فايز الصيّاغ بين الخلدونيّة وعلم الاجتماع الحديث

مجدي ممدوح

كاتب أردني

 

امتلك فايز الصيّاغ ميزة مهمّة على أعلام الخلدونيّة الجديدة العرب، وهي تخصُّصه ‏في علم الاجتماع، بالإضافة إلى اطِّلاعه الواسع على النتاج الأوروبي بفضل عمله ‏كمترجم، فقدَّم تحليلًا عارض فيه طه حسين الذي قال إنَّ ما كتبه ابن خلدون هو نوع ‏من "الفلسفة الاجتماعيّة" ولا يرتقي لمرتبة العلم بالمفهوم الدقيق للعلم، لكنّ الصيّاغ ‏بيَّن أنّ مقدمة ابن خلدون حملت الملامح الأساسية لعلم اجتماع وليد، وهو علم متَّصل ‏ابتداء بابن خلدون، ثم "أوغست كونت" ثم "هربرت سبنسر" ثم "كارل ماركس"، ثم ‏‏"ماكس فيبر"، وبعد ذلك مدارس القرن العشرين المتعددة. ‏

 

علم الاجتماع بمفهومه الغربي هو علم حديث نسبيًّا، وُلِد في القرن التاسع عشر مع ‏اشتغالات "أوغست كونت" الوضعيّة، ثم وُلد ولادة ثانية مع اشتغالات "إميل ‏دوركهايم". وعلى الرغم من كفاءة المفاهيم الجديدة التي وظّفها روّاد علم الاجتماع في ‏مقاربة الظاهرات الاجتماعيّة، إلا أنَّ الكثير من هذه المفاهيم كانت مفصّلة على مقاس ‏المجتمعات الغربية. وقد لاحظ الكثير من الباحثين العرب أنَّ المجتمعات العربيّة ربّما ‏تنطبق عليها المفاهيم والمقولات الخلدونية بشكل أكبر. ‏

لقد ولّدت هذه المسألة نوعًا من الفجوة بين علم الاجتماع العربيّ الخلدونيّ وعلم ‏الاجتماع الحديث، ما قاد الكثير من الباحثين لمحاولة ردم هذه الهوّة والتأسيس لعلم ‏اجتماع عربي لا يتناقض فيه العِلْمان. ومن المؤكّد أنَّ ثمّة روّادًا لهم فضل كبير في ‏لفت النَّظر للخلدونيّة وأهميّتها في مقاربة الظاهرات الاجتماعيّة العربيّة، لعلَّ أشدّهم ‏حماسةً كان طه حسين، الذي خصَّص رسالته للدكتوراه حول ابن خلدون. وقد نالت ‏رسالة طه حسين اهتمامًا كبيرًا في فرنسا قبل إنجازها، ويرجع ذلك لسبب مهمّ هو أنَّ ‏المشرف على هذه الرسالة كان عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دوركهايم"، والذي كان ‏مطمئنًّا لريادتِه لعلم الاجتماع الحديث. ‏

وقد ذهب بعضهم للقول إنَّ "دوركهايم" ربَّما تولَّد لديه قلق حول هذه الرِّيادة بعد نشر ‏مقدمة ابن خلدون، والتي بدا وضحًا أنها تتضمَّن نظريةً ما في المجتمع (العمران). ‏وربّما يكون "دوركهايم" قد كلَّف طه حسين بمهمّة محدَّدة، وهي نفي الرِّيادة عن ابن ‏خلدون، وهذا يتَّفق مع ما عُرف عن طه حسين من حماسة منقطعة النَّظير للثقافة ‏الغربيّة، وللمنهج الشكّي الديكارتي على وجه الخصوص. وقد بادر طه حسين بالفعل ‏بتطبيق المنهج الشكّي على نصوص ابن خلدون ليخرج بنتيجة أوليّة مفادها أنَّ ما كتبه ‏ابن خلدون هو نوع من الفلسفة الاجتماعيّة ولا يرتقي لمرتبة العلم بالمفهوم الدقيق ‏للعلم. وعلى الرّغم من أنَّ "دوركهايم" توفي قبل مناقشة الرسالة، إلا أنَّها منحته ما ‏كان يصبو له؛ وهو احتفاظه بالرِّيادة في علم الاجتماع.‏

استمرَّ الاهتمام بابن خلدون من قِبَل باحثين وأعلام بارزين في الثقافة العربية، لعلَّ ‏أشهرهم ساطع الحصري، وناصيف نصار، علي الوردي، وطيب التيزيني، ومحمد ‏جابر الأنصاري، وبدرجة أقل، محمد عابد الجابري. ويمكن القول إنَّ فايز الصيّاغ ‏امتلك ميزة مهمّة على أعلام الخلدونيّة الجديدة، وهي تخصُّصه في علم الاجتماع، ‏بالإضافة إلى اطِّلاعه الواسع على النتاج الأوروبي بفضل عمله كمترجم. ‏

انحاز الصيّاغ لرأي ساطع الحصري في قضيّة ريادة ابن خلدون، حيث اعتبر ابن ‏خلدون هو مؤسس علم الاجتماع في فروعه كافّة. فقد وضع في المقدمة أسس علم ‏الاجتماع العام، وفي الكتابين الثاني والثالث، ثمّة ولادة لعلم الاجتماع السياسي، وفي ‏الرابع علم اجتماع الحياة الحضريّة، وفي الخامس علم الاجتماع الاقتصادي، وفي ‏الكتاب السادس يحدِّد ابن خلدون ملامح علم اجتماع المعرفة. ‏

وهكذا، جاء موقف الصيّاغ من ابن خلدون واضحًا، فهو لم يتَّفق مع طه حسين في ‏نعت اشتغالات ابن خلدون بالفلسفة الاجتماعيّة، بل رأى أنَّ مقدمة ابن خلدون حملت ‏الملامح الأساسية لعلم اجتماع وليد. أوَّل هذه الملامح: أنَّ ابن خلدون تحدَّث عن ‏عناصر ثابتة في الظاهرات الاجتماعيّة تتضمَّن نمطًا محدَّدًا تتوالى فيه الأحداث، وهذا ‏يترتَّب عليه وجود قوانين يمكن أن تشكِّل أدوات فعّالة بيدِ عالم الاجتماع لدراسة هذه ‏الظاهرات. ‏

لقد تحدَّث ابن خلدون –بحسب رأي الصيّاغ- عن هذه القوانين ممّا يلحق عمله بالعلم. ‏ثاني ملامح العلمية عند ابن خلدون أنه تحدَّث عن قوانين تفعل فعلها في الجماعات ‏البشرية وليس بالفرد. والملمح الثالث الذي ينوِّه له الصيّاغ يتعلق بمبدأ التحقُّق، فكل ‏نظرية تبقى موضع شكّ حتى يتم جمْع شواهد كثيرة ومتنوِّعة على صدقيَّتها، وهذا ما ‏قام به ابن خلدون بكفاءة ودراية عندما جلب أمثلة من الماضي بالإضافة للحاضر، ‏للتدليل على صدقيّة نظريّته، وقد كانت الوقائع التي ساقها ابن خلدون متَّسقة مع ‏القوانين العامة التي وضعها لسيرورة التمدُّن البشري (العمران).‏

الملمح الرابع يتعلق بتطوُّر وتغيُّر المجتمعات موضع الدراسة، حيث إنَّ نظرة ابن ‏خلدون للمجتمعات لم تكن نظرة سكونيّة، بل إنَّه اكتشف مصدر التغيُّر في هذه ‏المجتمعات والمتأتّي من تلاقحها واختلاطها مع مجتمعات أخرى. والملمح الخامس ‏الذي رصده الصيّاغ عن ابن خلدون واعتبره دليلًا على علميَّته هو المرجعيّة ‏السوسيولوجيّة للقوانين التي وضعها، بمعنى أنَّ المحرِّك لهذه القوانين ليس محركًا ‏بيولوجيًّا، بل هو ناتج من التفاعلات السوسيولوجيّة لهذه المجتمعات.‏

بالإضافة لهذه الملامح العلميّة الواضحة في مقدمة ابن خلدون، فإنَّ الصيّاغ يشير إلى ‏أنَّ ابن خلدون قدَّم منهجيات وأدوات بحثيّة فعّالة يمكن لعلماء الاجتماع المعاصرين ‏الإفادة منها، لعلَّ أشهرها مقولته حول تقليد الشعوب المغلوبة للشعوب الغالبة في نمط ‏حياتها. ‏

ويشير الصيّاغ أيضًا إلى أنَّ الكثير من النماذج الحديثة في علم الاجتماع مثل النموذج ‏الميكانيكي والبيولوجي كانت متضمَّنة في تحليلات ابن خلدون، حيث تكلّم عن توازن ‏القوى وكذلك عن التفسُّخ والنموّ. ‏

وضمن هذا التَّحليل الذي قدَّمه الصيّاغ يصبح علم الاجتماع علمًا متصلًا ابتداء بابن ‏خلدون، ثم "أوغست كونت" ثم "هربرت سبنسر" ثم "كارل ماركس"، ثم "ماكس ‏فيبر"، وبعد ذلك مدارس القرن العشرين المتعددة. ‏

أبدى فايز الصيّاغ اهتمامًا استثنائيًّا بالماركسيّة التي تُعتبر في أحد جوانبها حقلًا من ‏حقول علم الاجتماع، علاوة على وجود إجماع لدى الباحثين باعتبار "ماركس" أحد ‏روّاد علم الاجتماع. لقد تجلّى اهتمام الصيّاغ بالرُّؤية الماركسيّة من خلال اهتمامه ‏وشغفه بأعمال المفكر والمؤرخ الماركسي "إريك هوبزباوم" الذي ترجم له أربعة ‏أعمال ضخمة هي: "عصر الثورة"، "عصر رأس المال"، "عصر الإمبراطورية"، ‏و"عصر التطرفات". ‏

وعلى الرغم من إيمانه بالمقولات والمبادئ الجوهريّة للماركسيّة، إلا أن فايز الصيّاغ ‏كان يدرك الفرق بين المجتمعات العربيّة (ومجتمعات الأطراف عمومًا) والمجتمعات ‏الأوروبيّة. يعتقد الصيّاغ أنَّ الصراع الطبقي ليس هو المحرِّك لتحرُّر الشعب العربي. ‏فالصراع الطبقي هو الذي ميَّز التاريخ الأوروبي الحديث، حيث نشأت مفاهيم الحريّة ‏في الغرب في إطار هذا الصِّراع. أمّا في الوطن العربي، فإنَّ مفاهيم الحريّة نشأت في ‏إطار محاربة الظاهرة الاستعماريّة. وعندما تصبح مقولة الصِّراع الطبقي غير فعّالة ‏في تفسير صيرورة التاريخ العربي الحديث والمعاصر، فإنه يتوجَّب البحث عن ‏المحرِّك الأساسي للتاريخ في المجتمعات العربيّة. ‏

الحلّ الذي قدَّمه الخلدونيّون الجُدُد هو استبدال مقولة الصِّراع الطبقي بمقولة الصِّراع ‏بين البادية والحاضرة. هذه المقولة تستطيع تفسير جُلَّ الأحداث التاريخية الكبرى في ‏الحضارة العربية الإسلامية التي أفلَتْ في عصر ابن خلدون، وجاءت مقدّمته الشهيرة ‏لكي توثِّق حادثة الأفول هذه وتقدِّم ما يمكن اعتباره نظريّة علميّة للنُّهوض والأفول ‏تنسجم مع سيرورة التاريخ العربي. ‏

جاءت أغلب آراء فايز الصيّاغ السوسيولوجية متناثرة في ترجماته المتعددة لأمهات ‏الكتب في علم الاجتماع والتاريخ. وقد صاغ آراءه على شكل صفحات اعتراضيّة ‏تضمَّنت شروحه ومحاولاته تبْيِئة المصطلحات والمفاهيم الأجنبيّة في البيئة الثقافية ‏العربية. ولهذا السبب، فقد جاءت ترجماته إبداعيّة سلسة في لغتها لا تتضمَّن الثقل في ‏التراكيب اللفظيّة كما هي حال الترجمات التي تتعامل مع الترجمة الحرفيّة واللغوية. ‏ولاطِّلاع الصيّاغ الواسع في الحقل الذي يترجم فيه، فإنه يضع من الشروحات ‏القصيرة ما يراه مناسبًا من أجل استكمال ما يرتئيه نقصًا في الذخيرة المعرفيّة للمثقف ‏العربي، والتي دونها لن يكون من الممكن فهم النص بشكلٍ مُرضٍ. وقد يبادر الصيّاغ ‏في كثير من المواضع إلى إضافة مادة بحثية مكثّفة تُلقي الضوء على القضية موضوع ‏الترجمة من منظور عربي، ممّا يساعد على تمثُّل الفكرة المترجمة من قبل القارئ ‏العربي بشكل أوسع. ‏

في كلِّ ذلك، يضع الصيّاغ حدودًا واضحة بين النص الأصلي والإضافات التي يقوم ‏بها على هذا النص، حيث يؤطِّر الإضافات بإطار واضح، ويستخدم حرفًا مختلفًا من ‏حيث الحجم، ممّا يعطي لترجماته مستوى تقنيًّا عالي المستوى بالإضافة لقيمتها ‏العلمية. ‏

بعد كل هذه الاستراتيجيّة المبدعة في الترجمة، فإنَّ المُنتَج النِّهائي المُترجَم، الذي ‏ينجزه الصيّاغ، يمتثل أمامنا كائنًا حيًّا ينبض بالحياة.‏