السينما الوثائقيّة بين "الذات" و"الأيديولوجيا" و"الموضوعيّة"‏

 

عبد الكريم قادري

ناقد سينمائي جزائري

 

 

الموضوعيّة في السينما الوثائقيّة نسبيّة من فيلم إلى آخر، ولا يمكن لأيّ عمل أنْ يخلو من ‏الانتصار لجهة دون أخرى، وكأنَّ هناك ضرورة قصوى للمخرج حتى يعكس ذاته في ما ‏يقوم بتحقيقه، أي أن يُبيِّن موقفه ومبادئه التي يؤمن ويُسيّر بها حياته وآراءه، وأكثر من هذا ‏يدافع عنها في كل زوايا الفيلم وثناياه، من هنا وجب طرح سؤال محوري عن مدى ‏موضوعيّة الفيلم الوثائقي وأيديولوجيته.‏

عندما نتساءل عن موضوعيّة الفيلم الوثائقي وأيديولوجيّته، فإنَّنا نطرح السُّؤال عن الحدود ‏التي تفصل الذات المبدعة للعمل و"الثيمة" التي تعالجها وتقف عليها، دون إغفال الاتِّجاه ‏الثالث، وهو طريق مختلف عن الذاتي والموضوعي، وعادة ما يكون المخرج الذي يسلكه ‏محايدًا بشكل كلّي، يوازن بين كل الجهات ويقف بينها من المسافة نفسها، وهذا في حالات ‏يمكن أن نطلق عليها مصطلح "اللاموقف"، إذ ينظر فيها المخرج إلى حدث أو واقعة لا تعنيه، ‏وهذا بعيْنٍ غير منحازة، أو يتطرَّق إلى حقيقة لا تؤذي مصالحه أو الجهة التي ينتمي إليها، ولا ‏تؤثِّر نتائجها على مسار حياته أو إبداعه ومصالحه. ‏

من هنا، وجب طرح سؤال فرعي آخر، وهو هل يمكن إخراج فيلم وثائقي دون حافز إبداعي ‏أو موقف يشحن المخرج؟ في هذه الحالة يمكن أن يكون المُنتَج بلا روح وبلا حياة، أي يولد ‏ميتًا، لأنَّ أي مُنطلق فنّي هو بحاجة ماسة إلى روح وبصمة الجهة الخالقة: المخرج/ الناص/ ‏المحقق/ الكاتب، وبالتالي يمكن لهذا الطرح أنْ ينسفَ منطلق "اللا موقف"، الذي يُنقص من ‏شرعيّة الفيلم وحتى من سينمائيّته، كما أنَّ هناك محطات يحوَّل فيها الفيلم الوثائقي إلى بوق ‏دعاية ينقل بشكل متطرِّف آراء وأفكار الأنظمة المستبدّة ويروِّج لها، وأكثر من هذا يحوِّل ‏السينما إلى أداة لتنويم الشعوب، من خلال تجميل الأكاذيب وإلباسها ثوب الحقيقة والواقع حتى ‏يسهل هضمها، في ظلِّ عدم توفُّر البديل الإعلامي، بسبب الانغلاق الكلّي للحكومات الشمولية ‏وعدم بنائها جسور شفافية بينها وبين مَن تحكمه، وهذا ما وسَّع من عملية "التدليس" ‏والـ"بروبغاندا" على هذه المجتمعات، بعد أن: "تحوَّل الفيلم الوثائقي عندها إلى وسيلة دعائيّة ‏تؤجِّج بها عواطف شعوبها وتخديرها بتأطيرها أيديولوجيًّا؛ إذْ كانت الجماهير تعتبر الفيلم ‏الوثائقي هو الحقيقة بعينها لا يأتيها باطل من أمامها أو خلفها"(1).‏

هذا الاتِّجاه الذي استغلَّته الأنظمة الاستبداديّة بشكل واسع، استغلوا فيه صدقيّة السينما الوثائقيّة ‏وسلاستها في تقديم المعلومة لخدمة الدعاية وأهدافها، لنستخلص أنَّ هذا النوع السينمائي على ‏خلاف السينما الرِّوائية التي تستند في أغلب الأحيان على المواضيع التخييليّة، هو ما تمَّ ‏استعماله لترسيخ ما يريدون إيصاله إلى المُشاهد، بحكم أنَّ "الفيلم التسجيلي أقدر على متابعة ‏الأحداث الجارية والمشكلات الحاليّة من الفيلم الرِّوائي الذي يحتاج لزمن أطول في الإعداد ‏والتنفيذ حتى يصل إلى مرحلة العرض"(2)، كما أنه يؤدّي إلى العديد من الاتِّجاهات ويطرق ‏أبوابًا منوَّعة، حتى تصل المعلومة إلى الجمهور العريض، وتقوم بترسيخها وتثبيت غايتها ‏لخدمة الأهداف العليا لتلك الأنظمة والجهات والإطالة في عمر نظامها واستمراره. ‏

من هنا يتمّ توضيح ما سبق وتطرَّقنا له عن مرجعيّة المخرج وميولاته السياسية والاجتماعية ‏وحتى الثقافية، لنعرف بأنَّ "مخرج الفيلم الوثائقي ليس شخصًا مجرَّدًا ولا يمكنه أن يشتغل في ‏المطلق، فهو يحمل معه تكوينه الاجتماعي والطبقي والثقافي والسياسي، مهما حاول أن يكون ‏موضوعيًّا في رصد ما يصوِّره، إذ لا يمكن أن تنزع منه جلده الذي التصقت به مراجع ‏أصبحت جزءًا منه ومن خلالها يرى العالم ومنها ينطلق"(3).‏

بناءً على ما تقدَّم، وجب اعتبار الفيلم الوثائقي جنسًا سينمائيًّا حمّال أوجُه، والحديث عن ‏‏"الموضوعية" فيه لا يجدي على مستوى العديد من النواحي، بحكم أنَّ المخرج بات يتدخل في ‏كل التفاصيل، سواء الفكريّة التي تعكسها المرجعية والانتماء المجتمعي والنظرة الحضارية، ‏أو في التقنية التي تنعكس في الأوامر التي يقوم بها المخرج لطاقمه، من خلال ضبط زوايا ‏التصوير، نقل المشاهد المؤثِّرة عن طريق الصور والوثائق الأرشيفية والشهادات، المونتاج ‏الذي يخدم الرؤيا العامة، الموسيقى التي تشحن العواطف وتدعم اللقطة التي تصاحبها، ومن ‏هنا تبرز الذاتية بشكل كبير، وتتوزَّع على التفاصيل والزوايا التي ذكرتها، لأنَّ المخرج مهما ‏يكُن فهو ابن بيئته، وينطلق من فضاء ضيِّق إلى آخر رحب، ليرى من خلاله العالم وتفاصيله، ‏في محاولة منه لاستدراجِه إلى خيالِه ونظرتِه إلى الأشياء التي يؤمن بصوابها وينتصر لها في ‏سينماه. ‏

وينقل الناقد أحمد بوغابة شهادة مهمَّة استقاها من المخرج المغربي حكيم بلعباس الذي يدرِّس ‏السينما الوثائقية بإحدى جامعات أميركا خدمةً لمفهوم "الموضوعيّة"، حيث قال له: ‏‏"الموضوعية وهم حقيقي لأنها غير موجودة في تعاملنا مع الصورة أو ما يعتقده بعضهم بأنه ‏يصوِّر الواقع، ليتساءل "ما هو الواقع"، و"عن أيّ واقع نتحدَّث"، و"مَن يملك هذا الواقع"، ‏و"مَن له صلاحيّة الحديث باسمِه"، ليجيبَ هو نفسه عن أسئلتِه بكون هناك وقائع وحقائق عدّة ‏تتعدّى النظر إليها والتفاعل معها بمرجعيّات تختلف من شخص إلى آخر، لذا يتهكَّم من بعض ‏الأفلام التي تذيّل عناوينها بأنّ أحداث الفيلم تنطلق من قصة حقيقية، حيث لا يفهم هذا الإلحاح ‏على إظهار هذا المُعطى وكأنَّ الأفلام الأخرى لا تنطلق من وقائع حقيقية"(4).‏

 

تشظّي "الذات" في السينما الوثائقيّة

‏"الموضوعية" و"الذاتية" في الأفلام الوثائقية من أكثر الأسئلة التي تواجه هذا الصنف ‏السينمائي منذ اكتشاف السنيماتغراوف وإلى اليوم، وهو سؤال شائك حمّال أوجه، لم يُطرح ‏بغرض استنباط الحقيقة واستخراجها، بقدر ما يهدف إلى زرع الشّك في ما تطرحه من ‏مواضيع تستهدف مصالح جهة معيّنة، وكأنها محاولة لتحريف صدقيّتها، أو استعمالها من قبل ‏جهات وفي أوقات معيّنة للوقوف في وجه عمل وثائقي ما، إذ تتم العودة دائمًا إلى هذا ‏التشكيك، لنسف الجهد وتسطيحه، والصدق هنا لا يعني "الموضوعية" بقدر ما يعني مدى ‏انعكاس "الذات" المبدعة فيها، أو ما بات يُسمى اصطلاحًا "سينما المؤلف"، وهو التّيار الأكثر ‏احترامًا من باقي السينمات الأخرى، لأنه ينطلق من العديد من المبادئ التي تحتفي بحرية ‏الرأي والاستقلالية، ينقل من خلالها المخرج ما يؤمن به دون أن يقع في فخ صناعة السينما ‏وآلياتها التي تحاصره، ويحاول دائمًا أن لا يستسلم لها حتى لا تبيده وتقتل ما فيه من إبداع، ‏وتضعه في زاويتها الضيّقة، بعد أن تستدرجه إلى عجلاتها التي لا تتوقف سوى لتجني المال ‏ولو على حساب المبادئ والحريات، ولقد أصبحت العديد من المهرجانات السينمائية العالمية ‏تحتفي بهذا النوع السينمائي، حتى أنّ هناك مهرجانات مخصّصة فيها.‏

تتشظى "الذات" في "ثيمة" الفيلم الوثائقي، لتصبح جزءًا مهمًّا في صناعته وحتى إبداعيّته، إذ ‏يتم التعامل معها وبشكل غير مباشر عن طريق الكاميرا، التي تلتقط صورًا ومشاهدَ تخدم أوّلًا ‏‏"الذات" ومنطلقها، ثم تتوجَّه إلى "الثيمة" وتثبت أركانها في الفيلم، حتى لا يذوب الخيط الذي ‏يجمعها، وتتفرَّق مدارك العمل، خاصة إن كان هناك إفراط واستسلام كلّي لهذه "الذات"، لهذا ‏وجب الحذر والتعامل معها بموازنة وذكاء، لأنه كلما كان ارتباط المخرج بها جاء العمل ‏أعمق وأكثر فنيّة، لأنّها عامل مهم وحاسم في تفكيك "الوثيقة" مهما كان نوعها، تقلِّبها وتنظر ‏لها من كل الجوانب، حتى تضمن لها البقاء من خلال البحث عن الزاوية التي ستوضع فيها، ‏لتؤدّي وظيفتها التواصلية والإخبارية التي يريد المخرج إيصالها إلى المتلقي، من أجل خلق ‏التفاعل المطلوب، وفي الوقت نفسه نسج علاقة قوية بينها وبين الجمهور.‏

وفي هذا السياق يقول الناقد السينمائي عدنان مدانات في دراسة نشرها بمجلة "الجزيرة ‏الوثائقية" تحت عنوان "موضوعيّة السينما بين الروائي والتسجيلي"، في محاولة منه لتحليل ‏العلاقة التي تجمع بين الجنسين السينمائيين وعلاقتهما بالجمهور من ناحية، ومن ناحية ثانية ‏بالموضوعية، حيث كتب: "الفيلم هو وليد الوثيقة السينمائية التي هي في نهاية المطاف تسجيل ‏مباشر لمادة واقعيّة موجودة موضوعيًّا، وهذا الأمر يؤدّي إلى تملُّكها لخاصيّة الإقناع، وهي ‏خاصيّة أساسيّة تبلور عمليّة التفاعل بين مادة وموضوع الفيلم وبين المتفرِّج، ومن حيث ‏المبدأ، فإنَّ موضوعية المادة السينمائية الوثائقية تفترض مسبقًا صدقها، وهذا الافتراض ينطلق ‏من مبدأ موضوعية المادة نفسها، وبالتالي موضوعية نقلها فيزيائيًّا على شريط الفيلم"(5).‏

ينتصر عدنان إلى صدقيّة السينما الوثائقية، وهذا ما يدعم طرحنا ويغذّيه، وقد نحا نحوه العديد ‏من النقاد والدارسين، الذين أشاروا إلى مدى أهميّتها وتجرُّدها من الزيف، لكن ليس بشكل ‏كلّي، إذْ يجب القول إنَّ "الموضوعيّة" في الفيلم الوثائقي هي نسبيّة، وهذا القول سُقناه لحماية ‏المُشاهد من الإيمان الكلّي بما يوجد داخل الفيلم، وفي الوقت نفسه نحرِّضه حتى يحافظ على ‏مساحة الشكّ لديه.‏

بين "الذات" و"الجمع" ‏

مرَّت السينما الوثائقية عبر تاريخها بمطبّات مختلفة، إذ تمَّ تجريدها كليًّا من "الذات" لخدمة ‏‏"الجمع"، خاصة من قِبَل الدول الشمولية والأنظمة الديكتاتورية، التي استعملتها لتنويم شعوبها ‏وحصرها في اتِّجاه معيَّن، لتكريس عبادة الزعيم أو الديكتاتور المنقذ الذي لا يمكن أن تقف ‏البلاد دونه، وقد أُرغم العديد من المخرجين على السير في هذا الخط الذي كانوا مسيَّرين فيه ‏لا مخيَّرين، أي أنهم أبادوا "الذات" المبدعة حاملة الرؤى والفكر التي تسكنهم، سحقوها ‏وجعلوهم مجرَّد آلة لتنفِّذ تلك الأعمال، ما جعلها أفلامًا بلا روح، يصعب تصديق ما فيها ‏وهضمه، وأكثر من هذا بات من الصعب تصنيفها على أنَّها أعمال فنيّة، على الرّغم من كَمّ ‏الوثائق التي فيها وتنوُّعها، لكنَّ غياب المبدأ الأساسي الذي ينهض بكل فنّ حرمها من عنصر ‏مهم، وهو تجلي "الإبداعيّة" التي تعكسها "الذات" حين تترك بصمتها وتصنع التميُّز، وتصبغ ‏تلك الأعمال بروح المخرج وحريّته، كما أنَّ هذا لا يعني بأنَّ أفلام "البروباغندا" في السينما ‏الوثائقية متجرِّدة من الفنيّة والإبداع، بل إنَّ هناك أفلامًا تصنَّف في هذا الباب، لكنها تجاوزت ‏حتى الأفلام المتحرِّرة من كل قيد، أي تلك التي تنطلق من "الذات"، مثل أفلام المخرجة ‏الألمانية "ليني رفنشتال" التي تعتبر نموذجًا حيًّا وعمليًّا لصناعة أفلام "البروباغندا"، خدمت ‏فيها الحزب النازي الألماني، مثل فيلم "انتصار الإرادة" 1935، الذي أخرجته وكتبته ومثّلت ‏فيه، وقد لعب دور البطولة فيه كل من الزعيم "أدولف هتلر" والضابطين "هاينريش هاملر" ‏و"فيكتور لوتز"، وفي المقابل هناك أعمال وثائقية مهمّة تمَّ تجريدها من صفة "الوثائقية" من ‏أجل التقليل من شأنها وتحييد الحقيقة التي فيها، حتى لا يُعتدّ بما فيها، وقد تمَّ استعمال وسائل ‏ضغط مختلفة في هذا الأمر، وخير مثال على ذلك ما حدث مع المخرج "مايكل مور"، وهذا ‏بعد عرض فيلمه الوثائقي "روجر وأنا" 1989، بحسب ما جاء في ملخص العمل فإنه يرصد ‏‏"النتائج المترتبة عن غلق مصنع "جنرال موتورز" لتصنيع محركات الطائرات، وفقدان ‏حوالي 30000 شخص لوظائفهم، من خلال إجراء حوار مع المدير التنفيذي للمصنع (روجر ‏سميث)، حول أسباب الإغلاق، والنتائج المترتبة على ذلك، والفيلم مدته تسعين دقيقة"، لكن ‏بعد الضغط الشديد الذي تعرَّض له المخرج تراجع الأخير وسحَبَ صفة "الوثائقية" منه، ‏لتجريده عمله من صدقيّته، لأنَّ الفيلم "يمثل اتهامًا قاسيًا لشركة جنرال موتورز بالتسبُّب في ‏الانهيار الاقتصادي لمدينة فلينت المعروفة بصناعة الصلب في متشجان، ويمثل نموذجًا ‏متميزًا للكوميديا السوداء، وهو مصنّف كفيلم وثائقي في الأساس، ولكن عندما كشف الصحفي ‏‏"هارلان جاكوبسون" أنَّ "مور" قد شوّه تسلسل الأحداث، نأى "مور" بنفسه عن كلمة ‏‏"وثائقي" فذهب إلى أنه لم يكن فيلمًا وثائقيًّا، بل فيلمًا سينمائيًّا"(6). لكن وعلى الرغم من ذلك، ‏فقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا بعد عرضه في قاعات السينما وعلى القنوات التيلفزيونية، وفي ‏العام 2013 تمَّ اختيار الفيلم لحفظه في السجلّ الوطني بمكتبة الكونغرس بالولايات المتحدة ‏الأميركية لأهميّته الثقافية والتاريخية والجمالية. ‏

وهذا ما يجعل الأمر نسبيًّا من فيلم لآخر، لكن في المجمل يتم تجريد أفلام الدعاية من فنيّتها، ‏خاصة حين يتم تكليف مخرج ما بتحقيق عمل لا يؤمن بثيمته أو بما فيه، من هنا يأتي هذا ‏العمل مجرَّدًا من روحه، ويحاكي في مجمله "التقرير التلفزيوني" بعد أن يتم تجريده نهائيًّا من ‏منطق مهم، وهو ما يتناسب ورؤى المخرج وإيمانه الفني بقضايا معيَّنة. وهناك العديد من ‏الأمثلة التي يمكن طرحها وتثبت أنَّ الفنَّ قادرٌ على احتواء كل المتناقضات، و"كقاعدة عامة- ‏يُقال إنَّ الدعاية نقيض الفنّ، وإنَّ الفنان عندما يسخِّر عمله من أجل الدعاية السياسية لقضية ‏من القضايا، فإنه يُفقد عمله الكثير، خاصة لو كانت موهبته تشهد عليه، وسمعته الفنية الجيدة ‏تسبقه ويكون قد أصبح واحدًا من السينمائيين المجدّدين في بلاده. هذه القاعدة يمكن تجاوزها ‏أحيانا أمام التحدي في كيفية موازنة الفنان بين إيمانه الحقيقي بعدالة القضية التي يدافع عنها ‏ورغبته في تسخير موهبته الفنية من أجل ذلك، وفي الوقت نفسه المحافظة على الموهبة ‏نفسها من السقوط في هوّة الدعاية الفجّة التي تجعل من الفيلم مجرّد قطعة عمياء من ‏التعصُّب"(7).‏

لكن في المقابل، فإنَّ قوّة الطرح وعبقريّة المخرج تفرض الاعتراف بأهميّة ما ينتجه، وهذا ‏حدث مع المخرجة "ليني رفنشتال" التي تعدُّ مؤسِّسة السينما الوثائقية الدعائية، كما أنَّ هذا لا ‏يعني بأنَّ المخرجة تنصّلت من مبدأ "الذات" وذهبت في اتجاه "الجمع"، بل يمكن للمخرج أن ‏يجمع بينهما، خاصة وأنَّ "ليني" كانت تؤمن بأيديولوجيّة "هتلر" والحزب النازي، لهذا كانت ‏تعكس هذا الإيمان من خلال أعمالها الوثائقية، أيْ مهما كان احتواء "الجمع" لـ"الذات" فهو ‏يخدم الأخيرة بشكل كبير، كما أنَّ هناك أمثلة أخرى لمخرجين استطاعوا أن يتنصّلوا من ‏منطلق "الجمع" الذي تدعمه عادة الأنظمة والحكومات، وأسّسوا سينما وثائقية من منطلق ‏‏"الذات"، مثل المخرج الفرنسي اليساري "رونيه فوتييه" صديق الثورة الجزائرية الذي أرسل ‏من قِبَل رابطة التعليم الفرنسية إلى دول غرب أفريقيا المستعمَرَة سنة 1950، وكلَّفته بإخراج ‏فيلم وثائقي يبيِّن من خلاله الفتوحات الكبيرة التي حقَّقها التعليم الفرنسي في البلدان الأفريقية ‏المحتلة من قبل فرنسا، لكن عندما وصل لها "فوتييه" واجه واقعًا مغايرًا/ عكس الذي كان ‏يراه في القنوات الرسميّة أو يقرأ عنه في الصُّحُف، وهي الوسائل الدعائية التي كرَّستها ‏الحكومة الفرنسية من أجل تلميع صورتها على خلفية ما ترتكبه من فظائع في مستعمراتها ‏الكثيرة، وتكريسها كدولة حضارة ومساواة وعدالة، وقف "رونيه فوتييه" الذي كان عمره ‏وقتها 21 سنة في تلك البلدان على واقع آخر تمامًا، لهذا لم يشأ أن يتورَّط في هذه اللعبة التي ‏تريد من خلالها الجهة التي أرسلته أن تحرق فيه "الذات" من أجل انتصار "الجمع"، ليعود ‏بفيلم وثائقي مختلف تمامًا، بعنوان "أفريقيا 50"، أظهر من خلاله وجه فرنسا الاستعماري ‏الحقيقي، لهذا قامت الحكومة الفرنسية بحجز نسخة الفيلم لأكثر من 40 سنة كاملة، ولم يُفرَج ‏عنها سوى سنة 1995، لكن الفيلم المذكور شكَّلَ لعنة كبيرة في مسار المخرج "فوتييه" الذي ‏انضمَّ إلى الثورة الجزائرية فيما بعد "1954-1962" وأصبح يصوِّر أحداثها وتفاصيلها.‏

السينما الوثائقيّة تنتصر لفتنتها

السينما الوثائقية هي أداة معرفية وثقافية، ولا يجب على أي جهة -سواء من صنّاع الأفلام أو ‏الجهات التي تستغلها- تحميلها ما لا تطيق، والتدليس عليها لخدمة الأيديولوجيات، هذه الأفعال ‏من شأنها أن تضرّ بها وتقلّل الجمالية التي تسكنها، وأكثر من هذا تخلق هوّة بينها وبين المتلقّي ‏الذي ما يزال يحترمها، وينظر لها على أساس أنها مصدر معرفة تقدِّم له المعلومة وتجعله ‏يقف على حقائق آنية وتاريخية، ليس بمقدور أي وسيلة أخرى أن تقدمها له بتلك السلاسة ‏والتأثير نفسه، ومن هنا يتم ترسيخها في الذهن، ومن جهة ثانية هي أداة ترفيه وتسلية تأخذ بيد ‏الجمهور من مكان إلى آخر، ومن فضاء لفضاء لتقدِّم له عوالم جديدة، وقد عرفت في ‏السنوات الأخيرة تطوُّرًا كبيرًا، بعد أن تجاوزت التوثيق وأصبحت تنافس الأفلام الروائية في ‏عمليات توليد الشعرية، ومن هنا بدأت تخرج من الدائرة المحدودة التي كانت عليها إلى فضاء ‏أكثر اتساعًا وهو الجمالية ومداركها، وأصبحت المعلومة التي تقدمها وتقف عليها مصبَّغة ‏بهالات فنيّة وفَّرها لها التطور السردي والتقني، وأصبحت تُعرض أمام الجمهور في ثوب ‏أجمل وأنقى من ذي قبل، لكن، وعلى الرغم من هذا، فهي ما تزال تعاني من النقاشات ‏المطروحة نفسها، وهي "الذات"، و"الأيديولوجيا"، و"الموضوعية"، وهي نقاشات مستحبة ‏تضمن استمرار عجلة إنتاجها وتبرز أهميّتها لدى المتلقي. ‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ أحمد بوغابة، الوثائقي بين "وهم الموضوعية" و"واقع الذاتية"، مجلة الجزيرة الوثائقية، 01-04-2009.‏

‏(2)‏ منى سعيد الحديدي، الفيلم التسجيلي، تعريفه، اتجاهاته، أسسه، قواعده، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1990، ‏ص49.‏

‏(3)‏ ‏ المرجع السابق.‏

‏(4)‏ ‏ المرجع نفسه.‏

‏(5)‏ ‏ عدنان مدانات، "موضوعية السينما بين الروائي والتسجيلي"، موقع الجزيرة الوثائقية.‏

‏(6)‏ ‏ باتريشيا أوفدرهادي، الفيلم الوثائقي "مقدمة قصيرة جدًا"، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، ترجمة شيماء ‏طه الريدي، 2013، ص11.‏

‏(7)‏ أمير العمري، هوليود عودة سينما الحرب، موقع الجزيرة الوثائقية، 28-12-2017.‏