حوار مع الكاتبة والروائيّة الأردنيّة ليلى الأطرش

حاورها: عِذاب الركابي

ناقد وشاعر عراقي مقيم في مصر

 

تَرى الكاتبة والروائيّة ليلى الأطرش أنَّ الكتابة حياة.. وعلاقتها بالكتابة علاقة حُبٍّ ‏وشغفٍ بلا تعب.. وبلا حدود، رحلة مغامرة شاقة وممتعة؛ من الصحافة والإعلام ‏كان سؤال الناس وأبجديّته الحيْرة.. إلى السَّرد؛ نثرها الخرافيّ، وسؤال العالم ‏بكليّته- كما يقول "هرمن بروخ".‏

تقول ليلى الأطرش إنَّ "الرواية لذةُ اللّعبِ بكلماتٍ بعدَ الكلمات، والسفر عبر خيال ‏الخيال، ونسيج إبداع لازمني بكل أنواعه، خليط موهبةٍ واحترافٍ وخبرةٍ ومعارفَ ‏شتى.."، إذْ لا معنى برؤاها للنظريّات التي تقسّم الإبداع إلى أزمان.. كلّ إبداعٍ لهُ ‏زمنهُ الذهبيّ الأزليّ الذي لا يتنازل عن دقيقة واحدة منهُ لآخر!‏

الإبداع لديها سؤال نضجُ الفكر.. سؤال استشرافي، والإجابةُ المتلهفة والظامئة ‏خليط من الواقع المعيش والتاريخ وغموض العالم في انحيازه السافر المهين إلى ‏الظلمة، وهو يرى دموع النور..!! وهي دون الكتابة وعطر الكلمات هدفٌ سهل ‏للجفاف أو الموت.. والعالم دون الكتابة متاهة ومنفى...‏

 

‏* يا للكتابةِ من مهنةٍ شاقّةِ..! هل تقولين ذلك أحيانًا؟

‏ - لا أعتقدُ أنَّني قلتُ هذا يومًا لأنَّ العاشق لا يتعب من الحبّ، وشغفي بالكتابة أبحرَ ‏بي في بحور الكتابة المقروءة والمسموعة والمرئيّة، وكلّها روافد لعشق كبير بدأ من ‏على مقاعد المدرسة الثانويّة، حين نشرَتْ بعض الصُّحف المسائيّة في القدس قصصًا ‏قصيرة لي، وكذلك أذيع بعضها في برنامج ثقافي من إذاعة عمّان. فكتبتُ رواية لم ‏تُنشر بعنوان "عاشوا عمري"، عن مشاكل النساء وأنا في الثانوية، لكنَّها لم تُنشر لأنَّ ‏الناشر طلب مائة دينار لينشرها لأنّني غير مشهورة! فوضعني أمام السؤال الكبيرـ هل ‏تسبق الشُّهرة الكتابة أم العكس؟ ونصحني قريبٌ صحفيّ أنْ أكتبَ للصُّحف لأشتهر، ‏ثم أنشر الرِّوايات، بلْ وتبنّى مقالًا لي عن جريمة شرف اتَّهَمْتُ فيها الأهل والمجتمع ‏بعدم العناية بالبنات- فالجاهلة يُغرَّر بها. كانت المرَّة الأولى التي تجرَّأ كاتب/ة على ‏إثارة هذا المسكوت عنه، ولم أفعل ذلك عن قصد لأدَّعي بطولة، لكنَّني قرأتُ حادثة ‏عن قتل فتاة في صحيفة الحياة اللبنانيّة بدعوى الشَّرف هزَّتني وأثارت غضبي. ‏وكأنَّما ألقيتُ حجرًا في بركة هادئة، تعرَّض لي أحد الشيوخ المتعصبين، واتَّهمني ‏بأنني أحاول إفساد الفتيات لأنني معقَّدة وأعاني الكبْت وأشياء لم أصدِّق أنه يقصدني، ‏وفي اليوم الثاني هاجمه شاعرٌ معروف، وظلَّ المقال موضع التعليق في ضجّة لم ‏تتوقّف، أنا لم أردّْ ولا مَن هاجمني، لكنَّها ردود القُرّاء استمرَّت حوالي شهر حتى ‏أوقفت الصحيفة التعليقات! عرضت عليّ صحيفة "الجهاد" المقدسيّة العمل محرِّرة ‏لصفحة المرأة وكاتبة عمود، فجرفتني الصحافة، خاصة بعد الإنجازات التي تحققت ‏من تحقيقات قمتُ بها، وأبرزها إثارة قضيّة جمع سجينات الرَّأي والفكر مع الجنائيّات ‏في عنبر واحد في سجن المحطّة المركزي في عمّان، وتمَّ عزلهنَّ بعده، وكذلك وضع ‏أطفال الأسر المفكّكة مع الأحداث أصحاب السَّوابق، وتمَّ فصلهم ونقلهم إلى دور ‏الرِّعاية. وكنتُ ما زلتُ طالبة منتسبة في السنة الجامعيّة الثانية في كلية الآداب- لغة ‏عربيّة في جامعة بيروت العربيّة.‏

حين رافقتُ زوجي إلى عمله في الخليج، أعددتُ برامج للإذاعة لاقت شهرة واسع،ة ‏ثم عُرض عليَّ العمل في التلفزيون فوافقت، وعملتُ معدَّة ومنتجة برامج! استهلكَ ‏الإعلام وقتي، لأنَّ العَقْد "مُنتِجة ومُعدَّة ومقدِّمة"، ولم يكُن نظام فِرَق الإعداد مطبَّقًا، ‏ولا يتوفَّر سوى البحث الشخصي أو ما يرد على أجهزة "التيكرز"! سنوات ثم تنبَّهتُ ‏إلى أنَّ الإعلام أخذ منّي الكثير، فعدتُ إلى الرِّواية عام 1987. ‏

‏* تتعدَّدُ فنون الكتابة لديكِ.. قصة قصيرة، رواية، مسرح، وصحافة وإعلام.. ‏أليستْ مغامرة مضنية؟ أين أنتِ من كلّ هذا؟ ماذا أخذَت منكِ؟ وماذا أعطتكِ؟

‏- الكتابة واحدة، الموهبة والخيال والاستقصاء والمعرفة، إنْ توافرت يصبح التنقُّل ‏بين أنواع الكتابة سهلًا! عليَك فقط تطوير معرفتك بأساليب التقنية الخاصة بكلِّ نوع، ‏في المقالة تحديد الفكرة والمباشرة في عرضِها، "الربورتاج" تحديد الهدف والغاية ‏قبل البدء بالبحث عن أطرافِه والصِّدق في كل ما يُقال! وفي الإعلام المرئي الذي هو ‏لغة العصر السائدة، البحث المستمرّ عن كل جديد أو منسي أو مسكوت عنه! أمّا ‏الكتابة للمسرح فمتعة فائقة لأنكَ تتلقّى الإعجاب أو ربَّما الرَّفض أثناء العرض!‏

وأعتقدُ أنَّ لي قدوة بعميد الرواية العربية "نجيب محفوظ" الروائي العربي الوحيد الذي ‏وصل إلى "نوبل"، فقد كتب المقالة والقصة والرواية وعددًا كبيرًا من السيناريوهات ‏للسينما. المهم تطوير الذات مع التطوُّر السريع في تقنيات الكتابة لكل نوع. وعلى ‏الرغم من أنَّ الرواية هي ملعبي الحقيقي حيث أجد نفسي، فإنَّ الإعلام أعطاني فرصًا ‏عديدة بالسّفر لإنتاج برامج، فوصلتُ إلى مناطق لن أفكر بالسفر إليها، وتجارب ‏حياتيّة لا تُنسى. حملني لقاء قمم الفكر والسياسة والأدب إلى جميع الدول العربيّة ‏وحتى موريتانيا واليمن. ولم يكن هؤلاء الكبار ليجلسوا أمامي وأناقشهم، واستعيد ما ‏قرأته من أعمالهم وأقرأ الجديد لو لم أكن إعلاميّة، قابلتُ نجيب محفوظ وأنيس ‏منصور ونزار قباني ومحمود درويش وأحمد سعيد وأحمد حمروش ومنصور ‏الرحباني ومصطفى أمين وكمال الطويل وبليغ حمدي وصلاح أبو سيف وعشرات من ‏السياسيين والمفكرين والشعراء، وما كنتُ لأحظى بهذا لولا الإعلام، فلقاء بعض ‏هؤلاء في المؤتمرات والندوات لقاءات عابرة ومجاملات. لكنَّ الإعلام مستهلِك للوقت ‏والتفكير، لذلك توقَّفتُ وعدتُ إلى الرواية.‏

 

‏* مِن كلّ فنون الكتابة الأقرب إليكِ هي الرِّواية، أيقونة الفنون لديكِ كما تقول ‏سيرتك.. لماذا الرِّواية؟ أهي استجابة لـ"زمن الرواية" كما يروّج النقاد في آرائهم ‏الانفعاليّة؟ أمْ هو "لقب الرِّوائي" الأكثر حضورًا وأناقة في الفضاء الثقافي ‏العربي؟ أم هي وسيلة كسب لناشرين أكثر؟ أمْ ماذا؟

‏- لا أؤمن بتقسيم الإبداع الأدبي إلى أزمان في النظريّات النقديّة. لقد كتبتُ الرواية وأنا ‏طالبة في الثانوية قبل ظهور هذا التقسيم النقدي ومعرفتي أنَّ للرِّواية زمنًا! تتلمذنا على ‏روايات العالم دون أن يشغلنا متى حلّ زمانها أو كيف ابتدأ؟ وبالعكس كان للشِّعر زمن ‏واضح منذ أربعينات القرن العشرين مع ثورة الشعر الحديث والتخلّي عن قيود بحور ‏الخليل بن أحمد وأوزانها، وظهر نجوم الشعر الكبار في تنامي الاهتمام بتجارب ‏التَّجديد في الشعر الحديث؛ نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ونزار قباني وأدونيس ‏وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وخليل حاوي وأمل دنقل، ثم شعراء ‏القضايا العربية، محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد، وفدوى طوقان، لكن بعد ‏نكسة حزيران 1967 ثم حروب العراق والعدوان عليه والخلافات العربية تراجع ‏الاهتمام بالشعر لفقدان الحماسة والثقة في جدواه، ولم تعُد قاعات الندوات الشعريّة ‏تغصُّ بالحاضرين إلّا لقلّة منهم، وتساقطت أسماء كثيرة من شعراء كانت القضايا ‏الوطنية جواز سفرهم إلى عالم الشعر. ولم يعُد الشعر ولا الرواية يلقى الاهتمام إلّا في ‏المؤتمرات والندوات لبعض كتاب الرواية الكبار، حتى برزت الجوائز الماديّة الكبيرة ‏التي أنعشت الرِّواية وأتخمتها حدّ الاختناق بالكُتّاب الموهوبين وأشباههم.‏

 

‏* روايتكِ الأخيرة "لا تشبهُ ذاتها" فازت بجائزة كتارا 2018، ماذا تضيف الجائزة ‏إلى المبدع؟ أهي مسؤوليّة أكبر، وخوف من الآتي؟ أمْ حافز أكبر على الكتابة ‏والاستمرار والتواصل؟ حدِّثيني!‏

‏- على الرَّغم من أهميّة جائزة كتارا المعنويّة والماديّة وشرط الترجمة إلى اللغتين ‏الإنجليزية والفرنسية وتوزيعها؛ وهذا هو الأهمّ، والتفاتها إلى المخطوطات غير ‏المنشورة والدعاية الإعلامية الكبيرة للجائزة، أفرَحَني طبعًا الاعتراف بالرِّواية وتسليط ‏الضوء عليها! إلا أنَّني والحمد لله حصلتُ على عدة جوائز قبلها، جائزة الدولة ‏التقديرية في الآداب من دولة فلسطين 2017، وجائزة أحسن رواية عن القدس من ‏جامعة القدس، وجائزة الدولة التقديرية للآداب من المملكة الأردنية الهاشمية 2014، ‏وجائزة تايكي لأحسن رواية أردنية 2010، وجائزة المسرح العربي الحر عن ‏مسرحية "البوابة خمسة" 2015، وعدد من الجوائز عن برامجي التلفزيونية في ‏مهرجانات الإذاعة والتلفزيون العربيّة. والجوائز محفِّز جيِّد للإبداع بالتأكيد، لكن ‏اختلاط الحابل بالنابل في تقييمات بعض اللّجان، وانتقال الأمراض الثقافية إلى ‏بعض أعضاء اللجان ممّا يثير اللّغط حول الفائزين ويقلّل من أثر الجائزة، لكنَّها ‏بالإجمال رافعة لِمَن يحوز عليها، ومؤشِّر للقرّاء على ما يمكن أن يشتروه في فوضى ‏النَّشر وتحوُّل النَّشر إلى تجارة مُربحة! وأعتقد أنَّ مَن يكتب رواية وفي باله جائزة ‏لن تكون رواية جيدة حتى ولو فازت، لأنها ستكون مفصَّلة لتُرضي المذاهب النقديّة ‏في اللِّجان! الرواية الجيدة ستفرض نفسها حتى إن لم تفُز، لكنَّ الجائزة قطار سريع ‏يوصلها إلى القراء، وكثير من الروايات الممتازة لا ترشَّح للجوائز لأنَّ بعض ‏شروط الترشيح لا تنطبق عليها كسنوات الإصدار وغير ذلك! أو العزوف عن الترشُّح ‏لعدم الثقة في لجان التحكيم واهتمامهم بأسماء مرموقة أدبيًّا فتحصد أيّ جائزة تتقدَّم لها ‏بغضِّ النَّظر عن مستوى الرواية.‏

 

‏* تُرجمت أعمالكِ السرديّة إلى أكثر من لغةٍ أجنبيّة، يرى بعضهم أنَّ الترجمةَ ‏أسلوبٌ حضاريٌّ لمعرفة الآخر.. وبورخيس يراها "خيانة للأصل"، ماذا تقولين؟ ‏كيف رأيتِ واستقبلتِ ترجمة أعمالكِ؟ مَن مترجمكِ الأمثل عربيًّا؟

‏- الترجمة جسر للمعرفة، وبُنيت حضارات عربية وعالمية على أكتاف الترجمة، ‏ولولا ازدهار الترجمة في العصر العباسي، واهتمام المأمون بنقل شتى المعارف من ‏حضارات العالم آنذاك اليونانيّة والفارسيّة والإغريقيّة، لَما ظهر علماء وفلاسفة العرب ‏الذين كان لهم فضل تعريف الغرب الجاهل آنذاك ورفدِه بالعلوم والفلسفة والتي بنى ‏عليها فسبَقَنا حضاريًّا، بينما لم نبرح مكاننا، ثم تراجعنا وتخلّفنا بينما العالم يسابق العلم ‏والزَّمن!‏

لا أعتقدُ أنَّ في الترجمة خيانة مقصودة للنص، لكنَّ النَّقل من لغة إلى أخرى يفقد ‏السرد بعضًا من روحه، وهناك ترجمات سيِّئة وأخرى جيِّدة تتواصل مع المؤلف لتفهم ‏منه أجواء وروح النصّ وبعض المفردات المحليّة فيه. فتظلّ روح النصّ الأصلي ‏وأجوائه شبه حاضرة، عايشتُ هذا عند ترجمة "امرأة للفصول الخمسة" الذي أشرف ‏على تحرير الترجمة الأديب والمترجم الإنجليزي "كريستوفر تينغلي". اتَّصل بي ‏مرّات عديدة مستفسرًا عن المعاني والمضامين لبعض العبارات، فكانت ترجمة تقارب ‏النصّ الأصلي كثيرًا، أمّا الترجمة الإيطالية أو الهندية أو الكورية والصينية مثلًا أو ‏الإيرانّية فأفرح بالغلاف ولا أدري عنها وأتركها لأمانة المترجم لأنّني لا أعرف ‏لغاتهم.‏

أعتقدُ أنَّ "صالح علماني" من أفضل المترجمين. قرأتُ ترجمة لا أذكر لِمَن لرواية ‏‏(الحب في زمن الكوليرا) فألقيتُها دون أن أكملها لصعوبة الأسلوب، ثم قرأتُ ترجمة ‏صالح علماني فوصلني روح النص. وعلماني هو صاحب الفضل في إيصال خاصيّة ‏الأجواء اللاتينية وبواطن الشخصيات كما رسمها كُتّابها، وهو مترجم فذّ رحمه الله. ‏

‏* كان "حوار القلم" نافذتكِ وقناتكِ الأكثر رحابة للدِّفاع عن قضايا المرأة والحريّة ‏والسَّلام، والتَّعريف بالأدب العربي والمُبدعين العرب.. إلى أيّ مدىً استطعتِ وسط ‏هذه الفوضى في عالمنا بكلِّ أشكالها، تحقيق الهدف عبْر هذا المشروع الثقافي ‏الإنساني الحضاري؟

‏ - الدَّوْر الأساسي لأيّ مركزٍ للقلم عضو في "منظَّمة القلم العالميّة" ‏PEN، هو مدّ ‏جسور التَّعارف مع أدباء العالم، خاصّة في الاجتماع السنوي للمراكز كلّها، لطرح ‏القضايا المتعلقة بحريّة التَّعبير، وتبنّي الدِّفاع عن سجناء الرَّأي من الكُتّاب ‏والصحفيين، وقضايا التواصل عن طريق الترجمة، وقضايا المرأة؛ خاصة العنف ‏ضد النساء. كان هناك الكثير من عدم المعرفة عند الدول البعيدة عن منطقة الشرق ‏الأوسط، أميركا اللاتينية ودول إفريقيا وشرق آسيا ودول الغرب عامة. هناك عدم ‏معرفة وعدم اهتمام بمعرفة ما يدور في عالمنا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وإن ‏عرفوا فعن طريق الدِّعاية الإسرائيليّة المغلوطة، أو الصورة النمطيّة التي لا ‏يريدون، وغير حريصين على تغييرها، خاصة بعد العدوان على العراق وما تعرَّضت ‏له العراقيّات والأقليّات هناك على يد الجماعات الإرهابيّة. ‏

حاولنا من خلال لجنة المرأة ولجنة السلام تقديم حقيقة الأوضاع، وكتبنا وشرحنا من ‏خلال الموقع الإلكتروني "حوار القلم" مشاكل الكُتّاب والواقع الثقافي، وتشاركنا مع ‏المركز الكوري في إصداره لأفضل قصص العالم، وأوضحنا الصورة الخاطئة عندهم ‏عن واقع النساء العربيات وإنجازات الرائدات، لكنَّ تغيير الصورة النمطيّة يحتاج ‏الوقت والعمل المتواصل، بعدما ارتبط الإسلام عندهم بالإرهاب وقهر النساء ‏ومعاملتهنّ سبايا وحريم، وتعزَّزت الصورة بممارسات لا إنسانيّة للجماعات ‏الإرهابيّة.‏

‏* للكاتبة والمبدعة الكبيرة ليلى الأطرش دور إعلامي وصحافي مميَّز وفاعل.. كيف ‏تقيِّمين صحافتنا الثقافيّة اليوم؟ بعضهم يراها مرآة مهشَّمة، وآخرون يتَّهمونها ‏بالقصور في مواكبة التفجُّر الإبداعي.. وأنَّها صحافة علاقات ومُجاملات ومنافع ‏مُتبادلة؟ ماذا تقولين؟ وماذا تقترحين لصحافة معبِّرة جاذبة وفاعلة؟

‏- افتقدَتْ الصحافة الثقافيّة دورها تدريجيًّا مع انحسار مكانة الصحافة الورقيّة والقراءة ‏بفعل الإنترنت ومواقع التواصل، ولغلاء الورق عالميًّا وقلّة القراءة وخسارة الصُّحف ‏المتواصلة. اختفت مجلات أدبية رائدة كان لها دورها البارز في تشكيل الحالة الثقافيّة ‏المشرقة، وانحسرت الملاحق الثقافيّة لأنَّ معظمها لم يعُد قادرًا على دفع مكافآت ماليّة ‏للكُتّاب والنُقّاد المعروفين، وظهرت أسماء جديدة في الملاحق ضعيفة تحكمها ‏المُجاملات كما قلت، وهي مهمَّشة فعلًا من أصحاب الصُّحف ومن الدَّعم الحكوميّ.‏

المنفذ الوحيد للخروج من الأزمة هو بتوسيع القراءة على الإنترنت وإنشاء مواقع ‏متخصِّصة بالأدب والنقد لا تجامل في تقييمها وتتابع الجيد من الإبداع وتقسو على ‏الفاشلين ليعرفوا حجمهم، لأنَّ النَّشر الإلكتروني أطارَ صواب كثيرين ممَّن يخربشون ‏ما يعتقدون أنّه أدب، مع تخصيص مكافآت مُجزية للنقّاد والعاملين.‏

‏* حين قرأ (همنغواي) الروائي النرويجي (كنوت هامسون) وذهلتهُ بساطتهُ ‏الشاعرة قال: (هامسون هوَ مَنْ علَّمني أنْ أكتبَ).. قولي لي لِمَن تدينين بمغامرة ‏الكتابة؟ ومَن كاتبكِ الأقرب لرؤاكِ، وصاحب التأثير في أسلوبك السَّرديّ المتميز؟

‏- مبدئي تعلَّمتُه من الناقد التاريخي "خلف الأحمر" حين قال لِمَن سأله كيف يصبح ‏كاتبًا: اقرأ ثم اقرأ ثم انسَ ما قرأتَ واكتُب! أنا أقرأ في شتى المعارف؛ الرواية ‏والقصة في التاريخ والتراث والأديان والأساطير، والكثير من الشعر. والمتنبي ‏شاعري المفضل. بداية شغفي بالقراءة مع روايات جورجي زيدان، قرأتُ رواية "فتاة ‏غسان" وأنا في السابعة ولم أفهم كثيرًا من مفرداتها، لكنّني أنهيتها في سباق القراءة ‏مع أختي الكبرى! سحرني أسلوبه في مزج التاريخ بالمشاعر الإنسانيّة! ولم أتوقف منذ ‏ذاك عن القراءة، وكان لكلِّ مرحلة كُتّابها، وكنتُ أنشقُّ عنهم بسرعة غريبة حين ‏أكتشف آخرين، أو أنني أنضج مع كل مرحلة، أرسين لوبين، إحسان عبد القدوس، ‏يوسف السباعي، نجيب محفوظ، جبران خليل جبران، طه حسين، عائشة عبدالرحمن، ‏عبدالرحمن بدوي، نوال السعداوي، ثم كُتّاب الستينات جميعهم والأجيال بعدهم! ‏وتنوَّعَت القراءات للكُتّاب العرب عبدالرحمن منيف وجبرا وأمين معلوف وكلّ ما يقع ‏في يدي، مع اهتمامي الدائم بالأدب المترجَم خاصّة الروسي والأميركي والفرنسي ‏وأدب أميركا اللاتينية ماركيز وإيزابيل أللندي وباولو كويللو، والروايات الحائزة على ‏جائزة "نوبل". وحين اتَّسعت دائرة الاهتمام شملت قراءة الفلسفة والتاريخ والاجتماع، ‏والمسرح العالمي من إصدارات سلسلة المعرفة الكويتيّة التي اهتمَّت بالمسرح. لن ‏أقول إنَّني نبتة بريّة متفرِّدة بلا جذور، لكنها جذور امتَّصت رحيق المعرفة من أيّ ‏أرض، ونمت وحدها فكرًا وأسلوبًا ولستُ صورةً من أحد. ‏

 

‏* يقول السيميائي الكبير رولان بارت: "الكتابة فنّ طرح الأسئلة، وليست الإجابة ‏عنها"، ما رأيك؟ وما سؤالك الأعظم المثير في سردِك، وهو في انتظار إجابة ‏ظامئة؟

‏- صحيح تمامًا، وينطبق على تجربتي في كتابة الرواية. كل واحدة من رواياتي العشر ‏كان بناؤها وشخوصها يحاولون الإجابة عن سؤال دفعني لكتابتها. على سبيل المثال:‏

روايتي الأولى "وتشرق غربا" هي إجابة عن سؤال: ما وضع الفلسطينيين في فترة ‏الرُّكود السياسي بعد معاهدة كامب ديفيد وخروج المقاومة من لبنان؟ ماذا بعد هذا ‏الرُّكود والهدوء الحائر؟ وكيف سيتصرَّف الناس؟ ومن خلال قصة حبٍّ بين طبيب ‏ومعلمة ومعاناة الناس من الممارسات الوحشية للاحتلال، وهم يمسكون بالحجارة ‏ويلقونها على الدبابات الإسرائيلية. فكانت استشرافًا لانتفاضة الحجارة الأولى عام ‏‏1987.‏

في رواية "صهيل المسافات" السؤال هو هل يستطيع المثقف والمتعلم إذا اقترب من ‏السُّلطة وامتلك وسيلة إعلام مؤثِّرة أنْ يحافظَ على استقلاليّته؟ ويواجه العشائريّة ‏والتقاليد والمصالح؟

‏"امرأة للفصول الخمسة"، إجابة عن سؤال مَن يصمد في وجه إغراء الثَّروة من ‏المناضلين؟ وهل تملك المرأة ذاتها ومصيرها حين تتحرَّر اقتصاديًّا؟

‏"مرافىء الوهم"، طرحت التساؤل حول إعلاميّتين عراقيّة وفلسطينيّة تذهبان إلى ‏لندن لمقابلة صحفي فلسطيني تعرَّض للخطف ومحاولة نسف صحيفته، فتواجه كل ‏منهما ماضيها هناك، ومعهما المخرج الخليجي البوهيمي وحديثه عن مغامراته مع ‏طالبان. السؤال: ماذا يبقى من الماضي حين تواجهه؟ وهل يمكن استعادة ما مضى؟

أمّا "أبناء الريح" فقصّة إحدى دور الرِّعاية وقصة شاب يتيم استطاع أن يتجاوز تلك ‏المحنة ويصبح طبيبًا، لكنه يعاني فوبيا الموت وهو ينتظر طفله الأوَّل وخوفه من أنْ ‏يعيشَ يتيمًا مثله! خوفٌ يعود به إلى الدار والبحث عن رفاق الميتم ويلتقي بهم دون ‏محاولة للتواصل معهم بعد ذلك. السؤال: عن وضع مجهولي النسب وقانون منع ‏التبنّي.‏

‏"ترانيم الغواية" هي التأريخ السياسي والاجتماعي والعاطفي لمدينة القدس في ‏المتغيّرات الكبيرة التي غيَّرت مدينة القدس بشرًا وحجرًا، سقوط الحكم العثماني ثم ‏الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي والتطوُّرات التي عاشتها المدينة منذ نهاية ‏القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، وتتخلّلها قصة حب محرَّم وصراع ‏القيادات التقليدية والتعايش والتآخي المسيحي الإسلامي.‏

وفي آخر رواية منشورة هي "لا تشبه ذاتها" محاولة للإجابة عن دوافع الهجرة ‏القسريّة أو الطوعيّة لمهاجرَيْن من أفغانستان وفلسطين، ومدى الارتباط بالوطن لكل ‏منهما، رواية الخوف من المستقبل؛ من التكيُّف ومن المرض والموت. ‏

 

‏* "الكتابة عذاب والاسترسال فيها أليم"- باسترناك.‏

‏"الكتابة المنقذ الوحيد من ضغوطات الكآبة والإحباط"- كارين بلينكس.‏

‏"الكتابة هي طريقي في أنْ أكونَ حيًّا"- ماريوبرجاس يوسا.‏

ما الأقرب إليكِ من العبارات الثلاث؟ ولماذا؟ ‏

‏- أظنُّ أنَّ عبارة ماريوبرجاس يوسا "الكتابة هي طريقي في أنْ أكونَ حيًّا" هي ‏الأقرب. ‏

‏ لم أتصوَّر أيامي بلا كتابة وإنْ اتَّخَذَتْ أشكالًا مختلفة ولمتلقّين متنوِّعين، الكتابة ‏تملؤني بالرّغبة في مواجهة الحياة، ومواجهتها وتحدّيها، والانتصار على انكساراتها.‏

 

‏* "حيث يوجد قلبكَ، يوجدُ كنزكَ"! قولي لي متى تُصغين لقلبِك، وتعطينه الكلمة ‏في غفلةٍ من حرّاس العقل التتريّين؟

‏- يمكن الإصغاء للقلب دون تعطيل العقل، وهذا ما حاولتُ فعله في حياتي معظم ‏الوقت بعد أن نضجت.‏

‏* كانت لكِ مشاركاتكِ المهمّة في الملتقيات والمؤتمرات الثقافية والإبداعية.. ما ‏الذي تضيفه هذه الملتقيات للإبداع والأدب والثقافة؟ أم هي حكوميّة رسميّة لها ‏أجندتها؟ هل يُمكن أن تؤسِّس للتواصل ولعلاقات حميمة مثمرة بين المبدعين؟ ماذا ‏أضافت لكِ ككاتبة لها حضورها في الفضاء الثقافي العربي؟

‏- المثقف ليس خروفًا في قطيع لتؤثِّر عليه لقاءات حكوميّة. بالعكس، النَّدوات ‏والمؤتمرات الأدبيّة فرصة كبيرة للتعارف عن قرب بين الكُتاب والنُقاد من مختلف ‏الأقطار، ومناقشة ما يُقال في جلساتها الأدبيّة والنقديّة، الخطأ الوحيد دائمًا في تعدُّد ‏الجلسات وتعارُض أوقاتها، لكنَّها ضروريّة لتقارب الوسط الثقافي العربي. ‏

 

‏* "لا نكتبُ شيئًا خارج الذات"- مرجريت دوراس.‏

وروايتك "نساء على المفارق" سيرة ذاتيّة.. والروايات الجديدة أغلبها روايات ‏سيريّة، لماذا؟ هل الرواية "الأوتوبوغرافيّة"- (رواية السيرة) هي رواية ‏المستقبل، كما يرى هنري ميللر والعديد من النُقّاد؟ ماذا تقولين للقارئ؟

‏- لا يستطيع كاتب أن ينكر أنه يطلُّ على نحو ما في أعماله، ليس تجربة شخصية ‏بالضرورة، ولكن من خلال تجاربه الشخصية وأفكاره! "نساء على المفارق" جزء ‏من سيرتي العمليّة، حيث التقيتُ أثناء سفري الكثير بنساء كل منهنّ تمثِّل قضيّة ‏خاصة، لكنَّها تنطبق على عموم النساء، من الفتاة الكاميرونية في جامعة "شاتام" ‏للبنات في بنسلفانيا التي تعيش انفصامًا حادًا بين ما تسمعه يوميًّا من والدها على ‏التلفون وترهيبها من بطش الله لو أخطأت، وبين الحياة التي تعيشها مع صديقاتها في ‏السكن الجامعي ومفهوم الحريّة الشخصيّة الغربيّة، طرحتُ مشكلة المهاجر الذي ‏تربض التعاليم والتقاليد على كتفيه، حارسًا يمنعه من الحركة!‏

‏ وفي الجزائر التقيتُ جميلة بوباشا إحدى الجميلات الثلاث في حرب التحرير، عرفَتْها ‏فرنسا بعد أن كتب الفيلسوفان الأشهر آنذاك "سيمون دو بوفوار" و"جان بول سارتر" ‏كتابا عنها، ورسم "بيكاسو" وجه جميلة صورة الغلاف، وتعرَّضت للتعذيب أكثر من ‏‏"بوحيرد" و"بوعزّة"، و"جميلة بوحيرد" اشتهرت في العالم العربي بعد فيلم يوسف ‏شاهين!‏

ثم قتيلة الشَّرَف حين مرّت سيارة الأجرة في طريقي إلى عمّان لتحقيق صحفي بشابّة ‏مُلقاة على طريقٍ ترابيّ، وهي ترتعش ارتعاشة الموت كديك ذبيح، قتَلَها أخوها اليافع ‏لأنَّها هربَتْ من ظلم زوجِها دون أن تعرف إلى أين، وحين عادت درَّبوا أخاها الطفل ‏سنوات على إطلاق النار ليقتلها، وقد فعل.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) هذا حوار مع الكاتبة والروائية  ليلى الأطرش كان على هامش "ملتقى ‏القاهرة الدولي للرواية العربية" 2019.‏