المسرح في سياقات الصِّراع ضدّ الوباء مهرجانات محليّة تُصرّ على البقاء وأعمال تُنتَج خلال الجائحة

 أحمد الطراونة ‏

روائي وإعلامي أردني

 

في ظل جائحة "كورونا"، وجد المشتغلون بالمسرح أنفسهم أمام تحدٍّ كبير يتمثل في ‏كيفيّة إعادة العجلة للمسرح في ظلِّ حالة الإغلاق، لكنَّ المشتغلين بالمسرح تحدوّا هذا ‏الظرف من خلال عروض "مهرجان ليالي المسرح الحُرّ الشبابي"، ومهرجان "صيف ‏الزَّرقاء"، والتجربة الفرديّة للمخرجة د.مجد القصص "إلّا أنتِ... القدس". فأقيم ‏المهرجان بحضور اتفق مع الشَّرط الصحي، وتم بثّه عبْر العالم الافتراضي تحت ‏عنوان "الوضع كوفيد- 19"، فكانت العروض تُصوَّر بأحدث التقنيات، وتُبثُّ مباشرة ‏إلى العالم الافتراضي عبْر منصّات إلكترونيّة.‏

ليس ثمّة خيط يفصل بين الجمهور والممثِّل في المسرح، فأحيانًا يخرج الممثِّل من بين ‏الجمهور الذي يتابع العرض، وأحيانًا ينسلخ الممثِّل من الخشبة ليدخل شاهرًا صوتَه ‏وسط الحضور، وأحيانًا أخرى يبقى التلقّي والتفاعل سيد العلاقة أو الشّراكة والتعاون ‏وتبادل الأفكار والمشاعر بين الممثِّلين والجمهور والتي وصفها "ستانيسلافسكي" بأنها ‏أشعّة غير مرئيّة للتواصل.‏

لذلك، لا يمكن أن نعرِّف المسرح بعيدًا عن الممثِّل، أو الجمهور، لأنهما العامودان ‏المؤسِّسان تاريخيًّا للمسرح، فالممثِّل المسرحي يعتمد على نقاط جوهريّة تتجسّد على ‏الخشبة ضمن الفضاء المسرحي ودلالاته، في حين أنَّ الجمهور أو المتلقي يفسر ‏الإشارات والشيفرات التي يبعثها الممثِّل من على الخشبة، ويتفاعل معها ويفكِّك ‏إشاراتها ورموزها باحثًا عن معنى. ‏

ما سبق يقودنا إلى أهميّة وظيفة التلقّي للعرض المسرحي الذي يتكوَّن من مجموعة ‏نظم علاماتية دلالية، يقوم من خلالها الممثِّل بجعل المتفرِّج يفكر بالمعنى ويدفعه كي ‏ينهض بتفسيره وتأويله وربطه بالواقع المعاش خارج الخشبة.‏

فنون الفرجة بشكل عام تواجه مثل غيرها من الفنون حالة الإغلاق التي فرضها ‏الوباء، ولأنَّ المشتغلين بالمسرح، الذي يُعتبر واحدًا من أهم هذه الفنون، يُجمعون على ‏أنّه ليس هنالك بديل للتفاعل المُباشِر بين الجمهور والممثِّل في هذا الفن القائم على هذه ‏الثنائيّة، لذلك فهم أمام تحدٍّ كبير يتمثَّل في كيفيّة إعادة العجلة في ظلِّ البروتوكولات ‏الصحيّة.‏

المسرح حياة أخرى غير هذه التي نتصارع فيها مع فيروس، فلحظة التَّصفيق ‏والخوف والضّحك والاندماج مع الممثِّل الذي يقف على خشبة المسرح تحكي قصة ‏جديدة، أو أنها تكون نصًّا على النص، وهنا يكمن الفرق في التأثير بين أن تجلس في ‏مُواجهة الممثِّل مباشرة أو في مواجهة الشاشة التي تقتل الإحساس بالممثِّل والتفاعل ‏معه. ‏

في الأردن انحسر الفعل المسرحي تقريبًا تحت تأثير الجائحة، إلّا أنَّ المشتغلين ‏بالمسرح فتحوا بعض الآفاق من أجل أنْ يمرَّ طيف المسرح مُشعًّا في أنساق الحياة ‏الإنسانيّة، على الرّغم ممّا يعتريها من ألم، فحدثت بعض التجارب المسرحية التي فكَّت ‏الحصار عن هذا الفن وجمهوره.‏

خلال أشهر الجائحة اختفى المسرح كغيره من أنواع الحياة القائمة على التفاعل ‏المباشر بين البشر، إلا أنَّنا في الأردن ومن خلال ثلاث تجارب مهمّة قام المشتغلون ‏بالمسرح بزحزحة الصخرة التي تجثم على صدر كوّة النور، ليتسلَّل منها المسرح ولو ‏على خجل، ومن هذه التجارب: "مهرجان ليالي المسرح الحُرّ الشبابي"، ومهرجان ‏‏"صيف الزَّرقاء"، والتجربة الفرديّة للمخرجة د.مجد القصص "إلّا أنتِ... القدس".‏

 

مهرجان ليالي المسرح الحُرّ الشبابي

التجربة الأولى التي جاءت هذا العام، كانت شبابيّة بكل تفاصيلها، ابتداء من الإدارة ‏التي تصدّى لها الشباب، وليس انتهاء بالعروض التي جاءت شبابيّة ومتنوِّعة محليًّا ‏وعربيًّا، وهذا كله يأتي في سياق البقاء على وهج شعلة المهرجان متَّقدة، وأن يبقى ‏عالميًّا قائمًا ولم يسجَّل عليه أيّ انقطاع، وضمن البروتوكولات الصحية العالمية ‏والمحلية، حيث افتُتح المهرجان في المركز الثقافي الملكي تحت رعاية مندوب وزير ‏الثقافة الأديب هزاع البراري، وبحضور لا يتجاوز عشرين شخصًا تمثَّل في عدد ‏محدود من الصحفيين والمهتمين. لتبدأ فعاليات الافتتاح بعرض فيلم قصير عن ‏الأعمال المسرحية المشاركة في هذه الدَّورة، وفيلم آخر لمناسبة مرور 20 عامًا على ‏تأسيس فرقة المسرح الحر المنظِّمة للمهرجان، وعرض مسرحي بعنوان "سبعة" ‏إخراج دعاء العدوان.‏

المهرجان الذي أقيم بحضور اتفق مع الشَّرط الصحي، وتم بثّه عبْر العالم الافتراضي، ‏جاء تحت عنوان "الوضع كوفيد- 19". فكانت العروض تُصوَّر بأحدث التقنيات، ‏وتُبثُّ مباشرة إلى العالم الافتراضي عبْر منصّات إلكترونية في فرنسا وأميركا ‏ومصر، ومنصّة الدائرة الثقافية لأمانة عمّان الكبرى، ومنصّات المسرح الحر على ‏مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى قنوات مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح ‏الشبابي على مواقع التواصل الاجتماعي، في إطار بروتوكول الشراكة والتعاون ‏المتبادل بين إدارتي المهرجانين.‏

وشارك في هذه الدورة الاستثنائية مسرحيّة "سبعة" إخراج دعاء العدوان، "ذاكرة ‏صفراء" إخراج عبدالسلام الخطيب، "هذيانات شكسبير" إخراج إياد الريموني، ‏‏"طرق" إخراج عمر الضمور، و"على حافة الأرض" إخراج بلال زيتون. وتنافست ‏هذه المسرحيات على 5 جوائز هي: جائزة أفضل ممثل، وجائزة أفضل ممثلة، ‏وجائزة أفضل سينوغرافيا، وجائزة أفضل إخراج، وجائزة أفضل عرض مسرحي ‏متكامل. كما استضاف المهرجان عرضًا مسجَّلًا لمسرحية "الشقف" من تونس، ‏إخراج سيرين قنون.‏

وأعلنت لجنة التَّحكيم لمهرجان المسرح الحُرّ الشبابي، عن منح جائزة أفضل عرض ‏متكامل لمسرحية "طرق"، فيما مُنح الفنان عمر الضمور جائزة أفضل إخراج عن ‏عمله المسرحي "طرق" ، وضمَّت اللجنة العليا للمهرجان كل من: الفنانة أمل الدباس، ‏الفنان علي عليان، الموسيقي مالك البرماوي، المخرج إياد الشطناوي، محمد المراشدة، ‏فيما اعتُبر هذا المهرجان أوَّل فعاليّة أردنيّة للمسرح بعد وباء "كورونا".‏

ومَنَحَتْ لجنة برئاسة الفنان ماهر خماش، جائزة أفضل ممثل للفنّان محمود الرشايدة ‏عن دوْره في مسرحية "ذاكرة صفراء"، فيما مَنَحَت اللّجنة جائزة أفضل ممثلة ‏مناصفة للفنانة ميس الزعبي عن دورها في مسرحية "هذيانات شكسبير"، والفنانة ‏رندا ساري عن دورها في مسرحية "طرق"، كما مَنَحت لجنة التحكيم جائزة أفضل ‏سينوغرافيا لإياد الريموني عن مسرحيّة "هذيانات شكسبير".‏

 

صيف الزرقاء المسرحي

وفي مهرجان صيف الزرقاء استمرَّ المسرح في مواجهة الجائحة، ليعيد الثقة بهذا ‏الكون الذي بدا غريبًا، ويسدل ستارته بعد أن أنجز حالة مسرحية أردنية قاومت ‏بالفرح والمحبة وجع الحياة وبؤسها.‏

في الدورة الثامنة عشر من مهرجان صيف الزرقاء المسرحي هذا العام 2020 والذي ‏أقيم ضمن بروتوكولات الصحة العالمية الجديدة، وبُثَّ من خلال منصات مختلفة ‏معنيّة بالمسرح، قدَّم للمهتمين فرجة مسرحية متواصلة على مدار أيامه، ومتنوعة في ‏المدارس والتجارب، ووجوهًا جديدة وأعمالًا مهمة.‏

انطلقت هذه الدورة على مسرح الشاعر حبيب الزيودي بمركز الملك عبدالله الثاني ‏الثقافي في الزرقاء واستمرَّت على مدار أسبوع، وجاءت تحت عنوان: "وتستمر ‏الحياة رغم الكورونا". تم عرض مجموعة من المسرحيات الأردنية وهي: مسرحية ‏‏"خلف الباب" للمخرج الدكتور صفاءالدين حسين، ومسرحية "أخطاء إملائية" للمخرج ‏كامل شاويش، ومسرحية "هذيانات شكسبير" للمخرج إياد الريموني، ومسرحية ‏‏"ذاكرة صفراء" من إعداد وإخراج عبدالسلام الخطيب، ومسرحية "ثامن أيام ‏الأسبوع" للمخرج محمد الجراح. وأظهرت الأعمال مدى تطوُّر الفعل المسرحي ‏الأردني وذلك من خلال الرُّؤى الإخراجيّة والتنوُّع في تناول السينوغرافيا والإضاءة ‏وغيرها.‏

لم يتوقف المهرجان خلال فترة فعالياته على العروض المسرحية فقط، وإنما قدم عددًا ‏من الورشات، من بينها ورشة عمل مبادئ الاشتغال على الممثِّل التي نظمتها "فرقة ‏الزرقاء للفنون المسرحية" في قاعة مركز الملك عبدالله الثاني الثقافي في الزرقاء، ‏على مدار أربعة أيام بواقع عشر ساعات تدريبيّة يوميًّا، وشارك فيها 13 متدربًا ‏ومتدربة بالفئة العمرية 14- 20 عامًا.‏

الورشة التي أشرف عليها المخرج زيد مصطفى، تضمَّنت تمارين مسرحية وإرشادات ‏نظرية، ونماذج تطبيقية للمشاركين، وشروحات لفكرة المشهد المسرحي ومبرراته، ‏وتقديم فكرة التمرين وتطبيقه عمليًّا.‏

 

‏"إلّا أنت... القدس"‏

جسَّدت المخرجة د.مجد القصص في العرض الوحيد الذي أنتج خلال الجائحة ‏فضاءات عالية الرمزية اشتُقّت من نص وقصيدة، فأعادت إنتاج صراع أزلي في ‏مشهدية إبداعية راقصة، هي مسرحية "إلّا أنت.. القدس" فأوجدت فرصة حقيقية ‏للجسد أن يحلّق في الروح، وأن يطرح أسئلة الحياة على اتِّساعها.‏

القصص في عملها الجديد الذي يستند على قدرة الجسد في تصوير فلسفة الروح ‏والانصهار بها، قدَّمت نموذجًا فنيًّا جديدًا فجَّرت من خلاله مكنونات النفس البشرية ‏وإحالتها إلى أدوات صراع في أيّ مواجهة قادمة، وبرّرت مقاومتها المستندة إلى ‏فضاءات الخسارة بكل تجلّياتها.‏

العرض الذي قدِّم على خشبة المركز الثقافي الملكي أخذ عن نصّ للروائية سميحة ‏خريس، وطُعِّم بأبيات من قصيدة للشاعر تميم البرغوثي، لتشكِّل القصص بذلك جملة ‏فنية مكتملة البناء وهي مسرحیّة (إلّا أنت... القدس).‏

الأصوات التي امتزجت بعناصر العمل الفنية المؤثِّثة للخشبة من إضاءة وديكورات ‏وملابس وموسيقى، و"الكوريغرافيا" التي قامت على فكرة أنَّ المسرح والشِّعر لا ‏يفترقان، صنَعَتْ نصَّ المشهديّة، وجاءت عميقة الدلالات، وشكّلت اختصارًا عاليًا ‏لزمكانية فكرة العرض، التي أشّرَتْ على زمن بعيد في التاريخ والمستقبل، ومكان ‏عريق في التاريخ ومهم في جوهر الصِّراع المستقبلي (القدس)، والذي جسّدته اللوحة ‏الأولى، لتتسيَّد لحظة المُواجهة بين عناصر التاريخ، وجذور المكان، والشهود عليه، ‏مع العابرين في لحظات زمنية مختلفة، وصولًا إلى الموت الذي لا يعني الفناء، وإنَّما ‏الانطلاق بأدوات جديدة ليستمر الصراع، ذلك الذي تجسِّده النطفة الهاربة من سجن ‏الجلّاد لتُزرع في رحم الأم أو رحم الأرض، وتُنبت طفلًا أو ثورة تعيد كتابة التاريخ.‏

التجريب -حتى في فكرة الصراع- يؤسِّس لخلق حالة من الوعي بهذا الصراع وتقديم ‏أدوات جديدة في سياقات المواجهة والنديّة، وتقديم السردية الشرعية الغائرة في جذور ‏الأرض ونطف الرجال وأحشاء النساء، ومن هنا نقف أمام النص المرئي والذي يعيد ‏إنتاج الصراع الإنساني على هذه المنطقة، ومن خلال نمط من المسرح يستند إلى ‏الحركة التي تؤسس للثورة والانبعاث، وترسم ملامح مستقبل لا يمكن أن يبقى راكدًا ‏أو يستسلم لأيّ فكرة، وإنَّما سيسعى لتفكيك كل شيء وإعادة تركيبه وفق منطق هذه ‏الحركة وقوة أقطابها.‏

الرقصات التي تحتمل التأويل في حقول الدلالات المتنوعة حملت النص إلى فضاءات ‏أخرى، ورسمت لوحات جسّدت طقوسية الموت والحياة، والحزن والفرح، والأرض ‏والإنسان، والروح والجسد، والاستسلام والمقاومة، من خلال لغة فنية تعبّر عن ‏مسرح تحتل فيه الرمزية حيزًا واسعًا، وتشكل الهدف الأساسي، مستندة إلى التراث ‏والحاضر والوعي بالمستقبل، وبما يتلاءم مع الرؤية الفنية العامة للعرض.‏

وسط هذا الحشد الفكري الشعري الراقص، قفز إلى الخشبة أداء الممثِّلين: أريج دبابنة، ‏منذر خليل، نبيل سمور، آني قرليان، ندين خوري، عكا حمدان، إبراهيم عشا، عدي ‏طلال، ومحمد قطان. الذين قدَّموا عرضًا فنيًّا تجاوز أجسادهم وحلّقوا من خلاله في ‏فضاءات أرواحهم التي رقصت باتِّزان أمام جبروت الفكرة السّاطية على حركاتهم، ‏فرسموا فسيفساء نفسيّة يصعب تفكيكها، إلا أنَّ الملمح الطقسي المرتبط بالمكان وحالة ‏الاستغراق التي تصل إلى النشوة أحيانًا حوَّلَت المشاهد من عوالم غيبية إلى دفاتر ‏مفتوحة وسهلة القراءة.‏

ولعلَّ انعتاق الجسد في هذه المشهديّة حدَّ اختفاء الذكورة والأنوثة خلف ستار ‏الإنسانيّة، دليل على تفكيك أسرار الجسد وأدواته في الغواية الفكريّة، وصولًا إلى ‏دمجه في كينونة العرض وانصهاره فيها كأيّ حرف من حروف النص الدالّة على ‏الفكرة.‏

هذا البناء الفني المكتمل لا يمكن أن يتأتّى من سياقات عادية عابرة، وإنّما من خلال ‏تفكُّك واضح في ثنايا نص العرض الذي لعبت فيه الإضاءة دورًا شاعريًّا إلى أن ‏غدت جزءًا من مفردات قصيدة البرغوثي وحوارات خريس، فكانت تتعالق مع ‏الإيقاعات التي تؤدَّى أحيانًا بالموسيقى أو من خلال أصوات الحركات، فتلتحم ‏بمجملها لتكوّن الصورة الخاتمة.‏

وفي ظلِّ ثنائيّة الرمزيّة الطاغية والوضوح الفاضح، تشكّلت تضاديّة العمل وتمظهر ‏جوهرُ صراعه، في مدينة لا يستطيع أحد أن يخفي رمزيّتها ووضوح حضورها.