مشكلة الإنسان في الفلسفة تأليف: ميراب مامارْداشفيلي

 

ترجمها عن الروسيّة: د. حسين جمعة‏

كاتب وناقد أردني

 

عملَ الفيلسوف "ميراب ما مارْداشْفيلي" (1930– 1990) أستاذًا في قسم الفلسفة ‏في جامعة موسكو الحكومية، وكان عضوًا في الأكاديمية السوفياتية عن فرع الفلسفة. ‏له مؤلفات في الفكر وهو صاحب اتجاه في فلسفة التفكير والتحديق في الماضي، يرى ‏أنَّنا لسنا بحاجة إلى المعارف الميتة، ويقول إنَّنا نتوجَّه إلى الماضي لفهمه واستيعابه ‏بالمستوى الذي نتمكّن منه، ويضيف: "أنْ أفكِّر- هذه صورة حياتي"، "أنْ تفكِّر ‏بالوجود هذه وسيلة وجود المفكِّر". ‏

 

 

لو لم أكُن أكاديميًّا(*) لقلتُ إنَّ مشكلة الإنسان كمادة للبحث الفلسفي غير موجودة. غير ‏موجودة بمعنى أنَّ الفلسفة من البداية كانت مضطرّة لإدخال مطلقات في فهم العالم ‏تستطيع بها -إلى حدّ ما- عزل جميع خصوصيات مدركات العالم وتلقّيه، التي تنبع من ‏طبيعة الإنسان الأرضيّة الخاصة أو الجزئيّة. طبيعة هذه التعقيدات التي تتبدّى أمامنا ‏تعبِّر عنها مقولة نيتشه الفريدة "الإنسان.. هو الإنسان". لكن حينما تتسلّل هذه المقولة ‏الفلسفية إلى اللغة اليومية الدارجة، فإنها تُفهم وفق قواعد هذه اللغة التي تستند إلى ‏بعض اللوحات العيانيّة تحت غطاء من المصطلحات والتوكيدات؛ فتغدو هذه المقولة لا ‏إنسانية. في الواقع، الأمر يتطلّب في سبيل إدراك الفعل الذي نقوم به، ومفاده إيقاف ‏هَوَس الإنسان الأبديّ في ذاتِه- وضع لوحات حياتية تحت التوكيدات والمفاهيم ‏الفلسفية. تحمل الاعتمادات الفلسفية، لا سيما فيما يخص الإنسان، دائمًا شيئًا من ‏المعنى التجريدي التأمُّلي الافتراضي. وهذا المعنى من الصعب الإمساك به لسبب ‏بسيط، فنحن حينما نتكلم عن شيء ما ظاهر جدًا ندركه بالعقل، ونستخدم ألفاظ اللغة ‏العادية، التي تمتلك كل لفظة منها بنايات ماديّة واضحة. ‏

ولكي أشرح ما قيل، أسوق مثالًا بسيطًا، مع ضرورة الملاحظة إلى أنَّ الأمثلة البسيطة ‏خطرة، لأنَّ إدراكها يتطلب حدوسات يتشاطرها كثيرون، وتصوغ شذراتها في بيئة ‏ثقافية وفكرية محددة، وانغماسنا في كلماتها وخبراتها الثقافية حسية. نحن وُلدنا في ‏أكنافها ونعيش فيها. من هذه الزاوية نلقي نظرة على الحالة الثقافية المعاصرة.‏

أستطيع تحديد حالتنا كوضع "تنابلة السلطان".. جميعنا نعيش ونركِّز على الرابطة ‏الإنسانية الميسورة مباشرة، والفهم المشترك اللاشكلي غالبًا. أمّا القانون فيمثل أمامنا ‏كشيء شكلي جدًا مفرغ من الظلال الإنسانية الضرورية. ونحن نعوِّض هذه "التنبلة" ‏بالارتكاز الواحد على الآخر، علاقة إنسانية ما غير متبلورة وغير ناطقة من ‏التلميحات المتبادلة والتفاهمات، التي تُقام دائمًا على سطح أي قوانين أو معايير شكلية ‏وعلى الرغم منها. نحن نستدفئ بتماس أجسادنا البشريّة بالحد الأدنى من الدفء بما ‏يضمن عدم الوقوع في غيبوبة، بينما في الوقت ذاته، وفي أماكن ودوائر أخرى ‏تتفكك.. وبدلًا من "الحرارة الرفاقيّة" يخترعون تدفئة غازيّة.‏

نحن منغمسون في إنسانية مباشرة، وغالبًا غير قادرين على تحطيم رابطة التفاهم، ‏وكأننا نريد بالفهم المتبادل وبالدفء الإنساني تعويض عدم تطور حياتنا الوطنية ‏والاجتماعية، وكل ما يخرج عن حدود هذا الدفء الإنساني يبدو لنا توافقات شكلية ‏وتوسُّطات ما لحالاتنا التي تترامى بعيدًا عنّا إلى أفق قصيّ، وهذا ينتزع منّا شارة ‏الإنسانية. هذا الاستنكاف يظلّ أقوى لأنه يحمل في ثناياه تقليدًا عالميًا قديمًا، أو تقاليد ‏عالم ما أو طائفة ما. وها هو ذا الوجود، الذي يلتصق بدفء الحرارة الإنسانية ‏المتبادلة يستمر في ديمومة الحياة التي هي كما هي، على أمل أن "يحملني الآخر إذا لم ‏أرفع رأسي وأبتعد عن هذه الرابطة الإنسانية" (ما دام الآخرون هم مَن يموتون دائمًا). ‏هذا هو "الإنسان- هو الإنسان" الذي قال عنه "نيتشه" أو أي فيلسوف آخر أنه الأوَّل، ‏وهو الذي يعيق الإنسان عن التفكير ويحجبه، كما الستارة، عن ذاته نفسها، عن ‏وضعه الفعلي في العالم وجدواه ورسالته، هذا ضرب من الحالة البربرية المهجورة ‏التي استقرَّت في العالم المعاصر، يعني العالم الذي يستثني هذه الحالة الفجّة، عالم ‏يفترض توافقات لفظية معقدة، وصياغة أهلية واجتماعية، وحضور لأرباب الثقافة ‏‏(إذا فهمناها كعادة فعليّة وقدرة وقوّة على ممارسة المعقَّد والمتنوِّع). والمعقَّد والمتنوِّع ‏لا يمكن العثور عليه بكليّته في أفق النظرة الإنسانية الشمولية، الذي يتيح درجة من ‏الدفء المتبادل لغيبوبة الأبدان الإنسانية المهترئة والمتكلسة.‏

وأفضل مثال لتوضيح هذه الغيبوبة الضالة في اختلافها عن قوانين التاريخ الإنساني، ‏ووجود إمكانية لقوانين الدورة الميثولوجية والتكرارية، هو فيلم "القطار.. توقف"، ‏الذي تجري وقائعه في عالم بشري منضبط، يتناهى فيه مستوى مريح ومثالي من ‏الإخفاقات العامة. لا أحد من مكونات هذا المجتمع يستطيع أن يفعل شيئًا كما ينبغي ‏بمهارة ومسؤولية، ويتم تعويض هذا النقص بتبادل الفهم المشترك. والمحقق الذي ‏يحضر لا يريد تفهُّم هذه الحقيقة، لكنه يُقدم على الخطوة الأولى، التي يتعيَّن أن تتلوها ‏خطوات- خطوة التفكير التي تُطرح لمساءَلة تلك الجذور والثوابت التي يسترشد بها ‏الناس المنغمسون في الحدث. لكن خطوته لم تكُن خطوة المفكِّر، وإنَّما هي خطوة ‏المحقِّق. وجراء ذلك تبرز في الفيلم حالة أولية تأملية: مَنْ يجرؤ على بدء الخطوة ‏الأولى ليخرج من العلاقة الإنسانية ويغدو معزولًا وموسومًا، فإنَّ الناس سينظرون ‏إليه مستنكرين، ونقرأ في عيونهم الحالة الإنسانية الشمولية والطيبة التي تستبعد ‏الاستخدام الشكلاني البارد للقانون، كان يمكن إلقاء حجارة على المحقق! لقد ظهر ‏منفردًا وموسومًا.‏

وعليه، دون هذا الوسم وهذا الانفراد، ودون أن تُلقى عليك الحجارة، لا يمكن أن ‏يتكشَّف فضاء التفكير الإنساني والوجود الإنساني، فضاء الإنسان العاقل (‏Homo ‎Sapiens‏)! ‏

هكذا، حينما نتكلم عن الإنسان فإنَّ الحديث، يا للغرابة، يقوم على أساس التجريدات، ‏نستبعد مباشرة وبالحد الأقصى إنسانيًا الأشياء الميسورة لدينا. بهذا المعنى لا وجود ‏لمشكلة الإنسان في الفلسفة! يعني أنَّ الإنسان كمخلوق يمتلك بشكل طبيعي ما صفات ‏محدَّدة معطاة له، لن يكون مادةً أو موضوعًا للبحث في الفلسفة، الذي يمكن أن يكون ‏مادة أو موضوعًا للبحث في الفلسفة، ويسمح بالتقصي فيما بعد ليس هو دائمًا الإنسان ‏الماثل، وإنّما هو الإنسان الممكن، الذي يمكن أن يشعّ لفترة ما، ويترسّخ في المكان ‏بجهد خاص ما. الجهد المتعالي القائم في القدرة على طرح الذات نفسها إلى الحد الذي ‏يتبدّى خلفه وفي شخصه ملامح الموت، إلى الحد الذي يومئ للإنسان عن قدراته أو ‏استعداده أن ينسلخ عن ذاته كما كان في لحظة الحدث، وأن يفارق القشرة الخارجية ‏الملتصقة به.‏

في الفلسفة ومنذ زمن الإغريق القدماء استقرَّت ثلاثة أشياء حول صورة الإنسان: ‏السعادة القصوى، الجمال والحقيقة. في حالة أناس فيلم "القطار.. توقف" لا يكتفون ‏بالتصوُّر المعياري العالي عن الإنسان، لأنهم منوّمون بما يتبدى لهم أنه السعادة ‏الإنسانية. ‏

وكما يؤكد الفلاسفة، فإلى جانب السعادة الإنسانية، ثمة مصلحة سامية تقف على ‏الجانب الآخر "الإنسان- هو الإنسان". المصلحة السامية لا تتناول مادة ما محددة، ‏وتبرزها وكأنها هي المبدأ "السامي" في علاقتها بالآخرين. وأي تطلُّع أو تسامح ‏بخصوص الصورة الداخلية أو الشكل الخارجي وارتباطها بالمادة الجزئية مستبعد ‏تمامًا. المصلحة السامية- هذه شكل ("صورة"، "فكرة"، "جوهر"، "مظهر") تحظى ‏بصفة كل التجريدات الفلسفية، وتخضعها للمبدأ العام، المؤدي إلى أن لا شيء ينبغي ‏أن يتحدَّد بمضمونه، وإنّما يقوم على جلاء ما هو غير مرئي بدقة، ويكون هذا مقياسه ‏الذي لا يتفتَّت. لنأخذ على سبيل المثال مبدأ "الواجب". لم يكن الواجب محددًا ‏بمضمونه أبدًا. الواجب هو ما يبدو في تلك اللحظة- هنا والآن، ولم يُستخرج قط من ‏التحديدات العامة.‏

وهذا ما يمكن قوله عن المصلحة. الناس في الفيلم متمسكون بتحديد معيَّن كأساس ‏للمصلحة- يجب أن تكون حقوق الأرملة وأسرة القتيل مكفولة. ولهذا يتعيَّن أن يطرح ‏القتيل كبطل. وجراء ذلك يتطلب من المصلحة الإنسانية أن توافق على باطل، على ‏حياة في إسار الأوهام. وهذا بحد ذاته لم يكن سيئًا جدًا، ما دامت الحقيقة كما هي ‏عليه، فلن تكون موضوعة على شكل مصلحة عليا. لكن المصيبة في الشيء المنحصر ‏في الباطل، وستتكرَّر بالتَّناوب التَّعاساتُ ذاتها بلا نهاية. وإذا لم نتمسك نحن بالحد ‏القاتل للوجود الإنساني (لا تتمثل صورة الإنسان في الفلسفة دون اتصالها برمزيّة ‏الموت)، فعندئذ نعيش جزئيّة الحياة التي لم نعِشْها نفسَها أزليًّا. ستجري الأحداث ذاتها ‏معنا، التي تكررت أبديًا، ونقع فريسة لعدم الاستنارة، التي يمكن تصوُّرها بسهولة، إذا ‏تخيّلتَ أنه محكوم عليكَ أزليًّا أن تمضغ القطعة نفسها، وأنه لا يمكنك أن تنتهي من ‏مضغها أبدًا. هذا هو الجحيم. بالمناسبة فقد التقط الفيلسوف الروسي "تروبيتسكي" بدقة ‏في كتابه "مغزى الحياة"، هذه اللحظة مؤكدًا أنَّ: "الجحيم- هو إمكانيّة أن لا تموت ‏أبدًا". يموتون مرَّة وإلى الأبد موتًا حقيقيًّا. وثمّة موت عندما تموت دومًا. ولا تستطيع ‏بأيّ شكل أن تموت. هذا هو الجحيم، هذا- عذاب جهنَّم.‏

لقد استدرجت مفهوم "المصلحة العليا"، وبالدقة هذا ليس مفهومًا، وإنّما هو رمز، وفق ‏ما كان يمكن أن يقوله "كانط"، لا يتضمّن تأمُّلًا أو تبصُّرًا يمكن بواسطته فك عقدته. ‏يعني أننا لا نستطيع أن نضع تحت هذه المفهوم أي مادة محددة. ها هي "المصلحة ‏العليا" تقع في ذلك الجانب من الارتباط بالسعادة التي نراها، ويمكن صياغتها بالقول ‏القديم: "ليهلك العالم، ولتحقق العدالة!". وهذا لا يعني أبدًا الصيغة السائدة في القانون ‏الإنساني الفاتر، الذي في سبيله يمكن التضحية بالجميع. مثل هذا التأويل يتطابق ‏ومنطق اللوحات التي تتسرَّب إلينا بلغتنا الجارية. في واقع الأمر، فإنَّ هذا الفهم يستقيم ‏والقول إنَّ العدالة وحدها تشير إلى السعادة الحقيقية، وبالنسبة إليها فإنَّ العالم الذي ‏تعيش فيه هو عالم يغطّ في غيبوبة الأبدان الإنسانية، ويستحق أن نقول فيه "ليفنى ‏ولتتحقق العدالة!"، بقدر أنَّ ما يُرتكب يمكن أن يكون كذلك في حالة ما إذا ظهرت ‏جليًّا نزعة حفظ العدالة. يعني لا يمكن اختراع قانون يكون عادلًا، ويحقق غايته بشكل ‏كامل. دائمًا ثمة شيء لا يؤخذ بعين الاعتبار، وجميع الحالات الملموسة في تنفيذ ‏القانون ليست على مستوى صياغة القانون ذاته، وتوضع هذه الصياغة تحت منظار ‏الشك. لكن الفلسفة تتطلب أن نتفهَّم أنَّ مقاصد القانون هي القانون نفسه. لا وجود ‏لعدالة ملموسة في القضايا الجزئية، كلا. وحتى يكون الناس راضين- فهذه ليست ‏مصلحة عليا، لأنَّ هدف القانون هو القانون نفسه. وبكلمات أخرى، ليتحقق أي قانون ‏ينبغي دائمًا وفي كل مكان استخدام تلك الوسائل التي ترسِّخ القانون نفسه المعلّق ‏أمامنا. وفي حالة التعليق هذه لا يمكن بلوغ عدالة القانون بنقائه الكامل، وهذه حالة ‏منشودة. وهي تستثني الطابع المطلق لالتصاقنا بذلك العالم الذي ترعرعنا فيه، والذي ‏نعتبره شاملًا ونهائيًا. ودون المقدرة على التحديق في هذا العالم، فلا وجود لجمالٍ أو ‏سعادة عليا للإنسان.‏

وردت هذه الحقيقة القياميّة (من القيامة) في منظور ديانات الإنسان الأولى- في ‏الديانات العالميّة، وفي ذلك الجزء المسمّى "الميتافيزيا". أمثولة ذلك تلك اللوحة ‏الغريبة المرسومة في إيحاءات يوحنا في سفر الرُّؤيا (الأبوكاليبسيس)، التي تتحدَّث ‏بوضوح عن أنَّ صورة الإنسان في الفلسفة لم تكن أبدًا لوحة لأيّ موضوع خاص عن ‏العالم، يمكن تسميته بالإنسان؛ الذي تطوّر بصورة ما، وقطع مراحل عدة وفترات ‏زمنية ما. هذه اللوحة تشير إلى القدر الإنساني، إلى الحالة الأساسية والمصير الذي ‏قُدِّر للإنسان، وما هو متاح له، وإلى ما يمكن أن يسعى إليه، وما يمكن أن يبلغه. ‏ولهذا؛ فإنَّ لوحة سفر الرُّؤيا ليست لوحة عصر محدَّد وقع بعد عهدٍ آخر، نقول فيه ‏أنه حالة عاديّة جيدة. هذا ما لاحظه المفكر الروسي الكبير "تْشأَدايف" الذي أشار إلى ‏أنَّ سفر الرُّؤيا ليس عصرًا ما يهلُّ، وإيمانًا بعلامة ما لتشاؤمها، أو حالة رؤيوية ‏خاصة لدى الإنسان الذي عاش في النقطة السابقة لسفر الرُّؤيا. سفر الرُّؤيا- توصيف ‏لإمكانية سقوطنا في هذه الحالة، توصيف لأزلية هذه اللحظة، ومن جانب آخر القدرة ‏على البقاء على الحد من رفض العالم الذي نبتنا فيه ونموْنا، ومن وراء هذا الحد نجد ‏سعادتنا الحقيقية وصورتنا الحقيقية، ونرى الواقع كما هو. من قبضة الملح هذه علينا ‏أن نتلقى التوكيدات الفلسفية، جميعها حول الإنسان بمقياس فلسفي فعلًا في اختلافها ‏عن التوكيدات التي يمكن أن تنجز في العلوم البيولوجية والإنثروبولوجيا وما يشابه ‏ذلك. جميع التوكيدات الفلسفية المتضمنة مصطلح "الإنسان" لا يمكن حلّها بواسطة أي ‏خصائص بيولوجية، ولا على أساس أي صورة ملموسة للإنسان، وذلك -كما مرَّ ‏معنا- أنهم دائمًا يُعنون بذلك الإنسان الممكن الذي لم يتواجد قط، أو الحالة الآتية، وإنما ‏دائمًا الحالة الفاعلة مع أنها لا تعود إلى أي من الموجودات.‏

نسوق للتوسُّع في التوضيح تجريدًا فلسفيًّا إضافيًّا آخر، وأعني التعريف العبقري ‏الوحيد للكينونة، المبني وفق النحو الفلسفي، وليس نحو اللغة الدارجة. وبحسب هذا ‏التعريف أو التحديد فإنَّ الكينونة- هي الشيء الذي لم يكن أبدًا، ولن يكون أبدًا، وإنما ‏ما هو عليه الآن! وإذا أردنا أن نفهم هذا القول، ونحن نتتبَّع قوانين اللغة الجارية، ‏فعلينا أن نقول: إذا كان يوجد "الآن"، حينئذ بعد "الآن" وحينما يمرّ وقت ما، نقول ‏عن هذا "الآن" أنه "كان"! وعلى الرغم من هذا النحو، فإنَّ هذا التعريف يقول في ‏واقع الأمر: إنَّ الكينونة ليست شيئًا ما، أو ما كان، ولن يكون أبدًا، يعني لا يمكن أن ‏يكون هو ذاته بذاته. إذًا لا شيء كان، فيمكن تصوُّر استمرار هذا عبر لحظات الزمن، ‏حينئذ يكون. والكينونة- إنها الشيء الذي يكون داخل لحظة العالم الزمنية وفي إطارها. ‏لكن، وكما هي حال سفر الرُّؤيا. هذا ليس ما يكون، وإنّما هو ما يكون دائمًا "الآن".‏

القول "لم يكن أبدًا"، ولن يكون أبدًا، وإنَّما يكون "الآن" هو نفس ما يقال "أبدًا"، إذا ‏استخدمنا المؤشرات الزمنية المتواجدة في اللغة، التي تعيق فهمنا حول ما يجري عليه ‏الكلام، وإذا لم نكن على درجة من الذكاء لاستخلاص التجريد الفلسفي، وترسيخ ‏السعي الحثيث في ذاتنا لترتيب التباينات المادية تحت أي توكيدات. جميع التوكيدات ‏الفلسفية تنتمي لبعض لحظات الوجود، ولا تأخذ في منظارها أي مادة منقطعة عن ‏المواد الأخرى في الزمان والمكان. وإذا كانت صورة الإنسان قد طرحت في الفلسفة ‏بوضوح، فإنَّ الوسائط الفلسفية لا يمكن أبدًا أن تؤسس لأية مقولة يقينية حول ‏‏"الشمولية". إنها تحمل في ثناياها دائمًا تعقيدًا أنثروبولوجيًّا لوجود الإنسان الأرضي، ‏وتستثني أي مقولة فيزيائية (نعتمد مقولة حول القوانين الفيزيائية) عن أي شمولية. ‏وعليه، فإنَّ الفلسفة تقيم شيئًا ما شبيهًا بالأنطولوجيا الرافضة للإنسان، يعني وكأنها ‏أنطولوجيا الغياب. أو أنطولوجيا ذلك الشيء الذي لم يكن قط، ولن يكون، وإنما هو ‏الآن حسب.‏

وهنا يمكن أن نستحضر مثالًا آخر يوضِّح أيضًا ماذا تعني الفلسفة بالحالة الإنسانية. ‏ثمة تعريف رائع للحب عند "باسكال": "الحب ليس له عمر، إنه دائمًا في حالة ولادة". ‏إذا كان موجودًا فإنه لا يتجزأ زمانيًا من داخله، إنه دومًا جديد، ليس له عمر، ويبقى ‏دائمًا في حالة ولادة. وهذا التعريف في بنيته العميقة يمكن أن يُنظر إليه بنجاح ‏كتعريف للكينونة، كتعريف للإنسان. وهكذا، فإنَّ النحو الفلسفي بهذه البنية ذاتها يحدد ‏الأشياء التي تبدو مختلفة- طبيعة الكينونة وطبيعة الإنسان.‏

الصورة العظمى -الأنطولوجيا الرافضة- وجودها مخفي في الفلسفة دائمًا، هذه صورة ‏‏"اللاشيء العظيم". ينبغي القول إنَّ مجرى التفكير هذا حدث في الفلسفة الغربيّة وفي ‏الفلسفة الشرقيّة، مع أنَّ التصنيفات الفلسفية التاريخية المستقرة تعزو هذه الصورة ‏للفلسفة الشرقيّة، كالبوذيّة، وتُستثنى من الفلسفة الغربيّة. إلا أنَّ القراءة المعمَّقة الباطنية ‏لنصوص الفلسفة الغربيّة التي تخضع لقواعد النحو الفلسفي تظهر الشيء ذاته "وجه ‏اللاشيء"، الذي يسكن في الأساس الذي تقوم عليه الميتافيزياء والأنطولوجيا الغربيّة.‏

شهد تاريخ الفلسفة دائمًا اتجاهًا طريفًا: إلى جانب الأفعال الفلسفية الفعلية (في اللحظة ‏ذاتها التي تتمّ فيها) تنبت وتعمل "الفلسفة الجامعية" أو المعادلات الثقافية للفعل الفلسفي ‏الكامل، وتتمثل في هذه المعادلات الثقافية نوطة التفلسف الحيّة المتفجرة، ووفق ‏رؤيتي، هذا غير ممكن دون التوقف أمام وجه ذلك "اللاشيء" الذي حاولتُ وصفه من ‏كل جوانبه. لكن، عادة ما يضيع في هذه المعادلات الثقافية الفعل الحيّ، وهناك لقطات ‏عرضية فلسفية كاملة تحضر كأشكال مستقلة، وهي في الواقع استمرار للنوطة الحيّة ‏في النصوص الفلسفية النابضة. وكمثال على هذه الحال في القرن العشرين هو ‏الفيلسوف "هايدغر" الذي امتلك موهبة قراءة هذه النوطة في النصوص القديمة، التي ‏تعتبر بالنسبة إليه، اكتشافًا خاصًا به، مع أنَّ الأمر ليس كذلك. ونتيجة هذه القراءة يتم ‏إعادة تعمير المغزى الحياتي في التجريدات الفلسفية، التي أضحت مادة للدارسة ‏المدرسية "الفلسفة الجامعية"، وفقدت دلالتها الأولى. وبفضل الحساسية الخاصة لهذه ‏المغازي الحياتية يقف "هايدغر" في الأدبيات كمعاد "للنزعة الإنسانية". إنه يدرك ما ‏يُقال في الفلسفة عن الإنسان، على أرضية وعلى ضوء "اللاشيء العظيم".‏

وبناء على ذلك، الإنسان- يبدو أنه المخلوق الوحيد في الكون (كمخلوق إنساني، بمعنى ‏أنه ليس من إنتاج الطبيعة، التي يمكننا دراستها موضوعيًا- في لوحة ما متجرِّدة عن ‏ذاتها) الذي يكون في حالة الولادة المتجددة باستمرار. وهذه الحالة المتجددة تحدث في ‏المدى الذي يتاح فيه للإنسان وجهوده الخاصة أن يضع نفسه في فكرته، في سعيه، ‏في جزء من الحقل المغناطيسيّ القويّ المقترن برموز في منتهى الدقة. هذه الرموز ‏تتجلى سطحيًّا في الدين (وبدقة في الأديان العالميّة، يعني أنها ليست قومية ولا ‏عنصرية)، من جانب، ومن الجانب الآخر في الفلسفة. هذا يعني، بمعنى أساسي ما أنَّ ‏الإنسان المفكر هو جزء من قوة طبيعية ما، إذا استخدمنا كلمة "طبيعية" بالمعنى الذي ‏سبق تصنيف "كانط" إلى جوهر وظاهرة، إلى "شيء في ذاته" وظاهرة، ونعني أنّ ‏‏"القوة الطبيعية" ليست مكافئة أو معادلة لقوة الطبيعة البيولوجية أو الفيزيائية. في هذه ‏الحالة نعني قوةً ما داخل الطبيعة لا نعرفها، لكنها -بشكل طبيعي أو عضوي- تعمل ما ‏دامت لا تُفكَّك من قِبلنا إلى أجزاء ولا تتراكب. ولو استطعنا تشطيرها إلى أجزاء، ‏وكل ما يمكن أن يُجزّأ يمكن أن يركَّب. وعليه، يمكننا تدشينه. بينما قوة هذه اللحظة ‏‏(مع أنَّ هذه "الرَّمشة" في لغتنا العيانيّة يمكن أن تهلَّ كمئة سنة أو ألف سنة). لا تتكرر ‏وغير ممتدة! ويمكنها أن تحدث مرَّة أخرى، لكن دون أن نكون نحن قادرين على ‏إطالتها. ولهذا، فإنّ جميع المصطلحات الزمنية التي تتواجد في الحوارات الفلسفية، ‏عن الإنسان، وعن الظواهر التي لا تتجزأ فعليًا تشير إلى بعض الحالات اليقينية التي ‏تتطلب منّا استيعابًا لا عيانيًّا. يعني ذلك الذي يمكن بواسطته أن نتمكن من فرز ليس ‏فقط المكوِّن المادي للتوكيدات، وإنما نأخذ بالاعتبار شيئًا ما حول إمكانيات طبيعتنا ‏الإنسانية، وحدودها ومكوّناتها. ومثال ذلك الوصيّة الإنجيلية القائلة: "إذا ضربك ‏أحدهم على أحد خدّيك، فأدر له الآخر"، ليست "روشيتَّة" سلوك يُستنتج منها حقيقة في ‏الحياة الفعلية أنه إذا صفعني أحد على خدي، فأدير له خدي الآخر في جميع الحالات. ‏هذه الحقيقة الروحية المجرّدة، التي تقول للإنسان عندما يُرتكب بحقك عمل ما، ‏وتعتبر أنَّ فيه إهانة واحتقارًا لك، فاعلم أنَّ هذه الإهانة تتضمّن حقيقة ما عنك، وإذا ‏أردتَ أن تتعرَّف عليها، توقَّف ولا تحلّ مشكلتك بأول حركة آلية كردّ فعل على ‏الفاعل وصفعه على خدِّه. وفي سبيل هذه الوصيّة بهذا الشكل، يكون من الضروري ‏اختمار رزانة وأريحية نفسية وروحية ما في داخل الإنسان، وهذه الأريحية تتطور ‏بالممارسة الدينية والفلسفية. وهذه يمكن أن تُغيَّب في التنظيم التحريمي للكنيسة. وفي ‏الشعائر المقامة آليًا في "الفلسفات الجامعية"، بالمدى الذي تضيع فيه الحدوسات ‏الميتافيزيقية البدئية. لكن، ما دام ثمة قواعد للرزانة الروحية تحضر هناك وتكون ‏متاحة أحيانًا- على سطح الشعائر والمحرمات- ترتقي إلى جوهر المسألة.‏

سأواصل التأمُّل حول الإنسان المفكِّر كقوة طبيعيّة انطلق ذات مرَّة في الأرض. جاء ‏في التاريخ على أرضية ما قبل التاريخ الأسطوري، أنْ حدث انهدام وصدع -انهدام ‏مزدوج: الهيئة الإنسانية والتاريخ. التاريخ بلغتنا- هو ما حدث قبلًا؛ وعليه الأساطير- ‏تاريخ إذن. لكن التاريخ كلسان حال الكينونة البشرية والتطور- فهو شيء ما، ينبع من ‏ذاته تاريخيًّا. في هذه الحالات كان يمكن لـِ"ياسبرس" أنْ يتحدَّث عن الزمن المحوري.‏

هكذا، انبجس الصَّدع، وحينها ظهر التاريخ كحقل للقوى البشرية، وكلسان حال ‏للكينونة الإنسانية والتطور، ظهر حقل المسؤولية الشخصية وتعبُ الروح كدراما ‏ومغامرة ما على الإنسان أن يجتازها نهائيًا، ليتمكَّن من أن يصبح في حالة الولادة ‏ثانية وثانية على امتداد الوقت. هذا الشكل الإنساني يتسق والفضاء بالمدى الذي ‏يفترضه بحيث يمكن في نقطة محلية ما أن تحدث الحالة والفعل الذي يعكس ويحمل ‏في ذاته تعالقات الكل الفضائي جميعها غير المتّسقة، مع المخلوق الإنساني الفرد ‏طبعًا، ولا يمكنها أن تسكن فيه. بكلمات أخرى، يمكن الافتراض أنّ المعجزة التي ‏تحدَّث عنها "كانط" حينما لاحظ أنّ الذي يدفع به إلى حالة الاندهاش والإعجاب ‏شيئان: عالم النجوم فوق الرؤوس والقانون الأخلاقي الباطن. هذه ليست براعة مفكر ‏عاطفية بمعيار الإنسانية في الإنسان. القانون الأخلاقي- معجزة حقًا بمعنى الكلمة، ‏وذلك أنه على هيئة إحساس بسيط وحقيقي، أو إدراك ما يمكن الحصول عليه من ‏حيث المبدأ، والقدرة على عبور سلسلة لا متناهية من الترابطات والتوسطات السببية ‏التي تشمل العالم كله، ومن ثمّ تبلغ حد الضرورة- الفعل هنا. هذا الفعل معطى على ‏هيئة بداهة أخلاقية بسيطة وإجبارية (كما كانوا يعبِّرون عن ذلك في الأزمنة ‏الخوالي). هذا هو السبب الذي كان يدفع "كانط" أن يحتفظ في مكتبه بصورة شخصية ‏لمفكِّرٍ -يبدو مناقضًا له تمامًا- وهو "روسو"، وكان دائمًا يذكره باحترام وحب شديد. ‏كان يعتبر أنَّ "روسو" قد وصف هذه الحالة من البداهة الأخلاقية بدقة ومن قرب. ‏وبهذا، وضعها في مكان أسمى من العقل، وحتى يثبت أنّ هذه البداهة معطى مباشر، ‏يتعيّن تفكيك جميع التعالقات والتشابكات الكونية، ومن المعلوم أنّ هذا غير ممكن. وفي ‏مجال البداهة فإنَّ هذه التشبيكات مقدّمة في هيئة مقلوبة. هذه هي المعجزة التي لا يقدر ‏عليها سوى الإنسان. هذه المعجزة- جلاء ونتيجة اجتياح فضاء الشكل الإنساني، ‏المؤشر إلى العنصر المقترن به.. إلى الحرية. الشكل الإنساني قناة توجد عبرها في ‏الفضاء ظاهرة الحرية، أو الفعل الحر، ظاهرة يمكن في سبيلها أن لا تترك العلاقات ‏السببيّة سوى الفراغ.‏

وكما هو معلوم، فالذريّون/ الحتميّون الإغريق عندما أدخلوا الذرّة كعنصر من عناصر ‏منشآت العالم المدركة عقليًا، أدخلوا رأسًا الفراغ كشرط لحدوث شيء ما بشكل عام. ‏والفراغ- هو ذلك الشيء الذي من أجله لا يمكن وجود أيّ سبب. وحينئذ يمكننا القول ‏إنَّ الإنسان- هو ذلك المخلوق الذي يمكن أن يقع في حالات لا يتخيّلها أي سبب. وقد ‏تساءل "ديكارت" في حينه، هل يوجد في العالم أيّ سبب للإنسان أدّى إلى انبثاق فكرة ‏الأبديّة، فكرة الحياة الأبديّة والرغبة فيها؟ أو ليس في العالم، في ذاته وتأثيراته على ‏الجهاز التجريبي المُدرك إنسانيًا، شيء ما يمكنه أن يختلق لغزًا أو فكرة عن الأبديّة، ‏وينهض بها ليستحوذ على حياة أبديّة. من أين تنبع هذه الفكرة؟ والجواب يتلخص في ‏أنَّ التفكير الإنساني خاصةً بالمعيار الذي يتحقق به -في فضاء الإنسان الممكن، يعني ‏ذلك الذي لم يكن قط، ولن يكون، وإنما هو الآن- إنه شيء قادر على مثل هذه ‏الحالات، التي لا يمكن تخيُّل لأي سبب استطاعت أن تكون. إنها ظاهرة الحرية التي ‏لا يمكنها ذاتها أن تكون مادة، فهي لا تمتلك البصيرة الحاسمة، التي على أساسها ‏نستطيع أن نقيِّم مفهوم الحرية. وبهذا المعنى، فإنَّ الحرية لا تتذاكر، وليست شيئًا ‏يصنعه الإنسان، وإنّما هي ما يُنتج الحرية.‏

هنا يندرج جانب آخر من جوانب النحو الفلسفي وبنية التحديدات الفلسفية. نحن نقول ‏إنَّ الوعي في النحو الفلسفي لا يتحدّد، وإنّما يُلفظ أو يُنطق، وإنَّ الوعي هو إمكانية ‏الوعي الأكبر. كما هي حال الحرية بالدقة. الحرية- هي كل ما يشكل إمكانية الحرية ‏الكبرى. وهذا يعني أنّ الحرية تُنتج الحرية فقط، وليست أي مادة أخرى قد تنتج مواد ‏أخرى غيرها. وبهذا، تبدو شرطًا لجميع الأفعال الإنسانية الأخرى- بذلك المقدار الذي ‏تنجز به من قبل الإنسان.‏

وعليه، التاريخ- الحقل الخطير المسؤول عن دراما الوجود الإنساني، الذي على ضوئه ‏يقرر الإنسان، وهو يسير في عذاب الروح المهلك والقاسي، وأحيانًا غير المضمون ‏بمعنى الناجح، العذاب الداخلي والانشغال الداخلي. هذه هي وشيجة التاريخ والإنسان ‏التي تحدِّد حضورنا المعاصر. يعني تؤطِّرنا كأناس ينتمون للثقافة المسيحية والتقاليد ‏المسيحية (وأسمح لنفسي أن أستخدم كلمة "المسيحية" هنا بمعناها المحلّي (الإيكوميني) ‏حتى لا أضطر لتعداد جميع الديانات العالمية). وهذا الإحساس بالتاريخ كمَشاهد دراميّة ‏للوجود الإنساني، التي تتجلّى لحظات كنوطة أخرويّة (من الآخرة)، نوطة تنفيذ ذلك ‏الذي يتعيّن أن يُنفّذ، التنفيذ حتى النهاية هو الإحساس الأساس للإنسان الأوروبي ‏بالمقياس الذي يعتبر الثقافة الأوروبية ليست واحدة من الثقافات إلى جانب الثقافات ‏الأخرى، وإنّما هي مقطع آخر من الكينونة الإنسانية كما هي. وبهذا المعنى، فإنّ ‏أوروبا ليست مفهومًا جغرافيًا، فأوروبا يمكن أن تكون في طوكيو، ويمكن أن لا تكون ‏في تبيليسي أو في موسكو.‏

النص الذي جرى تخطيطه هنا، -بحسب رأيي- هو مقياس فعلي لتفكيرنا، ولتلك ‏المفاهيم التي نستخدمها. وكثير من المسائل التي أشرنا إليها. نقول: مفاهيم المسؤولية ‏أو احترام الإنسان لذاته. ومن هنا- احترام الآخرين، والاهتمام بما نشتغل عليه ‏وبالعمل الدؤوب وغير ذلك- هذه جميعها لا نواجهها في حدود العقود الحالية، وإنّما ‏مقياسها قرون عدّة، ومن خلفها تقف قوى التاريخ الفاعلة طويلًا. وإذا كنّا نفكر، فعلينا ‏أن نفكر بمصطلحات هذه المقاييس، وإلا فإنّنا لن نفهم في القضايا الإنسانية التي ‏تواجهنا اليوم. عندما نعيد رثي الخيوط المتقطعة لمئات السنين، ونستعيد تقاليد التفكير ‏الممتد زمنيًّا، نستطيع أن نتفحّص التصادمات البشريّة الحاليّة، ونحدِّق في وجه ‏الإنسان المعاصر. ‏

‏- - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) الأكاديمي: عضو الأكاديمية عن فرع من فروع المعرفة، وأعضاء الأكاديمية محدودو ‏العدد، وكل واحد منهم يمثل الحقل العلمي المختص به، وعضو الأكاديمية عادة يكون ‏صاحب اتجاه أو مذهب في علمه ومنهجه له تلامذة وأتباع، ولا يُطلق مفهوم الأكاديمي ‏اعتباطًا وبشكل مبتذل كما هي الحال في ساحتنا الثقافية والفكرية.‏

مصدر الترجمة: كتاب "ما هو إنسانيٌّ في الإنسان"، مجموعة مؤلفين، الناشر: دار الأدب ‏السياسي، روسيا، 1991.‏