العلاج بالموسيقي في التراث العربي

صلاح عبد الستار محمد الشهاوي

كاتب مصري

‏ ‏

كان العرب أصحاب منجزات‎ ‎كبيرة في علم الحيل وتقنية الآلات، وجعلوا من صناعة ‏تلك الآلات فنًا رفيعًا، ويحفل التاريخ العربي والإسلامي بشواهد وأمثلة على صناعة ‏الآلات الموسيقية، وتطويرها، ووضع الألحان واستخدامها في علاج ‏الأمراض.فاستخرج بعضهم لحنًا موسيقيًّا لاستعماله في البيمارستانات وقت الأسحار ‏ليخفف من ألم الأسقام. وظلَّ هذا النمط في المعالجة جزءًا أصيلًا من العلاج‎ ‎في ‏البيمارستانات العربية الإسلامية، ‏

 

 

قديمًا‎ ‎وُضعت الألحان والموسيقي لحثّ‎ ‎النفوس إلى السّنن‎ ‎الصحيحة، ثم‎ ‎استعملها‎ ‎الأطباء في‎ ‎شفاء الأبدان‎ ‎المريضة، فموقع‎ ‎الألحان من‎ ‎النفوس موقع‎ ‎الأدوية في ‏الأبدان‎ ‎المريضة، ففي مراكز الطب في مصر الفرعونية كان كهنة معبد أبيدوس ‏يعالجون بالترتيل‎ ‎المنغّم. وفي الكتاب الرابع من جمهوريّته أكد أفلاطون أن: ‏‏"الوصول للصحة يتحقق‎ ‎عن طريق الموسيقى والرقص الرياضي". بينما سعى ‏الفيلسوف والرياضي فيثاغورس‎ ‎لتعليم تلاميذه الأصوات الموسيقية المُساعدة على ‏العمل والاسترخاء والنوم‎ ‎بهناء.‏

 

العلاج بالموسيقي في العصر الحديث

أصبح العلاج بالموسيقى أحد أشكال الطب المكمل أو حتى البديل، إذ أسهمت‎ ‎الموسيقى في استعادة وتحسين الحالة الصحية والنفسية والفيزيقية‎ ‎والفسيولوجية ‏والروحية للعديد من المرضى الذين يعانون من مشكلات تختلف في‎ ‎طبيعتها وأسباب ‏حدوثها. وقد ثبت علميًا أن ذبذبات الموسيقى تؤثر بشكل مباشر على الجهاز العصبي، ‏إذ‎ ‎تؤثر كل ذبذبة أو أكثر على جزء ما بالمخ، خاص بعصب ما، ممّا يسهم في‎ ‎إتاحة ‏الفرصة للشخص المستمع كي يسترخى، وهو ما يشبِّهه العلماء بعملية‎ ‎التخدير الطبي، ‏وتتيح هذه الحالة استجماع الإرادة، للتغلب على مسببات الألم، فيبدأ الجسم في تنشيط ‏المضادات الطبيعية والإفرازات الداخلية التي تساعد‎ ‎الجهاز المناعي وغيره على ‏التغلب على مصدر الداء ومكانه.‏

 

العلاج بالموسيقي في التراث العربي والإسلامي

كان العرب أصحاب منجزات‎ ‎كبيرة في علم الحيل وتقنية الآلات، وجعلوا من صناعة ‏تلك الآلات فنًا رفيعًا، فابتكر الفارابي آلة القانون، وأدخل منصور زلزل (ت: ‏‏175هـ/791م) (الموسيقي وضارب العود الأشهر في عصر الرشيد) العود الشبوطي ‏‏(العيدان الشبابيط: المزاهر التي هي على شكل سمك الشبوط، وقد اخترعها الموسيقار ‏زلزل الذي عاش في أيام هارون الرشيد). والزنام أو الزلام رَسَمَ آلة هوائية تسمى ناي ‏زنامي أو زلامي، ويعدُّ زنام الزامر (ت: 235هـ/ 850م) أوّل من اشتهر في العرب ‏باستعمال (الناي) وذهب بعضهم إلى أنه‏‎ ‎أوّل من أحدثه. وكان يُضرب بزمره‎ ‎المثل. ‏ذكره البحتري في شعره. قال له الرشيد يومًا، وهو يريد الخروج إلى‎ ‎الصيد: "تأهَّب ‏للخروج معي"، فقال: "بم أتأهّب؟ الريح في فمي والناي في كمّي". وكانت العامة ‏تسمي الناي (الزلامي) تحريفًا عن (الزنامي) نسبة‎ ‎إلى زنام.‏

أمّا زرياب (أبو الحسن علي بن نافع ت: 230هـ/809م)، وهو موسيقي ومطرب ‏عذب الصوت من بلاد الرافدين من العصر العباسي، فكانت له إسهامات كبيرة ‏وبارزة في الموسيقى. لقِّب بزرياب‎ ‎لعذوبة صوته ولون بشرته القاتم الداكن، وهو اسم ‏طائر أسود اللون عذب الصوت يعرف‎ ‎بالشحرور، هاجر إلى الأندلس، وقام بنقل ‏الغناء والموسيقى الشرقية إليها، وقد أضاف إلى أوتار العود الأربعة وترًا خامسًا، ‏ورتَّب هذه الأوتار بحيث‎ ‎يعادل كل وتر ثلاثة أرباع ما فوقه، واخترع مضراب العود ‏من قوادم النسر بعد‎ ‎أن كان من مرهن الخشب. ‏

واشتهر العباس وأبو المجد (القرن الحادي عشر الميلادي) بصناعة الأرغن. وأما ‏صفي‎ ‎الدين عبدالمؤمن الأموي (ت: 1294م) فقد اخترع القانون المربع المسمى ‏‏"نزهة" وآلة أخرى‎ ‎تسمى "المغنى". ‏

وفي أواخر القرن التاسع الميلادي وضع أبناء موسى بن شاكر أسس وقواعد ‏الموسيقى الميكانيكية واستعملوا البريخ الموسيقي لتوزيع‎ ‎الألحان. هذه الموسيقى لم ‏تظهر بوادرها في أوروبا إلا في أواخر القرن‎ ‎السادس عشر الميلادي.‏

 

وضْع الألحان وتنسيقها في التراث العربي والإسلامي ‏

واستخدامها في مجال العلاج

برع إبراهيم الموصلي (ت: 188هـ/ 804م) في وضع الألحان وتنسيقها، يقول ابنه ‏إسحاق كما يروي الأصفهاني: "إنَّ إبراهيم وضع تسعمائة لحن منها: ثلاثمائة فاق فيها ‏الناس جميعًا وكانت علاجًا للنفس من الأسقام، وثلاثمائة شاركوه وشاركهم فيها، أمّا ‏الثلاثمائة الباقية، فكانت لعبًا وطربًا".‏

أما الكندي(185- 256 هـ/ 805- 873 م) فقسم الألحان وخواص حركات الأوتار ‏لتتناسب وحركات النفس وانتقالها من حال إلى‎ ‎حال. فمنها ما يكون للطرب، أو لإثارة ‏الحماسة، أو للبكاء والنوح والرقاد‎ ‎ويسمى الشجوى. ويذكر تأثير الإيقاعات على ‏الجسم: فحركات الزير، مثلًا، تورث‎ ‎أفعال النفس: الفرحية، والعزية، الغلبية، وقسوة ‏القلب والجرأة والإقدام‎ ‎والزهو والنخوة والتجبُّر والتكبُّر، وهو مناسب لطبع إيقاع ‏الماخوري.‏

أما أبوبكر الرازي (ت: 313هـ/ 925م) فيقول عن علاج مرض الماليخوليا (المزاج ‏السوداوي: حالة مرضية عقلية): "ولا شيء أفضل له منه، ولا علاج أبلغ في‎ ‎رفع ‏الماليخوليا من الأشغال التي فيها منافع أو تملأ النفس وتشغلها جدًا،‎ ‎والأسفار، والنقلة. ‏وينبغي أن يعالج هذا الداء بالأشغال، فإن لم يتهيأ فبالصيد‎ ‎والشطرنج، والأشربة، ‏والغناء والموسيقى، ممّا يجعل للنفس شغلًا عن‎ ‎الأفكار العميقة".‏

ويُحكى عن الرازي أنه كان يتردَّد على صديق له، يشتغل صيدلانيًّا في مستشفى ‏بمدينة الري. وكان من عادته حينما يجتمع بصديقه هذا أن يعاوده الحنين إلى ‏الموسيقى، فكان يعزف عنده بعض الوقت داخل المستشفى بقصد التسلية والطرب. ‏ولشد ما كان دهشته حينما رأى المرضى، وهم يعانون آلامًا قاسية، يتركون أسرَّتهم، ‏ويلتفّون حوله، يستمعون بمرح وسرور إلى أنغامه الساحرة. وقد لاحظ الرازي أنَّ ‏بعض هؤلاء المرضى مصابون بأمراض تسبب لهم آلامًا مبرحة، وعلى الرغم من ‏ذلك، فقد نسوا هذه الآلام، وشملهم الهدوء والسكون والسرور عندما سمعوا الألحان ‏الشجية، والنغمات المطربة.‏

أمّا الطبيب والفيلسوف أبونصر الفارابي (ت: 339هـ/ 950م) فأوَّل مَن ابتكر آلة ‏القانون. وأوَّل مَن ركّبها‎ ‎هذا التركيب. وأوّل مَن قدّم وصفًا للرباب ذات الوتر الواحد، ‏وذات الوترين المتساويين في‎ ‎الغلظة. كما بحث الفارابي في آلات: العود، والطنبور، ‏والمزمار، والسرناي‎ ‎‏(البوق). وله دور مهم في العلاج بالموسيقى، وكان يصنع ألحانًا ‏بديعة يحرك‎ ‎بها الانفعالات، ووصل في صنعة الموسيقى إلى غاياتها وأتقنها، ووضع ‏بعض‎ ‎مصطلحاتها، وأسماء أصواتها التي لا تزال تستعمل إلى اليوم. ‏

أما الشيخ الرئيس ابن سينا (ت: 428هـ/ 1037م) الطبيب صاحب الحس الموسيقي ‏الذي يرى أنَّ في النبض طبيعة موسيقية، وذو نسبة إيقاعية في السرعة والتواتر. كما ‏حدَّد‎ ‎نغمات خاصة لكل وقت من أوقات اليوم والليلة تبعًا لظروف حياة المرء، ونمط‎ ‎معيشته، ومروره بحالات نفسية مختلفة. وكتابه الشفاء يُعد خلاصة ما جاء في ‏موسيقى الشفاء. قال في علاج الماليخوليا: "ويجب أن يُـشغل صاحب‎ ‎الماليخوليا ‏بشيء كيف كان، ويشغل أيضًا بالسماع والمطربات". ولم يقصر الشيخ‎ ‎الرئيس ‏السّماع على المصابين بآفات نفسية/ عصبية، بل تجاوز إلى التوصية بها‎ ‎في تسكين ‏الأوجاع حين قال: "من مسكّنات الأوجاع.. الغناء الطيّب خصوصًا إذا نوّم به،‎ ‎والتشاغل بما يفرح، مسكّن قوي للوجع". كما أدرج الموسيقى في علاج حميات اليوم ‏‏(العرضية/ الغضبية) وتبقى قاعدته المهمة: "خير‎ ‎تمارين العافية الغناء".‏

أمّا إخوان‎ ‎الصفا (منتصف القرن الرابع للهجرة/ العاشر للميلاد)، فقد قسموا، الألحان ‏إلى: ألحان روحيّة مؤثرة، مثل‎ ‎تجويد القرآن‎ ‎والأناشيد‎ ‎الدينية،‎ ‎وألحان حربية‎ ‎وحماسية،‎ ‎وألحان‎ ‎جنائزية،‎ ‎وألحان داعية‎ ‎للعمل، مثل أغاني‎ ‎صيادي‎ ‎الأسماك،‎ ‎والحمالين،‎ ‎والبنائين،‎ ‎أو ألحان‎ ‎المناسبات‎ ‎مثل الأفراح‎ ‎وغيرها،‎ ‎وهناك‎ ‎الألحان‎ ‎الحدائية‎ ‎التي تستعمل‎ ‎في توجيه‎ ‎الحيوانات،‎ ‎مثل غناء‎ ‎الحداء في‎ ‎قافلة الجمال.‏

كما استخرج إخوان‎ ‎الصفا لحنًا موسيقيًّا لاستعماله في البيمارستانات وقت الأسحار ‏ليخفف من ألم الأسقام،‎ ‎ويكسر سورتها عن المرضى،‎ ‎ويشفي كثيرًا من الأمراض ‏والأعلال. ظلَّ هذا النمط في المعالجة جزءًا أصيلًا من العلاج‎ ‎في البيمارستانات ‏العربية الإسلامية، وانتهي إخوان الصفا إلى أنَّ الموسيقى‎ ‎إحدى وسائل التعبير عن ‏المشاعر الإنسانية، وسبيل من سُبل التواصل بين‎ ‎البشر. فلحركات الأفلاك والكواكب ‏نغمات وألحان، كما لأمزجة الأبدان‎ ‎وأحوالها نغمات تشاكلها، وألحان تلائمها.‏

أمّا الطبيب والعالم العربي ابن جزلة (ت: 493هـ/ 1100م) فيقول في كتابه تقويم ‏الأبدان: "فيخلص إلى أن الموسيقى من‎ ‎الأدوات النافعة في حفظ الصحة وردها، ‏وتختلف بحسب اختلاف طباع الأمم". ‏

وللإمام أبي حامد الغزالي (ت: 505 هـ/ 1111م) رأي مهم في الموسيقى، فقد رأى ‏أنّ‎ ‎القلب الإنساني ينطوي على أسرار وأحوال، وأنّ الألحان والأنغام هي التي تُظهر‎ ‎تلك الأحوال، وذلك من خلال التشابه الإيقاعي بين الأنغام الموسيقية‎ ‎والأحوال ‏النفسية، وحدّد أنواعًا من الموسيقى لها تأثير الترقي‎ ‎والتهذيب على النفس والحث على ‏الشجاعة والقتال، حيث قال: "إنّ في أعماق‎ ‎النفس الإنسانية شوقًا نحو شيء عظيم ‏مجهول، والموسيقى هي التي تحرك هذا‎ ‎الشوق وتؤججه".‏

أمّا ابن عبدربه (ت: 328هـ/ 860م)، فيقول في كتابه الموسوعي "العقد الفريد" عن ‏علاقة الموسيقى بالطب: "زعم أهل‏‎ ‎الطب أنَّ الصوت الحسن يسري في الجسم ‏ويجري في العروق، فيصفو الدم ويرتاح‎ ‎له القلب، وتهشّ له النفس، وتهتز الجوارح ‏وتخف الحركات". ‏

ويقول الطبيب البغدادي ابن بطلان (ت:455هـ/1038): "موقع الألحان من‎ ‎هذه ‏الصناعة -أي الطب- موقع الأدوية من الأبدان المريضة وأفعالها في‎ ‎النفوس ‏الطاهرة".‏

ولا يشذ‎ ‎الطبيب ابن النفيس (ت: 687هـ/ 1288م) في هذا الشأن عن أقرانه. ففي ‏مخطوطة‎ ‎كتاب "الموجز في الطب"، يقول: "العشق وهو يعتري العزاب والبطالين ‏والرعاع،‎ ‎ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه وذكر أسماء وصفات. فأيها اختلف ‏عنده‎ ‎النبض، وتغيّر لون الوجه، يعرف أنه هو. والعلاج من المسليات: الصيد‎ ‎والاشتغال بالعلوم العقلية والمحاكمات، واللعب، والسماعات، وأمّا التي يذكر فيها ‏الهجر والنّوى، فكثيرًا ما يهلك‎ ‎عشقًا". ‏

ويذكر طاش كبري زاده (ت: 968هـ/ 1561م) في كتابه علم الموسيقى: "ولذلك‎ ‎يستعملون النغم تارة في الأفراح والحروب، وعلاج المرضى، وتارة في المآتم‎ ‎وبيوت ‏العبادة. فليس بغريب إذًا أنّ الملك الحافظ العبيدي استنبط له طبيبه‎ ‎طبلًا، ذا نغمات ‏خاصة تبرئ وتشفي".‏

أمّا‎ ‎داود الأنطاكي (ت: 1008هـ/1599م) في كتابه "تذكرة أولي الألباب والجامع‎ ‎للعجب العجاب"، فيقول عن الهَمّ: "وممّا يعين على ذلك (سلو الهم) النّظر في الحساب ‏والتصاوير والهندسة،‎ ‎وإن ضاق نطاق التفكير عن ذلك، فسماع الأصوات، والآلات ‏الحسنة، إذ لا علاج‎ ‎لِمَن استغرق غيرهما".‏

كذلك أشار الأنطاكي إلى‎ ‎استخدام‎ ‎الموسيقى في‎ ‎علاج الجنون‎ ‎والحميات‎ ‎الحارة، وفي‎ ‎الاختلاج‎ ‎والارتعاش. ويعيّن لذلك‎ ‎نغمةً خاصة‎ ‎على العود.‏

وختامًا، نورد قول "جومارا" ‏Gomara‏ أحد العلماء الذين استقدمهم نابليون مع ‏الحملة الفرنسية على مصر (1798‏‎-‎‏1801م) قال: "أقيمت في القاهرة، منذ خمسة ‏أو ستة قرون، عدة بيمارستانات لعلاج‎ ‎المرضى والمجانين، ولم يبق منها سوى ‏مارستان واحد هو مارستان قلاوون، لكنه‎ ‎جُعل لقبول كل أنواع المرضى، وصرف ‏عليه سلاطين مصر مالًا وافرًا. ويقال إنّ‏‎ ‎كل مريض كان له شخصان يقومان ‏بخدمته، وكان المؤرقون من المرضى يعزلون في‎ ‎قاعة منفردة، يشنفون فيها آذانهم ‏بسماع ألحان الموسيقى الشجيّة أو يتسلّون‎ ‎باستماع لقصص يلقيها عليهم القصاص. ‏وكان المرضى الذين يستعيدون صحتهم‎ ‎يعزلون عن باقي المرضى، ويمتّعون ‏بمشاهدة الرقص. وكانت تمثل أمامهم الروايات‎ ‎المضحكة".