محمود الزواوي
ناقد سينمائي أردني
تحوَّلت "جين فوندا" منذ ستينات القرن الماضي إلى ناشطة سياسيّة قياديّة وجريئة على الصعيد الأميركي الداخلي، وعلى صعيد معارضة التدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى. وكان من أكثرها إثارة للجدل معارضتها الشديدة للحرب الأميركيّة في فيتنام، حيث زارت هانوي وانتقدت التدخل الأميركي في فيتنام، كما تظاهرت أيضًا ضدّ الحرب الأميركيّة في العراق وأيَّدت القضيّة الفلسطينيّة بشجاعة.
تُعدُّ "جين فوندا" واحدة من أشهر وأقدر الممثلات الأميركيّات ومن أكثرهنّ نجاحًا. وقد أثبتت ذلك في عدد من أفلامها المتميِّزة وفي الجوائز العديدة التي فازت بها. وهي أشهر ممثلة أميركيّة يرتبط اسمها بالمُعارضة السياسيّة في الولايات المتحدة، ومن أشهر الناشطات في تبنّي المواقف السياسيّة المُثيرة للجدل على الصعيدين الأميركي والعالمي.
ومن نشاطاتها السياسيّة الداخليّة المُعارضة للحكومة الأميركيّة، اشتراكها في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في مظاهرة شعبيّة أقيمت قرب مقرّ الكونجرس الأميركي في العاصمة واشنطن للمُطالبة بالحفاظ على البيئة، وهي في سنّ الواحد وثمانين عامًا. وكانت "جين فوندا" واحدة من ستة عشر شخصًا تمَّ اعتقالهم خلال المظاهرة ووُجِّهت لهم اتِّهامات بإعاقة الطريق والتَّجمهر. وقام رجال الأمن بتكبيل "جين فوندا" ومرافقتها إلى سيارة الشرطة وسط هتافات الجمهور المؤيِّدة لها بالهتاف: "نحن نحبكِ يا جين". وقام الجمهور بتصويرها وهي رهن الاعتقال ويرافقها شرطي إلى سيارة الشرطة أمام مقرّ الكونجرس. وانتهى إلقاء القبض عليها في واشنطن بإطلاق سراحها.
وكانت "جين فوندا" قد صرَّحت قبل توجُّهها إلى واشنطن للاشتراك في المظاهرات المؤيِّدة للبيئة بقولها: "سأذهب إلى مدينة واشنطن وأستغلّ شهرتي؛ وسأقيم تجمُّعًا شعبيًّا كل يوم جمعة، وسنتعرَّض للاعتقال كل يوم جمعة".
تنتمي "جين فوندا" إلى أسرة سينمائيّة عريقة، فهي ابنة الممثل الشهير الراحل "هنري فوندا"، وشقيقة الممثل "بيتر فوندا"، وعمّة الممثلة "بريجيت فوندا" ابنة شقيقها "بيتر فوندا". وكانت "جين" مصمِّمة على عدم السَّيْر على خطى والدها "هنري فوندا" في ميدان التمثيل، إلا أنَّ النجاح الذي حقَّقته في مسرحية "فتاة الريف" مع والدها حين كانت في سن السابعة عشرة شجَّعها على مواصلة مهنة التمثيل، والتحقت في سنّ الحادية والعشرين باستوديو الممثلين الشهير في نيويورك، الذي تخرَّج فيه عدد من أقدر الممثلين الأميركيين على مرّ السنين، حيث أتيحت لها الفرصة لصقل مواهبها في فن التمثيل. ومهَّد ذلك الطريق لمشوارها السينمائي الذي استمرَّ أكثر من نصف قرن، وقدّمت خلاله 47 فيلمًا سينمائيًّا وتسعة أفلام ومسلسلات تلفزيونيّة.
ورُشِّحت "جين فوندا" خلال مسيرتها الفنيّة لمائة وتسع عشرة جائزة، وفازت بست وخمسين جائزة شملت اثنتين من جوائز الأوسكار عن فيلمي "كلوت" (1971) و"العودة إلى الوطن" (1978)، وسبعًا من جوائز الكرات الذهبيّة، وجائزة أهم الإنجازات السينمائيّة لمدى الحياة من المجلس القومي الأميركي لاستعراض الأفلام السينمائيّة، وأربع جوائز من الجمعية الوطنية لنقّاد السينما الأميركيين، وثلاث جوائز من رابطة نقاد السينما في نيويورك، وأربعًا من جوائز خيار الشعب في تصويت شعبي سنوي في الولايات المتحدة، واثنتين من جوائز الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون، بالإضافة إلى اثنتين من جوائز مهرجان كان السينمائي وجائزة من مهرجان البندقية السينمائي.
ومهَّد العمل المسرحي للممثلة "جين فوندا" في أواخر خمسينات القرن الماضي، والذي بلغت أوجها فيه على مسارح برودواي، مهَّد الطريق لمشوارها السينمائي الطويل. وكان باكورة أفلامها هو فيلم "القصة الطويلة" (1960) الذي استندت قصته إلى مسرحية كانت قد قامت ببطولتها على مسارح برودواي. واحتلّت "جين" مكانتها السينمائية المرموقة بفضل سلسلة من الأفلام المتميزة العديدة التي قامت ببطولتها. ومن أهم هذه الأفلام، إلى جانب فيلمي "كلوت" و"العودة إلى الوطن" اللذين فازت عنهما بجائزتي الأوسكار، كل من "المشي على الجانب الصعب" و"كات بالو" و"بارباريللا" و"جوليا" و"جناح في فندق كاليفورنيا" و"الظاهرة الصينية" و"الخيّال الكهربائي" و"من التاسعة إلى الخامسة" و"فوق بحيرة ذهبية" و"أجنيس الله" و"ستانلي وأيريس" و"الحماة المتوحشة" و"السلام والحب والتفاهم" و"كبير الخدم".
وتحوَّلت "جين فوندا" منذ ستينات القرن الماضي إلى ناشطة سياسية قيادية وجريئة على الصعيد الأميركي الداخلي، وعلى صعيد معارضة التدخل الأميركي في شؤون الدول الأخرى. وكان من أكثرها إثارة للجدل معارضتها الشديدة للحرب الأميركية في فيتنام، حيث زارت هانوي وانتقدت التدخل الأميركي في فيتنام، كما تظاهرت أيضًا ضدّ الحرب الأميركية في العراق وأيَّدت القضيّة الفلسطينية بشجاعة.
بدأ نشاطها السياسي بدعمها لحركة الحقوق المدنيّة الأميركيّة والأميركيين السود والحركات اليسارية والاشتراكية والحركة النسائية ونصرة قضايا المرأة وحقوق الهنود الحمر والمكسيكيين الأميركيين، واستمرَّت بمعارضة الغزو السوفييتي لأفغانستان ومعارضة الحرب الأميركية في العراق. وأكدت أنَّ الحرب في العراق ستحوّل الناس حول العالم ضدّ أميركا وأنَّ كراهية أميركا في العالم ستؤدّي إلى وقوع مزيد من الهجمات الإرهابيّة ضدّ الولايات المتحدة. وتصف "جين فوندا" نفسها بالليبراليّة والأنثويّة.
وفيما يتعلق بنصرة القضية الفلسطينية شاركت "جين فوندا" في العام 2004 بمظاهرة نسائية ضد مقر إقامة رئيس الوزراء الإسرائيلي في القدس احتجاجًا على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وتعرَّضت لحملة معادية من اليمين الإسرائيلي. والتقت "جين" بعدد من الزعيمات النسائيات الإسرائيليات المناصرات للسلام مع الفلسطينيين، ولكنها قوبلت بصيحات الاستهجان عند وصولها إلى مكان الاجتماع من قِبَل العناصر الإسرائيلية اليمينية. كما زارت رام الله ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين ومستشفيات في الضفة الغربية. وكانت "جين فوندا" واحدة من 50 شخصية أميركية مرموقة من الموقِّعين على رسالة احتجاج على قيام مهرجان تورونتو السينمائي بكندا (2009) بعرض أفلام عن مدينة تل أبيب، واتَّهموا المهرجان بالتواطؤ مع آلة الدّعاية الإسرائيلية.
ومن القضايا التي استحوذت على اهتمام "جين فوندا" معارضتها للحرب التي شنَّتها الولايات المتحدة في فيتنام. واعتُبِرَتْ زيارتها لفيتنام الشمالية في ذروة تلك الحرب في العام 1972، ومُناصَرَة الحكومة الشيوعيّة، ومهاجمة وطنها الولايات المتحدة، اعتُبِرَتْ تجاوزًا لكل الحدود في نظر كثيرين من الأميركيين الذين اتَّهمها بعضهم بالخيانة وطالبوا بمحاكمتها، خاصة حين وقفت داخل بطارية للمدافع الفيتنامية الشمالية المضادة للطائرات الأميركية في هانوي وهي ترتدي خوذة حربيّة وتقف إلى جانب طاقم البطارية من العسكريين الفيتناميين الشماليين، متحدّية السلطة والقوانين الأميركية التي فرضت حظرًا على سفر المواطنين الأميركيين إلى فيتنام الشمالية. بل إنها وجَّهَت كلمة عبر راديو العاصمة الفيتنامية الشمالية هانوي إلى العسكريين الأميركيين المشتركين في الحرب الفيتنامية هاجمت فيها سياسة الحكومة الأميركية في تلك الحرب.
ومن المثير للاهتمام أنَّ ارتباط "جين فوندا" بحركة مناهضة الحرب في فيتنام في سبعينات القرن الماضي لم يؤثِّر إطلاقًا على مسيرتها السينمائية، بل إنَّ تلك الفترة اقترنت بذروة نجاحها السينمائي، بظهورها في عدد من أفضل أفلامها وارتفاع أجرها وفوزها بعدد من الجوائز السينمائية، بما فيها جائزتا الأوسكار. وأعقب ذلك فوزها بأربع من جوائز خيار الشعب كأكثر الممثلات الأميركيات شعبية.
وبعد سنين من القطيعة والجفاء مع والدها، قامت "جين فوندا" في العام 1981 بإنتاج الفيلم المتميز "فوق بحيرة ذهبيّة" (1981)، الذي كان أوَّل فيلم يجمعها مع والدها "هنري فوندا"، وهو فيلمه الأخير والفيلم الوحيد الذي فاز عن دوره فيه بجائزة الأوسكار بعد مسيرة سينمائية طويلة، كما رُشِّحت "جين" عن دورها في هذا الفيلم لتلك الجائزة للمرَّة السادسة من مجموع سبعة ترشيحات للأوسكار.
ومع أنَّ "جين فوندا" أعلنت اعتزالها العمل السينمائي في العام 1991، إلا أنها قامت منذ ذلك الوقت ببطولة عشرة أفلام، هي "الحماة المتوحشة" (2005) والفيلم الكوميدي الفرنسي "وإذا عشنا جميعًا معًا" (2011) وفيلم "سلام وحب وسوء تفاهم" (2011) وفيلم "كبير الخدم" (2013) وفيلم "العيش أفضل عن طريق الترابط الكيميائي" (2014) وفيلم "هناك أين سأترككم" (2014)، وفيلم "شباب" (2015) وفيلم "آباء وبنات" (2015)، وذلك بالإضافة إلى المسلسل التلفزيوني "قسم الأخبار" (2012- 2013). وكانت "جين" قد عادت في العام 2009 إلى مسارح برودواي، بعد غيبة طويلة، في مسرحيّة "33 تنوعًا"، التي حققت نجاحًا كبيرًا.
وشملت النشاطات الأخرى لـ"جين فوندا" قيامها بإصدار 24 شريط فيديو للتمارين الرياضية التي تؤدّيها بنفسها، ومجموعة من الكتب والأشرطة المسجَّلة للتمارين الرياضية بين العامين 1982 و1995. وبيعَ منها عشرات الملايين من النسخ، بما في ذلك 17 مليون نسخة من شريط الفيديو الأوَّل، الذي أسهم في تنشيط الحركة الرياضية بين الشباب في الولايات المتحدة. وعادت عليها مبيعات الأشرطة والكتب بعشرات الملايين من الدولارات.
ولم تفقد "جين فوندا" مع تقدُّمها في السنّ حماستها والتزامها بخدمة العديد من القضايا السياسية والاجتماعية، وجرأتها في اتِّخاذ المواقف السياسية المثيرة للجدل التي اقترنت بشخصيّتها منذ سنّ مبكّرة واستمرَّت وهي في سن الواحدة والثمانين.