رواية "البحّار" لهاشم غرايبة:‏ سيرة الرَّمثا من "سنة الهربيد" إلى الرَّبيع العربيّ

 

عبدالله الزعبي

كاتب أردني

abd.zubi91@gmail.com

في رواية "البحّار"، وعبر لغة سلسة، قريبة إلى القلب، وبعيدة عن التكلُّف، يدمج هاشم ‏غرايبة الواقع بالسِّحر، والأحلام بالحياة اليوميّة، والعجائبي بالموضوعي، ويتتبَّع التاريخ ‏الاجتماعي في الأردن، ومدى اشتباكه مع الدول العربية المجاورة. والرواية إذْ تسلّط ‏الضوء على ملامح تطوُّر الشخصية الرئيسة فيها، فإنها تُمسك، في الوقت نفسه، خيوط ‏تطوُّر شكل الحياة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا في الرمثا بشكل خاص والأردن وما حوله ‏بشكل عام‎.‎

ربَّما عرف أغلبنا في الفترة الأخيرة عن "البحّارين" في الرَّمثا، وعن "البِحارة" بشكل ‏عام. فهي كما يورد الكاتب أحمد أبوخليل في مقال له(1) وخلال مقابلة تلفزيونية معه(2)، ‏تختلف عن التَّهريب. إنَّها نوع من التِّجارة غير الرَّسمية التي تنشط على المناطق الحدوديّة ‏بين دولتين أو أكثر، وتشكِّل مصدر رزق لِمَن يمارسونها بشكلٍ يوميّ‎.‎

‏"البِحارة" مُفردة أردنيّة محليّة أبدعها الرَّماثنة، وتمَّ نحتها بأسلوب يكاد ينطوي على ‏مفارقة واقعيّة هي أنَّ الأردن الذي لا يملك سوى مساحة قليلة على الشواطئ البحريّة، في ‏كل من خليج العقبة والبحر الميت، يستطيع بعض سكّانه أنْ يسبحوا على طريقتهم في البرّ ‏ذهابًا إلى سوريا وبالعكس. من هنا نستطيع أن نفهم عنوان رواية هاشم غرايبة "البحار"، ‏التي صدرت عام 2018 عن دار الأهلية للنشر‎.‎

الأحداث

تمثل رواية "البحّار" سيرة ذاتية للرمثاوي "سليم الناجي"، الذي يجمع بين خبرة الحياة من ‏جهة والثقافة من جهة أخرى. هذه الشخصية ليس غريبة على معجم هاشم غرايبة ‏الرِّوائي، فنحن نجد ما يماثلها في "محمد علي الجمّال"، الملقب بالشهبندر، في رواية ‏‏"الشهبندر" (2003). جرَّب "سليم الناجي" الفقر والغنى، بل إنه كان يتعثَّر خلال أعماله ‏الكثيرة التي تنقّل بينها، ثم يقوم على ساقيه من جديد. درس حتى الصف السادس ‏الابتدائي، ولمّا ترك المدرسة أصبح عازف شبّابة ودبّيكًا يتغنّى بمهارته أهل الرّمثا ‏قاطبة، إلى أن أمسكه أبوه ذات يوم من أذنيه وقال له: "الجيش يطلب جنودًا مستجدّين. ‏هيّا معي إلى معسكرات (خَوّ). الفنّ لا يُطعم خبزًا". فانضمَّ إلى سلاح الجوّ، وتزوَّج ‏‏"فاطمة برغل" عام 1956، وسكن في بيت أهله الذي يتكوَّن من قنطرتين: الداخليّة ‏للعريس وزوجه، والخارجيّة لأمه وأبيه. ثم بنى بيتًا طينيًّا مستقلًّا، وأنجب ابنتين وولدًا.‏

عندما ترمّج من الجيش، بدأ يكتب شعرًا فاشلًا. كان يمشي على "درب المهرّبين" ويقرأ ‏أشعاره لنفسه، فبدأت تتوطَّد علاقته بالبَحّارة إلى أن صبح بحّارًا، فأحد كبار البحارين، ثم ‏مهرِّبًا. "كنتُ أعيش الحيرة بين الشِّعر والثَّراء في تلك الفترة الملتبسة والانتقالية من ‏حياتي، حيث النقاء والفساد يتناوبان الحسم في داخلي. انتصر حلم الثراء".‏

بعد هزيمة حزيران لم يعد للتجارة سوق في الرمثا، وصار "سليم" عطّالًا بطّالًا، فانكبَّ ‏على الرّسم، ثم على وقع السؤال الأبدي "إذا لم تجد ثمن حذاء لابنك فما نفع الفن؟". قرر ‏أن يذهب إلى العمل في ألمانيا عام 1970، مثله في ذلك مثل كثيرين من أبناء الرمثا ‏الذي سافروا قبله إلى ألمانيا وكانوا يعودون بهدايا البشاكير الألمانية التي تجلل النساء بها ‏شعورهنّ، واصطلح على تسميتها "دقّ ألماني". أصبح خبيرًا في البث التلفزيوني بفضل ‏معهد البوليتكنيك الألماني، وعمل في القاعدة الأميركية هناك ومارس تجارة المخدرات ‏فيها، حتى اكتُشف أمره وطُرد، فرجع إلى الأردن وتنقل من العمل في البورصة، إلى ‏غسيل الأموال، إلى الترشُّح للبرلمان عام 1993 والفشل فيها، إلى نقل النفط من العراق، ‏إلى الإنتاج والتوزيع السينمائي. خلال أعماله هذه لم يتوقف عن التنقل والأسفار في بلدان ‏العالم، وكوّن علاقات مثيرة مع النساء؛ "بترا" و"سيكا" و"نورا"‏‎.‎

في صباح يوم تشريني ماطر من عام 2015 هاتفه حفيده "أحمد"، الذي ذهب ليدرس ‏الطب في قصر العيني بالقاهرة، وأخبره بانضمامه إلى "داعش" في الرقّة، وطلب منه أن ‏ينقل أمره إلى والديه بطريقة سلسة تخفِّف عنهما. حاول أن يثني حفيده عن ذلك، واتصل ‏بقياداته وحاورهم عبر قنوات اتصال خاصة بهم مثل تطبيق "ثريا"، ولم يفلح في هدفه‎.‎

هكذا إلى أن نجد أنفسنا في الصفحة الأولى من الرواية مع "سليم الناجي" وهو جالس على ‏رصيف "شارع الشعب" مقابل دائرة المخابرات العامة، وقد خرج منها للتوّ، متمنيًا أن ‏يرجع إلى زنزانته ويتابع كتابة سيرته الذاتية. فقد أعطاه المحقق ورقة وقلمًا، ثم قال: ‏‏"اكتب لنا كل ما تعرفه". ردّ "سليم": "عن ماذا أكتب؟". قال المحقق بعصبية: "اكتب من ‏يوم ولدتك أمك حتى الآن". "يا سلام، هاي سهلة"، وبدأ يكتب كل ما يجول في خاطره ‏من ذكريات ومغامرات شخصيّة سابقة‎.‎

سحر الأساطير

يدمج هاشم غرايبة الواقع بالسحر، والأحلام بالحياة اليومية، والعجائبي بالموضوعي. ‏نلتمس في عمله هذا استثمارًا لبعض الأساطير الشعبية في أربع حالات‎: 

لقّب "سليم الناجي" بـِ"المبدّل" لأنه وُلد "سباعيًّا"، أي بعد سبعة شهور من حمل أمِّه به. ‏‏"وجهك مبدّل"؛ هذه اللفظة التي نسمعها على شكل شتيمة من أمّهاتنا وجدّاتنا، لها جذر ‏شعبي. فقد كان من عادة الناس إذا وُلد لهم ابن غير مكتمل التكوين، أن يدَّعوا بأنَّ ‏العفاريت أخذت مولودهم وأعطتهم بديلًا مشوّهًا. عندها يلفّونه بكفن أبيض ويتركونه ‏طوال الليل في المقبرة بين الأموات. إذا وُجد حيًّا في الصباح استردّوه وأرضعته أمه من ‏ثديها، وإذا كان ميتًا فهذا يعني بأنَّ العفاريت ترفض المُبادلة‎.‎

وقد صدق ظنّ أهل الرمثا بأنَّ "سليم الناجي" (مبدّل) عندما تأخَّر في المشي. في مثل هذه ‏الحالة كانت الأم تستخدم "أسطورة الغربلة"، حيث تضع ابنها في غربال "وتغربله كما لو ‏أنه قمح"، وغالبًا ما كان يمشي بعد سبعة أيام‎.‎

لاحقًا عندما يبدأ الطفل بالنطق يسألونه: هل "تعقط" أم "تنطح"؟ فإذا أجاب أنه "ينطح"، ‏عنى ذلك أنَّ أخاه الذي سبقه سيموت، وإذا أجاب أنه "يعقط" لن تنجب أمه بعده أحدًا. لكن ‏‏"سليم الناجي" أجاب ما فهم منه أنه لا "يعقط" ولا "ينطح"، ومعنى ذلك أنه سيموت ‏قريبًا، لكنه لم يمُت. هذا يحيلني إلى أسطورة عايشتُها، وهي النظر إلى "الفتّول"، ذلك ‏المكان الذي يشبه الدوامة في منتصف الرأس. إذا كان "الفتول" يتجه مع عقارب الساعة، ‏فالمولود القادم ذكر، وإذا كان عكس عقارب الساعة فالقادم أنثى‎.‎

أمّا الأسطورة الأخيرة فتتحدث عن نبتة "تفاح المجانين". مَن يأكل منها يُصاب بالهلوسة ‏يومًا أو يومين. أكلت بنت من "الحارة الشمالية" واحدة من حبّاتها فهذت قليلًا، لكن الناس ‏ظلّوا يطلقون عليها "خولا الهبلا"، ويردِّدون ذلك على مسامعها، فانهبلت‎.‎

الموت الكامن في الأشباح

فيما كانت "أم سليم" مشغولة بفك حمل القشّ عن الناقة، و"سليم" معها يمسك لها الرسن، ‏جاءت "الشوحة" وخطفت طفلها الرضيع "نايف" الذي وضعته أسفل شجرة التين ريثما ‏تكمل عملها. لقد ظلَّ هذا المشهد يلاحق "سليم الناجي" طوال حياته، يظهر له في الواقع ‏والأحلام والخيالات. ففي عام 1970، خلال أحداث أيلول، خطفت "الشوحة" أمه بشظية ‏قنبلة أصابت صدرها، وخطفت أخته "ناجية" بحمّى النفاس بينما كان الناس مشغولين ‏بمتابعة حرب تشرين عام 1973، ثم خطفت زوجته "فاطمة" عام 2011. لقد كانت ‏‏"الشوحة" هي "عزرائيل"، فبدلًا من أن تخطف الدجاج السارح في الحواكير حول ‏البيوت، اختارت أن تُخرج الأرواح البشرية من أجسادها‎.‎

لم تكن "الشوحة" وحدها مَن يلاحق "سليم"، بل ظلَّ يظهر له، في أحلامه وأحلام يقظته ‏وخيالاته، مبنى هرمي ذو شرفات صغيرة وواجهة زجاجيّة واسعة. اعتقد مرَّة أنه ‏المستشفى الذي توفيت فيه زوجته، وبدا أنه شارع في حيّ الكرسي، ومبنى في حيّ الدقي ‏بالقاهرة، وواحدة من بنايات "حي النّمر" في الرمثا حيث سكنت أخته "ناجية" الطابق ‏الأرضي الذي ماتت فيه بحمّى النفاس، وفندقًا متواضعًا في "شلالات نياغارا" حيث ‏تعرَّف على "سيكا"، ونزلًا في منتجع "كارلو فيفاري" في تشيكيا حيث أقام علاقة عابرة ‏مع "نورا"، وفي مواضع كثيرة أخرى كان أوّلها عندما خرج من دائرة المخابرات العامة، ‏ومشى في شارع فرعي ضيِّق‎.‎

لربما يمثِّل المبنى سيرة "سليم الناجي"، وفي كل طابق منه جزء من ذاكرته والشخصيات ‏التي عرفها في حياته. خيوط حياته كلها في طوابقه هذه وكان يريد أن يجمعها في نول ‏واحد ويطرِّزها حبرًا على ورق، بكل ما فيها من حلاوة ومرارة، وأن يصنع منها "نظامًا ‏في وجه الفوضى". يمثل هذا المبنى، أيضًا، المكان الذي يجمع الجد بحفيده "المجاهد". ‏غير أنَّ "الشيخ همام"، أحد القيادات في "داعش"، لم يسمح بانعقاد هذا اللقاء، فقد ظهر ‏في أحد الأحلام على شكل "شمشون" يحمل حزامًا ناسفًا وهجم على المبنى بينما كان ‏‏"سليم" يجلس مع حفيده على باب مدخله الزجاجي الواسع. خطفته "الشوحة" قبل أن يتم ‏عمليّته الانتحارية هذه، طارت عاليًا فإذا بـ"شمشون" يمسك المبنى بيد والحزام الناسف ‏بيده الأخرى حاملًا الجميع معه إلى السماء. لقد كانت "الشوحة" في الحقيقة تأخذ الجد ‏والحفيد معًا وإلى الأبد، نحو الموت!‏

وقفة مع أبي بكر البغدادي

لدى الكاتب قدرة على تتبُّع التاريخ الاجتماعي في الأردن، ومدى اشتباكه مع الدول ‏العربية المجاورة، وكيف يمكن للأزمات العربية أن تؤثر على باقي الأقطار المتاخمة لها ‏بحكم وحدة الدم والمصير. فمن "سليم الناجي" إلى حفيده "أحمد"، نتلمّس الطريق برفق ‏في مسالك الرِّواية التي بين أيدينا وهي تسلّط الضوء على ملامح تطوُّر الشخصية الرئيسة ‏فيها، وعلى شكل الحياة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا في الرمثا بشكل خاص والأردن وما ‏حولها بشكل عام‎.‎

هنا نجد محاولات من الكاتب لعرض إحدى الزوايا التي تدفع بأبنائنا نحو التطرُّف ‏والانضمام إلى ما يسمى "الفصائل الجهادية" في سوريا وغيرها. فابن الطبقة الوسطى ‏الذي عاش حياة مرفّهة، ثم ذهب ليدرس الطب في جامعة القاهرة، بما يضفيه هذا ‏التخصص على صاحبه من قيمة ووجاهة في المجتمع الأردني، ترك كل هذا وانضمّ إلى ‏فصيل ديني مسلّح، لماذا؟ لأنَّ "الإناء الفارغ يسهل ملؤه" على حدّ تعبير الجدّ. هو الفراغ ‏الذي يعانيه مَن يتوفّر له كل شيء دون عناء أو جهد، وربّما هو الضعف المعرفي وقلّة ‏الخبرة التي يعاني منها هؤلاء، فتجدهم ينساقون وراء أولى التجارب التي لها بريق ‏وأجراس، أو يقدرون على الانقلاب الكلّي مرَّة واحدة نحو أشد الأمور تطرُّفًا ما داموا لا ‏يقفون على قاعدة فكرية وقيمية صلبة تحول بينهم وبين التخلي المفاجئ، أو التحوُّل ‏المباغت دون قيد أو شرط. ليس هناك تفسير واحد لذلك، وعلى الأرجح تجتمع عدة ‏أسباب في النفس البشرية الضعيفة فتدعوها إلى مثل هذا التغيير الجارف، هكذا بضربة ‏واحدة‎.‎

إذن لقد ركَّز الكاتب على إحدى الزوايا، أو إحدى الفئات فقط، لأن هناك من وجهة نظري ‏زوايا أخرى لم يعالجها أو يتطرَّق لها. إنَّ الفئة التي يوردها هاشم غرايبة لا تضم حالات ‏كبيرة، مقارنة بالفئة التي تضمّ المهمشين والمفقرين في القرى والمناطق النائية في ‏الأردن. هؤلاء يدعوهم لا وعيهم بالقهر الطبقي الذي يعانون منه إلى الإقبال نحو ‏الفصائل الدينيّة المسلحة، إلى ارتكاب الجرائم، والإدمان، والتسيُّد على الحيِّز المكاني الذي ‏يعيشون فيه بالبلطجة وزرع الخوف في النفوس على أقل تقدير. يهربون من واقعهم بأية ‏طريقة ممكنة. ليس لديهم ما يخسرونه، فما المانع أن يصبح أحدهم بطلًا وأن ينتمي إلى ‏فئة قوية تُعيد الاعتبار له ولدينه وأمته التي لا فرق فيها بين غني وفقير، وبين عربي ‏وأعجمي؟ إنَّ في حالتهم رفض لا واعٍ لما أدّى بهم إلى البحث عن ذواتهم في القتل، ‏رفض لهذا التفاوت الطبقي الذي يجعلهم يتسرّبون من مساحاته الواسعة دون عناء. القتل ‏وحده مَن استطاع أن يحتويهم، وأن يمدَّ لهم يده من تحت الطاولة قبل أن يقلبوها على ‏أنفسهم، وبعد أن يقبِّلوا اليد التي امتدَّت لهم "كيدٍ من خلال الموج مُدّت لغريق".‏

لكن في كل من الحالتين السابقتين تتحمَّل السلطة المسؤوليّة الكبرى، وقد ركّز "سليم ‏الناجي" على ذلك خلال مرافعاته أمام المحقق (104)، كما كتب في اعترافاته/ سيرته ‏الذاتية عن الفقر الذي يؤدي بصاحبه إلى الهرب بحثًا عن خلاص قد يكون في الجهاد، ‏فما الذي يُخرِج مَن ترعرع في بحبوحة من العيش؟ "أنا هربت من الفقر والمرض وغبار ‏البيادر إلى رغد العيش، من ماذا تهرب يا أحمد؟".‏

غير أنَّ كلامي هذا ليس نقدًا سلبيًّا للرواية بقدر ما هو وضع للأمور في نصابها، ذلك أنَّ ‏الكاتب كان واعيًا لصعوبة تضمين كل هذا في نص أدبي، ما دعاه إلّا التَّحديد الذي ‏وجدناه وأشرنا له سابقًا وكان محقًّا به. فهو لم يخصِّص جلّ روايته لتتبُّع قصة "أحمد" ‏الذي تحوَّل اسمه إلى "أبو قتادة الرمثاوي" في سوريا، وما تخلّل ذلك من معاناة جدِّه في ‏فقده حسب، لكنه جعلها تشتبك مع الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، كما عرَّجت على ‏تحوُّلات المكان الذي احتضن حكايات "سليم الناجي" ومغامراته، ولم تبتعد في الوقت ‏نفسه عن بعض المحطات السياسية المفصلية التي مرّت على الرمثا والأردن عمومًا، ‏حيث على رأسها إسقاط حلف بغداد وما مرّ به الأردن من مظاهرات واسعة الانتشار كان ‏أشرسها في مدينة الرمثا التي رفعت السقف عاليًا، وأقامت أصغر جمهورية في العالم، ‏وأقصرها عمرًا، بقيادة يوسف الهربيد(3).‏

بين المجتمع الأردني والسَّرد

هناك ذكاء في اجتراح بعض شخوص الرواية وإنْ كانت هامشيّة، أو لا تلعب دورًا ‏مركزيًّا في البناء الروائي، مثل شخصية "خولا الهبلا" و"مخشرم الوجه" و"أبو خشمين". ‏هذه ألقاب واقعية، ومن لبّ المجتمع الأردني، لكن التفات الكاتب لها، يعطيها بُعدًا جماليًّا، ‏ويشعر القارئ بالصدمة جراء مواجهته لمثل هذه الشخصيات في مجتمعه دون أن ينتبه ‏إلى الدَّور الذي يمكن لها أن تلعبه في الأدب. فعلى سبيل المثال، يرد التالي على لسان ‏‏"خولا الهبلا": "خالي سعيد كان يفرط زيتون. صلّى الظهر وبعد شويّ أذَّن العصر. رفع ‏راسه للميذنة زعلان: بعدين معك.. واق. واق. بِدْنا نفرط هالزيتونات". لقد ذكَّرني هذا ‏بما حدث حقيقة مع مزارع مُسنّ ينتمي إلى مَن نسمّيهم "ملّاكين أراضي" في جرش، ‏وهذه تعني أنَّ "الملّاك" لديه خمسون دونمًا وأكثر على سبيل التخمين. أحضر المُسنّ ‏عمالًا يساعدونه في قطف الزيتون، وكانوا عائلة من زوج وزوجة وأبناء. ما إن جاء ‏العصر حتى طردهم واستغنى عن عملهم من خلال اشتباكه مع الرجل الأب. سأله الناس: ‏لماذا فعلت ذلك مع الرجل؟. قال: "بصلّي الفجر، وبصلّي الظهر، وبصلّي العصر ‏وبصلّي المغرب!".‏

لا يعني هذا أنَّ "الختيار" -الذي يتَّسم بضيق نفسه وعصبيّته- جشع وطمّاع، فكل مِن ‏المالك والعامل أناس بسيطون، يقعون في طبقة الفقراء، إلا أنَّ هذا التقارب بين ما روته ‏‏"خولا الهبلا" وبين ما حدث في أرض الواقع يعطيك انطباعًا عن صدق النقل والتصوير. ‏فلا تحتاج حياتنا إلى أن نضيف بهاراتنا الشخصيّة عليها حتى يحقّ لها أن تدخل حيِّز ‏الأدب، بل أن نلتفت إلى العجيب فيها ونضعه كما هو بعد أن نجري عليه بعض التنضيد ‏والتنظيم. إننا في الحقيقة نعيش كما لو أننا أبطال في روايات. وهكذا إذن، يعجبك الكاتب ‏في استنطاق المكان الأردني، فهو يصول ويجول فيه طولًا وعرضًا براحة تامة، دون ‏تهويلات أو مبالغات، ويقدِّم ما نعيشه يومًا بيوم، ونحس به، ويكاد يغرس سيفه في ‏خواصرنا‎.‎

من ناحية أخرى، يلمِّح الكاتب إلى طبيعة الاقتصاد الإنتاجي الذي كانت عليه الأردن في ‏خمسينات وستينات القرن الماضي، خاصة في قطاع الزراعة، دون أن ينسى ذاكرة ‏الأعشاب البرية التي كانت دائمًا على أطباق مأكولاتنا من لوف وعكوب وحمّيض وعِلْت ‏وغيرها، تلك التي يقع قطفها ضمن مهمّات النساء. وهذا يحيلنا إلى دور المرأة الأردنية ‏في الإنتاج، والأثر الكبير الذي تُحدثه العلاقات الإنتاجية في الأدوار المجتمعية لها في كل ‏مكان. فالمرأة التي كانت تشارك جنبًا إلى جنب الرجل في العمل خارج البيت وداخله، ‏فيكون لها دور في حصاد القمح والرعي وجلب الماء من "العين" وتجميع الحطب اليابس ‏وحلب "الحلال"، إضافة إلى صناعة الخبز ومشتقات الحليب والطبخ وتربية الأبناء، هذه ‏المرأة كانت تتمتع باستقلالية وانفتاح على الآخر أكثر ممّا هي عليه الآن في المجتمعات ‏الريفية التي تمّ تحويل أبنائها من مزارعين لديهم اكتفاؤهم الذاتي إلى موظفين ينتظرون ‏الراتب نهاية كل شهر‎.‎

كلُّنا مِن "أصحاب الذَّوات"‏

لن تمرَّ الرواية دون أن يفهم المتلقي مدى التعقيد الذي ينطوي عليه الإنسان، ومقدار ‏الاختلاف الذي يحمله كل واحد منّا ويتمايز به عن الآخر. إنَّ النفس الواحدة على استعداد ‏لأن تنقلب بين عشية وضحاها من حال إلى حال آخر، وخلال رفّة جفن في بعض ‏الأحيان. لذا تجد الكاتب يسرد مرَّة على لسان "سليم النكد"، وأخرى يسمعنا صوت "سليم ‏الساخر" والثرثار والواقعي والأوّل والثاني والثالث، إلخ. في محاولة منه للنظر إلى ذات ‏الموضوع من عدّة زوايا، وفي إشارة إلى احتشاد الإنسان بالوجوه، وإلى تعدُّد النفس ‏البشرية الواحدة، وإلى مقدار التجارب التي مرّ بها "سليم الناجي" فبنت له بيتًا على نهر ‏من التناقضات‎.‎

فمن هذا التنافر يحصل التجاذب في ذات البطل، ومن الاختلاف يقع الائتلاف. إنها ‏‏(وحدة وصراع الأضداد) بين ذوات الفرد الواحد من جهة، وبينه وبين الآخرين من جهة ‏أخرى. ثم أكثر من ذلك، من الضياع في هذا العالم يتحقق الوجود. إنَّ الإنسان موجود في ‏التيه، مجرّد خرقة كانت على حبل غسيل ثم طارت ولن تحط على أرض بعد الآن. جاء ‏الطبيب وفصل الإنسان عن الحبل السرّي ثم أطلقه مثل طائر في الفضاء. وفي هذا نفهم ‏العكس تمامًا، فمن الرَّحم الواسع إلى الكون الضيِّق، من الحرية إلى القيد، ومن الشجرة ‏إلى القفص. يطير هكذا، فلا هو في الأرض ولا في السماء، كينونته وهويته في العيش ‏على قلق دائم من أنه لن يفهم شيئًا: "إنها الساعة الخامسة والعشرون، لا أحد يريد أن ‏يفهم". بل لا أحد يستطيع أن يفهم أبدًا.‏

من هذه القاعدة انشغل البطل خلال الرواية في كتابة سيرة حياته، وأطلق بعض الآراء ‏حول الكتابة وآلياتها، فقال إنه من خلال تجربته "خلق نظامًا في وجه الفوضى". تلك ‏الفوضى التي تؤشِّر نحو الحروب والقتل في زمن لا يعرف الإنسان فيه حقًا رأسه من ‏قدميه. لكنَّ الكاتب هنا صنع فوضى زمنيّة خلّاقة إذا صحَّ التَّعبير، فكان يتنقل بين ‏الحاضر والماضي كيفما اتفق، ولا يسير زمنيًا بشكل مستقيم نحو الأمام أو الخلف، خالطًا ‏في غضون ذلك الواقع مع الخيال، والوهم مع الحقيقة. بل إنه يخلط النظام مع الفوضى ‏على صعيدي الزمن والسرد، ويقدِّمها على طبق القارئ الذي عليه أن يأكل النص بعينيه‎.‎

خاتمة

لقد جاءت الرِّواية بلغة سلسة، قريبة إلى القلب، وبعيدة عن التكلُّف. لغة يتطاير منها ‏كالعادة سخرية لاذعة من المأزق الذي يعشيه الناس، ويتخللها استثمار موفَق للَّهجة ‏المحكيّة في الرمثا. لا تتوقف هذه اللغة، إلى جانب ذلك، عن تضمين الأمثال الشعبية، ‏وترديد بعض المفردات المحلية بصورة تندغم خلالها مع الفصحى، فلا يصحّ إذ ذاك ‏تخيُّل النص دون هذه الكلمات. كأن تتردَّد مفردات مثل "اللايذات" و"زنقيل" و"عرط" ‏و"بَل" التي تفيد التعجُّب، إضافة إلى تردُّد عبارة "يا سلام!" على لسان "سليم الناجي" ‏دائمًا. وفي روايات أخرى مثل "الشهبندر" (2003) و"جنة الشهبندر" (2016) تتردَّد ‏على لسان بعض الشخوص بشكل متكرِّر عبارات مثل "شلكوا بطولة السيرة" و"شو ‏يعني" وغيرها. بهذا الأسلوب، يجعلك الكاتب تعيش في الرمثا، وتتمشى بين حواريها ‏وأزقتها، بينما أنت هنا في مكان ما بعيدًا عنها، وتقلب صفحات الكتاب‎.‎

لقد جعلني الكاتب أتبنّى عبارة وردت في روايته، وظلّت تتردَّد مُلاحقة إيّاه مثل "الشوحة" ‏و"المبنى الهرمي": "يدي مضمومة على شلن موشوم بالدم". كلما أردت الكتابة تذكّرتُها ‏ورددتُها، فأحجمت. نعم إنَّ يدي مضمومة على شلن موشوم بالدم، مثلها في ذلك مثل ‏‏"سليم الناجي" في طفولته عندما ذهب ليحضر "باكيت دخان" لضيفهم العَمّاني من دكانة ‏‏"أبو خشمين"، فجعله خوفه يضيّع الشّلن حتى إذا بحثوا عنه وجدوه بين يديه‎.‎

رواية "البحّار"، حيث أقام هاشم غرايبة جمهورية الرمثا من جديد، وسخر في وجه ‏الحطام قائلًا: "أنا أعيش في عالم دنيء، ولكني حيّ ولا أخاف".‏

الهوامش:‏

‏1.‏ من هم "بحّارة" الرمثا ولماذا يحتجون؟

‏2.‏ أحمد أبو خليل ومحمد البشابشة-أحداث الرمثا-عين الحدث.‏

‏3.‏ ‏"الهر" يروي قصة "جمهورية الرمثا ونقل الحدود".‏