الإعلام الرَّقمي والشباب والمجتمع

 

كاتب وباحث- نائب الأمين العام للشؤون الثقافية بمنتدى الفكر العربي/ الأردن

 

استطاع الإعلام الرقمي الجديد أن يجتذب أعدادًا كبيرة من جمهور وسائل الإعلام، ‏النسبة الأكبر منهم هم الشباب الذين أتاحت لهم مواقع التواصل الاجتماعي اتصالًا ‏معلوماتيًّا أكثر تفاعليّة وجاذبيّة وسهولة استخدام في أثناء التنقُّل، سواء بالكتابة أو ‏الصور أو الفيديو. ومع أنَّ هذه المواقع عملت على زيادة الاهتمام بالقضايا الاجتماعيّة ‏وقضايا المواطنة، إلا أنَّ العنف اللّفظي يتصاعد فيها باتجاهات سياسيّة وطائفيّة ‏وعنصريّة.‏

يحسُن بنا عندما نتحدَّث عن الشباب وأدوراهم وأوضاعهم أن نحدِّد مَنْ هم الشباب ‏الذين نقصدهم، وأيّ الفئات العمرية التي تُدرَج ضمن هذا الوصف. وفي ضوء ذلك ‏نجد الأمم المتحدة تعرِّف الشباب بأنهم أفراد في أعمار من 15- 24 عامًا، وعمليًا ‏هي المرحلة التي تُختتم بإنهاء المرحلة الأولى من التعليم العالي. فيما حدَّدت مبادرة ‏الشرق الأوسط الشباب بأنهم ذوو الأعمار من 15- 29 عامًا الذين هم في مرحلة ‏العمل أو ما بعد التخرّج من المرحلة الأولى تلك، وهناك تصنيف آخر للشباب من سن ‏‏15- 35 عامًا. مع الأخذ بالاعتبار مع هذه التصنيفات عدم التجانس بين الشباب ‏كمجموعة؛ بسبب اختلاف أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية والجغرافية ‏والبيئية(1).‏

وسنجد أنَّ الفئات من ذوي الأعمار الشابّة وبحكم معدلات النموّ السكاني المرتفعة في ‏المنطقة العربية خلال العقود الماضية، أصبحت تحوز النسبة الأكبر وبمعدلات ‏متفاوتة من أعداد السكان في أنحاء هذه المنطقة، ممّا يوصف بأنه "عاملُ واقعيّةٍ ‏حاسمٍ يكتنف التطوُّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، وتنعكس على ‏هذه الكتلة السكانية بشكل مباشر آثار التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ‏خصوصًا في ما يتعلق بالتحصيل التعليمي النوعي، وفرص العمل المناسبة، والرعاية ‏الصحية والمهنية، وكذلك المشاركة المدنية(2).‏

وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلَّت بعض الدراسات تؤشِّر لسنوات متعددة على أنَّ هذا ‏القطاع الأكبر سكانيًا، يعاني أشكالًا من التهميش وحالات من الاغتراب داخل ‏مجتمعاته، وأنَّ هذه النسبة المرتفعة التي تقدَّر بعشرات الملايين من الشباب تمثل ‏التَّوق إلى المشاركة في حركة الحياة والإسهام في تحقيق المجتمع المتقدم، في وقتٍ ‏كانت فيه المجتمعات العربية تواجه تحدّيات العولمة، وما أوجدته تياراتها المتدفقة من ‏إشكاليات في موضوع الهوية الثقافية، وجدل الثنائيات ولاسيما ثنائية الأصالة ‏والمعاصرة، والصراع بين الماضي والحاضر، ووجد الشباب أنفسهم في مقدمة هذه ‏المواجهة دون أدوات ثقافية وفكرية وإعلامية وتربوية يمكنها أن تطاول هذا المدّ ‏المتلاحق من التغيّرات وتستوعبه، فنشأت مظاهر من الاغتراب الثقافي، والاغتراب ‏السياسي بافتقاد المعايير والقواعد المنظمة للسلوك السياسي، وبالتالي فقدان الدور في ‏هذا المجال، الأمر الذي نشأ عنه ظواهر التمرُّد والتطرُّف في بعض الأحيان(3).‏

إنَّ المشكلات التي تنشأ عن ضعف الانتماء واضطراب الهوية، تعمّق التبعية والتجزئة ‏والتخلف، مما يجعل صورة المستقبل ضبابيّة أمام الشباب، وبخاصة مع فقدان ‏التواصل السليم أسريًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وقصور الإعلام عن تقديم رؤية وخطاب ‏متفاعل مع المجتمع وقضاياه يؤكد هويّته ومرجعيّاته الفكريّة وقيمه الثقافيّة، ووجود ‏بقايا من ثقافة الخوف في الذهنيّة الاجتماعيّة.‏

ترصدُ بعض الدراسات نتائج تشجيع الجدل الانفعالي والاتهامي والاستفزازي في ‏بعض الفضائيات ذات الانتشار الواسع منذ التسعينات، والتركيز في البرامج على ‏الجانب المثير الذي يعكس وجه الحقيقة ملوَّنًا بالعزف على مشاعر عامّة الناس ‏المتعطشين لمعرفة أسرار واقعهم السياسي. ويرى أستاذ الإعلام والاتصال الدكتور ‏عصام الموسى أنَّ نوعًا من الخطاب الإعلامي المُغرِق في الترفيهيّة أدّى إلى إشغال ‏المواطن وهدر وقته والهبوط بذائقته، وتوازى مع هذا الهدر مواد إخبارية في تلك ‏الفضائيات أو مثيلاتها أعلت من شأن الصِّراعات، فزادت في إحباط المتلقّي وسبَّبت ‏له الاكتئاب، خصوصًا في وقت كان الحلم القومي الوحدوي يتراجع(4).‏

استطاع الإعلام الرقمي الجديد في منتصف التسعينات أيضًا أن يجتذب أعدادًا كبيرة ‏من جمهور وسائل الإعلام، وتشير الدراسات والإحصائيات حتى اليوم إلى أنَّ النسبة ‏الأكبر منهم هم الشباب من مختلف الفئات العمرية الشابة، ليصبحوا من مستخدمي ‏مواقع التواصل الاجتماعية، فيتيح لهم اتصالًا معلوماتيًّا أكثر تفاعليّة وجاذبيّة وسهولة ‏استخدام في أثناء التنقُّل، سواء بالكتابة أو الصور أو الفيديو. وإذا كانت هذه المواقع قد ‏عملت على زيادة الاهتمام بالقضايا الاجتماعية وقضايا المواطنة، إلا أنَّ العنف اللّفظي ‏يتصاعد فيها باتجاهات سياسيّة وطائفيّة وعنصريّة وما إليها، كما تنتشر من خلالها ‏المواد الإباحيّة والمواد التي تمسّ القيم الاجتماعيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة، وبعضها له ‏مخاطر ونتائج وتداعيات جرميّة عن بُعد(5).‏

وإذا كان هناك ما نسمّيه نشرًا سيِّئًا، فإنَّ الاستخدام السيئ والتفاعل السلبي -إذا جازت ‏التسمية- بمختلف صوره يؤدّي دورًا لا يقلّ خطورة وسوءًا في تبديد قيمة استخدام ‏التكنولوجيا المتطورة وسماتها المتمثلة في توفير حرية الاختيار للفرد بمفهومها ‏الفكري من جهة الارتقاء بالعقل والذوق وتعزيز الشعور بالمسؤولية. لكن من المؤكد ‏أنَّ تحقيق ذلك يرتبط بالبيئة الثقافية الاجتماعية ومقدار مناعتها في إيجاد الوازع لدى ‏الأفراد والمجموعات في الاستخدامات غير السويّة لمواقع التواصل أيًا كان شكلها أو ‏أسلوبها، وإيجاد الآليات الإرشادية التي تجعل من استخدام المواقع التواصلية ‏والإنترنت عمومًا له عائد معرفي مفيد ومُعزِّز لوعي الذات والعالم وتطوير الشخصية ‏وترشيح المعلومات كمفاهيم ومعارف يمكن أن تساعد على حل المشكلات والتعامل ‏مع تعقيدات الحياة المعاصرة.‏

ولا ريب أنَّ جزءًا كبيرًا من وقوع الشباب أسرى الفضاء الافتراضي والابتعاد عن ‏الواقع ومواجهته هو افتقاد التفهُّم والحوار والتواصل بين الأجيال، بحكم التغيّرات ‏الحادة التي قلّلت من فرص التواصل الوجاهي الاجتماعي. ولذلك من المهم أن تعتني ‏المدارس والجامعات والمنتديات الاجتماعية بتكثيف أنشطتها الحوارية حول قضايا ‏الطلبة أنفسهم والقضايا العامة خارج المناهج، وفي الوقت نفسه العناية بتطوير التعليم ‏الإلكتروني بشكل مستمر، وتوفير بيئة آمنة للطلبة والشباب في مناقشة آرائهم ‏والاستماع إليهم ومشاركتهم في طرح الحلول، وتشجيع الأنشطة الثقافية التي تشارك ‏فيها الأسر والعائلات، ومساعدة ذوي الدخل المنخفض والفقراء من الطلبة والشباب ‏والأسر على الاستفادة من وسائل الاتصال والتواصل في اكتساب المعارف والمهارات ‏ومناقشة قضاياهم والتواصل بينهم وبين مؤسسات المجتمع المدني والجهات المسؤولة، ‏وفق برامج خاصة تضمن لهم المساواة في الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة، ودعم ‏وتشجيع المبادرات المجتمعية الهادفة إلى تقوية التضامن والتماسك الاجتماعي، والتي ‏تقوم بها مجموعات على وسائل التواصل والاعتراف بها قانونيًّا، وتقديم العون ‏والتشجيع لها على إبراز مفاهيم التعايش والتسامح والتضامن والسِّلم الأهليّ والتعاون.‏

وأشير هنا إلى ما أكّدته وثائق "القمّة العالميّة لمجتمع المعلومات ما بعد عشر سنوات" ‏من فرص المنطقة العربية في إثراء المحتوى الرقمي المحلي، الذي يخدم حاجات ‏المجتمعات وتطلعاتها، ويفسح المجال لخطاب التنوّع اللغوي والثقافي على الإنترنت، ‏ويدعم الحكومات في وضع سياساتها التحفيزية لتطوير المحتوى المحلي وتعزيز ‏الهوية الثقافية، والأنشطة الريادية والأعمال(6).‏

ضمن هذا السِّياق، من المفيد الإشارة إلى تقرير صدر عن قمّة روّاد الإعلام ‏الاجتماعي في دبي عام 2016، وتحديدًا إلى ما جاء فيه من توضيح حول دور ‏منصات الإعلام الاجتماعي وتأثيرها الواسع في مجال انتشار المشاريع الصغيرة ‏والمتوسطة لروّاد الأعمال الشباب، والتي تُعدُّ أحد الحلول الفعّالة للحدّ من البطالة أو ‏التغلّب على عقبة ضآلة فرص العمل. ويُلاحَظ أنَّ هذا الانتشار يتزايد في المنطقة ‏الخليجية العربية مُحدثًا تغييرات ملموسة في نموّ المشاريع وتسويق الخدمات ‏والعلامات التجارية، وتحسين صورة وأداء المؤسسات، وإنشاء الأعمال الجديدة، ‏وازدهار ريادة الأعمال. ويتجلّى ذلك -كما يبيّن التقرير- في دعم التجارة المحلية ‏للدول، وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، وفتح منافذ تسويقية جديدة، وإزالة ‏الحواجز التقليدية والعقبات أمام حرية تبادل الأموال والسلع والخدمات، وتقليل الرسوم ‏الجمركية، وزيادة الشفافية والإصلاح الاقتصادي، وجلب الاستثمار وإتاحة المعلومات ‏للمستثمرين، فضلًا عن تحسين مستوى المعيشة وزيادة الرفاهية للمواطن العادي(7).‏

ختامًا، فإنَّ توجيه الدراسات والاستطلاعات في المنطقة العربية نحو الجوانب ‏الإيجابية لمواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، وإبراز الفوائد التي يمكن أن تنعكس ‏على تحسين مستوى الحياة للمواطن العربي معيشيًا واجتماعيًا ومعرفيًا، يمثل في ‏الحصيلة جزءًا من التوعية الضرورية التي يمكن أن تقوم بها المؤسسات الأكاديمية ‏ومراكز البحث لتعزيز آليّات الحد من مخاطر النشر والاستخدام السيئين للتكنولوجيا ‏الحديثة، وتوسيع مساحة الإيجابية في التعامل مع التقنيات الاتصالية، وإيجاد الثقة بين ‏مستخدمي مواقع التواصل ومصادر المعلومات، والتوعية وفق أسس علمية، وعدم ‏ترك الساحة مقتصرة على دراسات التسويق والاستطلاعات لأغراض تجارية أو ‏خدميّة بحتة هدفها الترويج والانتشار الإعلاني أو زيادة الاستهلاك. ‏

‏- - - - - - - - - - - - - - ‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ‏UNDP، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام ‏‏2016، بيروت، 2016، ص18.‏

‏(2)‏ ‏ المصدر السابق، ص30-33.‏

‏(3)‏ ‏ ينظر: د. نسرين الشمايلة، "الاغتراب عند الشباب العرب: أشكاله وأزمته"، في ‏‏"المؤتمرات الشبابية 2004-2010: خلاصات وتقارير"، منتدى الفكر العربي، ‏عمّان، 2012، ص47-48.‏

‏(4)‏ ‏ عصام سليمان الموسى، "الإعلام العربي الرقمي والتحديات الراهنة"، نقابة ‏الصحفيين الأردنيين، عمّان، ص50-51.‏

‏(5)‏ ‏ ينظر: نائلة إبراهيم عمارة، "التشبيك والتواصل والتوعية الإعلامية في إطار ظاهرة ‏العنف عند الشباب"، في "الشباب وظاهرة العنف"، منتدى الفكر العربي، عمّان، ‏‏2012، ص109، وص116-117.‏

‏(6)‏ ‏ الأمم المتحدة/ اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا"، نشرة تكنولوجيا ‏المعلومات والاتصالات للتنمية في المنطقة العربية، العدد22.‏

‏(7)‏ ‏ ينظر نوره الزعبي: "التجارة الإلكترونية عبر شبكات التواصل الاجتماعي"، صحيفة ‏‏"أخبار الخليج"، البحرين، العدد 15216، الأربعاء 20 تشرين الثاني/ نوفمبر ‏‏2019.‏