‏"المثقّف" و"الحداثة" و"الرّأي العامّ": ‏ في سبيل استعادة "قوّة الخيال كما ينبغي"

د. نارت قاخون

باحث في الفلسفة والنقد- الأردن

 

 

إنّ ما توفّره العصور الصّناعيّة والتّقانيّة، ثمّ الرّقميّة، يزيد من أطماع التّصنيع والتّحكّم ‏والسّيطرة؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن ينتقل "طمع تحالفات السّلطة" من "تلبية حاجات ‏النّاس" و"الاستجابة لها"، إلى "صناعة هذه الحاجات"، ومنها "الرّأي العامّ"، ففـي زمننا ‏هذا أصبح "الفضاء الرّقميّ"، وشبكات "المحطّات المتاحة للجميع" هي مَن يصنع الأفعال ‏والممارسات والآراء، بل وحتى الخيال، وهنا يأتي دور المثقف من أجل استعادة النّاس ‏قوّة خيالهم، عوض ما هُم فيه من تفويضِه لسُلطة الميديا.‏

 

تقولُ لنا قواعد الحساب والجبر في الرّياضيّات إنّ حاصل أيّ عمليّة من العمليّات ‏الرّياضيّة من جمع وطرح وضرب وقسمة بين قيمة غير معرّفة "غير معيَّنة"، وأيّ قيمة ‏أخرى ستصل إلى نتيجة "غير معرّفة"، فكيف إذا كانت القيمتان غير معرّفتين؟

وتحصل هذه النّتائج غير المعرّفة حين تدخل في العمليّات "المالانهاية"، أو "الصّفر"، أو ‏كلاهما معًا‎.‎

هكذا تقول لنا قواعد الحساب والجبر المباشرة فتُعلن عجزها عن الوصول إلى نتيجة، ‏ولكنّ الرّياضيّات بما مثّلته من جموح الخيال البشريّ وطموحه، وثقته بنفسه وقدرته على ‏حلّ ما يبدو لا حلّ له، انتقلت لقواعد حساب النّهايات والتّفاضل لتحلّ ما تستطيعه من ‏مشكلات "عدم التّعيين"، و"عدم التّعرّف‎"‎‏.‏

هل أخطأتُ في موضوع المقالة؟ وما علاقة "المثقّف" و"الحداثة" بما تقدَّم؟ أهو اختبار ‏في "الثّقافة الرّياضيّة" حين نعني بها إلمامًا "عامًّا واسعًا"؟ أم هو اختبار في "الحداثة ‏الرّياضيّة" وتطوّر الرّياضيّات؟

لا أريد شيئًا من هذا، ولكن أستعين بهذا المثال من مشكلات الرّياضيّات مقدّمة للحديث ‏عن مشكلات "الثّقافة" و"المثقّف" و"الحداثة‎"‎‏.‏

فـ"الثّقافة" و"المثقّف" و"الحداثة" مفاهيم تكاد تكون مفاهيم غير معرّفة، وغير مُعيّنة؛ ‏لأنّها تتردّد بين لا نهائيّة الدّلالة، وصفريّة الدّلالة‎.‎

فهذه المفاهيم أمست سيرتها منذ ظهورها في مجالات التّداول سواء الّتي نشأت فيها، أم ‏تلك الّتي تلقّتها بالتّرجمة، سيرة مضادّة لكلّ ما يمكن أن تعد به الرّياضيّات من اتّساق ‏ودقّة وحلٍّ للمشكلات، فإذا قبلنا أنّ نشأة مصطلح "المثقّف" في السّياق العربيّ كان نتاج ‏ترجمة مقترحة لمصطلح "الإنتلجنسيا" في التّداول الغربيّ، إضافة لمصطلح "المفكّر" ‏الّذي نازع "المثقّف" في الشّيوع والاستعمال، فإنّ المشترك بين المصطلحات كلّها، وهو ‏ما يدلّ على موقع معرفيّ خاصّ لمن يوصف بها، لا يكفي لإخراج هذه المفاهيم من "الّلا ‏تعيين"، إلى "التّعيين"، لما تزاحمها من أوصاف وتعيينات متداولة وراسخة في السّياقات ‏الغربيّة والعربيّة لوصف أولئك الّذين يتميّزون بموقع معرفيّ خاصّ، من الوصف بعالم ‏وفيلسوف وطبيب وفقيه وشاعر وأديب، وغيرها.‏‎ ‎

فما الّذي يفسّر الحاجة إلى هذا الوصف الجديد؟ أهي رغبة في التّعميم، ثمّ التّعويم، ‏لوصف كلّ هؤلاء بلقبٍ جامع؟ أم هي رغبة في تعيين دور خاصٍّ، ووظيفة معيّنة لهؤلاء ‏‏"المثقّفين"؟

وكذلك الأمر في مفهوم "الحديث"، ثمّ "الحداثة"، فالدّلالة الّلازمة من المفهومين بقوّة ‏الّلسان دلالة "زمانيّة"، ولكنّها بهذه الدّلالة لا تملك ما ينقلها من "الّلاتعيين" إلى "التّعيين"؛ ‏فـ"الحديث" زمانيًّا وصف نسبيّ لا يصحّ إلا بمعيار زمن واصفيه ومُستخدميه، فهل ‏‏"الحديث"، ثمّ "الحداثة" أوصاف مجرّدة للزّمان؟‏

لم يكن الأمر كذلك، ولعلّ سيرة الافتراق الّتي فرّقت بين "الحديث" و"الحداثة" تنبئ عن ‏هذا الوعي والشّعور بتجاوز مفهوم "الحداثة" حدود التّعيين الزّمانيّ، ولكن إلى أيّ شيء ‏تتجاوز؟ وهل تنتقل إلى قدر من التّعيين يمكّن من القبض عليها، ثمّ فهمها، ثمّ حلّ ‏مشكلاتها؟

هذه المجالات من عدم التّعيين، و"الميوعة" الّتي ترافق سيرة هذه المفاهيم أمست جزءًا ‏من تعيينها وتعريفها؛ فهي مفاهيم تمكّن مستعملها من وصف ما يريد بها، وفي الوقت ‏نفسه، نفي صحّة الوصف بها لما لا يريد‎.‎

وهكذا أصبحت هذه المفاهيم جزءًا من تواصل إنسانيّ يروم التّخلّص من مقصد التّواصل ‏الإنسانيّ الأوّل والأهمّ والمفترَض، وهو التّوافق والتّعاون لبناء مشتركٍ دلاليّ بين البشر، ‏ليس ليتقبّل الجميع ما توجبه هذه الدّلالات من مواقف بالضّرورة، بل ليتّفق المتواصلون ‏أنّهم يتحدّثون عن الأشياء نفسها‎.‎

ومن مُفارقات هذه المفاهيم، وما أكثر مفارقاتها! أنّ مفهوم "المثقّف/ الإنتلجنسيا" ظهر في ‏حواضن الاتّجاهات اليساريّة الرّافضة، أو القلقة من جملة المفاهيم والمواقف الّتي حاولت ‏‏"السّلطة الحديثة" أن تفرضها وتروّجها تحت جاذبيّة مفاهيم "الحديث" و"التّحديث" ‏و"الحداثة‎"‎‏.‏

وهنا أصل إلى أمر أراه مهمًّا لفهم هذه المفاهيم، وهو أنّها نشأت بكلّ فضاءات لا تعيينها ‏من جهة، أو محاولات تعيينها من جهة نتيجة ظهور تصوّر "حديث" لمفهوم "السّلطة"، ‏بما هي "سلطة"؛ فـ"السّلطة" بكلّ مستوياتها الدّينيّة والسّياسيّة والمعرفيّة، قبل ما سُمّي ‏بالعصر الحديث، وما يرافقه من مفاهيم موسومة بـ"الحديثة"، كانت على الرغم من ‏محاولات شموليّتها وقسوتها وتحكّمها على اختلاف درجات ذلك ونجاحاته، تتميّز بقدر ‏من "الاعتباطيّة" و"الشّروخيّة"؛ أي كان حضور "السّلطة" مقبولًا بصورة اعتباطيّة عند ‏كثيرين، فلم يكن ضروريًّا أنْ يجيبَ الجميع عن أسئلة مثل: "لماذا تتسلّط هذه السّلطة على ‏الفضاء العامّ"؟ بأمور تزيد عن شرعيّة الانتماء لعائلة ملكيّة مثلًا، أو الانتماء لطبقة ‏علماء الدّين ورجاله مثلًا، ونتيجة لهذا القدر من الاعتباطيّة، مع "الشّروخيّة" أي وجود ‏شروخ وفراغات في الفضاء العامّ يمكّن جزءًا منه أن يكون خارج سيطرة السّلطة، ‏وقدرتها على التّحكّم. كان الموقف منها -ولنصفه بما قبل الحديث- يميل إلى قدرٍ من ‏‏"الاعتباطيّة" و"الشّروخيّة" أيضًا، فغلب على مواقف المشتغلين بالعلم أن تنطلق مواقفهم ‏من "السّلطة" من تجارب شخصيّة، ومواقف تعتمد على تجسّد "السّلطة" بأشخاصها ‏وممارساتها‎.‎

ولكنّ ظهور مفاهيم "القوانين الميكانيكيّة للكون"، وانفجار "الآلة" صناعةً وشيوعًا، بداية ‏من القرن الثّامن عشر في أوروبا رافقه، أو تبعه تصوّر شموليّ وتفسيريّ تعليليّ جامع ‏مانع لمفهوم "السّلطة" بوصفها "نظامًا له قوانينه وآليّاته" الّتي تشبه "الآلة" الّتي تعمل ‏وفق قوانين الفيزياء، وليس بالفعل الإنسانيّ المباشر والدّائم، فلـ"الدّولة" و"السّلطة" ‏و"المجتمع" أنظمة وأبنية تعمل وتسيطر وتتحكّم بقوى فوق فعل الفرد الإنسانيّ، والجماعة ‏الإنسانيّة نفسها‎.‎

وهكذا ظهرت "الحداثة" تعبيرًا عن شعور فئة من البشر أنّهم أدركوا سرّ الوجود والحياة، ‏وأسرار التّقدّم و"التّطوّر"، وتملّكوا قوانين الصّيرورة البشريّة، وصار واجبًا عليهم أن ‏يعمّموا إدراكهم هذا، بل فرضه إن لزم الأمر‎.‎

هكذا أمست مفاهيم مثل "التّنظيم" و"النّظام"، و"التّحديث" و"الحداثة" جزءًا من معجم ‏‏"مقدّسات" أزمنة ظهورها وشيوعها، وأصبحت التّجربة "الأوروبيّة" الأنموذج لهذه ‏الخطّة المقدّسة المفروضة على العالم كلّه‎!‎

تحت شعارات "التّنظيم" و"التّحديث" و"الحداثة" أُدخل العالم طبيعةً ومجتمعاتٍ وأفرادًا إلى ‏‏"المصنع"، فصارات "الدّولة" و"المجتمعات" مصانع، تقع في عمق بيتها ونظامها بنية ‏‏"الآلة"، الّتي تخضع لقوانين ميكانيكيّة، ووظائف محدّدة ومعروفة، تتحكّم بصيرورة تبدأ ‏من مدخلات، فعمليّات، فمنتجات، فـ"تسويق‎"‎‏.‏

وإذا كانت "الحياة مصنعًا"، و"المجتمع مصنعًا"، و"الدولة مصنعًا"، و"المدرسة والجامعة ‏مصنعًا"، فلا بدّ من تحديد وظائف وطبقات مجتمعيّة تخدم هذا "المصنع الكبير‏‎"‎‏.‏

وإذا كانت "الحياة تصنيعًا وصناعة"، فإنّ أصحاب الخبرة والقدرات المتميّزة في ‏صيرورة التّصنيع العموميّ، سيكون لهم دور أهمّ، ووظائف أعلى في سلّم المجتمع ‏الصّناعيّ والمصنّع، ولكنّهم بحاجة إلى "جيوش من العمّال"، يملكون المهارة الكافية الّتي ‏لا تزيد عن "المطلوب‎"‎‏.‏

وهكذا أمست "الدّولة" و"الجيوش" و"المجتمعات"، و"العلم والمتعلّمون" مجرّد أنماط من ‏‏"التّنظيم الصّناعيّ الآليّ"، لا يقبل "الاعتباطيّة" و"الشّروخيّة‏‎"‎‏.‏

هذه القهريّة "الصّناعيّة التّصنيعيّة" لمفاهيم الوجود والنّظام والسّلطة، أنشأت قلقًا ‏ومشكلات لم تكن لتظهر لولاها، فإذا كانت "الحداثة الصّناعيّة التّقنيّة التأليليّة" تروم ‏القبض على العالم والحياة والمجتمعات بقوّة "السّلطة" و"النّظام"، وفرض "التّراتبيّة ‏الطّبقيّة" الّلازمة لدوام "الآلة"، وتطوّرها، وتوسّع "أسواقها"، فإنّ رفض هذا المفهوم ‏لـ"السّلطة"، ومعارضة مثل هذه الممارسات هو ما دفع لظهور مفهوم "الإنتلجنسيا/ ‏المثقّف" الّذي يجعل تميّزه المعرفيّ جزءًا من نشاطٍ قلقٍ، ومقلقٍ لهذا المنظور لـ"السّلطة" ‏و"النّظام" و"القانون"، وهذا ما سيؤول بعد ذلك إلى نفور من أيّ معنىً لمعاني "السّلطة" ‏و"النّظام" و"القانون" في ما يُسمّى "ما بعد الحداثة‎"‎‏.‏

وبين منظور يريد "تأليل" العالم، وإدخاله "المصنع وأحكام الآلة"، ومنظور قلق رافضٍ ‏له، جاءت مفاهيم "المثقّف" و"الحداثة" معبّرة عن هذا القلق مرّة بمحاولة الخروج منه، ‏ومرّات أكثر بمزيدٍ من الإغراق في القلق والاضطراب‎.‎

ومن آثار الاستعارة "الصّناعيّة الآليّة" أنّها تشمل عمليّات متبادلة ومتحوّلة ومتضادّة؛ ‏فالتّصنيع المعدنيّ أوّلًا، ثمّ التّقنيّ المعلوماتيّ ثانيًا وثالثًا، يحتاج في منتجه الأخير إلى قدر ‏من "الصّلابة"، ولكنّه يحتاج للوصول إليها إلى قدرٍ كبير من "التّسييل"، و"الصّهر"، ‏وإعادة التّشكيل والتّصنيع؛ فـ"الحديد"، و"النّحاس"، و"السيلكون" و"الفولاذ"، لا تكون ‏جزءًا من التّصنيع بصورتها الطّبيعيّة. وهكذا فإنّ تحديث المجتمعات، و"تصنيعها"، لا بدّ ‏له من عمليات "تسييل"، و"صهر"، و"إعادة خلق"، فهل سيكون هؤلاء "المثقّفون" بما ‏يحملون من "قيمة معرفيّة" مضافة! جزءًا من هذا التّصنيع، أم إعاقة له؟

المشكلة أنّ مفاهيم مثل "النّظام" و"التّنظيم"، و"الحداثة" و"التّحديث"، و"التّقدّم والتّطوّر"، ‏تتمتّع بجاذبيّة، وسحرٍ دلاليّ تداوليّ، تجعل رفضها ومقاومتها مواقف "مكلفة"، بل ‏‏"محرجة"!‏‎ ‎

ولم يعُد من اليسير أنْ نسترجعَ سياقًا "فوق حداثيّ"، دون أن نقع في افتراض دخولنا نفق ‏‏"التّخلّف والفوضى"، سواءً بما قبل الحداثة، أم ما بعدها‏‎!‎

وصار من العسير القول والدّفاع عن منظور يرى أنّ "الحداثة" تنطلق من منظور هندسيّ ‏لـ"النّظام والانتظام"، يمارس قوّة تحكّمه على العناصر المنضوية تحته، ولكنّه غير قابلٍ ‏للملاحظة والمراقبة والتّحكّم إلا من "الخارج عنه"؛ لذلك تأسّس مفهوم الانتظام والنّظام ‏الوحيد الواجب وإن لم يكن حاضرًا في كلّ شيء من منظور الحداثة قبل البنيويّة؛ لذلك ‏حملت راية فرض هذا المنظور الانتظاميّ على الجميع، ثمّ أصبح انتظامًا موجودًا ‏بالضّرورة في كلّ شيء سواءً كان ظاهرًا أم خفيًّا من منظور الحداثة البنيويّة، وقام ‏منظور هذا الانتظام والنّظام الكلّيّ على أنّ بؤرة الانتظام هي الذّات المراقبة، وأصبحت ‏هذه المفاهيم مركزيّة في النّظر والفعل للكون والحياة والإنسان‎:‎

‎- ‎‏ الإطار الفاصل والمحدِّد لما هو داخلٌ في الموضوع وخارجٌ عنه من موضوع آخر‎.‎

‎- ‎‏ الأطر المحدّدة والرّاسمة لمفهوم "الأدوار".‏

‎- ‎‏ المسافة الفاصلة الضّروريّة بين الذّات والموضوع‎.‎

‎- ‎‏ المسافة الفاصلة الضّروريّة بين المجال الماديّ والفضاء المعنويّ‎.‎

‎- ‎‏ هيمنة المعنى التّفسيريّ والوظيفيّ على المعنى التّأويليّ‎.‎

‎- ‎‏ هيمنة القصديّة التّحكّميّة على العفويّة والتّلقائيّة. هيمنة الصّناعيّ على الطّبيعيّ: سن ‏الرّشد هو 18 بأمر القانون وسلطته القصديّة، وليس "البلوغ الجنسيّ" مثلًا.‏

أي باستعارة دالّة: إعادة تشكيل الكون والحياة والإنسان بوصفهم "معرضًا"، و"معرضًا ‏للآلات والمصنوعات حصرًا"، كما يقول "تيموثي ميتشل".‏

وعوض أن يشتبك "المثقّف" مع مكوّنات هذا المنظور، أمسى في موافقته أو معارضته ‏محكومًا لهذا المنظور؛ فتغلّب على مشهد "المثقّفين العرب" فئتان: فئة ترى أنّ التّجربة ‏العربيّة والمسلمة كانت خالية من هذا المنظور الانتظاميّ، أو تعيش اضطرابًا وفوضى في ‏كمال تحقّقه؛ لذلك يجب إعادة خلق المجتمعات العربيّة، وفق قابليّة هذا المنظور ‏الانتظاميّ وشروطه، حتى لو تخلّى وانفصل عن كلّ تجاربه السّابقة باسم "التّحديث" ‏و"التّطوير‎"‎‏.‏

وفئة ترى أنّ التّجربة العربيّة والمسلمة تاريخيًّا لم تكن سلبيّة، بل إيجابيّة، ولكنّها إيجابيّة ‏بمعنى حضور هذه المفاهيم الانتظاميّة في تجاربها‎.‎

أي تتّفق هاتان الفئتان على أنّ هذا المنظور "الحداثيّ" لـ"النّظام" و"الانتظام" هو "العيار ‏والمقياس"، ولا سبيل لمنظور أو أنظار أخرى، والفرق يكمن في نظرتهم للتّجربة ‏التّاريخيّة المسلمة، هل وجد فيها هذا المنظور أم لا؟ على سبيل المثال الحديث عن ‏‏"الدّيمقراطيّة" والتماس فئة خلو التّجربة المسلمة منها لصالح الاستبداد المطلق، والتماس ‏فئة أخرى حضور "الدّيمقراطيّة" في التّجربة، ولكن بأسماء أخرى مثل "الشّورى‏‎"‎‏.‏

وقَلَّ مَن يجرؤ معرفيًّا ونفسيًّا على أن يقول: لم يكن هذا المنظور الهندسيّ للحداثة ‏و"الحديث" حاضرًا في التّجربة التّاريخيّة العربيّة، وغير العربيّة في سياق أوروبيّ وغير ‏أوروبيّ بالضّرورة، ولكن ليس من الضّروريّ أن تكون حاضرة تاريخًا، ثمّ واقعًا ‏لوصف التّاريخ والواقع بأنّهما منتظمان ومتطوّران‎.‎

أزعم أنّ هذا الهوس والحساسيّة بفرض نظامٍ يقوم على الفصل الواضح بين "الدّاخل ‏والخارج"، بين "الموضوع والذّات"، بين "التّصوّر والفعل والممارسة"، بين "الشّخصيّ ‏والعامّ"، بين "العلم بالشّيء والعمل بمقتضاه"، بين "اكتشاف معرفة وجدواها"، بين ‏‏"التّنظير للمعرفة وممارسة آثارها"، بين "المقدّس والعاديّ"، لم تكن سمة للتّجربة العربيّة ‏المسلمة، بل لتجارب البشر عمومًا قبل ظهور سحر المنظور "الحديث"، ثمّ "الحداثيّ" ‏للعيش الإنسانيّ كلّه.‏

لم تكن تلك التّجارب محتاجة لـ"مثقّف" يعلن موقفًا بنيويًّا من "النّظام" و"السّلطة"، فيسعى ‏لوضع حدود فاصلة يقف عندها، أو يخترقها، لم يكن بحاجة إلى "وظيفة مرسومة" ‏نظريًّا، يُحاكم عليها عمليًّا؛ لأنّ الحياة عيشٌ وتعايشٌ وملابسة لكلّ هذه الثّنائيّات، بتزامنيّة ‏وتعاقبيّة "طبيعيّة"، هي مزية "الحياة البشريّة".‏

‏ وأزعم هنا أنّ "السّلطة ما قبل الحديثة"، على الرغم من كلّ ما يمكن أن نصف كثيرًا أو ‏قليلًا من ممارساتها بالوحشيّة والتّوحّش، إلا أنّها أقلّ طموحًا أو طمعًا في تحقيق سيطرة ‏عامّة، والقبض على انتظام عامّ، يجعل كلّ شيء جزءًا من نظام عام؛ لكلّ شيء موقعه ‏ودوره المفروض والمتوقّع، وهذا التّواضع في الطّموح أو الطّمع يعود فيما يعود لعدم ‏إمكانه في أزمنة ما قبل "الثّورة الصّناعيّة"، و"ثورة المواصلات والاتّصالات"، وثورة ‏الوسائط الكتابيّة المطبعيّة.‏

ما جرى للسّلطة من تحوّل في قدراتها ومفاهيمها، وانتقال تصوّرها إلى مفهوم البنية ‏الكليّة الحاكمة على الوجود كلّه، والمفارقة له في الوقت نفسه، أعاد تعريف "الجماعة ‏البشريّة"، وتراتبيّتها، وأدوار طبقاتها، فإذا كانت السّلطة السّياسيّة والدّينيّة والمعرفيّة ما ‏قبل الحديثة، إن صحّ التّعبير، تتأسّس على أنّ المعرفة العلميّة في أيّ شأن من الشّؤون ‏ليس حاجة عامّة لجميع البشر، بقدر حاجتهم للعيش وتقليب أسباب الحياة بالممارسة، وهم ‏كذلك غير قادرين ولا مؤهّلين لهذه المعارف "الخاصّة"؛ فـ"العوّام"، و"العامّة" مفاهيم ‏يوصف بها أغلب النّاس تجعل انشغالهم بما ينشغل به "العلماء" غير مطلوب، بل غير ‏مقبول! ولكنّ "ثورة التّصنيع" بما رافقها من تضخّم كبير في منتجاتها، وتوسّع كبير في ‏نطاق المستهلكين المستهدَفين لها، وتزايد في نسبة القادرين على القراءة، وانتشار الكتب ‏والمطابع، جعل الفئات القادرة على الاشتباك مع المعرفة أكبر بكثير، فصار القارئ جزءًا ‏مهمًّا، ثمّ صار مقصدًا مهمًّا، ثمّ صار المقصد المهيمن، وصار وصف أيّ شيء بـ"العامّ" ‏مطلبًا لبيان اتّساع حضوره، وبالتّالي ضرورة مراعاته والاهتمام به.‏

فإذا كان "العامّ"، أو ما يوازيه من كلمات في حقل التّداول مثل "الجمهور"، و"الإجماع"، ‏مُناطًا بفئة خاصّة في أزمنة ما قبل السّلطة الحديثة، فيُقال: "إجماع العلماء"، و"جمهور ‏العلماء"، ثمّ صار وصفًا لـ"ما يجب أن تكون عليه الأمور" من تفكير و"رأي"، في زمن ‏الحداثة الآليّة والبنيويّة، فيُقال: "الحسّ العامّ" و"المنطق العامّ المشترك"، أي ‏‏"‏common sense‏"، وهو مفهوم نوعيّ لا كمّيّ؛ يشير إلى منطقٍ وحسٍّ جيّدين ‏يستحقّان الاقتناع بهما من الجميع "العموم"، بغضّ النّظر عن تحقّق هذه القناعة عند ‏الجميع والعموم. فإنّ مفهوم "الرّأي العامّ: ‏Public opinion‏" أمسى كمّيًا وصفيًّا لا ‏نوعيًّا معياريًّا، بل صار هو المعيار نفسه في أزمنة ما بعد الآلة الصّلبة، وأزمنة التّقنية ‏السّائلة، الّتي جعلت المتلقّي والمستهلك بؤرة العمليّة التّصنيعيّة والتّسويقيّة.‏

‏ ولكن هل يعني ذلك أن تترك "السّلطة الحديثة" سلطتها الانتظاميّة، وسيطرتها النّظاميّة، ‏لتتحوّل من صانعة المفاهيم والأدوار إلى مصنوعات يُنتجها سياق تلقيات واستهلاك ‏تُسمّى بـ"الرّأي العامّ"؟

إنّ ما توفّره العصور الصّناعيّة والتّقانيّة، ثمّ الرّقميّة تزيد من أطماع التّصنيع والتّحكّم ‏والسّيطرة؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن ينتقل "طمع تحالفات السّلطة" من "تلبية حاجات ‏النّاس" و"الاستجابة لها"، إلى "صناعة هذه الحاجات"، فيُصبح "الرّأي العامّ" هدفًا لهذا ‏التّصنيع.‏

فـ"الرّأي العامّ" لا يكون "عامًّا" بمجرّد التّحقّق الكمّي في مجتمعٍ ما، بل يصير كذلك حين ‏يظهر ويكون "حاضرًا" في فضاء التّداول العامّ، وهكذا أصبحت دور النّشر أوّلًا صانعة ‏للرّأي العامّ في زمن الحضور الكتابيّ، ثمّ أصبحت "الصّحف" في زمن الحضور الكتابيّ ‏السّريع والأخفّ، ثمّ "الإذاعة" و"التّلفزيون" في زمن "السمع والبصر" الكسولين غالبًا، ثمّ ‏‏"الفضاء الرّقميّ"، وعصر شبكات "المحطّات المتاحة للجميع" تقوم بهذا الدّور "الصّناعيّ ‏والتّصنيعيّ"، مع ملاحظة أنّها توفّر فرصًا أكبر في توهّم دور النّاس في صناعة هذا ‏الرّأي العامّ.‏

‏ وقبل أن يذهب قارئ هذا الكلام إلى توهُّم أنّني أقول بانعدام ممكنات تشكُّل رأي عامٍّ أو ‏خاصٍّ بعيدًا عن سيطرة "صنّاع فضاءات الاتّصال والتّواصل"، فإنّني أشير إلى أنّ كلّ ‏هذه التّطوُّرات رافقتها ممكنات، بل توسُّع في هذه الممكنات، ولعلّ هذا التوسُّع الممكن ‏المرافق هو ما يجعل حساسيّة "السُّلطة الحديثة" و"ما بعد الحديثة" أقوى وأعمق لخطورة ‏هذه الممكنات، وقدرتها على "التّفكير" و"التّعبير" خارج سيطرة منظومة الانتظام ‏السّلطويّ.‏

لذلك أمسى الصّراع بين تصنيع الرّأي العامّ والاستجابة لولادته الطّبيعيّة صراعًا على ‏مستوى "التّفكير والخيال" نفسيهما، وليس على مستوى "التّعبير" و"الممارسة".‏

وهنا يأتي ما أتصوّر لمفهوم "المثقّف" وأدواره، فهو المزعج بقدرته المعرفيّة، ومنظومة ‏خطاباته لهذا الاندفاع الطّمعيّ، والغرور البشريّ السّلطويّ الّذي يريد تصنيع العالم والحياة ‏تصنيعًا لا حياة لأحدٍ إلا في أدوار التّصنيع، تصنيع أفعاله، وتصنيع ممارساته، وتصنيع ‏آرائه، بل تصنيع خياله. يعمل لاستعادة النّاس قوّة الخيال، عوض ما هم فيه من "تفويض ‏سلطة الميديا، أي (السّلطة)" قوّةَ خيالهم.‏

وهنا أختم بحادثة يتبعها "تعليق"، ومقولة تتبعها إشارة:‏

أمّا الحادثة، فهي: قُتِلت امرأة "بيضاء" حامل في مدينة أميركيّة، فادّعى "زوجها" أنّ ‏‏"رجلًا أسود مجهولًا" قتلها‏‎.‎

سأل "صحفيٌّ" سيّدة "بيضاء" تسكن بجوار "العائلة المنكوبة": بما أنّك جارة منذ سنوات ‏لهذه العائلة وتعرفين "الزوج"، فهل تظنّين أنّ روايته عن "الرجل الأسود" الذي قتل ‏زوجته صحيحة؟

فأجابت: لا أعرف "الزوج" كثيرًا، لكن الذي أعرفه أنّ "الرجل الأسود" غالبًا ما يكون ‏‏"القاتل‏‎"!‎

فسألها: وكيف تعرفين ذلك؟

فقالت: من "السينما"، عندما تكون هناك "جريمة" ويكون هناك "رجلٌ أسود" فغالبًا ما ‏يكون هو القاتل! آه كم أنا متشوّقة لمشاهدة "الفيلم السينمائيّ" الذي سيُنتَج عن "الحادثة" ‏لأعرف "حقيقة ما حدث‎"‎‏!‏

تختصر هذه الحكاية منظور كثير من النّاس إلى الأحداث والوقائع؛ فـ"المتوقّع" هو نتاج ‏‏"الصورة النمطيّة" التي تختلقها "الميديا" من سينما وإعلام، و"الحقيقة" هي ما "نراه" في ‏‏"الميديا" عن الأحداث لا "الأحداث" نفسها‏‎.‎

كثيرون منّا ينتظرون "الفيلم القادم" عن "الأحداث التي تدور حولنا" لمعرفة "حقيقة ما ‏يحدث". لقد حلّ "تمثيل الواقع" عبر "الميديا" محلّ "الواقع نفسه"، وعِوض "إقرارنا" ‏بجهلنا بما يحدث حولنا أحيانًا كثيرة، أصبحنا مسكونين بـ"وهم المعرفة" التي تقدّمها لنا ‏‏"الروايات التلفزيونيّة والسينمائيّة والمواقع التواصليّة‎"‎‏.‏

كان الإنسان قبل عصر "الصورة والفرجة" يعتمد "الأخبار المنقولة" التي تختلط فيها ‏‏"حقيقة ما حدث" بـ"مخيّلة الراوي وروايته"، فيتلقّاها مُعمِلًا "مخيّلته الخاصة" لينشئ ‏‏"روايته" عمّا حدث. لكن بعد عصر "الصورة والفرجة" قام "المتلقّي" بـ"تفويض" صانع ‏‏"الميديا" و"تخويله" بحقّ "التخييل والمخيّلة" لتصبح "مخيّلة صانع الميديا" بديلًا عن ‏‏"الواقع" و"الخيال" معًا.‏

أمّا المقولة فهي لفلوبير:"إنّ رؤية امرأة عارية تدفعني لتخيّل هيكلها العظميّ".‏

إنّ ما تبدو عليه "السّلطة" اليوم نتيجة أطماعها في التّحكّم في كلّ شيء حتى "الخيال"، قد ‏ينتهي إلى ظهورها "عارية"، فيندفع النّاس إلى تخيّل "هيكلها العظميّ الخفيّ"، وعلى ‏‏"المثقّف" حينها أن لا يبادر لتغطية هذا الهيكل العاري، أو تجميله، أو تقبيح خيالات ‏النّاس، واكتشاف عريّ السّلطة والتّمعُّن فيه، فـ"المثقّف" -كما أراه- هو السّاعي بقدراته ‏إلى تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من توازنٍ بين حقّ جميع البشر في الخيال والرّأي والتّفكير ‏خارج التّصنيع السّلطويّ من جهة، واستعادة مفهوم "ما يجب" و"ما ينبغي" لوصف ‏الوقائع والتّجسّدات بـ"الواقع والواقعيّة"، و"الثّقافة" و"المثقّف" و"الحداثة وما بعدها" ‏و"التّحديث"، و"الرّأي العامّ"، لتكون مفاهيم "نوعيّة"، لا مجرّد "كمّيّة".