل كانت نسبة الخوف أكبر من ‏نسبة التحدّي والبحث عن حلول؟ كل هذا تحمله نصوص الصغار، وإلّا كانت نسخًا مقلّدة عن ‏أفكارنا التي باتت تتقهقر إلى الماضي، ولا تتعالق مع المستقبل.‏

قراءة تلك النصوص تجربة مهمّة لنا أيضًا كي نفهم الأبناء الذين لم نحاول فهمهم، ولنعرف ما ‏يدور في عقولهم، وما يشعرون به من مخاوف، وما يعدون به لأجل المستقبل، لكلِّ هذه الأسباب ‏تكتسب خطوة وزارة الثقافة دورها الأساسي في البحث عن ثقافة تتولّد تحت وقع سياط الحَدَث ‏الأكثر تأثيرًا على البشر.‏‎ ‎