ربابة الشاعر

 

شعر: غازي الذيبة‏

شاعر أردني

 

 

بيدين ناحلتين، يجرُّ ربابته الذاهبة إلى مطر نائم في غيمة اليباب

يبكي، ينشُج، حِدة المُترقب سَهوه وقوس أنينه تحت صخرة المُرتقى

لا أنفاس، ولا عبدالله الصَّغير هناك

تركض الأرانب‎ ‎

البرُّ يشتعل

الخرافة ترتدي حزامها الناسف، وتغفو في العفونة.‏

‎..‎

دمٌ وأنين تجرُّه الذئاب إلى السفن الصَّدئة في مرافئ العدم

دمٌ وعدم يتراكض في حدائق الموتى‎ ‎

أخيلةٌ ومهاميز؛ تَخِز ظهر الحصان الهارب من أطواق الموت‎ ‎

يا لحديقة الجد وهي تنهرنا حين نقطف وردة، ونهشّم بتلاتها بانتظار رعاة الأزل‎ ‎

يا لصوته المترنِّح تحت حنين الرَّبابة، حين تتقافز ذئاب العائلة وتتدحرج على الأدراج، ‏مبتهجة بمسامير أقدامها الكسيحة

‏..‏

ظلالٌ ميتة وأسافين منخورة، تتكدَّس في خزائن تترصَّد أصابع نسوة ملاجئ الحروب‎ ‎

ألم مرتبك تَصُرُّ أبوابه، فينطفئ الجرح

تندمل لوعة العدّاء في سهوب المرارة

ألم ومرارة تقصفهما غربة الكِناية

فيا للقذلة الغريبة، ترتدّ كضلِّيل ينهر الغبار في بهو أوهامه

دم الشاعر بربابته، يتعتَّق أمام أنشودة الفارس الثمل

دم الرَّبابة المشدوهة تحت صفنته متألمًا ويقول‎:‎

مَرّوا عليّ كأنّهم شجر

أحلامهم وهمٌ ونبيذهم أثر

رسموا على سفح الرُّؤى حلمًا

لكنه لم يبق يا شجر

قطعوا الدروب قوافلًا

عمياء قاتل جوعها السَّفر

يا ليتهم لمّا أتوا من غابة

مكسورة أغصانها انتظروا

يا ليتهم جلسوا على دِعة

وتناولوا الأيام وانهمروا

يا ليتهم؛ يا ليت ما مرّوا

ولا حفروا بئرًا ولا انكسروا

مرّوا، وكان رغيفهم من‎ ‎

غفلة يَسْتافها الكَدر

مرّوا وما مرّت بهم

أرواح مَن مرّوا وما عبروا

مرّوا وكان مرورهم

مجنونةٌ؛ من صمتها ذعروا

قلنا لهم، لا تذهبوا طَمعًا

فالدَّهر يُذهبُ كل مَن أَمروا

روقوا على وقع الهوا روقوا‎ ‎

يا مَن ضياكم وجهه قمر

مُرّوا وبي شغف لرؤيتكم

يحتاط من إغضاب مَن غبروا

هذي النوايا أربكت رَحْلا

يصغي وكلّ لهاثه عجر

مُرّوا لأكتب سفر آخرة‎ ‎

في ليلها روَي يمامًا قلبه ثمر.‏‎ ‎

‎**‎

اعتدت أن أرتجل اسمي، نَزفة تهتف لي. رشفة نبيذ عارمة، تتكدَّر حين يألفني الضَّجر. ‏فأسبح في غنائمها المكدودة، وألهث: يا طرقات خذيني من يدي المقطوعة، أبكي على ‏اليتامى المفجوعين لغياب أحلامهم في دوارق اللّعنة‎ ‎

يا طرقات‎.. ‎

يا هفوة المحزون بركضه الناتئ وأصابعه الحجريّة

يا أمّنا المديدة كظهر محدودب في سهو الخراب

يا لعنة مشدودة الأعصاب في مهاوي الجنّ

خذينا لنعتق المساء من ألمه، والغبار من تكدّسه، والأصوات من نشازها، والأوهام من ‏الحقيقة

سنفرُك أرواحنا بالملح والخرافة، لننهض في مقتبل الرَمادة‎.‎

هناك، في مدن الغباء، سترتدي آخر أرواحنا المهشّمة أسمال الصَّقيع، ونذبح الأغاني ‏بالشُّرود في مشارق الغروب

فلا الرَّبابة ولا الشاعر ينامان، فقط يهذيان بمرارة الغريب‎:‎

شاخت ملامحهم وناموا

لم يحملوا مطرًا، فهاموا‎ ‎

لم يسمعوا بحر الكلام

وقاتلُ الكلمات سيَده الكلام

يا ذاهبين إلى السَّراب تنعَّموا‎ ‎

بسرابكم، وبه تعاموا‎ ‎

نسجوا على ثوب الصدى

أرقًا؛ فاغتم نولهمُ وغاموا

وترصدَتهم سلحفاة المجد

فرّت في ظلالهم الهوام‎ ‎

يا مُشرقين ومترعين بغيِّكم؛‎ ‎

الليلُ موعده الضّرام

فكّوا مرابط خليكم وتَبلّدوا

صارت مرابطكم رُغام‎.‎

‎**‎

شقَّه الليل، شقَّ ربابته، مِزقُ أعلام تهوي، قال الرواي، يا سادة، اشربوا قهوتكم العليلة ‏فارتطمت الفناجين المروعة بالخبب، سقطت بحور الشاعر في تشبُّثه، مُرًّا كان، مُرًّا ‏مسحونًا بالهيل، غفلته معزوفة حجرية للأطلال، وكلماته ناقوس شققه الشماس بالرنين‎.‎

شقّه الأسى، نزف حتى تصدّعت القباب، وهَرّت متاريس الرمل المبعوجة بحراب الغزاة

كأنَّ الرمل مكسو بالنسيان

كأنَّ الصليات المريضة في مرابض العدو لم تسعفه ليقول قصيدته الضجرة‎ ‎

كأنَّ ذئابه ذاهبة للحرب وحدها‎ ‎

تُطوق ظلالها بالمراقي وأحلام المنتصرين الوقحة

كأنَّ آياته الناشفة وسط رمال الصحارى، تتلوّى تحت قصف النهاية

لم يمسح وتر ربابته بالهذيان.. ترك صندوقها المجنون بالأصوات الجريحة‎ ‎

وألقى رأسه على مِخدّة الصَّدى لينام‎.‎

ـــــــــــــــ

من مخطوطة كتاب: صندوق السَّحرة.‏