سوسيولوجيا الثقافة.. والرَّأي العام حركة الثقافة.. وحركة المجتمع

‏ د. سالم ساري ‏

أكاديمي أردني

 

 

إنَّ التغيير الاجتماعي والتنمية الإنسانيّة تتحدَّدان اليوم بمحدِّدات ثقافيّة قيميّة معياريّة، ‏تغذيهما ثقافة مجتمعيّة متكاملة، ويتغذّى منهما في الوقت ذاتِه نوعان حاسمان متكاملان ‏من الثقافة المدنيّة الحديثة؛ النَّوع الأوَّل: ثقافة ناضجة للديمقراطيّة، والنَّوع الثاني: ثقافة ‏عقلانيّة للاتِّصال/ التَّواصل الاجتماعي. وهذا بالضَّبط هو ما يحتاجه اليوم المجتمع ‏العربي والإنسان العربي في حركتِه الثقافيّة المجتمعيّة، وحركة رأيِه العام.‏

 

‏"...مفهوم الثقافة "محيط" للغاية.. لدرجة أنه يمكن النَّظر إليه بسهولة على ‏اعتبار أنه المستوى الأمثل للتحليل- أليس كل شيء "ثقافيًّا" في النهاية"؟!‏

‏ جون توملينسون، (العولمة والثقافة،2008، ص30)‏

 

تُحرِّكُ الثقافة المجتمعيّة الكبرى، بعمق وتأثير، مطالبَ الترتيبات الاجتماعيّة،‎ ‎والتسويات ‏السياسيّة،‎ ‎والتشكيلات الاقتصاديّة الكبرى. والثقافة نفسها هي إحدى المحرِّكات الكبرى ‏للتَّهديد والصِّراع لأفراد المجتمع وجماعاته ونُظُمه وتنظيماته المختلفة. وهي نفسها إحدى ‏الآليّات الكبرى لحلّ التوترات والصراعات، ومواجهة المخاطر والتهديدات، في الوقت ‏ذاته!‏

مهمّة هذا المقال هي محاولة تحليليّة (سريعة) لتتبُّع حركة الثقافة وإشكاليّاتها المتغيِّرة في ‏العلم الاجتماعي، ومتابعة حركة الرأي العام المطابقة لها، بما يرافقهما من سياسات ‏واستراتيجيات ومدارات، في لحظات الاكتشاف، وإعادة الاكتشاف!‏

ولكن، ما هي الثقافة؟ ومن أين لها هذه القوة التأثيرية الحاسمة، عندنا وفي كل الدول ‏والمجتمعات؟ ثم بالمقابل، ما هو الرأي العام؟ ما هي القوى التي تعمل على تكوينه ‏وتشكيله وتحريكه عندنا، تفعيلًا أو تعطيلًا؟؟

يشير مفهوم "الثقافة" إلى نسق كلي معقَّد، متداخل الأجزاء والوظائف، يشتمل على ‏مجموعة مترابطة من المعتقدات والأيديولوجيّات، المعارف والخبرات، الآداب والفنون، ‏السُّنن والأعراف، النُّظم والتنظيمات، القوانين والأخلاقيات، العادات والتقاليد والشعبيات، ‏التي تشكِّل مركّبات مجتمعيّة ذاتيّة قيميّة معياريّة. في مجتمع معيَّن، ومحدَّد الهويّة. ‏والثقافة بهذا التعريف تختلف عن "الحضارة" التي تشتمل على مناهج العلوم ونتائجها ‏النظم العلمية والتطبيقات العملية، الاكتشافات والاختراعات، الآلات والأدوات والتقنيات، ‏التي تشكل جميعًا إنجازات متماسكة وإسهامات عالميّة موضوعية (سالم ساري، ثقافة ‏التنمية..، 2014). وما هو ملائم، عمليًا، للتحليل، معاينة مفهوم الثقافة، باعتباره وحدة ‏متكاملة من ثلاثة مجالات معرفيّة مترابطة متشابكة متساندة، بعيدًا عن الفصل والعزل: ‏

الثقافة كأفكار وإنتاجات وإبداعات إنسانية.‏

الثقافة كأفعال وممارسات وموجِّهات قيميّة ونمط حياة مجتمعي.‏

الثقافة كنظام/ تنظيم مؤسسي، ونمط حياة مجتمعي عام مميَّز. ‏

والمقصود بالثقافة هنا "الثقافة المجتمعية" وهي: ثقافة المجتمع الكلي الكبير، أو ثقافة ‏المجتمعات العربية التي حملتها متراكمة عبر مسيرتها الطويلة، وهي نفسها الثقافة التي ما ‏زالت تحرِّكها اليوم، في شتى اتجاهاتها وتوجهاتها- ولو بإضافات عصريّة مستجدَّة.‏

ويشير مفهوم الرأي العام إلى حركة المجتمع، بمجمله، بأنواع من التعبير الجمعي، البارز ‏أو الكامن، تأييدًا أو معارضةً، إقبالًا أو إحجامًا، نحو ظاهرة أو قضية/ موقف معيّن، تهمّ ‏غالبيّته العظمى، في فترة زمنيّة معيّنة.‏

الثقافة المجتمعيّة الكليّة/ العامة هي التي تصنع الرأي العام الكلّي في مجتمعنا ‏الأردني (العربي، التعدُّدي) المتجانس نسبيًّا، الذي يشترك أفراده في مجموعة من القواسم ‏‏(التاريخيّة) المشتركة من اللغة والقيم والمعايير، ويتقاسمون جملة من المُثل والمبادئ، ‏والأخلاقيات، ويعيشون جملة واحدة من الهموم والاهتمامات والتطلّعات.‏

لاحظ حركة الرأي العام الأردني الواحد، مثلًا نحو: قضية فلسطين، الوحدة الوطنية، ‏التوقيع والتطبيع مع كيان الاحتلال، إجراءات الإقفال والمنْع والحظْر، تغيير وتطوير ‏مناهج التعليم، ارتفاع الضرائب والفساد، التعلم عن بُعد..إلخ، ثم لاحظ التغايرات ‏والاختلافات والتنويعات للآراء الموحَّدة، حول القضايا الكبرى نفسها، التي تشترك فيها ‏المجموعات الطبقيّة والشرائحيّة والمهنيّة (ثقافة الأغنياء وثقافة الفقراء، ثقافة النساء ‏وثقافة الرجال، ثقافة الكبار وثقافة الشباب، ثقافة النّخبة وثقافة الناس العاديين، ثقافة ‏رجال المال والأعمال، وثقافة الصحفيين والمحامين...إلخ).‏

 

الثقافة والأنثروبولوجيا ‏

دلَّلَت الأنثروبولوجيا عمليًّا على أنَّ الثقافة هي عشقها الأول. جذرها الأشدّ رسوخًا، ‏ومصدرها الأكثر ثراءً. ودلَّلت الثقافة أنَّها الأكثر وفاءً للمربط الأنثروبولوجي، والأكثر ‏احتفاظًا برائحة المكان، والأشدّ حنينًا للعودة إليه! ‏

والأنثروبولوجيا بضاعة غربيّة مبكرة بامتياز. وموضوعها ثقافي مستمرّ، بقوّة وتأثير. ‏وإنْ كانت البيولوجيا سابقة على الأنثروبولوجيا في حقبة التأسيس، فإنَّ الأنثروبولوجيين ‏قد تجاهلوا مزاعم البيولوجيين بإصرار، وتجاوزوها بنجاح. فمن واقع اكتشافاتهم ‏الميدانية، استطاع الأنثروبولوجيون، بثقة متزايدة، تأكيد الحقيقة العلمية الاجتماعية ‏الإنسانية الجديدة: أنَّ الأنثروبولوجيا، وليس البيولوجيا، بالقدر نفسه، هي التي تصنع ‏الفرق الكبير في التفسير الثقافي لحقائق المجتمعات الإنسانية- نشأةً وتطورًا، عمقًا ‏وتأثيرًا. وتذهب هذه الرؤية الثقافية الميدانية إلى أنَّ الاكتساب الثقافي المختلف المتطوِّر ‏بالتراكم، وليس التكوين البيولوجي الموروث الثابت بالتكوين، هو الذي يقف وراء ‏الاختلاف والتَّمايز الإنساني والمجتمعي. فليس هناك "جينات" ثقافيّة يمكن أن يرثها ‏الإنسان والمجتمع. وإنَّما هناك "سمات" ثقافيّة مميّزة تطبع المجتمعات الإنسانية بطابعها ‏المختلف (سالم ساري، ثقافة التنمية، 2014).‏

أسهمت الأنثروبولوجيا في تقديم مفاهيم ثقافيّة أصيلة حملتها من دراساتها وأبحاثها ‏واكتشافاتها في المجتمعات غير الغربيّة التي أقامت بها طويلًا (آسيا وأفريقيا وأستراليا ‏وأميركا اللاتينية) إلى مواطنها الغربية (البريطانية والأميركية والفرنسية). كما أسهمت ‏في تأسيس نظريات ومناهج (ثقافيّة) ممتدّة إلى علوم الاجتماع والسياسة والتنمية. ‏

لم تبرح الأنثروبولوجيا الثقافية العلوم الاجتماعية إلا بعد أن زرعت في هذه العلوم مفاهيم ‏ونظرية ومنهجًا مطابقًا- لتسود العلم الاجتماعي، بمداخل متباينة: ‏

نظريّة الوظيفيّة- البنائيّة، باعتبارها أعظم ما اكتشفه المحافظون مبكرًا لأنفسهم. بما ‏تمنحه لهم من قوَّة وشرعيّة في المنطلقات والتوجُّهات، ومن دعم وتبرير للسياسات ‏والممارسات. فهي النظرية المبكرة التي تؤسِّس للساسة والمربين وحرّاس الأخلاق ‏المجتمعية الحقَّ في التحدُّث باسم المجتمع ونيابة عن أفراده، بترسيخها للمبادئ والمفاهيم ‏والخطوط الأخلاقية العامة، والدِّفاع بشراسة عن القانون والنظام، وتأبيد الوضع القائم! ‏ومن أهمّها: أولويّة المجتمع على أفراده، حفظ مقوّمات استقرار المجتمع واستمراره، ‏الالتزام بالضوابط واحترام ترتيبات القانون والنظام، العمل للمصلحة العامة والخير العام، ‏الإجماع المجتمعي والأخلاق! ثم الضغوط على الأفراد للتكيُّف مع معطيات المجتمع ‏وترتيباته القانونية والأخلاقية، والانصياع لثوابت الثقافة المجتمعية التي يعوّل عليها ‏باعتبارها الحاملة التقليدية الثابتة لهذه المبادئ والاتِّجاهات والتوجُّهات- مهما كانت ‏متصلّبة متجمّدة، رافضة للتغيير! ‏

منهج الملاحظة بالمعايشة، أكثر طرق البحث التصاقًا بموضوع الدراسة، وغزارة في ‏حصيلة البيانات وكثافة المعلومات وثراء النتائج! تعاظمت الوظيفية البنائية وانتشرت ‏وعمَّت لتكون، إلى اليوم، وكأنَّها النظريّة (الرسميّة) المقبولة، الأكثر ملاءمة في الوصف ‏والتبرير، والأكثر اقتباسًا في البحث والتدريس، على أيدي المشتغلين في العلوم ‏الاجتماعيّة. ‏

 

الثقافة والسوسيولوجيا

أظهرت السوسيولوجيا أنَّها الأكثر حاجة لحضور الشقيق الأنثروبولوجي الأكبر، والأكثر ‏ميلًا للاعتذار منه، والأشد رغبة للتصالح معه. وأظهرت الانثروبولوجيا أنها لا تقلّ ‏اشتياقًا للشقيق بعد خصام، والأشد ميلًا للتسامح معه بعد جفاء، والأكثر اعترافًا بأنَّ ما ‏بينهما من قواسم الوصل والتقارب أكبر وأعمق من كراهيات الفرقة والتباعد.!! ‏

فمنذ العقود الأولى من القرن العشرين، وعلماء الاجتماع الأميركيين، وبتأثير من مدرسة ‏شيكاغو الآيكولوجية، بصورة واضحة، يُبدون حساسيّة متعاظمة تجاه البُعد الثقافي، في ‏التفسير والتحليل والفهم السوسيولوجي.‏

‏ بدا واضحًا في التعامل مع المشكلات الاجتماعية الكبرى الضاغطة، أنَّ الآخر الوافد إلى ‏المكان نفسه، ليس إلّا "آخر ثقافي"، وأنَّ حضوره في المكان نفسه، ليس إلا حضورًا ‏ثقافيًّا أيضًا- تهيمن فيه الثقافة بعمق على مشهد العلاقات والتفاعلات والمشكلات ‏المتأزِّمة جميعًا.‏

وبرز للتعريف والتحليل والتفسير الثقافي الأميركي نوعان (عمليّان) من الثقافة:‏

الثقافة الكليّة: ‏‎ Over-all Cultureللإشارة إلى الثقافة الأميركية العامة (السويّة، ‏الأصلية النقية، المستقرة، المنجزة).‏

الثقافات الفرعيّة ‏Sub-Culture‏: للإشارة إلى الثقافات الوافدة لمجموعات هائلة من ‏الإثنيات (المنحرفة، المفككة، القلقة).‏

فعلى الرّغم من أنَّ "روبرت ميرتون" من المؤسسين المحافظين للنظرية الوظيفية- ‏البنائية، فقد اندفع (بنبرة ليبرالية واضحة) إلى تحليل أكثر عمقًا للبناء الثقافي الأميركي. ‏وجادل أنَّ الثقافة الأميركية (الرأسمالية) المعاصرة هي المصدر العريض للجريمة ‏والانحراف والمشكلات الاجتماعية. إنَّها ثقافة لا معياريّة. يقع في صلبها تناقض بنائي ‏راسخ بين تركيزها الكلّي على أهداف ثقافيّة عريضة (ماديّة مفتوحة) وحجبها المتعمّد ‏التركيز على الوسائل المؤسسية (المقيّدة بشدة). ودفعه تحليله المتطوِّر لاكتشاف أنَّ ‏الثقافة الأميركية تتآمر على أفرادها لإيقاعهم "في الفخ الثقافي". ‏

 

‏- أمَّا "ماركس"، فقد تعامل مع الثقافة باعتبارها جزءًا مكمّلًا من مكوّنات "البناء الفوقي"، ‏تابعة متأثرة، وليست مستقلّة التشكيل والتأثير في أيّ مجتمع. ويرى أنَّ الثقافة لا تقوى ‏على الحركة إلّا بقوة حركة الاقتصاد- القاعدة المادية الصلبة لأي نظام اقتصادي ‏اجتماعي سياسي. وليست الأشكال الثقافية المختلفة إلّا مواد ديكوريّة تجمليّة هشّة، ‏لتزيين الواقع الرأسمالي القائم، وتسويغ ممارسات أصحابه، وتكييف الناس لقبوله ‏واستمراء العيش به! وكل الأشكال الثقافية موجَّهة كليّةً لتغييب الوعي الطبقي الكلي، ‏وتغريب العمّال، وتشويه العلاقات الاجتماعية السياسية، في المجتمع الرأسمالي. ‏فمجموعة المعتقدات والقيم والأفكار ووسائل الإعلام والدعاية والاتصال، والكتب ‏والمطبوعات، وحتى الفنون والموسيقى..إلخ ليست إلا إنتاجات رأسماليّة ربحيّة مصنّعة، ‏وليست موجَّهة لتنمية الإنسان والمجتمع، وإنَّما لاستغلال العمّال والفقراء ولتقديس عبادة ‏الامتلاك والاستهلاك. ومن هذا؛ الإيمان بحتميّة مساوئ النظام الرأسمالي من طبقيّة وظلم ‏وجشع واستغلال. يرى "ماركس" (ورفيقه إنجلز) بوضوح أنَّ "الهبوط في قيمة عالم ‏الإنسان.. يزداد بعلاقة مباشرة مع ازدياد قيمة عالم الأشياء"!‏

 

‏- وأمّا معاصره ومواطنه الألماني "فيبر"، فقد أخذ الثقافة المجتمعيّة مأخذًا جديًّا، منذ ‏البداية. يذهب "فيبر" في نظريّته الثقافية إلى أنَّ للثقافة المجتمعيّة القوّة الكليّة المستقلّة ‏في الحركة. كما أنَّ لها القدرة الذاتية على التغيير والتأثير. وعلى الرّغم من أنَّ الثقافة قوّة ‏ليّنة ناعمة، فإنَّ الاقتصاد القاعدي الصلب لا يتحرك إلا بحركتها، ولا يتوجّه إلا ‏بتوجيهاتها، ولا يتنمّط إلا بنمطها المتطوِّر. إنها الثقافة، قبل أي شيء آخر وفوق أي شيء ‏سواها، هي التي تجعل للحياة معنى، وهي التي تعطي للمجتمع لونه وطعمه ونمط فعله ‏الاجتماعي السائد. فمع ظهور البروتستانتيّة وتطوُّرها، كمذهب ديني في بعض بلدان ‏أوروبا الغربية وأميركا الشمالية مثلًا، ظهرت وتطوّرت الرأسمالية فيها كنظام اقتصادي ‏اجتماعي، بصورة مطابقة.‏

 

‏- ومنذ عشرينات القرن العشرين، امتدَّت ثقافية "فيبر" إلى الجانب الأميركي، وتبلورت ‏على أيدي "جورج هربرت ميد" بنظرية التفاعلية الرمزية. تعطي هذه النظرية ‏السوسيولوجيّة أهمية خاصة للمركّبات الثقافية الأساسية: اللغة، الرموز والمعاني، ‏والدلالات- وبهذه المركّبات، تنتظم الحياة الاجتماعية. وتذهب إلى أنّ الفرد يطوِّر، بتفاعله ‏الاجتماعي، وعيًا، يصبح به قادرًا على التفكير والإدراك، ويستوعب توجيهات ثقافية ‏مجتمعية، يستطيع بها صنع القرارات، وحل المشكلات. أمّا المجتمع فإنه يُخلق خلقًا في ‏عقول أفراده وتصوُّراتهم، ويُعاد خلقه من جديد، برؤاهم وتعريفاتهم وتفسيراتهم لواقعهم ‏الاجتماعي الثقافي، وإعادة تعريفه وتفسيره باستمرار، وبتوجيه ثقافي تفاعلي كبير، ‏تقترح هذه النظرية لدارسي علم الاجتماع وباحثيه، حقيقتين:‏

تذهب الحقيقة الأولى: إلى أنَّ الوقائع والأحداث والظواهر المجتمعية (الخارجية) ليست ‏هي الحقائق الصلبة لعلم الاجتماع. وإنَّما هي الصور والتصوُّرات، والقيم والاعتقادات ‏‏(الداخليّة) في عقول الأفراد. فالمهم، حقيقةً، هو معرفة ما يملأ رؤوس الناس عن الناس- ‏حقيقةً أو خيالًا!‏

وتذهب الحقيقة الثانية إلى أنَّه ما دامت حقائق علم الاجتماع ليست أشياء صلبة بارزة، ‏وإنَّما لينة قائمة ماثلة في ذهن الفاعلين الاجتماعيين، فإن على الباحث الابتعاد عن البحث ‏في السطح، وأن يتَّجه، بدلًا من ذلك (أو بالبحث بصورة موازية على الأقل) إلى الحفر ‏عميقًا في حقائق العالم الاجتماعي الثقافي الإنساني التي تتحدَّد بالرموز والمعاني ‏والدلالات. وأنَّ البحث المناسب في علم الاجتماع ليس هو البحث الكمّي الذي ينشغل في ‏الأرقام والإحصاءات والقياسات. وإنّما هو البحث (الثقافي) النّوعي الذي يُعنى ببحث ‏السلوك والأفعال والأقوال، الآراء والاتجاهات والعلاقات، المشحونة بالقيم والرموز ‏والمعاني والدلالات(ساري وعثمان: نظريّات في علم الاجتماع، 2009).‏

كما برز في علم الاجتماع (مؤخَّرًا نسبيًّا) مفهومان متقابلان للثقافة:‏

 

‏"ثقافة النخبة"/ "الصفوة".. و"الثقافة الشعبيّة"/ "الجماهيريّة"‏

يُستخدم مفهوم "ثقافة النخبة" للإشارة إلى ثقافة الصفوة من الأغنياء والأرستقراطيين ‏والمحظوظين، وثقافة التكنوقراط من كبار السياسيين والاقتصاديين والخبراء المهنيين ‏والفنيين والإداريين.. ‏

ويشير مفهوم "الثقافة الشعبيّة" إلى ثقافة السواد الأعظم من الناس العاديين والفقراء ‏والعمال والفلاحين والمستضعفين؛ من الاعتقادات والإنتاجات والفعاليات العريضة لعامة ‏الناس في المجتمع من فقراء وعمال وفلاحين ومستضعفين. وكما أنَّ مفهوم الشعب لم ‏يعترِه الوصم والتشويه في الثقافة العربية.‏

وكثيرًا ما يَستخدم بعض النقاد،، مفهومًا مرادفًا أو بديلًا للثقافة الشعبية هو مفهوم "الثقافة ‏الجماهيرية" للإشارة إلى ثقافة مصنّعة، لإشاعة معارف عامة تمضي دون تمحيص، ‏وميول واتِّجاهات رائجة تخدم أغراض شركات الإنتاج ومتطلّبات السوق أكثر ممّا تخدم ‏الجماهير.‏

وقد طال الثقافة الشعبية في المجتمع الرأسمالي الطبقي كثير من التبخيس والتجاهل ‏والتهميش. بينما طال الثقافة الجماهيرية كثير من التعبئة والتضليل والتشويه.‏

وكثيرًا ما يأتي التبخيس للثقافة الشعبية العربية من ثقافة النخبة العربية. مع أنَّ ثقافة ‏النخبة الراهنة، كالنخبة نفسها، استعلائيّة، هجينة ومغشوشة في أيّ مجتمع عربي حديث، ‏فالمثقف النخبوي عندنا ليس له من وصفه نصيب، إلا أسوأه!! فهو مصنّع رسميًّا، ومهيّأ ‏فكريًّا، ليمارس ما تمَّ إعداده له في خدمة النظام القائم، من دوْر ووظيفة. وهذا النوع ‏الثقافي بعيدٌ تمامًا، شكلًا ومضمونًا، عن ما سمّاه "غرامشي" بماركسيّة تأسيسيّة صلبة؛ ‏‏"المثقف العضوي": المثقف النقدي الذي يأتي من رحم مجتمعه، مرتبطًا عضويًّا بطبقته، ‏ملتزمًا -علمًا ومعرفة، نظرية وممارسة- بتحرير فكرها من رواسب الأيديولوجيّات ‏البائسة.‏

وتنصبُّ أفكارمؤسسي مدرسة فرانكفورت النقدية، ذوي الأصول الماركسية، على ‏تشريح البناءات والمكوّنات، ونقد الاتِّجاهات والتوجُّهات، للمجتمعات الرأسمالية الغربيّة ‏الصناعية، وتمتدّ من نقد تأثيرات الثقافة والإعلام، إلى تشوُّهات الحياة الاجتماعية ‏الاقتصادية السياسة، ونمط العلاقات والتفاعلات والتعاملات الرأسمالية.‏

ولكنَّ النقد المكثَّف للمدرسة كان نقدًا ثقافيًّا متماسكًا: منصبًّا على عمليّات وآليّات إنتاج ‏المعرفة والسلطة والثقافة كسلعة تجارية ربحيّة مصنَّعة في المجتمع (الرأسمالي) ‏الصناعي، موجَّهة للسيطرة والرقابة وتغييب الوعي، والخداع والتضليل. وتعمل لتشييء ‏وتعليب وتكييف الإنسان المعاصر. وهي نفسها، بالضبط، عمليات وآليات إعادة إنتاج ‏النظام الرأسمالي ثقافيًّا.‏

ويذهب النَّقد إلى أنَّ وسائل الإعلام هي التي تقوم بتشكيل الرأي العام في المجتمعات ‏الرأسمالية، وفق أيديولوجيّة السوق التجاري الاستهلاكي، ولا تقوم هذه الوسائط ‏الاتصالية بتصوير الواقع الحيّ القائم، بحيادية ونزاهة فعلية، أو نقل الحاجات والمشكلات ‏والاهتمامات الحقيقية للجماهير، وإنَّما تقوم بخلق واقع مصنوع، بحرفيّة مهنيّة تقنيّة ‏ماهرة، لخدمة الأغراض الخاصة لمالكيها، وتحقيق أعلى ربح ممكن في السوق الثقافي ‏الاقتصادي. ‏

ويمكن ملاحظة أنَّ التأثير الثقافي السياسي لأفكار مدرسة فرانكفورت النقدية قد بلغ ‏الذروة في فترة أواخر الستينات بالذات، بتفاقم أزمات المجتمعات الغربيّة ومشكلاتها ‏وتحدِّياتها، وازدياد الوعي الاجتماعي فيها، ممتدًّا من ألمانيا، عبر فرنسا، إلى أميركا. ‏وتجلّى هذا التأثير في ما عُرف بـِ"ثورة الشباب الغربي"، الملهمة بالأفكار النقدية ‏لـِ"ماركوز"، أحد أقطاب المدرسة المؤثرين، في كتابِه الثوري الشهير "الإنسان ذو البُعد ‏الواحد"، فتحرَّكت ثورتهم غاضبة ناقمة على مجتمعاتهم الصناعية، وأقدمت، بتصميم ‏وشراسة، على إحراق شوارع باريس 1968- أحد رموز البرجوازية الرأسماليّة ‏الصارخة!!‏

وللمنظّرين التقدميّين، عَنَتْ "الحداثة" ‏Modernity‏ ثورة ثقافيّة معرفيّة هائلة وحركة ‏تغييريّة شاملة، موجَّهة بجرأة وتصميم نحو "أنسنة الإنسان" المقهور، وردّ الاعتبار إليه: ‏بأنَّ الإنسان هو المبدع الخلّاق، صانع مجتمعه، وليس مجرّد صنيعته. ولكنَّ الحداثة، عند ‏نقّادها الراديكاليين، سرعان ما انحرفت عن مسارها الإنساني، ووُجِّهت في المجتمعات ‏الرأسمالية، على أيدي السياسيين المحافظين، وجهاتٍ مُغايرة، لتنفذ إلى الثقافة الشعبية ‏بموجات متلاحقة من سياسات التجهيل والتضليل، والنفاق و"الشعبوية" الرخيصة.‏

وإزاء ذلك، كثّف نقاد الثقافة الرأسمالية المعاصرة، من جرأتهم في كشف المسار الذي ‏تنجرف إليه المجتمعات والدول من سياسات وثقافات وممارسات، مصاغة للتحكُّم ‏والتَّوجيه والضَّبط والسيطرة.‏

‏ ينعى "ألان دونو"، الفيلسوف النقدي الكندي الفرنسي المعاصر، حالة الانحطاط الثقافي ‏السياسي الإعلامي لإنسان "مجتمع التفاهة" ‏Mediocratie، الحديث المعولم، الذي ‏سيطر فيه التافهون الرأسماليون، من خبراء السوق الاقتصادي، في السياسة والإدارة، ‏على العالم، بتسطيح فكرِه وثقافتِه، والعبث بقيمِه وعلاقاتِه. ‏

ولم يتردَّد "نعوم تشومسكي"، المثقف المُعارض الناقد الشرس للثقافة الأميركية ‏الرأسمالية، من كشف استراتيجيّات التضليل الثقافي الإعلامي العشرة التي تحمِلُها ‏وسائل الاتصال الحديثة وترسِّخها في الثقافة الجماهيرية، وتوظِّفها كآليّات للتحكُّم ‏والضبط والسيطرة (ومن هذه، مثلًا: استراتيجيّة الإلهاء وتحويل الانتباه، افتعال ‏المشكلات وطرح الحلول، المماطلة والتأجيل، مخاطبة العواطف بدلًا من العقل، تغييب ‏الوعي المجتمعي وتعطيل ثوراته، التكييف "للواقعية السياسية" بالإذعان للأمر الواقع، ‏ونزع الاحتجاجات والتمرُّدات..إلخ).‏

 

الثقافة والسياسة

مع بدايات القرن الحالي، وبصورة واضحة، صعدَتْ الثقافة بحساسيّة بالغة إلى قمّة ‏أولويّات الأجندة السياسية. وتلك الحقبة بالذات هي حقبة صعود العولمة كقوة عالمية ‏متحركة بثقة وإصرار على توحيد العالم، وتحطيم حواجزه ومعوّقاته، واختزال حدوده ‏ومسافاته، لتكتشف سريعًا أنَّ أطول المسافات الفاصلة بين دول العالم ومجتمعاته ‏وجماعاته، ليست اقتصادية أو سياسية أو إعلامية، وإنَّما هي مسافات ثقافيّة بامتياز. ‏وهي حقبة التطويرات والتأثيرات الهائلة لإمبراطوريات وشبكات الاتصال والتواصل ‏الاجتماعي الإلكتروني (ساري، ثقافة التنمية،2014).‏

سارع منظِّرو الحداثة وما بعد الحداثة إلى وصف الحياة الاجتماعية في عصر العولمة، ‏بأنَّها حياة الإنسان في "عالم مُنفلت" (أنتوني غدنز)، و"أزمنة سائلة" (سيجمونت ‏باومان)، تتدفَّق اتصالاتها وتواصلاتها، "مجتمعات اللايقين"؛ لا يُمكن التأكُّد ممّا يجري ‏فيها، "مجتمعات المخاطرة" (أولريخ بك)، "مجتمعات الشبكات" الاقتصادية والمالية ‏‏(كاستلز)، ومجتمعات الثورة الاتصالية والمعلوماتية. ‏

ومع العولمة، برز للثقافة مفهومان متلاصقان:‏

مفهوم "عولمة الثقافة" ليشير إلى إصرار العولمة على جلب ثقافات العالم وتوحيدها في ‏كلٍّ واحدٍ، متجانس القيم والمعاني والرموز، وموحَّد الخطاب، وأحادي المصادر والرسائل ‏والمضامين، تضمنه وسائل اتصالية جمعية عالمية. ‏

ومفهوم "ثقافة العولمة" لتشير إلى نمط الإنتاجات والعمليات والأهداف الثقافية للآلة ‏العالمية التي لا تتوقف عن الدوران للإنتاج على مستوى عالمي واسع، جاهز طازج ‏للاستهلاك على مجتمع عالمي واسع أيضًا.‏

كما حملت العولمة للثقافة، دون غيرها، جملة متكاملة من الاستراتيجيات والسياسات ‏والمدارات. ‏

يرى نقاد النزعة الثقافية الكونية أنها نزعة تعسفيّة غير مبرَّرة إلّا لأصحابها من ‏المغامرين الغربيين لأهداف الهيمنة والسيطرة والضبط والمراقبة، على حركة العالم كله- ‏مضامين واتِّجاهات وتوجُّهات. وإذا كان العرب قد انجرفوا (سياسيًّا واقتصاديًّا) إلى ‏الانبهار بالعولمة، باعتبارها حركة عالمية حيادية موحّدة للمجتمعات، مربحة للاقتصاد ‏والسياسة، ومريحة للعلم والتعليم والتكنولوجيا... فإنهم يكتشفون، بالممارسة الفعلية، أنهم ‏لا يستطيعون ثقافيًّا العيش بالعولمة، ولا يستطيعون -اقتصاديًّا وسياسيًّا- العيش دونها!!‏

ولأنَّ الثقافة الجمعيّة هي ذاكرة جمعيّة، والدِّفاع عنها هو دفاع عن الوجود الجمعي، ‏فإنَّ مواقف الرفض والممانعة والمقاطعة قد أتت على الجانب الثقافي العنيد: فلماذا يتحتَّم ‏على ثقافة عربية تاريخية عريقة أن تنحني طواعية إذلالًا وانكسارًا لهيمنة ثقافية أميركيّة- ‏غريبة اللّون واللّسان، صارخة التعصُّب والانحياز، ومريبة السياسات والأهداف؟ فكان لا ‏بدَّ أن تعاود الثقافة العربية "نظرية المؤامرة" الساكنة فيها طويلًا منذ حقب الاستعمار ‏والاحتلال والاستيطان. وانكشف مستور العولمة بمواقف السياسة الأميركية الراهنة ‏بإعلان ما عُرف شؤمًا وعارًا بـِ"صفقة القرن" (أو صفعة القرن"!)، المنفذة للأجندة ‏الصهيونية التوسعيّة، بالمضيّ في شطب القضية الفلسطينية، وتثبيت القدس العربية ‏التاريخية عاصمةً للكيان المحتلّ، وضمّ الأراضي الفلسطينية المحتلة ومرتفعات الجولان ‏السورية لسلطة الكيان المحتل!! ‏

لم تستبطن هذه السياسات والممارسات الأميركية المعولمة، ولو للحظة، الوعي الثقافي ‏الشعبي العربي العريض. ‏

وعلى الرّغم من أنها سياسات ومؤامرات وانحيازات عنصريّة وجدت، كغيرها، طريقًا ‏واسعًا يليق بها -مزابل التاريخ العربي المقاوم- فإنها كشفت التآمر والانحياز والنفاق ‏الأميركي، سياسةً واقتصادًا، ثقافةً وإعلامًا، للصهيونية العالميّة- أليست أميركا، بداية أو ‏نهاية، مطابقة أو مفارقة- هي المركز العالمي الوحيد المُعلن، والممارس الحصري المعتمد ‏للعولمة!؟؟ ‏

وبإعادة اكتشاف الثقافة، برزت في السياسة العربية/ العالمية- تقييمات ثقافية ‏‏(أيديولوجية) متصلّبة: ‏

إشكاليّة تعظيم "الخصوصيّة الثقافية".. مقترنة بتقديس الإرث الثقافي الخاص.‏

إشكاليّة "تمجيد الاختلاف الثقافي" مقترنة بإنكار الكونيّة الثقافيّة. وإزاء هذه ‏الإشكاليّات ذهب المفكرون النقديّون للثقافة والسياسة، إلى أنه إذا كانت الثقافة، في ‏كل مكان، بريئة المعنى والمسعى، فإنَّ العولمة لم تكن بريئة يومًا، ولا يمكنها أن ‏تكون! وإنَّما تخصِّص العولمةُ لمواجهة الثقافة مجموعة أخرى مطابقة من الآليات ‏والتسويات والصفقات!! ‏

ويذهب "هابرماس"، المفكرالمخضرم الأشهر للعلوم الاجتماعية في أيامنا هذه، إلى أنه ‏يمكن التفكير في الشراكة الحضاريّة (بين العرب والغرب)، حيث تتضاءل الفروقات ‏الصغيرة وتتعاظم االقواسم المشتركة والإسهامات الإنسانية النبيلة. وأن نتَّجه إلى "التعايش ‏المدني" الذي من شأنه أنْ يعزِّزَ التوافق والتعاون والتواصل، وأنْ يضعَ حدًّا للصراعات ‏والنزاعات والتوترات. وبهذه التسويات، يبدو "هابرماس"، المنشقّ عن ألأصول ‏الماركسية لمدرسته النقدية القديمة، أنه الأكثر تفهُّمًا للحقائق الجديدة للعالم (العولمي) ‏الجديد. وكان على تحليله في التعامل مع إشكاليّة حركة العالم والتفاعل/ الاندماج مع ‏الآخر، أنْ يجيبَ عن سؤال الأولويّات: ما الذي يعوق أيّ مجتمع عن التفاعل والاندماج ‏في حركة العالم (الرأسمالي)؟ ولِمَن الأولويّة للاقتصاد أم الثقافة؟ ‏

أقرَّ "هابرماس"، بواقعيّة وعقلانيّة، أنْ لا بديل للرأسمالية، لأنَّها الأكثر مرونة وقدرة ‏وكفاءة على إنتاج مقادير هائلة من الثروة. ومع الرأسمالية، لا بدَّ لنا من استعادة سيطرتنا ‏على المسارات الاقتصادية، التي غدت تتحكَّم في عالم حياتنا، أكثر ممّا نتحكّم نحن بها. ‏والوسيلة الأساسية لتحقيق هذه الغاية هي إحياء "المجال العام"، الذي تشكِّل الديمقراطية ‏إطاره العام (غدنز، 2005. انظر أيضًا: ساري وعثمان، نظريات في علم الاجتماع، ‏‏2009).‏

وبوسع ثورة الاتِّصال والتَّواصل أنْ تسهمَ، بوعي ومسؤوليّة، في تنمية الأفعال ‏والتوجُّهات والممارسات الديمقراطية. والطريق الواسع المفتوح لفعل ذلك كله هو دخول ‏المجتمع الكلي في حوار حُرّ مفتوح في الفضاء العام الحُرّ المفتوح.‏

ولا بدَّ أن نقف، بتقدير كبير عند الحلول العمليّة الواقعيّة التي يقدِّمها هذا المفكر النقدي ‏الحُرّ، لأزمات المجتمعات (العالميّة) المعاصرة، ومشكلاتها وتوتُّرات علاقاتها ‏وتفاعلاتها. وهي حلول ثقافيّة اتصاليّة ديمقراطيّة- تمامًا من صنف المشكلات الثقافيّة ‏الاتِّصالية القائمة الماثلة على المشهد العالمي اليوم:‏

أولًا- استدعاء حضور الثقافة المجتمعيّة، الغائبة المغيَّبة طويلًا بفعل الحضور ‏الثقيل المكثف للاقتصاد.‏

ثانيًا- نشر الديمقراطيّة، وتعميمها، بتعظيم الدور العقلاني الحُرّ لوسائل الاتصال/ ‏التواصل الاجتماعي، المؤدّي لفهم الآخر، القبول به، والتعايش معه.‏

إنَّ "هابرماس" هو الذي يتابع إيمان "فيبر" الثقافي، بإيمان مماثل، برؤية أنَّ التغيير ‏الاجتماعي والتنمية الإنسانية تتحدّدان اليوم بمحدِّدات ثقافيّة قيميّة معياريّة، تغذيهما ‏ثقافة مجتمعية متكاملة، ويتغذّى منهما في الوقت ذاته نوعان حاسمان متكاملان من ‏الثقافة المدنيّة الحديثة:‏

النوع الأوّل: ثقافة ناضجة للديمقراطية.‏

‏ النوع الثاني: ثقافة عقلانيّة للاتصال/ التواصل الاجتماعي.‏

وهذا بالضَّبط هو ما يحتاجه اليوم المجتمع العربي والإنسان العربي في حركتِه الثقافيّة ‏المجتمعيّة، وحركةِ رأيه العام.‏

ولكن، ما الذي يضمن لنا الوصول إلى تلك الثقافة المدنيّة الفاعلة، وذلك الرأي العام ‏المستنير؟؟

بتجربته الاجتماعية السياسية الطويلة المحمومة، يفقد المجتمع/ الإنسان العربي الثقة ‏بالمؤسسات والآليات التقليدية للديمقراطية (البرلمانات والانتخابات)، ويغدو الحلّ الثقافي ‏الاتِّصالي هو الذي يُعوَّل عليه باعتباره ضامنًا وحيدًا، بالفعل الاتِّصالي الجمعي النظيف، ‏البعيد عن التشويه والاحتواء، والقويّ المقاوم للتحريف والتزييف. فإذا كان للنُّخب ‏السياسية الاقتصادية والقانونية مصالحها الخاصة حقًا، فلا أحد آخر غير الشعب نفسه ‏أكثر معرفة بمصالحه، وأصدق سعيًا لتحقيقها بنفسه ولنفسه. ولا أحد سواه يستطيع ‏تشكيل رأيه العام في الفضاء العام، بوعي ومسؤولية، بالحوار الحُرّ الواعي المسؤول، ‏والنقاش الديمقراطي المفتوح.‏

ولكنَّ النُّخب العربيّة الحاكمة تخصِّص دائمًا مجموعة جاهزة من السياسات ‏والاستراتيجيات والتبريرات تحول دون تمكين الشعب من التركيز على قضاياه الحقيقية، ‏وتشكيل رأيه العام المستقل، وتحرُّكه نحو مطالباته السياسية الأساسية. ‏

ومن هذه مثلًا: ما تلجأ إليه الحكومات العربية، عادة، ما يسميه "هابرماس" في مكان ‏آخر، بسياسات "ترتيب الأولويات التنموية"، وتبريرات "التعجيل والتأجيل": حيث تقوم ‏الحكومات بتحشيد الرأي العام في تعبئة عامة لتأييد النظام، في ما تقرّر من سياسات ‏تعجيل الاقتصادي (بدعوى تأمين الحاجات الأساسية المادية للسكان وتحقيق النمو والتقدُّم) ‏من ناحية، وتأجيل السياسي (بدعوى أنَّ الحريات الأساسية، وحقوق الإنسان، والمشاركة ‏السياسية، هي كماليات رفاهية، يمكنها أن تنتظر)، بما يحمل ذلك من ترسيخ (رسمي ‏وإعلامي) في الذهن المجتمعي أنَّ المطالبات المجتمعية بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية ‏والكرامة الإنسانية لا تتأتّى بالنضال من أجلها (كما حدث في الثورات العربية في ربيعها ‏العربي)، وإنّما باستجدائها بالخضوع والطاعة والحفاظ على النظام! كما أنَّ المطالبة ‏بالإصلاح السياسي وسط "محيط ملتهب" هي مطالبة شعبية لا عقلانية وغير مسؤولة! ‏وتبدو المطالبة بحرية الرأي والمساواة، بالنسبة إلى شعب عربي، يعاني قسوة العيش في ‏الفقر والبطالة والعوز والحرمان، أقل أهمية من التطلع إلى ظروف حياة أفضل! كما تبدو ‏المطالبة بالحقوق الفردية والجمعية باستجدائها بأشكال (قبليّة فجّة) من الخضوع ‏والطاعة، وأشكال (مدنيّة) أخرى من إتقان فنون الاستدارة والاستخارة.. أقل تكلفة وأكثر ‏فعالية من النضال لأجلها بالمعارضة والثورة!‏

وتتراكم مثل هذه السياسات، متضافرة متناغمة، مع سياسات خارجية، بأشكال ومضامين ‏متفاوتة الحدّة والتأثير.‏

ومن سوء حظ الثقافة العربية اليوم أنْ لا تكون مستهدَفَة من الخارج الغربي/ الإسرائيلي ‏العدائي حسب، وإنَّما من الداخل العربي الصديق أيضًا! وهذا يحتِّم على الثقافة العربية ‏اليوم أن تناضل على جبهتين، تعملان بصورة متماسكة، ‏

وتناغم وانسجام (وربّما بتعاون وتنسيق) تعملان عبر وسائل الاتصال والتواصل ‏الاجتماعي والمواقع الإلكترونية المكثّفة:‏

جبهة داخليّة (صديقة): تصيب الثقافة العربية، والرأي العام العربي، بالخوف ‏والتخويف، وبالتفتيت والتشتيت.‏

جبهة خارجيّة (عدائية): تستهدف الثقافة العربية بالوصم والتشويه (عقم، عجز، فشل) ‏لتصل بها إلى اليأس والتيئيس.‏

ولا أشكُّ، للحظة، أنَّ الثقافة العربية العريقة تختزن القوة والحيوية والفاعلية، المتراكمة ‏المفاجئة المذهلة، للتحرير والتأثير!! إنها هذه العنقاء؛ الثقافة العربية المرعبة التي تعدّ ‏نفسها للنهوض والتدفق من رماد الهزائم والانكسارات، هي التي تصيب بالحيرة والذعر ‏كل المراهنين على موتها أو انسحابها أو جفاف قوَّتها المحرِّكة!! ‏

وتُظهِر النتائج الدقيقة للاستطلاع الأخير، الواسع جدًا، للمؤشِّر العربي 2019|2020، ‏الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنه على الرغم من ما ينشط ‏اليوم، في هذه المرحلة، من سياسات التطبيع وأحاديث التطويع، من قبل سياسيين وخبراء ‏وصحفيين، عن فكّ الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، فإنَّ الرأي العام العربي، ‏لأقاليم المنطقة العربية جميعًا (الممتدة من بلدان المشرق العربي إلى بلدان المغرب ‏العربي، ومن بلدان وادي النيل إلى بلدان الخليج العربي) متوافق، بصورة جليّة، على ‏رفض الاعتراف بإسرائيل:‏

إنَّ المجتمعات العربية ما زالت تعتبر القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعًا، ‏وليست قضية الفلسطينيين وحدهم!‏

‏ أنَّ 88% من مواطني المنطقة العربية، يرفضون الاعتراف بإسرائيل!‏

الكتلة الأكبر في كل من الأردن وفلسطين ولبنان ومصر وموريتانيا ترى أنَّ دولة ‏الاحتلال الإسرائيلي هي الدولة الأكثر تهديدًا لبلدانهم!‏

 

وما زالت الثقافة العربية الرافضة تحرِّك.. وما زال الرأي العام الجديد يتحرَّك، باتِّجاهات ‏جديدة وتوجُّهات مطابقة!!‏