جدلُ الصورةِ والبِرْواز قراءة في تجربة إلياس فركوح الروائيّة

د.غسان إسماعيل عبدالخالق

سارد وناقد وأكاديمي أردني

 

في ضوء قراءة تجربة إلياس فركوح الروائيّة، فإنَّ "قامات الزَّبد" جاءَت مُغرقة في ‏نصّيتها وتجريدها وتذهينها، وفي "أعمدة الغبار" بدا فركوح أكثر قدرة على الموازنة ‏بين الشكل والمضمون، وجسّد أطروحته بخصوص هشاشة الواقع عبر شخوص ‏وحيدين وعبر حكايات لا تكتمل. وبدت "غريق المرايا" أكثر اقترابًا من الواقع، وأكثر ‏احتفاء بعمّان، وأكثر اعتناء باستكمال الحكايات. وفي "أرض اليمبوس" تخلّص إلياس ‏من انبتات شخوصه وفرديتهم المطلقة.‏

 

إلياس فركوح روائيًّا

ما أكثر الذي يمكن أن نقوله ونكتبه عن إلياس فركوح (1948-2020) الإنسان ‏والمناضل والنقابي والقاص والمترجم وكاتب المقال والناشر والروائي؛ لكن شدّة ‏القرب حجاب! وكل من عرف إلياس فركوح عن قرب، أدرك أن هوسه الشخصي ‏الشديد بالتنظيم والدقّة المتناهية، ليس إلا محاولة لم تتوقف لترتيب فوضاه الداخلية ‏وصخبه الذهني الهادر، إلى الحد الذي لم يقاوم معه إغراء التصريح بذلك، في ثنايا ‏رواياته الأربع التي لم يدّخر فيها وسعًا، لامتلاك ذلك التوازن المستحيل بين الإطار ‏الناظم الوقور والتفاصيل المتمردة المجنونة(1). وربما لهذا السبب، استغرقت رواياته ‏‏-كما وثّق لنا- أوقاتًا طويلة من عمره الإبداعي الثري:‏

‏* قامات الزّبد، كتبت ما بين أيار 1983 وشباط 1987.‏

‏* أعمدة الغبار، كتبت ما بين 7 كانون الثاني 1989 و1 حزيران 1995.‏

‏* غريق المرايا(2)، كتبت ما بين آب 2010 و11 أيلول 2011.‏

‏* أرض اليمبوس(3)، كتبت ما بين 5 أيار 2005 و8 تشرين الثاني 2006.‏

 

‏"قامات الزَّبد" وتأسيس التشظّي

إذا نظرنا بعين الاعتبار الشديد، لحقيقة أنّ إلياس فركوح ينتمي إلى زمرة (الروائيين ‏المفكّرين)(4)، وإذا تعاملنا مع مجمل منجزه الروائي على أنه أطروحة في الشكل ‏والمضمون، فإنّ (قامات الزبد)(5) تمثّل -دون ريب- مقدّمة هذه الأطروحة أو هي ‏المسوّدة الأولى لها، سواء على صعيد العنوان الذي سيُعاد إنتاجه بصيغ شعرية أخرى ‏في الروايات التالية، تأكيدًا لسرابية السراب وتخليدًا لفجيعة التلاشي، أو على صعيد ‏الاعتناء باسترعاء نظر القارئ لقائمة المصادر والمراجع في مستهل الرواية(6) -ما ‏يؤكد صلابة الأطروحة ويكسبها بعدها المعرفي المطلوب- أو على صعيد العتبات ‏والاقتباسات الشعرية التي تسبق كل فصل واللوحات التي تخلّلت صفحات إحدى ‏رواياته، أو على صعيد التنسيل اللغوي المؤلم لرحم اللغة!‏

وأما على صعيد المضمون؛ فسوف نلاحظ أنَّ عمّان، مقارنة ببيروت وصيدا ‏والاسكندرية والقاهرة، ستحضر على خجل؛ ربما لأن تاريخ التورّط في كتابة (قامات ‏الزبد) لم يكن يسمح بعد بسرد التفاصيل الحساسة التي ستنثال لاحقًا(7)، كما سيحضر ‏الراوي المتشرّخ المطارَد بحقيقة نقصه وعدم اكتماله. وبطبيعة الحال؛ سوف تحضر ‏نكبة فلسطين في عام 1948، وهزيمة حزيران في عام 1967، وما تبع الأخيرة من ‏تداعيات وملابسات تصاعد حجم التنظيمات الفلسطينية في الشارع، وصولًا إلى ‏التصادم مع الدولة الأردنية، فالخروج إلى بيروت والتورُّط مرة أخرى في الحرب ‏الأهلية اللبنانية، فالخروج إلى العديد من العواصم العربية. ‏

تتجاذب الرواية ثنائية "الهزيمة/ الفتنة" الممتدة لأكثر من عشر سنوات، من ‏‏"العاصمة"(8) إلى "بيروت"، ليحملها ثالث الثلاثة (خالد الطيب) شظايا باردة في ‏‏"داخله" إلى الإسكندرية فالقاهرة. وهي إذ تراوح في "الخراب" اللامتناهي للمكان ‏والزمان والإنسان، فإنها تمتح من "تيار الوعي" وتنبني فيه، ماضيًا وحاضرًا، وتقوم ‏فيها الذاكرة المطلقة للشخوص بدور الراوية والشاهد؛ ليس ثمة بطل أو رواية، هناك ‏فقط تداعيات يحملها سيال الذاكرة، وفق توترات تنبجس وتعلو ثم تهمد إلى ما لا ‏نهاية. إن النص والنص وحده، هو الشيء الوحيد صارخ الحضور. والثلاثة: نذير ‏الحلبي، خالد الطيب، زاهر النابلسي، هم جمل النص وفواصله ونقاطه الصارمة؛ يبدأ ‏واحدهم حيث تنتهي توترات جملة الآخر، والثلاثة يحملون صخرة "سيزيف"؛ كل ‏بطريقته:‏

‏* "نذير باسيل الحلبي": المرهون لقَدَره الطائفي وماضيه النضالي، والمسكون بأزمة ‏جدوى المثقف والمتيّم جدًا بثريّا عاملة البار المصرية، والمنذور للشهادة.‏

‏* "خالد الطيب": رهين الما بين وشاهد "الفتنة" المسكون بصلابة "مروان بن مهجة". ‏المتردّد دومًا والمتمترس خلف خداع الكلام إذا تعلّق الأمر بالبندقية. الشقي بما لديه ‏والشقي بما لدى الآخرين؛ يعاشر المدام ولا يدري إن كان يحبها، ويشتهي ثريا صديقة ‏رفيقه نذير الذي لا يصلح لشيء، أو هكذا كان يردّد والده العجوز.‏

‏* "زاهر النابلسي": الموزّع بين والده الذي كان متيّمًا بعبدالناصر ثم أصبح داعية ‏للقِرْش الأبيض في الزّمن الزفّت وأموال الخليج أيضًا، وبين عمّه أبي الحكم؛ رجل ‏الأفكار الهادئ، الرجل الرافض من الداخل، رجل الاختلاف ضمن الوحدة، الرجل ‏الذي يختفي فجأة، لتنبت الأسئلة.‏

عند هؤلاء الثلاثة، تلتقي خطوط ثالوث سيال الذاكرة المدمّر وتتداخل وتتصارع، تتّحد ‏وتتناقض في آن، ومن خلالهم تحضر شخوص وأمكنة فينبت/ ينهدم... الزمان/ ‏الخراب:‏

‏- من خلال نذير الحلبي يحضر الأب باسيل، والأم، والمرأة العرّافة، والجندي الذي ‏يتشحّط بدمه، ويختلط فوق شاربيه خيطا الدم والمخاط. وتحضر ثريا، ويحضر ‏الجانب الشرقي من بيروت.‏

‏- ومن خلال خالد الطيب يحضر مروان بن مهجة، والعاصمة، والعجوز، والعمّة ‏والرجل الكبير، وعقاب الطالب، والمدام.‏

‏- ومن خلال زاهر النابلسي يحضر الأب والعم أبو الحكم ونابلس.‏

وفيما نحدس منذ الشروع بقراءة الهوامش الخاصة بمذكّرات زاهر النابلسي، بأن ‏النابلسي/ الظل والصدى، محذوف إلى الخليج على الأغلب -إذ "لم يعد أحد يعرف أين ‏ذهب مخلّفًا كراريسه الساذجة، وتعليقات عمّه المكتوبة على حواشي الكتب، التي ‏تصلح كخطوط عريضة لنظرية تناقض كافة المطروح على الساحة"- فإننا نشعر ‏بمنطقية التسلسل المأساوي في مسيرة الحلبي، ونوقن منذ البداية بأنه منذور للشهادة ‏في ظل تناقض صارخ -ولكنه منطقي- مع جذره الطائفي.‏

غير أنَّ ما يفاجئ منطقنا -ولا يكسر منطق الحدث/ النص- هو تلك النهاية التي يختتم ‏بها النص نفسه؛ نهاية خالد الطيب الذي كنا نتوقع له أن يظل كما كان، لا شيء يعلو ‏هامته سوى السماء، لولا خالد الآخر- ذاته؛ مروان ابن مهجة الذي يسكنه ويرفضه، ‏ولولا نذير الحلبي الذي أصر باستشهاده على حرمانه من أن يكون شاهدهم على نفسه.‏

وعلى الرغم من أنَّ الرواية تنبني في تيار الوعي، إلا أنها تقتات من الواقعي والواقعي ‏جدًا، و"تؤرّخ" شعريًا لأيام وسنوات الجحيم! وهي مفارقة تستغرق الرواية وتتكفل ‏باستيفاء مطلوبها الموضوعي والإبداعي، لأن التواريخ والأمكنة البارزة والمندغمة في ‏النص -مانحة إياه شرطه المادي- تضطلع بالتعويض عن القصور في الوعي التاريخي ‏والاجتماعي على كافة الصعد، وتحاول الاحتفاظ للذاكرة الجمعية المقسورة على ‏النسيان، بالحدث والحقيقة والواقع، فيما تتعانق شاعرية اللغة المحبوكة والإيقاع المميز ‏لتيار الوعي/ الذاكرة، ليضطلعا بدورهما في كسر الحاجز القائم بين الموضوعي ‏الصارم (التاريخ) وفنية النص(9) (الرواية).‏

وتضطلع تقنية (الهامش مائل الخطوط) بدورٍ وظيفي في بنية نص الخراب والذاكرة ‏المدمّرة؛ فهي تمثل الدليل الوحيد على الحضور الموضوعي للروائي من ناحية، ‏ومؤشرًا على زاويتي رؤية أو حدثين متوازيين، يضطلع فيهما عنصرا المفارقة ‏والوضوح بدور بارز من ناحية أخرى. وفي نص يمتح من لغة الشعر المراوغة، فإنّ ‏الحاجة قد تغدو ماسّة إلى هذه التقنية، كوسيلة مساعدة تسند المهمة التاريخية الجمالية. ‏يقول "روبرت همفري" بخصوص تقنية رسم الحرف: "هي إحدى الوسائل الميكانيكية ‏التي تستخدم في قصص تيار الوعي، وهي غالبًا ما تكون علامة على تحولات في ‏الاتجاه والمكان والزمان، أو حتى في بؤرة الشخصية. وفي بعض الأحيان تكون هي ‏المؤشر الوحيد إلى مثل هذه التحولات. ولا شك في أن تغير حجم الحروف يتيح ‏معرفة لحظات التقاطع والتغيير في المكان والشخصية، ويساهم في إرشاد القارئ ‏ومساعدته... ويشعره بوجود المؤلف بطريقة غير مباشرة"(10).‏

ومن الضروري الإشارة هنا، إلى أن هذه التقنية التي شدّت الرواية إلى موروث تيار ‏الوعي فنيًا، لكنها لم تخرجها موضوعيًا من إطارها الواقعي، أي إطارها الذي أصّله ‏غسان كنفاني في الرواية العربية شكلًا وتقنية ومضمونًا؛ فقد كتب معظم رواياته ‏مستخدمًا تقنية تيار الوعي، واستخدم في بعضها تقنية الخط المائل، وتجاوز من خلال ‏الواقع والوطن والإنسان والقضية، الهمَّ الوجودي المطلق للأنا، إلى الهمِّ الوجودي ‏الجمعي. مع ذلك، فإن هذه التقنية التي جاءت ضرورية من حيث التكنيك الروائي، لم ‏تستوف -فيما أحسب- شرط التواصل الفني مع النص؛ أي أن إيقاع هذه الهوامش، خلا ‏من تلك اللحمة التي لمسناها في إيقاع المتن، فبدا الهامش تعليقًا في بعض الأحيان، ‏وكان يفترض به أن يكون استئنافًا متصلًا بالنص/ المتن(11).‏

إنَّ هذا التباطؤ والانكماش في نبض لغة الهامش -مع ضرورة التنبيه على أن اللغة ‏تمثل العنصر الناظم لقامات الزبد- نكاد نلمحه أيضًا في المساحة المخصصة في النص ‏لإضاءة شخصية "زاهر النابلسي" من خلال مذكّراته. ومع أننا نتصوّر ضمنًا المشقة ‏التي يمكن أن تتخلل نصًا يترجم شخصية ساذجة وسطحية وسلبية مثل زاهر -حيث ‏تتبدّى أهمية العلاقة الجدلية بين المضمون (الشخصية البسيطة) والشكل المعقدّ الذي ‏يعبّر عنه (النص)- إلا أن نجاح النص في الإمساك بطرفي هذه الجدلية من خلال سيل ‏التداعيات لدى "خالد الطيب" بخصوص "مروان بن مهجة"، يجعلنا مضطرين لإقامة ‏مقارنة بين إيقاع هذه الشخصية النابضة عبر الذاكرة، وإيقاع الترجمة الأقل حظًا من ‏النجاح، وهي مقارنة محسومة لصالح (مروان بن مهجة) على حساب النص.‏

‏"أعمدة الغبار" أو قبض الرّيح

إذا كان الكاتب هو الأسلوب، فإنَّ إلياس فركوح هو الروائي المعني! لأنه خير مَن ‏يُمثّل تطابق الشكل والمضمون كما ينبغي له أن يكون، وبغض النظر عن المآخذ التي ‏يمكن رصدها هنا أو هناك؛ فالكاتب/ الروائي، وُجد ليهدم قاعدة أو أكثر، وليحاول -‏في المقابل- أن يترك بصمة أو أكثر. إن (أعمدة الغبار)(12) بوصفها الرواية الثانية ‏لإلياس، تتكفّل بالإفصاح عمّا ألمحنا له آنفًا إلى حد بعيد؛ بدءًا من العنوان الرئيس ‏والعناوين الفرعية، مرورًا بزوايا الرؤية فنيًا وموضوعيًا، وليس انتهاء بما لم يقله ‏الراوي في الخاتمة.‏

أما العنوان الرئيس -أو عتبة النص- فلا نحتاج إلى كثير من الجهد كي نتلمّس فيه ما ‏يلي:‏

أولًا: الصورة الشعرية الحسّية التي ستظل جاثمة وتواصل تمدُّدها وإعادة إنتاج ذاتها ‏على امتداد الزمن الروائي.‏

ثانيًا: الصياغة الموضوعية الفلسفية لأطروحة الرواية وفقًا لجدلية أو ثنائية الوجود ‏والعدم.‏

ثالثًا: السبك الأسلوبي اللغوي لأطروحة الرواية وفقًا لجدلية أو ثنائية التجلّي ‏والتلاشي.‏

وإذا كانت الرواية تمور بالشواهد الخاصة بالصورة الشعرية الحسية من جهة، ‏وبالشواهد الخاصة بالشكل الأسلوبي اللغوي إلى حد بعيد، فإن الصياغة الموضوعية ‏الفلسفية لأطروحة الرواية، تتطلب شيئًا من الاستطراد الذي ألزمتنا به مقدّمة الرواية ‏التي جاد بها إدوار الخرّاط(13)، فغدت ضربًا من المصادرة على مطلوب كلّ مَن ‏أراد مقاربتها؛ أعني ضرورة التسليم بأنها نتاج الحساسية الروائية الجديدة؛ وهي كذلك ‏من بعض وجوهها. لكن تسليمنا بريادة إدوار الخرّاط روائيًا، لا يعني تسليمنا بكل ما ‏أطلقه من أحكام نقدية نزقة ولا تخلو من خلط عجيب؛ فإذا كانت (أعمدة الغبار) مثالًا ‏للرواية الحداثية، فكيف تصنّف روايات نجيب محفوظ التي أصلاها الخرّاط نارًا ‏حامية؟! وكيف تكون (أعمدة الغبار) مثالًا للرواية الحداثية ومختبرًا للتفكيك في آن ‏واحد؟! لقد خلط الخرّاط خلطًا عجيبًا بين الحداثة وما بعد الحداثة التي تنتمي لها ‏‏(أعمدة الغبار) دون جدال؟ فهي تمتاز بالتمرّد على النسق أو النظام الروائي الحداثي، ‏ولا تلتزم بالتسلسل الزمني للأحداث، كما أنها تمور بالفوضى والعبث وتحطيم اليقين، ‏من خلال شخوصها ولغتها!‏

وما يدعوني إلى الإلحاح على تكشيف هذه الوجهة في التناول، اعتقادي بأن (أعمدة ‏الغبار) لم تشتبك مع ثنائية الكمون والتحقق على الصعيد الوجودي للإنسان العربي ‏فحسب، بل إنها تجاوزت ذلك -على نحو مبكّر- إلى تحسُّس واستشعار التناقض أو ‏عدم القدرة على التعايش المأساوي بين إرهاصات الحداثة المغدورة في بعض الأقطار ‏العربية من جهة، وبين وقائع ما بعد الحداثة التي دخلت بصخب من أبواب الحروب ‏والهزائم والانقسامات والخيانات، مخلّفة مزيجًا مؤلمًا وثقيلًا من مشاعر الشك والعبث ‏واللاجدوى.‏

وأيًا كان الأمر، فإن (أعمدة الغبار) تحكي بطريقتها الخاصة، سيرة الرّاوي (نصري)، ‏أو العمّاني العريق الذي يقطن مع أمه طابقًا علويًا في سقف السيل، ويشهد هزيمة ‏حزيران 1967 وأحداث أيلول الأسود، ثم يلتحق بصفوف المقاومة في بيروت ‏ويكتوي بنار الحرب الأهلية اللبنانية، ثم يعود إلى عمّان بخفّي حنين؛ فيعاني الأمرّين ‏سياسيًا ومعيشيًا، ولا ينتشله من وهدة هذه المعاناة إلا ابنة خالته (صَبَا) التي تقطن مع ‏أمها أيضًا في الطابق الأسفل، فلا تدّخر وسعًا لمناكفته ومراودته -على الرغم من أنها ‏متزوّجة- وتأمين عمل له في مؤسسة ألمانية.‏

وإذا كانت مقاهي عمّان وأزقّتها قد أخذت من روح (نصري) ووعيه مأخذًا شديدًا، فقد ‏تكفّلت بتعرُّفه إلى (زكريا) المدرّس المُعاقَب بالإبعاد إلى عمّان، و(سلطان) الطالب ‏البدوي المعاقب بالإبعاد إلى عمّان أيضًا، جرّاء نشاطهما السياسي المعارض. وفيما ‏تتعمق معارضة زكريا الذي يضطر للإقامة مع زوجته وطفله في سقف السيل ثم ‏سرعان ما يلتحق ببيروت جرّاء المطاردة والتضييق السياسي، فإن سلطان الذي كان ‏يحلم بالسفر إلى بيروت لدراسة الإخراج السينمائي التقدمي ويعاني الأمرّين معيشيًا ‏ووجوديًا، سرعان ما يكبح معارضته السياسية، ويلتحق بحقل الصحافة ويتدرّج فيه، ‏أملًا بأن يغدو رئيس تحرير ذات يوم.‏

إنَّ (أعمدة الغبار) أو (قبض الريح) بعبارة أخرى، وبوصفها رواية كشكولية -أي نصًا ‏روائيًا هاضمًا للعديد من أشكال ومضامين وتقنيات السرد والأجناس الأدبية(14)- ‏تحاول بكل ما أوتي كاتبها من بلاغة، أن تجسّد فجيعة المثقف المناضل أو المناضل ‏المثقف الذي اتخذ من الحزب أو المادية التاريخية، وسيلة لتدشين الحداثة في مدينة ‏عمّان التي كانت تغذّ الخطى باتجاه امتلاك صيغة المجتمع المدني؛ أي الحداثة بما ‏تعنيه وتشتمل عليه من نسقية وعقلانية ونقدية، فإذا بها تتهاوى على مذبح تداعيات ‏ومخلّفات المحيط الذي يكتوي بنيران كيان استعماري غاشم مثل (إسرائيل)، إلى درجة ‏أن مأساة إنسانية كبرى مثل اجتياح لبنان وإخراج المقاومة منها، تغدو مجرّد أخبار ‏وصور متقطعة في محطّات التلفاز.‏

ومن الضرورة بمكان، التنويه بأن التعبير عن هذه الفجيعة بكل مستوياتها، الإنسانية ‏والسياسية والاجتماعية والثقافية، يأتي مبتورًا دائمًا وعلى نحو متعمّد، سواء كان ‏وصفًا أو استرجاعًا أو تأمّلًا أو حوارًا أو توثيقًا، ناهيك بالتداخل الذي يهيمن على كل ‏مستويات هذا التعبير، تأكيدًا لمقولة اللا اكتمال واللا تحقّق التي تستبطن الرواية من ‏ألفها إلى يائها. فلا وصف عمّان -على سبيل المثال- يكتمل، بل يظل نتفًا مسروقة، ‏ولا وصف لحظات الحب الآثم بين نصري وصبا -على سبيل المثال أيضًا- تكتمل، ‏بل تظل لقطات لاهثة. ولا الحوارات تكتمل. ولا التوثيقات المستمدّة من الصحف ‏والمجلات تكتمل. بل إن نصري بلا أشقّاء ويغدو وحيدًا بعد وفاة أمه. كما أن صبا ‏بلا أشقّاء وتغدو وحيدة بعد اضطرارها للالتحاق بزوجها المخدوع في إحدى دول ‏الخليج، فيما يذوب زكريا في بيروت على الرغم من أنّ زوجته وابنه ما زالا يقيمان ‏في عمّان.‏

وإذا كان إلياس فركوح، لم يدّخر وسعًا لتوظيف خبرته القصصية في إنشاء هذه ‏المشاهد المتلاحقة المتقطعة، وتكثيفها صوريًا ولغويًا وشعريًا، فإنه لم يدّخر وسعًا ‏أيضًا، لتفخيخها بالعديد من مقاطع سيرته الذاتية الشخصية -مثل واقعة الاعتذار عن ‏نشر قصته الأولى في بريد القرّاء(15)- أو ببعض عناوين مؤلّفاته ومؤلّفات غيره مثل ‏‏"إحدى وعشرون طلقة للنبي" و"طيور عمّان تحلّق منخفضة" و"مقدّمات لزمن ‏الحرب"(16)! موفّرًا بذلك مدخلًا لعشّاق الكلام على ما وراء التجريب والرواية.‏

‏"غريق المرايا" وعودة الابن الضال

وكأنَّ إلياس فركوح قد ظلَّ في نفسه شيء كثير من حكايات عمّان القديمة وسقف ‏السيل العتيق، فارتحل بعيدًا إلى الوراء، حتى بلغ لحظة الثورة العربية الكبرى، وجاء ‏بجدّة (إبراهيم اليتيم) التي رافقت والدها الثائر على الأتراك وعلى خيانة الإنجليز ‏للشريف الهاشمي، والتي يصعب القطع أيضًا بصحة ما ترويه عن كيفية حملها الذي ‏تمخّض عن (نوفة) التي انتهى بها الحال أرملة ترعى ابنها اليتيم وتعمل في المستشفى ‏الطلياني فضلًا عن تجميل النساء في بيتها، دون أن تفقد الأمل في عودة زوجها الذي ‏ذهب للجهاد في فلسطين ولم يعد!‏

هكذا، وفي خطين متوازيين من الحقيقة والخيال أو الواقع والأسطورة؛ يقدّم لنا إلياس ‏فركوح كشكوله الثالث أو (غريق المرايا)(17) بكثير من الدفء والحميمية -مقارنة ‏بـِ"قامات الزبد" و"أعمدة الغبار"- إلى درجة أنه قد ينسى نفسه أحيانًا، فيبدي تعاطفه ‏بهذا القدر أو ذاك مع الشخصيات أو الأحداث، على الرغم من أنه ظل مخلصًا لتكنيكه ‏الكشكولي، الذي يستهدف أكثر ما يستهدف تقويض الشكل التقليدي والثابت للرواية.‏

ولعلَّ انطلاق الرواية من دفاتر (الحاج خيرالدين البخاري) تاجر الكتب المتصوّف، قد ‏أسهم إلى حد بعيد، في إشاعة جو عابق بالبخور والسكون الذي خيّم على الرواية ‏المنقوعة في الموروث الصوفي الإسلامي، جنبًا إلى جنب الموروث الصوفي ‏المسيحي الشرقي. كما برز هذا الجو -على مستوى التكنيك- من خلال الاعتناء ‏باستكمال الحكايات الفرعية التي اشتمل عليها الكشكول، بل والعمل أيضًا على ‏استكمال الحكاية الرئيسة فيه، وذلك خلافًا لما تعمّد إلياس القيام به في كشكوله السابق؛ ‏ففي (غريق المرايا) ثمة انشغال لا يخفى عن الناقد البصير بوضع خاتمة لكل حكاية، ‏رغم مأساوية الخواتيم غالبًا؛ بدءًا من حكاية إبراهيم اليتيم الذي كبر على وقع انجذابه ‏للشيخ البخاري وانبهاره بالعلاقة الخارقة للعادة بين أمه ونيكولاس خريستوس ‏سيفاركادس رسّام الأيقونات اليوناني، واتجاهه للعمل في أعالي البحار، ثم عودته إلى ‏عمّان بعد أن اختفى البخاري وأوصى له ببيته وكتبه، مرورًا بحكاية (أكرم) الذي ‏التحق ببيروت للدراسة لكنه انضم إلى صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي ‏وقتل في الحرب الأهلية اللبنانية، وليس انتهاء بحكاية (شكيب أفندي) الذي رافق والده ‏السوري إلى حيفا واستقر فيها، ثم انتقل إلى عمّان وعاش وحيدًا ومات وحيدًا.‏

لكن هذه الوجهة لاستكمال الحكايات، لا ينبغي أن تحجب عن أنظارنا، حقيقة الانبتات ‏الذي تصطلي به معظم شخصيات (غريق المرايا)، فهي وحيدة وفردية بلا امتداد؛ ‏مثل نوفة الوحيدة وابنها إبراهيم الوحيد، ومثل شكيب أفندي الذي ما إن مات أبوه في ‏حيفا حتى بادر لإرسال ملابس والده مع ليرَتَيْ ذهب إلى أمه وأعلمها بأنه لن يعود ‏قريبًا، ومثل الشيخ البخاري تاجر الكتب والصوفي المتوحد، وكذا نيكولاس رسام ‏الأيقونات اليوناني الثائر.‏

وعلى الرغم من هذه الفردانية الجاثمة على المشهد العمّاني، إلا أن مأساوية الحدث ‏السياسي قد تكفلت بإكساب هذا المشهد قدرًا من الملحمية التي خففت إلى حد بعيد من ‏وحدة عمّان. كما تبدّى في اتجاه إلياس لتوثيق جريمة تفجير مبنى رئاسة الوزراء ‏واغتيال هزاع المجالي وصولًا إلى اغتيال وصفي التل(18)، دون أن ينسى الإتيان ‏قبل ذلك على ذكر أطراف من الأدوار الاجتماعية والإنسانية لكل من الطبيبين جورج ‏حبش ووديع حدّاد في سقف السيل(19)! وحتى استطراده بخصوص مأساة تصفية ‏أنطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي في بيروت، ختم بعملية ‏الانتقام له، على يد ثلاثة من أعضاء الحزب الذين أقدموا على اغتيال رئيس الوزراء ‏اللبناني الذي وقّع أمر التصفية(20) في عمّان! ولم يفته على هذا الصعيد توثيق الدور ‏الذي اضطلع به غالب هلسا في الحرب الأهلية اللبنانية ولصالح المقاومة، حيث لم ‏يتردد هذا الروائي والقاص والمترجم والناقد الأردني الذي كان منقوعًا في الوسط ‏الثقافي المصري الرّخو، في الالتحاق بالمقاومة والتنقل بين متاريس وخنادق المقاتلين ‏وتقديم برنامج إذاعي طوال شهر رمضان المبارك بعنوان (سَلِّ صيامك)(21)!‏

إنَّ فرادة ما يمكن للفرد العمّاني/ الأردني أن يتعرّض له أو يجترحه، في الأردن أو ‏في بعض الأقطار العربية، تتكفل من منظور إلياس فركوح، بالتعويض عن انكماش ‏المشهد الجمعي الكسول وافتقاره إلى الزخم المطلوب، في ظل دكتاتورية الجغرافيا ‏التي فرضت عليه الوقوع بين الحجاز والقاهرة وبغداد ودمشق من جهة، كما فرضت ‏عليه تقاسم العديد من المرارات مع فلسطين ولبنان من جهة ثانية.‏

‏"أرض اليمبوس" والعودة إلى المربّع الثاني

يُقال إنَّ الروائي يكتب رواية واحدة فقط وإن تعدّدت عناوين رواياته، وكأنه في كل ‏مرة يحاول جاهدًا إضاءة زاوية معتمة في غرفة ذكرياته أو طفولته أو شخصيته. ‏وأحسب أن هذا الزعم الذي يصدق على عدد من الروائيين المعروفين -مثل ماركيز ‏ومحفوظ وحنا مينا- يصدق أيضًا على إلياس فركوح الذي سبق له أن لهج مبكرًا ‏بأرض اليمبوس، وتحديدًا في روايته الثانية (أعمدة الغبار) حيث قال: "...رغم اعتقاده ‏بالجدل وتعقيداته، وبذاك الأحمر الملحد صاحب الرأس الكبير واللحية الهائلة نصف ‏المترمّدة؛ إلا أن مثاليته غلاّبة في آخر المطاف. لا يستقيم العالم بغير ظفر الحق به ‏وإزاحته للباطل عنه. أَدْرَكَت هي مساحة البساطة المثلى، تلك المفروشة في غور ‏شخصيته، وتلك الواضعة إياه في منطقة "اليمبوس" الكاثولوكية: طفل لم يخطئ ليساق ‏إلى جهنم. لكنه لم يتعرّض لماء المعمودية، لينال خلاصه من جرثومة الخطيئة ‏الأصلية، ويفوز بالجنة"(22).‏

وعلى الرغم من أن روايات إلياس الأربع، تبدأ وتنتهي بالتساؤل الممض عن سبب ‏عدم اكتمال الإنسان، إلا أن ما يتطوّع لإيراده من إجابات في (أرض اليمبوس) يتكفل ‏بإماطة اللّثام عن بعض خبايا سرده الروائي الملتبس، جرّاء اتجاهه لملازمة لعبة ‏الراوي والقرين. إذ ثمة اثنان يتناوبان السرد على نحو ماكر، لكنهما في الحقيقة هما ‏الشخص ذاته؛ إلياس فركوح شخصيًا وإلياس فركوح الراوي، إلى درجة امتلاك ‏الجرأة على التصريح بذلك أكثر من مرة، وبلغة نقدية عالية(23).‏

ولعلَّ أبرز ما يتطوّع الرّاوي في (أرض اليمبوس) لإماطة اللثام عنه، يتمثل في ‏إقراره الذي لا يحتمل اللبس بعقدة أوديب وتعلّقه الشديد بأمّه، إلى درجة الإبحار بعيدًا ‏مع أجساد العديد من النساء أملًا بالعثور على واحدة يمكن أن تجسِّد المعادل ‏الموضوعي لهذه الأم، التي توزّعت صفاتها في كثير من النساء؛ بدءًا بـ(مريم) التي ‏فتنته في مرحلة الصبا، مرورًا بـ(منتهى) التي افترسته في مرحلة النضوج، وليس ‏انتهاء بـ(ماسة) التي ابتكرها خياله المجرّح بتفاصيل معاصيه وخطاياه لتكون مثله ‏الأعلى، على طريقة الشعراء والعشاق العذريين الذين اضطروا لابتكار حبيبات ونساء ‏استثنائيات، جرّاء فشلهم الذريع في العثور على امرأة تجتمع فيها كل ما طمحوا إليه ‏من صفات ومواصفات.‏

لكن أطرف ما في هذا الإقرار، أنه يترافق مع ما يفترض أنه نقيضه التام، وأعني ‏بذلك الاتجاه إلى التسليم بوجود كل أولئك الذين يمكن أن ينافسوه على حضن أمه؛ بدءًا ‏بوالده الوديع الأنيق الذي ظل رغم كل الصفات التي أسبغها عليه الراوي كهلًا ‏وضعيفًا -وكأنه ليس الزوج الجدير بأمّه- مرورًا بشقيقه المشاكس، وليس انتهاء ‏بشقيقتيه اللتين لم تكونا حنونتين بالقدر الكافي أو المطلوب.‏

ها هو الراوي إذن، وخلافًا لكل إفاداته السابقة، يقرّ بوجود عائلة ويستوفي تفاصيلها، ‏ولا يدّخر وسعًا في إسناد أدوار مكتملة للعديد من الآباء والرجال الذين كادوا يحجبون ‏تمثال أمه! بل ثمة كنيسة وعائلات وصلوات وحدود واضحة للحرام والحلال. لكن ‏الراوي الذي يمارس ضربًا من المقايضة السردية في كل مرّة؛ فيمنحنا ما يريد ‏ويحرمنا مما يريد، يحجب عنا عامدًا متعمّدًا اسمه الذي لا يستحقه، في ظل قناعته ‏بعبثية العلاقة بين الاسم والمسمى والدّال والمدلول في الواقع العربي، فهذه العلاقة إن ‏لم تبلغ درجة التطابق تغدو ضربًا من العبث الذي طالما مزّق وعي الروائي المجرّح ‏بصدماته المتتالية؛ صدمة صدّه عن الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية ؛ (لستَ منّا، فلماذا ‏تكون معنا؟) وصدمة معاقبته؛ (لستَ منهم، فكيف تكون معهم؟)(24)!‏

وإذا كانت الرواية قد استهلت بالحديث عن الحرب على العراق واختتمت بالحديث عن ‏الحرب على العراق، فإن ما مدّده الروائي على طاولة السرد، يستكمل تفاصيل الحكاية ‏العمّانية المنبثقة من سقف السيل، وما ترامى على جانبيه من سكّان وذكريات تمتد ‏حتى عام 1948 في فلسطين وفي مدنها الساحلية، مرورًا بالقدس ومدرسة الفرير ‏وهزيمة عام 1967، وليس انتهاء بمقدّمات أحداث أيلول الأسود عام 1970 وما ‏تلاه من مفارقات، وصولًا إلى الثمانينات المتخمة بأوهام المثقفين وانكساراتهم ‏الفادحة.‏

لكن إلياس فركوح، ورغم التصاعد الملحوظ في بوحه على حساب التكنيك الروائي ‏الصارم، ظل متمسكًا بأطروحته الفلسفية العتيدة، بخصوص سرابية الواقع وسرابية ‏اليقين وسرابية الخلاص، جنبًا إلى جنب تمسكه بتوثيق هذه القناعة؛ بما لا يعد ولا ‏يحصى من المصادر والمراجع والإشارات والإحالات التي لم يدّخر وسعًا لتذويبها أو ‏تمويهها أو إكسابها مبرر التواجد في سياقها الروائي، وبلغة جارحة وأنيقة، تمخّضت ‏في كثير من الصفحات عن صور شعرية ولوحات ومشاهد أكّدت تعلّق الروائي ‏بأسطورة (كارمينا بورانا)، أو مأساة الصراع الأزلي بين الخير والشر على حساب ‏طمأنينة الإنسان! ‏

غبار التجربة

في ضوء هذه القراءة لتجربة إلياس فركوح الروائية، يمكننا إيجاز علاماتها الفارقة ‏على النحو التالي:‏

أولًا: رغم الجهد والمدّة التي استغرقتها كتابة (قامات الزبد)، إلا أنها جاءَت مُغرقة في ‏نصّيتها وتجريدها وتذهينها، وتصاعدت فيها بيروت والإسكندرية والقاهرة على ‏حساب عمّان، وهذا متوقّع لأنها مثلت باكورة أعمال إلياس فركوح الروائية، ولأن ‏حرية التعبير عن التجربة السياسية لم تكن متاحة تمامًا، بسبب سريان الأحكام العرفية ‏التي انتهت في عام 1989.‏

ثانيًا: رغم أن المقدمة النّزقة التي استهلّ بها إدوار الخرّاط رواية (أعمدة الغبار) قد ‏صادرت آفاق معظم من تصدّوا للكتابة عنها، إلا أن إلياس فركوح قد بدا أكثر قدرة ‏على الموازنة بين الشكل والمضمون، وجسّد أطروحته بخصوص هشاشة الواقع ‏وبخصوص انعدام القدرة على حيازة التحقق، عبر شخوص وحيدين وعبر حكايات لا ‏تكتمل.‏

ثالثًا: رغم أن إلياس فركوح قد وصف روايته الثالثة (غريق المرايا) بالكتاب ولم ‏يدّخر وسعًا لشحنها بالتوثيق، إلا أنها بدت أكثر اقترابًا من الواقع، وأكثر احتفاء ‏بعمّان، وأكثر اعتناء باستكمال الحكايات.‏

رابعًا: مع أنَّ إلياس فركوح تخلّص في روايته الرابعة (أرض اليمبوس) من انبتات ‏شخوصه وفرديتهم المطلقة، وأبدى عناية ملموسة بتقديم شخوص ذوي امتداد عائلي، ‏إلا أنه بدا في هذه الرواية أكثر جرأة على إبراز عقدة أوديب وتعلّق الرّاوي بأمّه. ‏وربما تحت وطأة الشعور بالذنب لأنه سمح للراوي بالإفصاح أكثر مما ينبغي له أن ‏يفصح، أصر على سلب الراوي اسمه واكتفى بلقبه الحزبي الحركي (رفيق) الذي لم ‏يزده في الواقع إلا تنكيرًا.‏

خامسًا: وظّف إلياس فركوح خبرته العميقة في كتابة القصة القصيرة، إلى حد بعيد؛ ‏سواء في الرسم الخاطف للشخصيات أو في الحوارات واللوحات والمشاهد. بل إن ‏بعض المقاطع في رواياته يمكن اجتزاؤها وقراءتها بوصفها قصصًا قصيرة.‏

سادسًا: رغم أن إلياس فركوح قد أسهم شخصيًا في تركيز النقاد على شكلانية ‏تجربته، بسبب إصراره على مواصلة استخدام تكنيك (الرواية الكشكولية)، إلا أن ‏الاستقراء المتأني لتجربته، من شأنه أن يسترعي الناقد إلى استيعائه المبكر لمأساة عدم ‏استكمال شروط الحداثة بسبب الاستبداد السياسي من جهة، وتجرّع مرارات سلبيات ما ‏بعد الحداثة، ممثلة بالفوضى والعبث وانتفاء اليقين، جرّاء العديد من الحروب ‏والكوارث من جهة أخرى. ما جعل ويجعل مشروع تحقّق وجود الإنسان العربي ماديًا ‏ومعنويًا، ضربًا من الأوهام!‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ انظر على سبيل المثال قوله: (تُفضّل قليل الكلام على النوادر والحكي عما جرى، وتتحايل على عجزك عن ترتيب عالمك ‏الجوّاني بالمبالغة في تنسيق تفاصيلك الخارجية. أهي مبالغة حقًا؟ من يعرفونك يفصحون عن ملاحظتهم المشتركة، مبدين ‏تقديرهم، لكنهم يرون في هذا القدر من التنسيق غرابة تتأتى من كاتب مثلك: كاتب سوف يتقاعد باختياره، مبرّرًا ذلك بكتابة ‏رواية!)، أرض اليمبوس؛ ص197.‏

‏(2)‏ أُنجزت هذه الرواية ضمن مشروع التفرّغ الإبداعي في وزارة الثقافة الأردنية. والكاتب يميل إلى الاعتقاد بأن تاريخي البدء ‏والانتهاء لا يمثّلان المدة الحقيقية التي استغرقها الروائي لإنجاز روايته.‏

‏(3)‏ رُشّحت هذه الرواية لقائمة جائزة البوكر القصيرة، عام 2008.‏

‏(4)‏ يتبنى الكاتب بهذا الخصوص، تصنيفًا مؤدّاه أن هناك روائيًا حسيًا تلقائيًا فحسب، وأن هناك روائيًا حسيًا مثقفًا متأملًا!‏

‏(5)‏ صدرت طبعتها الأولى عن مؤسسة الأبحاث العربية ودار منارات عام 1987، وقد فازت بجائزة الدولة التشجيعية عام 1990.‏

‏(6)‏ بلغ الأمر بإلياس فركوح، حدّ تصدير رواية (غريق المرايا) بفهرس صارم مقسّم إلى عناوين فرعية، فضلًا عن إصراره على ‏وصف هذه الرواية بالكتاب، انظر ص5 و6. وبطبيعة الحال إصراره أيضًا على اختتام الرواية بقائمة للمصادر والمراجع.‏

‏(7)‏ جُمّد العمل بالأحكام العرفية في الأردن عام 1989، جرّاء العودة إلى الحياة الديمقراطية والسماح بإنشاء الأحزاب وضمان ‏حرية التعبير.‏

‏(8)‏ استخدم إلياس فركوح مسمّى (العاصمة) للدّلالة على (عمّان).‏

‏(9)‏ لمزيد من الاطلاع على مواصفات رواية النص، انظر للكاتب: الزمان،المكان، النص؛ اتجاهات في الرواية العربية المعاصرة ‏في الأردن، دار الينابيع بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، 1992.‏

‏(10)‏ ‏ انظر: رواية تيار الوعي، روبرت همفري، ترجمة: محمود الربيعي، ط1، المركز القومي للترجمة، 1995، ص34.‏

‏(11)‏ ‏ لم يُعد إلياس فركوح توظيف تقنية الهامش المائل في رواياته التالية، لكنه واظب على استخدام تقنية تغيير طباعة الخط في ‏المتن.‏

‏(12)‏ ‏ صدرت طبعتها الأولى عن دار أزمنة في عمّان، عام 1996.‏

‏(13)‏ ‏ أعمدة الغبار، ص1-17.‏

‏(14)‏ ‏ يتبنى الكاتب مصطلح (الرواية الكشكولية أو رواية الكشكول)، بديلًا عن مصطلح الرواية التجريبية أو الرواية الجديدة. مع ‏ضرورة استرعاء انتباه القارئ إلى أن المقصود بالكشكول هنا هو دفتر المنوّعات أو المختارات المتفرّقة وليس وعاء الفقير! ‏وعلى النحو الذي برز في كتاب (الكشكول) للإمام العاملي بأجزائه الثلاثة.‏

‏(15)‏ ‏ أعمدة الغبار، ص131.‏

‏(16)‏ ‏ أعمدة الغبار، ص98، ص293.‏

‏(17)‏ ‏ صدرت طبعتها الأولى عن الدار العربية للعلوم/ ناشرون، 2012.‏

‏(18)‏ غريق المرايا، ص111-119.‏

‏(19)‏ ‏ غريق المرايا، ص79-80.‏

‏(20)‏ غريق المرايا، ص171-173.‏

‏(21)‏ ‏ غريق المرايا، ص184.‏

‏(22)‏ ‏ أعمدة الغبار، ص91.‏

‏(23)‏ أرض اليمبوس، ص173-179.‏

‏(24)‏ ‏ أرض اليمبوس، ص174.‏