د. نارت قاخون
باحث في الفلسفة والنقد- الأردن
إنّ ما توفّره العصور الصّناعيّة والتّقانيّة، ثمّ الرّقميّة، يزيد من أطماع التّصنيع والتّحكّم والسّيطرة؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن ينتقل "طمع تحالفات السّلطة" من "تلبية حاجات النّاس" و"الاستجابة لها"، إلى "صناعة هذه الحاجات"، ومنها "الرّأي العامّ"، ففـي زمننا هذا أصبح "الفضاء الرّقميّ"، وشبكات "المحطّات المتاحة للجميع" هي مَن يصنع الأفعال والممارسات والآراء، بل وحتى الخيال، وهنا يأتي دور المثقف من أجل استعادة النّاس قوّة خيالهم، عوض ما هُم فيه من تفويضِه لسُلطة الميديا.
تقولُ لنا قواعد الحساب والجبر في الرّياضيّات إنّ حاصل أيّ عمليّة من العمليّات الرّياضيّة من جمع وطرح وضرب وقسمة بين قيمة غير معرّفة "غير معيَّنة"، وأيّ قيمة أخرى ستصل إلى نتيجة "غير معرّفة"، فكيف إذا كانت القيمتان غير معرّفتين؟
وتحصل هذه النّتائج غير المعرّفة حين تدخل في العمليّات "المالانهاية"، أو "الصّفر"، أو كلاهما معًا.
هكذا تقول لنا قواعد الحساب والجبر المباشرة فتُعلن عجزها عن الوصول إلى نتيجة، ولكنّ الرّياضيّات بما مثّلته من جموح الخيال البشريّ وطموحه، وثقته بنفسه وقدرته على حلّ ما يبدو لا حلّ له، انتقلت لقواعد حساب النّهايات والتّفاضل لتحلّ ما تستطيعه من مشكلات "عدم التّعيين"، و"عدم التّعرّف".
هل أخطأتُ في موضوع المقالة؟ وما علاقة "المثقّف" و"الحداثة" بما تقدَّم؟ أهو اختبار في "الثّقافة الرّياضيّة" حين نعني بها إلمامًا "عامًّا واسعًا"؟ أم هو اختبار في "الحداثة الرّياضيّة" وتطوّر الرّياضيّات؟
لا أريد شيئًا من هذا، ولكن أستعين بهذا المثال من مشكلات الرّياضيّات مقدّمة للحديث عن مشكلات "الثّقافة" و"المثقّف" و"الحداثة".
فـ"الثّقافة" و"المثقّف" و"الحداثة" مفاهيم تكاد تكون مفاهيم غير معرّفة، وغير مُعيّنة؛ لأنّها تتردّد بين لا نهائيّة الدّلالة، وصفريّة الدّلالة.
فهذه المفاهيم أمست سيرتها منذ ظهورها في مجالات التّداول سواء الّتي نشأت فيها، أم تلك الّتي تلقّتها بالتّرجمة، سيرة مضادّة لكلّ ما يمكن أن تعد به الرّياضيّات من اتّساق ودقّة وحلٍّ للمشكلات، فإذا قبلنا أنّ نشأة مصطلح "المثقّف" في السّياق العربيّ كان نتاج ترجمة مقترحة لمصطلح "الإنتلجنسيا" في التّداول الغربيّ، إضافة لمصطلح "المفكّر" الّذي نازع "المثقّف" في الشّيوع والاستعمال، فإنّ المشترك بين المصطلحات كلّها، وهو ما يدلّ على موقع معرفيّ خاصّ لمن يوصف بها، لا يكفي لإخراج هذه المفاهيم من "الّلا تعيين"، إلى "التّعيين"، لما تزاحمها من أوصاف وتعيينات متداولة وراسخة في السّياقات الغربيّة والعربيّة لوصف أولئك الّذين يتميّزون بموقع معرفيّ خاصّ، من الوصف بعالم وفيلسوف وطبيب وفقيه وشاعر وأديب، وغيرها.
فما الّذي يفسّر الحاجة إلى هذا الوصف الجديد؟ أهي رغبة في التّعميم، ثمّ التّعويم، لوصف كلّ هؤلاء بلقبٍ جامع؟ أم هي رغبة في تعيين دور خاصٍّ، ووظيفة معيّنة لهؤلاء "المثقّفين"؟
وكذلك الأمر في مفهوم "الحديث"، ثمّ "الحداثة"، فالدّلالة الّلازمة من المفهومين بقوّة الّلسان دلالة "زمانيّة"، ولكنّها بهذه الدّلالة لا تملك ما ينقلها من "الّلاتعيين" إلى "التّعيين"؛ فـ"الحديث" زمانيًّا وصف نسبيّ لا يصحّ إلا بمعيار زمن واصفيه ومُستخدميه، فهل "الحديث"، ثمّ "الحداثة" أوصاف مجرّدة للزّمان؟
لم يكن الأمر كذلك، ولعلّ سيرة الافتراق الّتي فرّقت بين "الحديث" و"الحداثة" تنبئ عن هذا الوعي والشّعور بتجاوز مفهوم "الحداثة" حدود التّعيين الزّمانيّ، ولكن إلى أيّ شيء تتجاوز؟ وهل تنتقل إلى قدر من التّعيين يمكّن من القبض عليها، ثمّ فهمها، ثمّ حلّ مشكلاتها؟
هذه المجالات من عدم التّعيين، و"الميوعة" الّتي ترافق سيرة هذه المفاهيم أمست جزءًا من تعيينها وتعريفها؛ فهي مفاهيم تمكّن مستعملها من وصف ما يريد بها، وفي الوقت نفسه، نفي صحّة الوصف بها لما لا يريد.
وهكذا أصبحت هذه المفاهيم جزءًا من تواصل إنسانيّ يروم التّخلّص من مقصد التّواصل الإنسانيّ الأوّل والأهمّ والمفترَض، وهو التّوافق والتّعاون لبناء مشتركٍ دلاليّ بين البشر، ليس ليتقبّل الجميع ما توجبه هذه الدّلالات من مواقف بالضّرورة، بل ليتّفق المتواصلون أنّهم يتحدّثون عن الأشياء نفسها.
ومن مُفارقات هذه المفاهيم، وما أكثر مفارقاتها! أنّ مفهوم "المثقّف/ الإنتلجنسيا" ظهر في حواضن الاتّجاهات اليساريّة الرّافضة، أو القلقة من جملة المفاهيم والمواقف الّتي حاولت "السّلطة الحديثة" أن تفرضها وتروّجها تحت جاذبيّة مفاهيم "الحديث" و"التّحديث" و"الحداثة".
وهنا أصل إلى أمر أراه مهمًّا لفهم هذه المفاهيم، وهو أنّها نشأت بكلّ فضاءات لا تعيينها من جهة، أو محاولات تعيينها من جهة نتيجة ظهور تصوّر "حديث" لمفهوم "السّلطة"، بما هي "سلطة"؛ فـ"السّلطة" بكلّ مستوياتها الدّينيّة والسّياسيّة والمعرفيّة، قبل ما سُمّي بالعصر الحديث، وما يرافقه من مفاهيم موسومة بـ"الحديثة"، كانت على الرغم من محاولات شموليّتها وقسوتها وتحكّمها على اختلاف درجات ذلك ونجاحاته، تتميّز بقدر من "الاعتباطيّة" و"الشّروخيّة"؛ أي كان حضور "السّلطة" مقبولًا بصورة اعتباطيّة عند كثيرين، فلم يكن ضروريًّا أنْ يجيبَ الجميع عن أسئلة مثل: "لماذا تتسلّط هذه السّلطة على الفضاء العامّ"؟ بأمور تزيد عن شرعيّة الانتماء لعائلة ملكيّة مثلًا، أو الانتماء لطبقة علماء الدّين ورجاله مثلًا، ونتيجة لهذا القدر من الاعتباطيّة، مع "الشّروخيّة" أي وجود شروخ وفراغات في الفضاء العامّ يمكّن جزءًا منه أن يكون خارج سيطرة السّلطة، وقدرتها على التّحكّم. كان الموقف منها -ولنصفه بما قبل الحديث- يميل إلى قدرٍ من "الاعتباطيّة" و"الشّروخيّة" أيضًا، فغلب على مواقف المشتغلين بالعلم أن تنطلق مواقفهم من "السّلطة" من تجارب شخصيّة، ومواقف تعتمد على تجسّد "السّلطة" بأشخاصها وممارساتها.
ولكنّ ظهور مفاهيم "القوانين الميكانيكيّة للكون"، وانفجار "الآلة" صناعةً وشيوعًا، بداية من القرن الثّامن عشر في أوروبا رافقه، أو تبعه تصوّر شموليّ وتفسيريّ تعليليّ جامع مانع لمفهوم "السّلطة" بوصفها "نظامًا له قوانينه وآليّاته" الّتي تشبه "الآلة" الّتي تعمل وفق قوانين الفيزياء، وليس بالفعل الإنسانيّ المباشر والدّائم، فلـ"الدّولة" و"السّلطة" و"المجتمع" أنظمة وأبنية تعمل وتسيطر وتتحكّم بقوى فوق فعل الفرد الإنسانيّ، والجماعة الإنسانيّة نفسها.
وهكذا ظهرت "الحداثة" تعبيرًا عن شعور فئة من البشر أنّهم أدركوا سرّ الوجود والحياة، وأسرار التّقدّم و"التّطوّر"، وتملّكوا قوانين الصّيرورة البشريّة، وصار واجبًا عليهم أن يعمّموا إدراكهم هذا، بل فرضه إن لزم الأمر.
هكذا أمست مفاهيم مثل "التّنظيم" و"النّظام"، و"التّحديث" و"الحداثة" جزءًا من معجم "مقدّسات" أزمنة ظهورها وشيوعها، وأصبحت التّجربة "الأوروبيّة" الأنموذج لهذه الخطّة المقدّسة المفروضة على العالم كلّه!
تحت شعارات "التّنظيم" و"التّحديث" و"الحداثة" أُدخل العالم طبيعةً ومجتمعاتٍ وأفرادًا إلى "المصنع"، فصارات "الدّولة" و"المجتمعات" مصانع، تقع في عمق بيتها ونظامها بنية "الآلة"، الّتي تخضع لقوانين ميكانيكيّة، ووظائف محدّدة ومعروفة، تتحكّم بصيرورة تبدأ من مدخلات، فعمليّات، فمنتجات، فـ"تسويق".
وإذا كانت "الحياة مصنعًا"، و"المجتمع مصنعًا"، و"الدولة مصنعًا"، و"المدرسة والجامعة مصنعًا"، فلا بدّ من تحديد وظائف وطبقات مجتمعيّة تخدم هذا "المصنع الكبير".
وإذا كانت "الحياة تصنيعًا وصناعة"، فإنّ أصحاب الخبرة والقدرات المتميّزة في صيرورة التّصنيع العموميّ، سيكون لهم دور أهمّ، ووظائف أعلى في سلّم المجتمع الصّناعيّ والمصنّع، ولكنّهم بحاجة إلى "جيوش من العمّال"، يملكون المهارة الكافية الّتي لا تزيد عن "المطلوب".
وهكذا أمست "الدّولة" و"الجيوش" و"المجتمعات"، و"العلم والمتعلّمون" مجرّد أنماط من "التّنظيم الصّناعيّ الآليّ"، لا يقبل "الاعتباطيّة" و"الشّروخيّة".
هذه القهريّة "الصّناعيّة التّصنيعيّة" لمفاهيم الوجود والنّظام والسّلطة، أنشأت قلقًا ومشكلات لم تكن لتظهر لولاها، فإذا كانت "الحداثة الصّناعيّة التّقنيّة التأليليّة" تروم القبض على العالم والحياة والمجتمعات بقوّة "السّلطة" و"النّظام"، وفرض "التّراتبيّة الطّبقيّة" الّلازمة لدوام "الآلة"، وتطوّرها، وتوسّع "أسواقها"، فإنّ رفض هذا المفهوم لـ"السّلطة"، ومعارضة مثل هذه الممارسات هو ما دفع لظهور مفهوم "الإنتلجنسيا/ المثقّف" الّذي يجعل تميّزه المعرفيّ جزءًا من نشاطٍ قلقٍ، ومقلقٍ لهذا المنظور لـ"السّلطة" و"النّظام" و"القانون"، وهذا ما سيؤول بعد ذلك إلى نفور من أيّ معنىً لمعاني "السّلطة" و"النّظام" و"القانون" في ما يُسمّى "ما بعد الحداثة".
وبين منظور يريد "تأليل" العالم، وإدخاله "المصنع وأحكام الآلة"، ومنظور قلق رافضٍ له، جاءت مفاهيم "المثقّف" و"الحداثة" معبّرة عن هذا القلق مرّة بمحاولة الخروج منه، ومرّات أكثر بمزيدٍ من الإغراق في القلق والاضطراب.
ومن آثار الاستعارة "الصّناعيّة الآليّة" أنّها تشمل عمليّات متبادلة ومتحوّلة ومتضادّة؛ فالتّصنيع المعدنيّ أوّلًا، ثمّ التّقنيّ المعلوماتيّ ثانيًا وثالثًا، يحتاج في منتجه الأخير إلى قدر من "الصّلابة"، ولكنّه يحتاج للوصول إليها إلى قدرٍ كبير من "التّسييل"، و"الصّهر"، وإعادة التّشكيل والتّصنيع؛ فـ"الحديد"، و"النّحاس"، و"السيلكون" و"الفولاذ"، لا تكون جزءًا من التّصنيع بصورتها الطّبيعيّة. وهكذا فإنّ تحديث المجتمعات، و"تصنيعها"، لا بدّ له من عمليات "تسييل"، و"صهر"، و"إعادة خلق"، فهل سيكون هؤلاء "المثقّفون" بما يحملون من "قيمة معرفيّة" مضافة! جزءًا من هذا التّصنيع، أم إعاقة له؟
المشكلة أنّ مفاهيم مثل "النّظام" و"التّنظيم"، و"الحداثة" و"التّحديث"، و"التّقدّم والتّطوّر"، تتمتّع بجاذبيّة، وسحرٍ دلاليّ تداوليّ، تجعل رفضها ومقاومتها مواقف "مكلفة"، بل "محرجة"!
ولم يعُد من اليسير أنْ نسترجعَ سياقًا "فوق حداثيّ"، دون أن نقع في افتراض دخولنا نفق "التّخلّف والفوضى"، سواءً بما قبل الحداثة، أم ما بعدها!
وصار من العسير القول والدّفاع عن منظور يرى أنّ "الحداثة" تنطلق من منظور هندسيّ لـ"النّظام والانتظام"، يمارس قوّة تحكّمه على العناصر المنضوية تحته، ولكنّه غير قابلٍ للملاحظة والمراقبة والتّحكّم إلا من "الخارج عنه"؛ لذلك تأسّس مفهوم الانتظام والنّظام الوحيد الواجب وإن لم يكن حاضرًا في كلّ شيء من منظور الحداثة قبل البنيويّة؛ لذلك حملت راية فرض هذا المنظور الانتظاميّ على الجميع، ثمّ أصبح انتظامًا موجودًا بالضّرورة في كلّ شيء سواءً كان ظاهرًا أم خفيًّا من منظور الحداثة البنيويّة، وقام منظور هذا الانتظام والنّظام الكلّيّ على أنّ بؤرة الانتظام هي الذّات المراقبة، وأصبحت هذه المفاهيم مركزيّة في النّظر والفعل للكون والحياة والإنسان:
- الإطار الفاصل والمحدِّد لما هو داخلٌ في الموضوع وخارجٌ عنه من موضوع آخر.
- الأطر المحدّدة والرّاسمة لمفهوم "الأدوار".
- المسافة الفاصلة الضّروريّة بين الذّات والموضوع.
- المسافة الفاصلة الضّروريّة بين المجال الماديّ والفضاء المعنويّ.
- هيمنة المعنى التّفسيريّ والوظيفيّ على المعنى التّأويليّ.
- هيمنة القصديّة التّحكّميّة على العفويّة والتّلقائيّة. هيمنة الصّناعيّ على الطّبيعيّ: سن الرّشد هو 18 بأمر القانون وسلطته القصديّة، وليس "البلوغ الجنسيّ" مثلًا.
أي باستعارة دالّة: إعادة تشكيل الكون والحياة والإنسان بوصفهم "معرضًا"، و"معرضًا للآلات والمصنوعات حصرًا"، كما يقول "تيموثي ميتشل".
وعوض أن يشتبك "المثقّف" مع مكوّنات هذا المنظور، أمسى في موافقته أو معارضته محكومًا لهذا المنظور؛ فتغلّب على مشهد "المثقّفين العرب" فئتان: فئة ترى أنّ التّجربة العربيّة والمسلمة كانت خالية من هذا المنظور الانتظاميّ، أو تعيش اضطرابًا وفوضى في كمال تحقّقه؛ لذلك يجب إعادة خلق المجتمعات العربيّة، وفق قابليّة هذا المنظور الانتظاميّ وشروطه، حتى لو تخلّى وانفصل عن كلّ تجاربه السّابقة باسم "التّحديث" و"التّطوير".
وفئة ترى أنّ التّجربة العربيّة والمسلمة تاريخيًّا لم تكن سلبيّة، بل إيجابيّة، ولكنّها إيجابيّة بمعنى حضور هذه المفاهيم الانتظاميّة في تجاربها.
أي تتّفق هاتان الفئتان على أنّ هذا المنظور "الحداثيّ" لـ"النّظام" و"الانتظام" هو "العيار والمقياس"، ولا سبيل لمنظور أو أنظار أخرى، والفرق يكمن في نظرتهم للتّجربة التّاريخيّة المسلمة، هل وجد فيها هذا المنظور أم لا؟ على سبيل المثال الحديث عن "الدّيمقراطيّة" والتماس فئة خلو التّجربة المسلمة منها لصالح الاستبداد المطلق، والتماس فئة أخرى حضور "الدّيمقراطيّة" في التّجربة، ولكن بأسماء أخرى مثل "الشّورى".
وقَلَّ مَن يجرؤ معرفيًّا ونفسيًّا على أن يقول: لم يكن هذا المنظور الهندسيّ للحداثة و"الحديث" حاضرًا في التّجربة التّاريخيّة العربيّة، وغير العربيّة في سياق أوروبيّ وغير أوروبيّ بالضّرورة، ولكن ليس من الضّروريّ أن تكون حاضرة تاريخًا، ثمّ واقعًا لوصف التّاريخ والواقع بأنّهما منتظمان ومتطوّران.
أزعم أنّ هذا الهوس والحساسيّة بفرض نظامٍ يقوم على الفصل الواضح بين "الدّاخل والخارج"، بين "الموضوع والذّات"، بين "التّصوّر والفعل والممارسة"، بين "الشّخصيّ والعامّ"، بين "العلم بالشّيء والعمل بمقتضاه"، بين "اكتشاف معرفة وجدواها"، بين "التّنظير للمعرفة وممارسة آثارها"، بين "المقدّس والعاديّ"، لم تكن سمة للتّجربة العربيّة المسلمة، بل لتجارب البشر عمومًا قبل ظهور سحر المنظور "الحديث"، ثمّ "الحداثيّ" للعيش الإنسانيّ كلّه.
لم تكن تلك التّجارب محتاجة لـ"مثقّف" يعلن موقفًا بنيويًّا من "النّظام" و"السّلطة"، فيسعى لوضع حدود فاصلة يقف عندها، أو يخترقها، لم يكن بحاجة إلى "وظيفة مرسومة" نظريًّا، يُحاكم عليها عمليًّا؛ لأنّ الحياة عيشٌ وتعايشٌ وملابسة لكلّ هذه الثّنائيّات، بتزامنيّة وتعاقبيّة "طبيعيّة"، هي مزية "الحياة البشريّة".
وأزعم هنا أنّ "السّلطة ما قبل الحديثة"، على الرغم من كلّ ما يمكن أن نصف كثيرًا أو قليلًا من ممارساتها بالوحشيّة والتّوحّش، إلا أنّها أقلّ طموحًا أو طمعًا في تحقيق سيطرة عامّة، والقبض على انتظام عامّ، يجعل كلّ شيء جزءًا من نظام عام؛ لكلّ شيء موقعه ودوره المفروض والمتوقّع، وهذا التّواضع في الطّموح أو الطّمع يعود فيما يعود لعدم إمكانه في أزمنة ما قبل "الثّورة الصّناعيّة"، و"ثورة المواصلات والاتّصالات"، وثورة الوسائط الكتابيّة المطبعيّة.
ما جرى للسّلطة من تحوّل في قدراتها ومفاهيمها، وانتقال تصوّرها إلى مفهوم البنية الكليّة الحاكمة على الوجود كلّه، والمفارقة له في الوقت نفسه، أعاد تعريف "الجماعة البشريّة"، وتراتبيّتها، وأدوار طبقاتها، فإذا كانت السّلطة السّياسيّة والدّينيّة والمعرفيّة ما قبل الحديثة، إن صحّ التّعبير، تتأسّس على أنّ المعرفة العلميّة في أيّ شأن من الشّؤون ليس حاجة عامّة لجميع البشر، بقدر حاجتهم للعيش وتقليب أسباب الحياة بالممارسة، وهم كذلك غير قادرين ولا مؤهّلين لهذه المعارف "الخاصّة"؛ فـ"العوّام"، و"العامّة" مفاهيم يوصف بها أغلب النّاس تجعل انشغالهم بما ينشغل به "العلماء" غير مطلوب، بل غير مقبول! ولكنّ "ثورة التّصنيع" بما رافقها من تضخّم كبير في منتجاتها، وتوسّع كبير في نطاق المستهلكين المستهدَفين لها، وتزايد في نسبة القادرين على القراءة، وانتشار الكتب والمطابع، جعل الفئات القادرة على الاشتباك مع المعرفة أكبر بكثير، فصار القارئ جزءًا مهمًّا، ثمّ صار مقصدًا مهمًّا، ثمّ صار المقصد المهيمن، وصار وصف أيّ شيء بـ"العامّ" مطلبًا لبيان اتّساع حضوره، وبالتّالي ضرورة مراعاته والاهتمام به.
فإذا كان "العامّ"، أو ما يوازيه من كلمات في حقل التّداول مثل "الجمهور"، و"الإجماع"، مُناطًا بفئة خاصّة في أزمنة ما قبل السّلطة الحديثة، فيُقال: "إجماع العلماء"، و"جمهور العلماء"، ثمّ صار وصفًا لـ"ما يجب أن تكون عليه الأمور" من تفكير و"رأي"، في زمن الحداثة الآليّة والبنيويّة، فيُقال: "الحسّ العامّ" و"المنطق العامّ المشترك"، أي "common sense"، وهو مفهوم نوعيّ لا كمّيّ؛ يشير إلى منطقٍ وحسٍّ جيّدين يستحقّان الاقتناع بهما من الجميع "العموم"، بغضّ النّظر عن تحقّق هذه القناعة عند الجميع والعموم. فإنّ مفهوم "الرّأي العامّ: Public opinion" أمسى كمّيًا وصفيًّا لا نوعيًّا معياريًّا، بل صار هو المعيار نفسه في أزمنة ما بعد الآلة الصّلبة، وأزمنة التّقنية السّائلة، الّتي جعلت المتلقّي والمستهلك بؤرة العمليّة التّصنيعيّة والتّسويقيّة.
ولكن هل يعني ذلك أن تترك "السّلطة الحديثة" سلطتها الانتظاميّة، وسيطرتها النّظاميّة، لتتحوّل من صانعة المفاهيم والأدوار إلى مصنوعات يُنتجها سياق تلقيات واستهلاك تُسمّى بـ"الرّأي العامّ"؟
إنّ ما توفّره العصور الصّناعيّة والتّقانيّة، ثمّ الرّقميّة تزيد من أطماع التّصنيع والتّحكّم والسّيطرة؛ لذلك لم يكن مستغربًا أن ينتقل "طمع تحالفات السّلطة" من "تلبية حاجات النّاس" و"الاستجابة لها"، إلى "صناعة هذه الحاجات"، فيُصبح "الرّأي العامّ" هدفًا لهذا التّصنيع.
فـ"الرّأي العامّ" لا يكون "عامًّا" بمجرّد التّحقّق الكمّي في مجتمعٍ ما، بل يصير كذلك حين يظهر ويكون "حاضرًا" في فضاء التّداول العامّ، وهكذا أصبحت دور النّشر أوّلًا صانعة للرّأي العامّ في زمن الحضور الكتابيّ، ثمّ أصبحت "الصّحف" في زمن الحضور الكتابيّ السّريع والأخفّ، ثمّ "الإذاعة" و"التّلفزيون" في زمن "السمع والبصر" الكسولين غالبًا، ثمّ "الفضاء الرّقميّ"، وعصر شبكات "المحطّات المتاحة للجميع" تقوم بهذا الدّور "الصّناعيّ والتّصنيعيّ"، مع ملاحظة أنّها توفّر فرصًا أكبر في توهّم دور النّاس في صناعة هذا الرّأي العامّ.
وقبل أن يذهب قارئ هذا الكلام إلى توهُّم أنّني أقول بانعدام ممكنات تشكُّل رأي عامٍّ أو خاصٍّ بعيدًا عن سيطرة "صنّاع فضاءات الاتّصال والتّواصل"، فإنّني أشير إلى أنّ كلّ هذه التّطوُّرات رافقتها ممكنات، بل توسُّع في هذه الممكنات، ولعلّ هذا التوسُّع الممكن المرافق هو ما يجعل حساسيّة "السُّلطة الحديثة" و"ما بعد الحديثة" أقوى وأعمق لخطورة هذه الممكنات، وقدرتها على "التّفكير" و"التّعبير" خارج سيطرة منظومة الانتظام السّلطويّ.
لذلك أمسى الصّراع بين تصنيع الرّأي العامّ والاستجابة لولادته الطّبيعيّة صراعًا على مستوى "التّفكير والخيال" نفسيهما، وليس على مستوى "التّعبير" و"الممارسة".
وهنا يأتي ما أتصوّر لمفهوم "المثقّف" وأدواره، فهو المزعج بقدرته المعرفيّة، ومنظومة خطاباته لهذا الاندفاع الطّمعيّ، والغرور البشريّ السّلطويّ الّذي يريد تصنيع العالم والحياة تصنيعًا لا حياة لأحدٍ إلا في أدوار التّصنيع، تصنيع أفعاله، وتصنيع ممارساته، وتصنيع آرائه، بل تصنيع خياله. يعمل لاستعادة النّاس قوّة الخيال، عوض ما هم فيه من "تفويض سلطة الميديا، أي (السّلطة)" قوّةَ خيالهم.
وهنا أختم بحادثة يتبعها "تعليق"، ومقولة تتبعها إشارة:
أمّا الحادثة، فهي: قُتِلت امرأة "بيضاء" حامل في مدينة أميركيّة، فادّعى "زوجها" أنّ "رجلًا أسود مجهولًا" قتلها.
سأل "صحفيٌّ" سيّدة "بيضاء" تسكن بجوار "العائلة المنكوبة": بما أنّك جارة منذ سنوات لهذه العائلة وتعرفين "الزوج"، فهل تظنّين أنّ روايته عن "الرجل الأسود" الذي قتل زوجته صحيحة؟
فأجابت: لا أعرف "الزوج" كثيرًا، لكن الذي أعرفه أنّ "الرجل الأسود" غالبًا ما يكون "القاتل"!
فسألها: وكيف تعرفين ذلك؟
فقالت: من "السينما"، عندما تكون هناك "جريمة" ويكون هناك "رجلٌ أسود" فغالبًا ما يكون هو القاتل! آه كم أنا متشوّقة لمشاهدة "الفيلم السينمائيّ" الذي سيُنتَج عن "الحادثة" لأعرف "حقيقة ما حدث"!
تختصر هذه الحكاية منظور كثير من النّاس إلى الأحداث والوقائع؛ فـ"المتوقّع" هو نتاج "الصورة النمطيّة" التي تختلقها "الميديا" من سينما وإعلام، و"الحقيقة" هي ما "نراه" في "الميديا" عن الأحداث لا "الأحداث" نفسها.
كثيرون منّا ينتظرون "الفيلم القادم" عن "الأحداث التي تدور حولنا" لمعرفة "حقيقة ما يحدث". لقد حلّ "تمثيل الواقع" عبر "الميديا" محلّ "الواقع نفسه"، وعِوض "إقرارنا" بجهلنا بما يحدث حولنا أحيانًا كثيرة، أصبحنا مسكونين بـ"وهم المعرفة" التي تقدّمها لنا "الروايات التلفزيونيّة والسينمائيّة والمواقع التواصليّة".
كان الإنسان قبل عصر "الصورة والفرجة" يعتمد "الأخبار المنقولة" التي تختلط فيها "حقيقة ما حدث" بـ"مخيّلة الراوي وروايته"، فيتلقّاها مُعمِلًا "مخيّلته الخاصة" لينشئ "روايته" عمّا حدث. لكن بعد عصر "الصورة والفرجة" قام "المتلقّي" بـ"تفويض" صانع "الميديا" و"تخويله" بحقّ "التخييل والمخيّلة" لتصبح "مخيّلة صانع الميديا" بديلًا عن "الواقع" و"الخيال" معًا.
أمّا المقولة فهي لفلوبير:"إنّ رؤية امرأة عارية تدفعني لتخيّل هيكلها العظميّ".
إنّ ما تبدو عليه "السّلطة" اليوم نتيجة أطماعها في التّحكّم في كلّ شيء حتى "الخيال"، قد ينتهي إلى ظهورها "عارية"، فيندفع النّاس إلى تخيّل "هيكلها العظميّ الخفيّ"، وعلى "المثقّف" حينها أن لا يبادر لتغطية هذا الهيكل العاري، أو تجميله، أو تقبيح خيالات النّاس، واكتشاف عريّ السّلطة والتّمعُّن فيه، فـ"المثقّف" -كما أراه- هو السّاعي بقدراته إلى تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من توازنٍ بين حقّ جميع البشر في الخيال والرّأي والتّفكير خارج التّصنيع السّلطويّ من جهة، واستعادة مفهوم "ما يجب" و"ما ينبغي" لوصف الوقائع والتّجسّدات بـ"الواقع والواقعيّة"، و"الثّقافة" و"المثقّف" و"الحداثة وما بعدها" و"التّحديث"، و"الرّأي العامّ"، لتكون مفاهيم "نوعيّة"، لا مجرّد "كمّيّة".