عبد الكريم قادري
ناقد سينمائي جزائري
الموضوعيّة في السينما الوثائقيّة نسبيّة من فيلم إلى آخر، ولا يمكن لأيّ عمل أنْ يخلو من الانتصار لجهة دون أخرى، وكأنَّ هناك ضرورة قصوى للمخرج حتى يعكس ذاته في ما يقوم بتحقيقه، أي أن يُبيِّن موقفه ومبادئه التي يؤمن ويُسيّر بها حياته وآراءه، وأكثر من هذا يدافع عنها في كل زوايا الفيلم وثناياه، من هنا وجب طرح سؤال محوري عن مدى موضوعيّة الفيلم الوثائقي وأيديولوجيته.
عندما نتساءل عن موضوعيّة الفيلم الوثائقي وأيديولوجيّته، فإنَّنا نطرح السُّؤال عن الحدود التي تفصل الذات المبدعة للعمل و"الثيمة" التي تعالجها وتقف عليها، دون إغفال الاتِّجاه الثالث، وهو طريق مختلف عن الذاتي والموضوعي، وعادة ما يكون المخرج الذي يسلكه محايدًا بشكل كلّي، يوازن بين كل الجهات ويقف بينها من المسافة نفسها، وهذا في حالات يمكن أن نطلق عليها مصطلح "اللاموقف"، إذ ينظر فيها المخرج إلى حدث أو واقعة لا تعنيه، وهذا بعيْنٍ غير منحازة، أو يتطرَّق إلى حقيقة لا تؤذي مصالحه أو الجهة التي ينتمي إليها، ولا تؤثِّر نتائجها على مسار حياته أو إبداعه ومصالحه.
من هنا، وجب طرح سؤال فرعي آخر، وهو هل يمكن إخراج فيلم وثائقي دون حافز إبداعي أو موقف يشحن المخرج؟ في هذه الحالة يمكن أن يكون المُنتَج بلا روح وبلا حياة، أي يولد ميتًا، لأنَّ أي مُنطلق فنّي هو بحاجة ماسة إلى روح وبصمة الجهة الخالقة: المخرج/ الناص/ المحقق/ الكاتب، وبالتالي يمكن لهذا الطرح أنْ ينسفَ منطلق "اللا موقف"، الذي يُنقص من شرعيّة الفيلم وحتى من سينمائيّته، كما أنَّ هناك محطات يحوَّل فيها الفيلم الوثائقي إلى بوق دعاية ينقل بشكل متطرِّف آراء وأفكار الأنظمة المستبدّة ويروِّج لها، وأكثر من هذا يحوِّل السينما إلى أداة لتنويم الشعوب، من خلال تجميل الأكاذيب وإلباسها ثوب الحقيقة والواقع حتى يسهل هضمها، في ظلِّ عدم توفُّر البديل الإعلامي، بسبب الانغلاق الكلّي للحكومات الشمولية وعدم بنائها جسور شفافية بينها وبين مَن تحكمه، وهذا ما وسَّع من عملية "التدليس" والـ"بروبغاندا" على هذه المجتمعات، بعد أن: "تحوَّل الفيلم الوثائقي عندها إلى وسيلة دعائيّة تؤجِّج بها عواطف شعوبها وتخديرها بتأطيرها أيديولوجيًّا؛ إذْ كانت الجماهير تعتبر الفيلم الوثائقي هو الحقيقة بعينها لا يأتيها باطل من أمامها أو خلفها"(1).
هذا الاتِّجاه الذي استغلَّته الأنظمة الاستبداديّة بشكل واسع، استغلوا فيه صدقيّة السينما الوثائقيّة وسلاستها في تقديم المعلومة لخدمة الدعاية وأهدافها، لنستخلص أنَّ هذا النوع السينمائي على خلاف السينما الرِّوائية التي تستند في أغلب الأحيان على المواضيع التخييليّة، هو ما تمَّ استعماله لترسيخ ما يريدون إيصاله إلى المُشاهد، بحكم أنَّ "الفيلم التسجيلي أقدر على متابعة الأحداث الجارية والمشكلات الحاليّة من الفيلم الرِّوائي الذي يحتاج لزمن أطول في الإعداد والتنفيذ حتى يصل إلى مرحلة العرض"(2)، كما أنه يؤدّي إلى العديد من الاتِّجاهات ويطرق أبوابًا منوَّعة، حتى تصل المعلومة إلى الجمهور العريض، وتقوم بترسيخها وتثبيت غايتها لخدمة الأهداف العليا لتلك الأنظمة والجهات والإطالة في عمر نظامها واستمراره.
من هنا يتمّ توضيح ما سبق وتطرَّقنا له عن مرجعيّة المخرج وميولاته السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية، لنعرف بأنَّ "مخرج الفيلم الوثائقي ليس شخصًا مجرَّدًا ولا يمكنه أن يشتغل في المطلق، فهو يحمل معه تكوينه الاجتماعي والطبقي والثقافي والسياسي، مهما حاول أن يكون موضوعيًّا في رصد ما يصوِّره، إذ لا يمكن أن تنزع منه جلده الذي التصقت به مراجع أصبحت جزءًا منه ومن خلالها يرى العالم ومنها ينطلق"(3).
بناءً على ما تقدَّم، وجب اعتبار الفيلم الوثائقي جنسًا سينمائيًّا حمّال أوجُه، والحديث عن "الموضوعية" فيه لا يجدي على مستوى العديد من النواحي، بحكم أنَّ المخرج بات يتدخل في كل التفاصيل، سواء الفكريّة التي تعكسها المرجعية والانتماء المجتمعي والنظرة الحضارية، أو في التقنية التي تنعكس في الأوامر التي يقوم بها المخرج لطاقمه، من خلال ضبط زوايا التصوير، نقل المشاهد المؤثِّرة عن طريق الصور والوثائق الأرشيفية والشهادات، المونتاج الذي يخدم الرؤيا العامة، الموسيقى التي تشحن العواطف وتدعم اللقطة التي تصاحبها، ومن هنا تبرز الذاتية بشكل كبير، وتتوزَّع على التفاصيل والزوايا التي ذكرتها، لأنَّ المخرج مهما يكُن فهو ابن بيئته، وينطلق من فضاء ضيِّق إلى آخر رحب، ليرى من خلاله العالم وتفاصيله، في محاولة منه لاستدراجِه إلى خيالِه ونظرتِه إلى الأشياء التي يؤمن بصوابها وينتصر لها في سينماه.
وينقل الناقد أحمد بوغابة شهادة مهمَّة استقاها من المخرج المغربي حكيم بلعباس الذي يدرِّس السينما الوثائقية بإحدى جامعات أميركا خدمةً لمفهوم "الموضوعيّة"، حيث قال له: "الموضوعية وهم حقيقي لأنها غير موجودة في تعاملنا مع الصورة أو ما يعتقده بعضهم بأنه يصوِّر الواقع، ليتساءل "ما هو الواقع"، و"عن أيّ واقع نتحدَّث"، و"مَن يملك هذا الواقع"، و"مَن له صلاحيّة الحديث باسمِه"، ليجيبَ هو نفسه عن أسئلتِه بكون هناك وقائع وحقائق عدّة تتعدّى النظر إليها والتفاعل معها بمرجعيّات تختلف من شخص إلى آخر، لذا يتهكَّم من بعض الأفلام التي تذيّل عناوينها بأنّ أحداث الفيلم تنطلق من قصة حقيقية، حيث لا يفهم هذا الإلحاح على إظهار هذا المُعطى وكأنَّ الأفلام الأخرى لا تنطلق من وقائع حقيقية"(4).
• تشظّي "الذات" في السينما الوثائقيّة
"الموضوعية" و"الذاتية" في الأفلام الوثائقية من أكثر الأسئلة التي تواجه هذا الصنف السينمائي منذ اكتشاف السنيماتغراوف وإلى اليوم، وهو سؤال شائك حمّال أوجه، لم يُطرح بغرض استنباط الحقيقة واستخراجها، بقدر ما يهدف إلى زرع الشّك في ما تطرحه من مواضيع تستهدف مصالح جهة معيّنة، وكأنها محاولة لتحريف صدقيّتها، أو استعمالها من قبل جهات وفي أوقات معيّنة للوقوف في وجه عمل وثائقي ما، إذ تتم العودة دائمًا إلى هذا التشكيك، لنسف الجهد وتسطيحه، والصدق هنا لا يعني "الموضوعية" بقدر ما يعني مدى انعكاس "الذات" المبدعة فيها، أو ما بات يُسمى اصطلاحًا "سينما المؤلف"، وهو التّيار الأكثر احترامًا من باقي السينمات الأخرى، لأنه ينطلق من العديد من المبادئ التي تحتفي بحرية الرأي والاستقلالية، ينقل من خلالها المخرج ما يؤمن به دون أن يقع في فخ صناعة السينما وآلياتها التي تحاصره، ويحاول دائمًا أن لا يستسلم لها حتى لا تبيده وتقتل ما فيه من إبداع، وتضعه في زاويتها الضيّقة، بعد أن تستدرجه إلى عجلاتها التي لا تتوقف سوى لتجني المال ولو على حساب المبادئ والحريات، ولقد أصبحت العديد من المهرجانات السينمائية العالمية تحتفي بهذا النوع السينمائي، حتى أنّ هناك مهرجانات مخصّصة فيها.
تتشظى "الذات" في "ثيمة" الفيلم الوثائقي، لتصبح جزءًا مهمًّا في صناعته وحتى إبداعيّته، إذ يتم التعامل معها وبشكل غير مباشر عن طريق الكاميرا، التي تلتقط صورًا ومشاهدَ تخدم أوّلًا "الذات" ومنطلقها، ثم تتوجَّه إلى "الثيمة" وتثبت أركانها في الفيلم، حتى لا يذوب الخيط الذي يجمعها، وتتفرَّق مدارك العمل، خاصة إن كان هناك إفراط واستسلام كلّي لهذه "الذات"، لهذا وجب الحذر والتعامل معها بموازنة وذكاء، لأنه كلما كان ارتباط المخرج بها جاء العمل أعمق وأكثر فنيّة، لأنّها عامل مهم وحاسم في تفكيك "الوثيقة" مهما كان نوعها، تقلِّبها وتنظر لها من كل الجوانب، حتى تضمن لها البقاء من خلال البحث عن الزاوية التي ستوضع فيها، لتؤدّي وظيفتها التواصلية والإخبارية التي يريد المخرج إيصالها إلى المتلقي، من أجل خلق التفاعل المطلوب، وفي الوقت نفسه نسج علاقة قوية بينها وبين الجمهور.
وفي هذا السياق يقول الناقد السينمائي عدنان مدانات في دراسة نشرها بمجلة "الجزيرة الوثائقية" تحت عنوان "موضوعيّة السينما بين الروائي والتسجيلي"، في محاولة منه لتحليل العلاقة التي تجمع بين الجنسين السينمائيين وعلاقتهما بالجمهور من ناحية، ومن ناحية ثانية بالموضوعية، حيث كتب: "الفيلم هو وليد الوثيقة السينمائية التي هي في نهاية المطاف تسجيل مباشر لمادة واقعيّة موجودة موضوعيًّا، وهذا الأمر يؤدّي إلى تملُّكها لخاصيّة الإقناع، وهي خاصيّة أساسيّة تبلور عمليّة التفاعل بين مادة وموضوع الفيلم وبين المتفرِّج، ومن حيث المبدأ، فإنَّ موضوعية المادة السينمائية الوثائقية تفترض مسبقًا صدقها، وهذا الافتراض ينطلق من مبدأ موضوعية المادة نفسها، وبالتالي موضوعية نقلها فيزيائيًّا على شريط الفيلم"(5).
ينتصر عدنان إلى صدقيّة السينما الوثائقية، وهذا ما يدعم طرحنا ويغذّيه، وقد نحا نحوه العديد من النقاد والدارسين، الذين أشاروا إلى مدى أهميّتها وتجرُّدها من الزيف، لكن ليس بشكل كلّي، إذْ يجب القول إنَّ "الموضوعيّة" في الفيلم الوثائقي هي نسبيّة، وهذا القول سُقناه لحماية المُشاهد من الإيمان الكلّي بما يوجد داخل الفيلم، وفي الوقت نفسه نحرِّضه حتى يحافظ على مساحة الشكّ لديه.
• بين "الذات" و"الجمع"
مرَّت السينما الوثائقية عبر تاريخها بمطبّات مختلفة، إذ تمَّ تجريدها كليًّا من "الذات" لخدمة "الجمع"، خاصة من قِبَل الدول الشمولية والأنظمة الديكتاتورية، التي استعملتها لتنويم شعوبها وحصرها في اتِّجاه معيَّن، لتكريس عبادة الزعيم أو الديكتاتور المنقذ الذي لا يمكن أن تقف البلاد دونه، وقد أُرغم العديد من المخرجين على السير في هذا الخط الذي كانوا مسيَّرين فيه لا مخيَّرين، أي أنهم أبادوا "الذات" المبدعة حاملة الرؤى والفكر التي تسكنهم، سحقوها وجعلوهم مجرَّد آلة لتنفِّذ تلك الأعمال، ما جعلها أفلامًا بلا روح، يصعب تصديق ما فيها وهضمه، وأكثر من هذا بات من الصعب تصنيفها على أنَّها أعمال فنيّة، على الرّغم من كَمّ الوثائق التي فيها وتنوُّعها، لكنَّ غياب المبدأ الأساسي الذي ينهض بكل فنّ حرمها من عنصر مهم، وهو تجلي "الإبداعيّة" التي تعكسها "الذات" حين تترك بصمتها وتصنع التميُّز، وتصبغ تلك الأعمال بروح المخرج وحريّته، كما أنَّ هذا لا يعني بأنَّ أفلام "البروباغندا" في السينما الوثائقية متجرِّدة من الفنيّة والإبداع، بل إنَّ هناك أفلامًا تصنَّف في هذا الباب، لكنها تجاوزت حتى الأفلام المتحرِّرة من كل قيد، أي تلك التي تنطلق من "الذات"، مثل أفلام المخرجة الألمانية "ليني رفنشتال" التي تعتبر نموذجًا حيًّا وعمليًّا لصناعة أفلام "البروباغندا"، خدمت فيها الحزب النازي الألماني، مثل فيلم "انتصار الإرادة" 1935، الذي أخرجته وكتبته ومثّلت فيه، وقد لعب دور البطولة فيه كل من الزعيم "أدولف هتلر" والضابطين "هاينريش هاملر" و"فيكتور لوتز"، وفي المقابل هناك أعمال وثائقية مهمّة تمَّ تجريدها من صفة "الوثائقية" من أجل التقليل من شأنها وتحييد الحقيقة التي فيها، حتى لا يُعتدّ بما فيها، وقد تمَّ استعمال وسائل ضغط مختلفة في هذا الأمر، وخير مثال على ذلك ما حدث مع المخرج "مايكل مور"، وهذا بعد عرض فيلمه الوثائقي "روجر وأنا" 1989، بحسب ما جاء في ملخص العمل فإنه يرصد "النتائج المترتبة عن غلق مصنع "جنرال موتورز" لتصنيع محركات الطائرات، وفقدان حوالي 30000 شخص لوظائفهم، من خلال إجراء حوار مع المدير التنفيذي للمصنع (روجر سميث)، حول أسباب الإغلاق، والنتائج المترتبة على ذلك، والفيلم مدته تسعين دقيقة"، لكن بعد الضغط الشديد الذي تعرَّض له المخرج تراجع الأخير وسحَبَ صفة "الوثائقية" منه، لتجريده عمله من صدقيّته، لأنَّ الفيلم "يمثل اتهامًا قاسيًا لشركة جنرال موتورز بالتسبُّب في الانهيار الاقتصادي لمدينة فلينت المعروفة بصناعة الصلب في متشجان، ويمثل نموذجًا متميزًا للكوميديا السوداء، وهو مصنّف كفيلم وثائقي في الأساس، ولكن عندما كشف الصحفي "هارلان جاكوبسون" أنَّ "مور" قد شوّه تسلسل الأحداث، نأى "مور" بنفسه عن كلمة "وثائقي" فذهب إلى أنه لم يكن فيلمًا وثائقيًّا، بل فيلمًا سينمائيًّا"(6). لكن وعلى الرغم من ذلك، فقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا بعد عرضه في قاعات السينما وعلى القنوات التيلفزيونية، وفي العام 2013 تمَّ اختيار الفيلم لحفظه في السجلّ الوطني بمكتبة الكونغرس بالولايات المتحدة الأميركية لأهميّته الثقافية والتاريخية والجمالية.
وهذا ما يجعل الأمر نسبيًّا من فيلم لآخر، لكن في المجمل يتم تجريد أفلام الدعاية من فنيّتها، خاصة حين يتم تكليف مخرج ما بتحقيق عمل لا يؤمن بثيمته أو بما فيه، من هنا يأتي هذا العمل مجرَّدًا من روحه، ويحاكي في مجمله "التقرير التلفزيوني" بعد أن يتم تجريده نهائيًّا من منطق مهم، وهو ما يتناسب ورؤى المخرج وإيمانه الفني بقضايا معيَّنة. وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن طرحها وتثبت أنَّ الفنَّ قادرٌ على احتواء كل المتناقضات، و"كقاعدة عامة- يُقال إنَّ الدعاية نقيض الفنّ، وإنَّ الفنان عندما يسخِّر عمله من أجل الدعاية السياسية لقضية من القضايا، فإنه يُفقد عمله الكثير، خاصة لو كانت موهبته تشهد عليه، وسمعته الفنية الجيدة تسبقه ويكون قد أصبح واحدًا من السينمائيين المجدّدين في بلاده. هذه القاعدة يمكن تجاوزها أحيانا أمام التحدي في كيفية موازنة الفنان بين إيمانه الحقيقي بعدالة القضية التي يدافع عنها ورغبته في تسخير موهبته الفنية من أجل ذلك، وفي الوقت نفسه المحافظة على الموهبة نفسها من السقوط في هوّة الدعاية الفجّة التي تجعل من الفيلم مجرّد قطعة عمياء من التعصُّب"(7).
لكن في المقابل، فإنَّ قوّة الطرح وعبقريّة المخرج تفرض الاعتراف بأهميّة ما ينتجه، وهذا حدث مع المخرجة "ليني رفنشتال" التي تعدُّ مؤسِّسة السينما الوثائقية الدعائية، كما أنَّ هذا لا يعني بأنَّ المخرجة تنصّلت من مبدأ "الذات" وذهبت في اتجاه "الجمع"، بل يمكن للمخرج أن يجمع بينهما، خاصة وأنَّ "ليني" كانت تؤمن بأيديولوجيّة "هتلر" والحزب النازي، لهذا كانت تعكس هذا الإيمان من خلال أعمالها الوثائقية، أيْ مهما كان احتواء "الجمع" لـ"الذات" فهو يخدم الأخيرة بشكل كبير، كما أنَّ هناك أمثلة أخرى لمخرجين استطاعوا أن يتنصّلوا من منطلق "الجمع" الذي تدعمه عادة الأنظمة والحكومات، وأسّسوا سينما وثائقية من منطلق "الذات"، مثل المخرج الفرنسي اليساري "رونيه فوتييه" صديق الثورة الجزائرية الذي أرسل من قِبَل رابطة التعليم الفرنسية إلى دول غرب أفريقيا المستعمَرَة سنة 1950، وكلَّفته بإخراج فيلم وثائقي يبيِّن من خلاله الفتوحات الكبيرة التي حقَّقها التعليم الفرنسي في البلدان الأفريقية المحتلة من قبل فرنسا، لكن عندما وصل لها "فوتييه" واجه واقعًا مغايرًا/ عكس الذي كان يراه في القنوات الرسميّة أو يقرأ عنه في الصُّحُف، وهي الوسائل الدعائية التي كرَّستها الحكومة الفرنسية من أجل تلميع صورتها على خلفية ما ترتكبه من فظائع في مستعمراتها الكثيرة، وتكريسها كدولة حضارة ومساواة وعدالة، وقف "رونيه فوتييه" الذي كان عمره وقتها 21 سنة في تلك البلدان على واقع آخر تمامًا، لهذا لم يشأ أن يتورَّط في هذه اللعبة التي تريد من خلالها الجهة التي أرسلته أن تحرق فيه "الذات" من أجل انتصار "الجمع"، ليعود بفيلم وثائقي مختلف تمامًا، بعنوان "أفريقيا 50"، أظهر من خلاله وجه فرنسا الاستعماري الحقيقي، لهذا قامت الحكومة الفرنسية بحجز نسخة الفيلم لأكثر من 40 سنة كاملة، ولم يُفرَج عنها سوى سنة 1995، لكن الفيلم المذكور شكَّلَ لعنة كبيرة في مسار المخرج "فوتييه" الذي انضمَّ إلى الثورة الجزائرية فيما بعد "1954-1962" وأصبح يصوِّر أحداثها وتفاصيلها.
• السينما الوثائقيّة تنتصر لفتنتها
السينما الوثائقية هي أداة معرفية وثقافية، ولا يجب على أي جهة -سواء من صنّاع الأفلام أو الجهات التي تستغلها- تحميلها ما لا تطيق، والتدليس عليها لخدمة الأيديولوجيات، هذه الأفعال من شأنها أن تضرّ بها وتقلّل الجمالية التي تسكنها، وأكثر من هذا تخلق هوّة بينها وبين المتلقّي الذي ما يزال يحترمها، وينظر لها على أساس أنها مصدر معرفة تقدِّم له المعلومة وتجعله يقف على حقائق آنية وتاريخية، ليس بمقدور أي وسيلة أخرى أن تقدمها له بتلك السلاسة والتأثير نفسه، ومن هنا يتم ترسيخها في الذهن، ومن جهة ثانية هي أداة ترفيه وتسلية تأخذ بيد الجمهور من مكان إلى آخر، ومن فضاء لفضاء لتقدِّم له عوالم جديدة، وقد عرفت في السنوات الأخيرة تطوُّرًا كبيرًا، بعد أن تجاوزت التوثيق وأصبحت تنافس الأفلام الروائية في عمليات توليد الشعرية، ومن هنا بدأت تخرج من الدائرة المحدودة التي كانت عليها إلى فضاء أكثر اتساعًا وهو الجمالية ومداركها، وأصبحت المعلومة التي تقدمها وتقف عليها مصبَّغة بهالات فنيّة وفَّرها لها التطور السردي والتقني، وأصبحت تُعرض أمام الجمهور في ثوب أجمل وأنقى من ذي قبل، لكن، وعلى الرغم من هذا، فهي ما تزال تعاني من النقاشات المطروحة نفسها، وهي "الذات"، و"الأيديولوجيا"، و"الموضوعية"، وهي نقاشات مستحبة تضمن استمرار عجلة إنتاجها وتبرز أهميّتها لدى المتلقي.
• الهوامش:
(1) أحمد بوغابة، الوثائقي بين "وهم الموضوعية" و"واقع الذاتية"، مجلة الجزيرة الوثائقية، 01-04-2009.
(2) منى سعيد الحديدي، الفيلم التسجيلي، تعريفه، اتجاهاته، أسسه، قواعده، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1990، ص49.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع نفسه.
(5) عدنان مدانات، "موضوعية السينما بين الروائي والتسجيلي"، موقع الجزيرة الوثائقية.
(6) باتريشيا أوفدرهادي، الفيلم الوثائقي "مقدمة قصيرة جدًا"، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، ترجمة شيماء طه الريدي، 2013، ص11.
(7) أمير العمري، هوليود عودة سينما الحرب، موقع الجزيرة الوثائقية، 28-12-2017.