ترجمات فايز الصيّاغ لأعمال "إريك هوبزباوم" التاريخية

أمجد أحمد الزعبي

كاتب وأكاديمي أردني

 

 

مشروع الدكتور فايز الصيّاغ في الترجمة مشروعٌ تنويريّ تعليميّ وتثقيفيّ، فكان يدرك إدراكًا ‏واعيًا الأبعاد الكامنة وراء ما يسعى له المؤلف الذي يترجِم له والمنهجية المتّبعة لديه، وامتلك ‏ناصية الترجمة التاريخية، بخاصة لرباعيّة "إريك هوبزباوم"، فكان إبداع المترجِم حاضرًا ‏بالتعليقات والحواشي التي اعتنى بها عناية كبيرة، ناهيك عن تحفيزه للقارئ كي يشاركه هذا ‏النسيج التاريخي الخاص، منبّهًا له إلى الجوانب التي تدفعه للغوص في كلّ كتاب على حِدة، ‏لربطها ببعضها ببعضًا على نحو متكامل، وتسلسل جدلي مع ما يسبقها وما يليها من مراحل.‏

 

تُعدُّ الترجمة مقياسًا مهمًّا لأيّ حضارة تسعى للتقدُّم والنّهوض، فالترجمة مجالٌ حيويٌّ يتَّسع ‏باتّساع الدَّفق الحضاريّ والقدرة على التأثُّر والتأثير، في زمن  غدت الأدوات لذلك متاحة في ‏مجالات ثورة المعلومات وتطوُّر وسائل الاتصال فيما يعرف حاليًّا "بالثورة الصناعية الرابعة"؛ ‏ليكون العالمسرحًا مفتوحًا على مِصراعيه في مرحلة تجاوز مفاهيم العولمة والعالمية في تغيّر ‏ملامح المجتمع البشريّ بعصر إمبريالية الذكاء الصناعي وغياب القيم الإنسانية المحرِّكة لجَوهر ‏تطوُّر المجتمعات البشرية، لتغدو الترجمة مصاحبةً لهذه التحوّلات وكأنّها فعل آليّ دون روح، ‏وتنصبّ أعمال الترجمة للثقافة الاستهلاكيّة المصاحبة للمنتج بخاصة في مجال الإعلام المرئيّ؛ ‏ليتداخل فيها على حد سواء "الغثّ والسمين" كما كرّره فايز الصيّاغ في أكثر من مقال.‏

يبدأ الصيّاغ في عملية اختياراته للأعمال التي ترجمها بسؤال بديهي جدًّا: لماذا نترجم؟ فقد كان ‏معنيًّا ومسكونًا بالترجمة "الموثوقة والمأذونة، فالترجمة ليست نقلًا لغويًّا وحشوًا، بل هي كما ‏يقول: "ترجمة من ثقافة إلى ثقافة"؛ أي أنّك عندما تترجم النص فبالضّرورة أنك مستوعب ‏ومدرك للعمليّة في ثقافتها من جانب، ومن ثقافتك من جانب آخر؛ فعلى سبيل المثال يقدّم النص ‏الأصليّ بيانات وإحصائيات لا تمتّ بصلة للمتلقي العربي، وهنا يبادر الصيّاغ إلى الطلب من ‏المؤلف الإذن بالتصرّف بها وإهمالها، فالجواب يكون من المؤلف أنك أعلم بثقافتك ولغتك ‏وبالقارئ العربي. "أتَّبعُ الأصول وأطالب جميع الناشرين بها"، فعيْن المترجم هي العيْن الناقدة ‏والمبدعة، والمترجم من جانب آخر قدوة ولديه الأصول الأخلاقية للعالم المحكوم بالتفكير ‏الاستقصائِيّ والتّحليل النقديّ. ‏

زاوَج الصيّاغ ما بين الأسلوب التقليديّ والأسلوب الأدبيّ الخائن في الترجمة التاريخية؛ أي ما ‏بين مدرسَتَي التّرجمة الدينية التي عدّت النصّ مقدسًّا، والمدرسة الأدبية المعتمِدة على التصرُّف ‏الحرّ والمطابقة الحِرَفيَّة للنصّ الأصليّ؛ فالترجمة لديه "معرفة وتقدُّم منذ زمن الخليفة العباسيّ ‏المأمون وحتى اليوم، "فالدَّور التنويريّ للترجمة هو دور تحاوريّ مع الثقافات والعلوم ‏والحضارات، دافِعُه الأساسيّ أنَّ الحالة العامة للثقافة والقراءة قد وصلت إلى مرحلة من التردِّي ‏تحتاج إلى إلقاء حجارة في الماء الرّاكد لتحريكه، والحال ينطبق على "المناهج والمقرّرات ‏الدراسية بشكلها العام وفلسفتها التربوية التي تعاني في أغلبها من التبعيّة شبه المطلقة للمصادر ‏الأجنبية والمترجمة بصورة رديئة ومزرية أحيانا"، لذا يحقُّ لنا القول إنّ مشروع الصيّاغ ‏بالترجمة مشروع تنويريّ تعليميّ وتثقيفيّ.‏

الانطلاق من أنّ التاريخ هو الحقل الثاني بعد الفلسفة صعوبةً بالترجمة؛ ذلك أنّ المترجم عليه أن ‏يدرك إدراكًا واعيًا الأبعاد الكامنة وراء ما يسعى له المؤلف الذي يترجم له والمنهجية المتّبعة ‏لديه. فهل تصلح كافة الأعمال المدوّنة في تاريخ شعب من الشعوب لنقلها من لغتها إلى أخرى؛ ‏فامتلاك ناصية الترجمة التاريخية بخاصة لرباعيّة "إريك هوبزباوم" ‏‎(Eric Hobsbawm ‎‎1917-2012)‎‏ الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت، بحوالي 3169 صفحة ‏والصادرة بالتتابع: "عصر الثورة" 1789-1848م، (2007)، "عصر رأس المال" 1848-‏‏1875م، (2008)، "عصر الإمبراطورية" 1875-1914م، (2011)، "عصر التطرُّفات: ‏القرن العشرون الوجيز" 1914-1991م (2011)، يمثّل قمّة الإبداع وكأنّه مشروع حياة ‏بالنسبة للصيّاغ كما كان لـ"هوبزباوم". ‏

هذه الرباعيّة تدفع المؤرّخ الحصيف إلى التأمّل بنتاج من الضّخامة ليتوقف طويلًا ويضع جدولًا ‏زمنيًّا طويلًا لينهل من كنز معرفيّ؛ لدراسته وتحليله والإفادة منه، فما بالك بترجمة مشروع ‏أوقف عليه مؤلفه سنوات طويلة من حياته اعتصَرَ فيه ثمرة أفكاره ومعارفه؛ ليقابل ذلك مشروع ‏الصيّاغ في ترجمة هذا العمل الموسوعيّ ويوقف عليه سنوات أيضًا من عمره ليخرجه إلى النور ‏برباعيّة مترجمة تم تكريمها بجائزة استحقّها عن جدارة. فما الذي دفع الصيّاغ نحو هذا العمل ‏الشاقّ؟ هل كانت البداية فقط بترجمة الكتاب الأول (عصر الثورة) دون التفكير بباقي السلسلة؟ ‏هل تميُّز "هوبزباوم" وشهرتُه فقط هما دافِع الصيّاغ للترجمة؟ ‏

اتَّسمت كتابات "هوبزباوم" بالعمق والشّمول، ومنهج فكريّ رصين، استمدَّه من فكره الماركسي ‏والجدليّة الماديّة في السّرد والتحليل والجرأة؛ فهو كما يقول: "لا يسرد التاريخ ولا يعيد صياغته، ‏فهو يتوجَّه (للقارئ المثالي) والمراقب والباحث والمواطن الذكي المتعلم الذي لا يسعى إلى إشباع ‏فُضوله لمعرفة الماضي حسب، بل الذي يريد أن يفهم كيف ولماذا أصبح العالم على ما هو عليه ‏الآن وإلامَ سيؤول". فهو يعمل على بناء صورة حيّة من التفاصيل الصغيرة والأحداث الكبرى ‏بصورة جدليّة تحاورية، سالكًا نهجًا استقصائيًّا فريدًا مرتكزًا على قاعدة معرفية موسوعية ‏تكتشف الأنماط والآليات التي حوَّلت العالَم من حال إلى حال، مكتشفًا ومفسّرًا ومستشرفًا، فهو ‏يميل إلى التبسيط والتعميم الراقي، "فمن المتعذّر نسل شبكة التاريخ وتفكيكها إلى خيوط منفصلة ‏مفردة من دون تدمير نسيجها". ‏

هذه المنهجية يوضِّحها الصيّاغ بكافة جوانبها ويركِّز عليها في لقاءاته ومحاضراته معتزًّا بتلك ‏العلاقة التي جمعته بـ"هوبزباوم"؛ فالرباعية استهلّها المؤلف بتصدير خاص للقارئ العربي، ‏محفّزًا ومستفزًّا لهذا القارئ للدخول معه مشاركًا في نسيجه الخاص ومنبّهًا له إلى الجوانب التي ‏تدفعه للغوص في كلّ كتاب على حِدة، لربط بعضها ببعض على نحو متكامل، وتسلسل جدلي مع ‏ما يسبقها وما يليها من مراحل.‏

‏ يستهل المترجم كتاب "هوبزباوم" (عصر الثورة 1789-1848م) بتصدير للنسخة العربية بقلم ‏المؤلف الذي يقول: "يتتبَّع هذا الكتاب تحوُّل العالم بين العام 1789 والعام 1848، وهو التحوُّل ‏الذي يعزى إلى ما نسمّيه الثورة المزدوجة... هذا المؤُلَّف، بالمعنى الدقيق ليس تاريخًا لأوروبا أو ‏العالم... سيجد القارئ في هذا الكتاب شيئًا عن مصر، لا عن اليابان؛ وسيقرأ عن إيرلندا أكثر ‏ممّا يقرأ عن بلغاريا... ولا يهدف إلى سرد تفصيلي، بل إلى التفسير والتأويل..."، يقدّم للكتاب ‏صديق المترجم الدكتور مصطفى حمارنة أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية؛ الذي أبدع في تقديم ‏الكتاب ومؤلفه بطريقة علميّة، وأقتبس هنا من حمارنة: "مقابل هذا الاحترام والتقدير لإنجازه ‏العلمي، عانى هوبزباوم بسبب آرائه السياسية... لا شأن لها بالنزاهة الأكاديمية أو الأمانة ‏العلمية... المصدر الأول: الأوساط الفكرية اليمينية التي أخذت عليه اعتناقه للشيوعية منذ شبابه ‏ورفضه الانسحاب من الحزب الشيوعي... أمّا المصدر الآخر... أنه يحمل موقفًا معروفًا ‏ومشهودًا من إسرائيل والصهيونية...".‏

يتابع "هوبزباوم" في كتابه (عصر رأس المال 1848-1875)، ما بدأه في "عصر الثورة" ‏بالتحليل التاريخيّ لمرحلة سيطرة رأس المال واختراق العالم بولادة المرحلة الإمبريالية بمعناها ‏الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ التي ارتكزت على ثلاثيّة: المصارف، المصانع، التجارة. ‏بالتّوازي نحو السّيطرة المطلقة على العالم بطموح رأس المال ومشروعه الضّخم. يقِف هنا ‏‏"هوبزباوم" ليفكّك هذه العلاقة الترابطيّة بمعرفة موسوعيّة وتطوُّرات البنية الاجتماعية ‏والاقتصادية، موضِّحًا دور الأفراد والنُّخب في صناعة أحداث كُبرى ومشاريع عملاقة ‏استعمارية. ليُصار إلى توسّع رأس المال في إطار: الأسواق الجديدة لتصريف المنتجات، توفير ‏المواد الأوليّة الخام، الأيدي العاملة الرخيصة...إلخ. كان إبداع المترجم حاضرًا بالتعليقات ‏والحواشي التي اعتنى بها عناية كبيرة، كما حرص على أن يقدّمه محمد المصري الأستاذ في ‏مركز الدراسات الاستراتيجية؛ الذي برع في عرضه وتقديمه بصورة شائقة.‏

وفي كتابه الثالث (عصر الإمبراطورية 1875-1914)، ينتقل بنا لصعود قوى على مستوى ‏القارّة الأوروبية دخلت حلبة الصّراع والتنافس تحت وطأة تطوّرات رأس المال؛ فليس ثمّةَ نشاط ‏بشريّ خارج نطاق الابتكار، فالتغيُّر والتحوُّل أصبحا من الخصائص المميّزة للعالم والبلدان ‏ضمن إطار الاختراق المزدوج الحاسم الذي وقع نهاية القرن الثامن عشر؛ "الثورة الصناعية" ‏و"الثورة الفرنسية" اللّتان أحكمتا سيطرتهما الاقتصادية والسياسية على العالم؛ مُشكِّلةً نظامًا ‏عالميًّا مهيمنًا على كافة التطوّرات في كافة المجلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ‏التي نبعت كلّها من أوروبا؛ ليؤكّد أنّ الغزو السياسيّ والتغلغل الاقتصاديّ اللذين مارستهما حفنة ‏من الدول الأوروبية، ثم مارسته بعد سقوط تلك الإمبراطوريات، الولايات المتحدة الأميركية، ‏ليؤكّد أنّه على الرغم من استمرار هيمنتها مع مطلع القرن الواحد والعشرين إلا أنَّ هيمنتها لن ‏تدوم طويلًا كما يتنبّأ.‏

ينهي السلسلة عصر التطرفات (القرن العشرون الوجيز 1914-1991)، حيث يحدّد البدايات ‏للقرن باندلاع الحرب العالمية الأولى والثورة الروسيّة، وينتهي بسقوط الاتّحاد السوفييتي ‏والمنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وما تخلَّله من أحداث ما تزال انعكاساتها حاضرة على ‏القرن الحالي؛ فالمعالجة التي يسير عليها المؤلّف كأنّها تتماهى وتتقاطع مع انشغالات مترجِمنا ‏المنطقية: فمقدّمات القرن المنطقية يختمها بالنتائج بصعود الولايات المتّحدة وهيمنتها العالميّة ‏وسيطرتها الأولى على عالم الاتصالات والثورة المعلوماتية. حيث نجد مؤلِّف الكتاب يتقاطع، في ‏تصديره للكتاب، بشكل مُذهل مع الصيّاغ، فقد ذكر الصيّاغ أنّ ما دفعه إلى ترك موقعه كأستاذ ‏لعلم الاجتماع في الجامعة الأردنية منتصفَ التسعينات -كما يذكر في محاضرة له في شومان- ‏هو الطريقة العقيمة في التلقين والحشو، لنجد "هوبزباوم" يقول للشّباب العربيّ: "إنّه يهدف إلى ‏وضع تاريخ القرن العشرين في متناول القرّاء الشّباب، ومنهم الطلاب، الذين لم تلامس تجربتهم ‏وذكرياتهم تاريخ المراحل التي سبقت العام 1990. ويصدُق ذلك، بصورة خاصة، على البلدان ‏الإسلامية التي تتراوح فيها نسبة مَن هم دون الخامسة عشرة من العمر بين 30 و 45 بالمئة من ‏السكان". ‏

يبرز موقف "هوبزباوم" في فصول الكتاب المعادي للصهيونية ونتاجها كموقف مبدئيّ وحازم ‏عند قيام بريطانيا "بإعلان أخرق" عن وطن قوميّ لليهود، ويُضيف في إطار استعراضه لأحداث ‏المنطقة العربية من سايكس بيكو وحتّى مفاوضات السّلام "وفكرة حلّ الدّولتين المطروح فإنّه كما ‏هو مُتصوَّر في الزّمن الراهن، لا يفتح أفقًا مستقبليًّا يمكن الرُّكون إليه في فلسطين… ومهما كان ‏نوع الحل، فإنَّ شيئًا لن يحصل ما لم يقرِّر الأميركيون أن يغيّروا رأيهم كليًّا، ويمارسوا الضّغط ‏على إسرائيل. وليس ثمَّةَ ما يشير إلى حصول شيء من هذا القبيل".‏

‏ في الختام نقول إنَّ هذا العمل الرباعي، قد أغنى المكتبة العربية وفتح آفاقا جديدة للباحثين ‏والدارسين والمثقفين على حدٍّ سواء؛ بجهود جبّارة لمترجم حفر اسمه عميقًا بهذا العمل الرائد، ‏فاتحًا الأبواب على مصراعيها أمام دراسات جديدة تعتمد هذا العمل مدخلًا لها، وتعيد النظر ‏بدراسات سابقة، فالصيّاغ ومن خلفه "هوبزباوم" تركا بصمات فكريّة ومنهجيّة على علم ‏التاريخ، وربما نقول: إعادة تحقيب التاريخ الحديث بالتتابع السلس الذي أفرزه "هوبزباوم": ‏عصر الثورات، عصر رأس المال وعصر الإمبراطوريات وعصرالتطرفات. هذا التحقيب ‏الجديد ما كان ليرى النور في عالمنا العربي إلّا بجهود مترجمنا الصيّاغ؛ الذي نجح في فتح نافذة ‏الآخر بطريقة إعادة اكتشاف الذات.‏