مـا لا يُســـــــترَد ‏"موريس بلانشو"‏

فدوى العبود

كاتبة سورية

 

في مؤلَّفِه "كتابة الفاجعة" يقدِّم الفيلسوف الفرنسي "موريس بلانشو" مفاهيم خاصة ‏حول الصبر، المحايد، الغياب، النسيان، الأنا، الكتابة... يقول "بلانشو": "لا شكَّ أنَّ ‏فعل الكتابة هو التَّخلي عن الاستعانة باليد أو عن التَّنادي بالأسماء الشخصيّة، وهو في ‏الآن نفسه ليس تنازلًا، بل إعلانًا يرحِّب بالغياب ولا يعرفه، أو اتصالًا بما لا يمكن ‏تذكُّره بالكلمات في غيابها، شاهدًا على ما لا يتحقق، ولا يستجيب للفراغ القائم في ‏الذات وحسب، بل للذات من حيث هي فراغ، ولتلاشيها في موت وشيك، قد حدث ‏بمنأى عن أيِّ مكان".‏

 

إنَّ الدُّخول إلى نص "موريس بلانشو" (1907- 2003) "كتابة الفاجعة" يشبه السَّير ‏فوق أرض زلقة، فالطمأنينة هنا ربّان أعمى. كتب "تشيزاري بافيزي" مرَّةً "إنَّ ‏الأفضل من إغماض العينين هو التحديق في الهاوية وقياس عمقها ثم النزول إليها"، ‏وهذا ما ينطبق على قراءة نص "موريس بلانشو" بحيث تكون اللاطمأنينة هي ‏البصيرة التي يحتاجها قارئ مغامر ونموذجي قادر على أن يمحو ذاته في النص ‏بسخاء متبادل مع الكاتب الذي يمحو ذاته في الوجود؛ ويقدر على الدَّوران كالدَّرويش ‏متحرِّرًا من جاذبيّة المعنى ومحطِّمًا التسلسل والسياق في الخطاب المعرفي المألوف. ‏وكما تَحْدُث "الكتابة بألم، فالقراءة تكون بألم أيضًا".‏

مِن تصدُّعٍ وإدراكٍ حادٍّ بالغياب تبدأ الكتابة، فهي وعي التبدُّد والزَّوال. "فنحن لا ‏نكتب للاكتمال، بل نكتب من نقص وغياب وفاجعة، نكتب ملاحقين ما يحتجب". إنَّ ‏الطفل الذي كُنّاه يدرك لحظة الغياب بوضوح، إنه الطفل الذي يزيح الستارة وينظر ‏إلى ملعب طفولته الفارغ من أصدقائه فيدرك فجيعته. يبدو الفن -بحسب بلانشو- ‏ملاحق سراب، أو نابش قبور نموذجي، يزيل عن جسد الوجود اللّحم (المعنى) ‏ويعرض لنا الهيكل المفزع له. يترافق ذلك مع نغمة حزينة مبعثها الفقد والفجيعة. ‏وهذا ما يطلق عليه "بلانشو" (التفكير بألم) أي خيبة تكفي للإحاطة بما تمرّ به الذات! ‏أمام كارثة الوجود؛ (الترحال أو اللجوء، الحرب أو الفقدان)، فالكتابة استرداد، ‏وخارج هذا المعنى لا معنى لها، وكأنَّ الكارثة (كارثة الوجود- وجودنا الفردي) ‏محرِّض للكتابة، وعدا ذلك تفقد تبريرها. كتب "فاليري" مرَّة: "كتابات المتفائلين ‏رديئة، ولكن المتشائمين لا يكتبون". ‏

لقد شبَّه الناقد السعودي عبدالله الغذامي النقد بـِ"مداهمة للنص"، فالقارئ أو الناقد هنا ‏بوليس مدجَّج بأسلحة النقد، يفكك ويكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة؛ ويقبض ‏على المعنى المختبئ الناجم عن اللاوعي؛ بما يفوق توقعات الكاتب نفسه الذي يدخل ‏قفص الاتهام بكلماته. لكن الناقد/ القارئ أو القارئ/ الناقد -بحسب فلسفة "بلانشو"- ‏سيقابل كرم الكاتب الذي يمحو ذاته بمحو متبادل. وهنا محو مضاعف محو الكاتب ‏لذاته بحثًا عمّا يفقده، ومحو القارئ لذاته في النص. فالكاتب يظهر متورايًا ومشتّتًا ‏ومتشظيًا في شخوصه كمرآة محطَّمة ولا يمكن للقارئ الإمساك بأحدها دون أن يجرح ‏يده أو يخدشها. ‏

إنَّ ما اقترحه "بلانشو" ولم يقُله يمكن أن يشكِّل منهجًا لدراسة النصوص عبر قراءة ‏‏"الصمت". لم تعُد لقراءة المخبوء أو النَّسق الثقافي أو الزمني معنى هنا. فهناك ‏شذرات وانقطاعات بين الشذرة والأخرى. فكل شذرة تحتوي معناها المخبوء الذي ‏يتناقض ظاهريًا بين شذرة وأخرى. بين وجود مفتَّت في عبارات هنا وهناك. لم تعُد ‏القراءة للكلمات، بل للانقطاعات والفواصل التي تبدو كالتنهُّدات. وهذا يشترط قارئًا ‏يفَعِّلُ ملكة الحدس لأبعد مدى. وربّما تحتاج قراءة الصَّمت إلى مقال مستقلّ. ‏

ولفهم عملية الكتابة يقدِّم "بلانشو" رزمة مفاتيح، "فالصبر" وهو -فقد كل شيء- وما ‏تحاول الذات التجمُّل به، لم يعُد فضيلة أو قوَّة تحمُّل كما يعتقد بعضهم، "إنه استكانة ‏الممات، إنه طريقة يضمن بها (أنا) فقد لا نهائية الفاجعة"، "ما وقع لم يحدث- هكذا ‏تكلم الصبر كي لا تُستعجل النهاية"، والاستكانة محو للذات في الجمود والمذلة ‏والخنوع. والناس المدمّرون دون تدمير، يعرفون جيدًا الاستكانة وانمحاء الذات وهنا ‏ننتبه إلى أنَّ الصَّمت وفقدان اللغة ميزة أيضًا. يتحدَّث "بلانشو" عن الناس الذين ‏يؤثرون الصمت وهناك مَن فقدوا اللغة وفقًا لنظريّته؛ فاللغة وحين تفقد دورها يسود ‏الكلام، وهذا شبيه بالثرثرة عند "هيدجر"، وهي شكل من أشكال السقوط. أيضًا يمكننا ‏استنباط معنى آخر للذين يتركون للآخرين التحدُّث نيابة عنهم، وهم في نكرانهم لذاتهم ‏يتركون لغيرهم التكلم نيابة عنهم. يمكننا بفهم "بلانشو" أن نعرف تأويل الانقطاعات، ‏والصمت الذي يلفّ الكتاب. وهذا لا يتم دون قفزة حدسيّة إلى لحظة التصدُّع التي ‏بدأت منها الكتابة. ‏

تفتح مفاهيم "بلانشو" الباب على مصراعيه لقراءة جديدة للنصوص. ما يجعل الكتابة ‏موضع شك! فبما أنَّ اللغة تعجز عن الإمساك بما يحتجب، فما مبرِّرها؟ هل يمكنني ‏استرداد المفقود عبر اللغة! أو تعويض الشجرة التي اصفرَّت وماتت بشجرة دائمة ‏الاخضرار!‏

إنها قاصرة وهي زوغان، وهي موضع ارتياب. وهي لا تؤدي إلى أيّ ضوء. ويرى ‏بعضهم أنَّ كتابة "بلانشو" هي "ارتياب جذري وقلق أنطولوجي" وتصدُّع كوني، ‏وانكشاف، فهو يقودنا على العكس إلى ليل بهيم. في الوصايا المغدورة كتب "كونديرا" ‏أنَّ "الكتابة وضع الوجود تحت ضوء كشّاف، لكن في حفلة التفاهة وصل إلى أنَّ كل ‏ما أمكنه كشفه لا معنى الوجود"، وهنا يتبيّن بؤس وقصور اللغة "إنها صداقة ‏المجهول والواقعي العصيّ على أيّ بيان".‏

‏ لكن الانسان يحاول اختراق المسافة بين ما نفقده وبين اللغة. وهنا تخرج الذات من ‏ذاتها إلى خارجها وتمحى فيما تنشده هذا الميت الناجي الذي يمحو ذاته لإنقاذ حيوات ‏تتبدَّد عبر اللغة تنطبق عليه عبارة "شيلر" (المنذور لأن يحيا في القصائد لا بدّ له في ‏الوجود أن يبيد).‏

والشكل الكتابي سيكون شبيهًا بما يصدر عنه. فهل يصدر النَّسق عن المحطَّم! وهل ‏يصدر التسلسل عن التذرُّر والتشتُّت؟ وهنا نفهم عمق الكتابة الشذريّة، "قد تكون هي ‏الخطر بعينه، إنها لا تحيل إلى نظرية ولا تستأثر بالسؤال بل تعلّقه لا جوابًا. لعل ‏أفضل مثال على الكتابة الشذرية نجده لدى "سقراط"، فهو "لا يكتب، بل يبدو ‏للآخرين الموضوع المنذور للموت من خلال الكتابة، فهو لا يتكلم بل يسأل، ‏ويقاطع الآخرين كما يقاطعونه باستمرار، مانحًا للشذريّ شكله بصورة ساخرة". ‏إنَّ "سقراط" انتهى بالموت، و"نيتشه" انتهى بالجنون -الكتابة الشذرية موقف من ‏الزمان والكائن، وهي تحتفي بالعوز والفراغ والغياب والنقص والنسيان، أنْ نكتب ‏يعني أنْ نكتب ضدّ أنفسنا- الكتابة الشذرية هي حافة الجنون. وهذا يعني فيما يعنيه ‏ارتباط التجربة الأدبية بالحياة حتى لا يمكن الفصل بينهما. الأدب ليس مجرَّد علاقة ‏بهذه التجربة، بل هو تأويل لها وارتباط بها. التجرية ذاتها، فنحن نقرأ عن الحب لبلوغ ‏ماهيّة الحب! ونكتب انطلاقًا من لحظة فقدانه. فالحب فقدان دائم. بهذا المعنى نكتب ‏تحت سماء الفجيعة، وبذا يقترح قارئًا نموذجيًّا يفكك الصمت والوقفات والانقطاعات، ‏باختصار قارئ "للتشتُّت" يفهم الانقطاعات التي يتركها السكون ويقدر على قراءة ‏الانكسار والتشظي لا التسلسل. في هذا الإطار يمكننا التأمل في الكتابات البلاغيّة ‏الجوفاء في واقعنا، حيث نرى أنَّ الكتابات التي تلامسنا تلك التي ارتبطت فيها الكتابة ‏بالمعيش وانطلقت من الفقد، مثال محمد شكري (الخبز الحافي) وغيره. فالشاعر شاهد ‏على الوجود وهو دائمًا تحت تهديد اللاشيء. تحضرنا تجربة "فرناندو بيسوا" الذي ‏يكتب منفصلًا عن الحياة، يراقبها من نافذته وكأنه تنازل عنها دون رجعة. وكأنَّ كل ‏كلمة مهداة "إلى ما ليس له وجود"، وفي كتابه "اللاطمأنينة" إدراك حاد بالغياب، ‏يكتب "بيسوا": "أن أكتب معناه أن أفقد ذاتي أجل، غير أنَّ الجميع يفقدون ذواتهم، ‏لأنَّ الكل، كل شيء فقدان".‏

إنَّ السَّهو الوجودي الذي يمرّ دون اكتراث لهو فجيعة يلمسها بعضهم –"كيركجارد" ‏كمثال- والفن يصبح وفقًا لذلك وبالمعنى "الهايدجري": "السهر على المعنى الغائب. ‏أن يكون الساهر حاميًا للغياب".‏

الخروج من النفس على طريقة "بلانشو" يعني أن يُخرجَنا –مثلًا- المُفزعُ من أنفسِنا ‏من الأمان والصداقة، وتحت علامة الفاجعة والتعب والتنهُّدات تجري الكتابة. يكتب ‏‏"ليفيناس": "التعب أيضًا هو زمن الكتابة، الزمن الدائري للانطواء على الذات، ففي ‏كتابة التعب لا أمسك بالعالم، العالم يأتي إليّ، أستقبل هديره". نعيش في عالم يقوم ‏على التبدُّل والخسارة والانفصال. والكتابة ليست تغلُّبًا على العقم، بل مسعى للاقتراب ‏منه، لذا فهي كتابة ضدّ المعنى المُعطى للكتابة.‏

الصيغة المثلى الوحيدة تبدأ حين يسائل الأدب ذاته، ويبرز عدم كفايته للوصول للمعنى ‏‏"نلاحظ أنَّ كل معرفة حقيقية تبدأ من سلب وسؤال"، "سقراط" كان خروجًا عن ‏السياق الفلسفي، كان لحظة سلب بالمعنى المعروف.‏

إنَّ العمل الفني لا يكشف عن الحقيقة، بل عن الظلام، ظلام خارجي لا يمكن الإمساك ‏به. لذا سيحتفي "بلانشو" باللاتكافؤ بالانفصال. يقول: إنَّ إحدى القضايا التي تطرح ‏على لغة البحث مرتبطة إذن بضرورة الانفصال هاته، كيف نتكلم بحيث يكون الكلام ‏متعددًا في جوهره. لغة منفصلة منقطعة هي لغة تصدر عن سؤال أوّلي! ‏

كتب "مالارميه" حول عدم الثقة هذا ما يلي "أنفث الكلام لأغرقه في تفاهته"، كأننا ‏لا نحتوي الموجود والوجود إلا بالتشظي، لذا نجد أنَّ لغة "بلانشو" متشظية "وكأنَّ ‏اللغة الشذرية تقليد لحركة الوجود، أو تجاوز لزمنيّته وتسلسله واتِّساقه بزمن يعاد ‏وينكسر كموجة... فهذا الذي بلغ عمق المعاناة وتخلّى عن كل شيء، فبدا العالم معتمًا. ‏

يحدِّثنا عبدالفتاح كيليطو نقلًا عن الطبري "إنَّ القصيدة الأصلية كانت مرتبطة بالفقد، ‏والغياب، والموت- وهي رثاء آدم لابنه القتيل"، (كان هناك كائن، ثم ما عاد كائنًا)، ‏إنها تحكي التبدُّل والخراب. ما كان قبل منتظمًا صار ركامًا من الأشياء المبهمة. ‏أظهرت الأرض وجهًا قبيحًا، رجفت بما عليها سبعة أيام، بغضّ النَّظر عمّا إذا كان ‏آدم أوَّل قائل للقصيدة أم أنها منحولة، فإنَّ كل لحظة كتابة تبدأ من احتجاب.‏

يطرح بعضهم سؤالًا عن أيّ نفع لنا أبناء الضاد من ترجمة نصّ يبعد عن مشاغلنا ‏الفكرية؟ يقول آخرون: هل الكتابة الشذريّة المتصدّعة كتابة بالفعل! إنها كتابة ضدّ ‏النّسق المألوف للكتابة. ضدّ نسقيّتها وتسلسلها واطمئنانها للعبارة واللغة! لكنَّ قراءة ‏متأنِّية للتراث ما ظهر منه وما بطن، وللنصوص التي تكتب الآن في بلداننا التي دهمها ‏تعب الحروب والفجائع والغياب، تُظهر أنَّ سؤال الكتابة على الرغم من تكراره لا ‏يموت، وهو متجدِّد بتجدُّد الأشكال الكتابيّة والتقنيات والأساليب، وإنَّ الشكّ فضيلة ‏والاطمئنان للموتى!‏

وهكذا تفقد الكلمة سمة الخلود، وتصير تعبيرًا عن الزائل العابر وملاحقة له. فلا نكتب ‏اتِّقاء للموت ومن أجل الخلود، بل نكتب بحركة موت، فالكلام المكتوب لم نعد نحيا ‏فيه؛ ليس بسبب إعلانه أنَّ "النهاية كانت أمس، بل لأنه يمثل خلافنا، هبة الكلمة ‏العابرة".‏

كان الشاعر قديمًا يمثل حاميًا عبر اللغة لذاكرة الأمّة، مهمّته طرد الأرواح الشريرة ‏والقبض على عشبة الخلود عبر اللغة. لكن وحين تصبح اللغة قصورًا وعقمًا يصبح ‏الشك الجذري في الكتابة والكاتب ولا يعدو دوره أكثر من ذاك الذي يشير بأصبعه إلى ‏ما يحتجب، دون أن يمنحه أيّ وجود!‏

‏- - - - - - - - - - - ‏

‏*موريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ترجمة عز الدين الشنتوف، دار توبقال للنشر، ‏‏2018.‏